الفصل الأول
لكل ظلمة سماءٌ تتكشف عن نيرات، وفي كل ليلةٍ متمردة الأمطار صواعق تنقض! كانت الأريستوقراطية الظالمة، وكان فولتير وروسو، كانت القرون الوسطى، وكانت الثروة! كانت المظالم نتاج ذلك الماضي المشئوم الملقب بالباستيل في باريس، وبرج لوندره في إنكلترا، والسبييلبرج في ألمانيا، والإسكوريال في إسبانيا، والكريملن في موسكو، وقصر سنت أنج في روما! وكان الماضي خمسة عشر قرنًا تمردت فيها عهود الإقطاعية الجائرة، فكان للأسياد سيطرتهم، وللعبيد ذلهم، وللأشراف تحكمهم، كان الصولجان والعرش والملذات والحق الإلهي في جانب الملوك! وكانت سنة ١٧٩٣، فإذا بهذه الاثني عشر شهرًا تقف حكمًا على القرون الخمسة عشر.
كان الماضي وكانت المقصلة: فإذا الماضي الحكم المطلق، وإذا المقصلة نيران الثورة! يا للمقابلة الرهيبة! فمن جهةٍ عقدة محكمة، ومن جهة أخرى فأس!
الثورة! … وما أدراك ما الثورة المنبثقة من شفق الأجيال المظلومة؟ هجعت قرونًا طوالًا وانقضت في ثوانٍ … لقد خرجت من الأرض: ففي الأرض المرطبة بدماء المظلومين ودموعهم وعرق جباههم، تأصلت تلك الشجرة الجبارة، من تلك الأرض الملأى بالقبور والمكائد وجثث ضحايا الاستعباد والجور خرج ذلك الشبح المجهول، ذلك المنتقم، تلك الأداة القاطعة: المقصلة! ورفعت الثورة صوتها القاصف صارخةً في وجه العالم القديم: «ها أنا ذا!» عند هذا حق للمقصلة أن تقول لمشارف القصور: «أنا ابنتك.»
يا له مشهدًا جميلًا ذلك الذي يرتفع فيه جبين الشعب عاليًا فخورًا! يا له مشهدًا جميلًا ذلك الذي تبرق فيه عيون الفلاسفة المضطهدين أمام مشعل الإنسانية الإلهي، أمام الحرية!
ولكن لا بد لكل ثورةٍ من نظمٍ تتمشى عليها للوصول إلى المقصد الأسمى، ولا بد لهذه النظم من دماغٍ يسنها وسيفٍ يدافع عنها. فبينما كان فولتير وروسو ينحنيان إلى القبر بعد أن ملآ العصر بِدويِّ شهرتهما، وبينما كان ميرابو الذي قُدِّر له أن ينقل صولجان الرأي من الفلسفة إلى البلاغة السياسية يمهد لكهولته شهرة الخطيب ومجد رجل الأمة، كانت الحكمة التي تقود العالم إلى الغاية التي تتوخاها في طرقٍ لم يقيض لأحد غيرها أن يتسلل إلى مداخل أسرارها، الحكمة التي في تعاقب الأجيال والممالك، تهيئ كل شيء بأبعد ما يكون من الإتقان في سبيل رقي الأفكار وفوز الثورات الكبرى، أجل، كانت تلد، في زاويةٍ مظلمةٍ من زوايا البحر المتوسط، الرجل الذي سيقف روح الحرب لخدمة روح الإصلاح، ويختم القرن الثامن عشر بمعجزات عسكرية بزت جميع المعجزات التي أدهشت القرون القديمة والوسطى.
ولد نابوليون بونابرت في أجاكسيو من أعمال جزيرة كورسكا، في الخامس عشر من شهر آب سنة ١٧٦٩، من شارل بونابرت وليسيا رامولينو.
عندما أُشرف على تجديد المملكة في عهد القنصلية، صُوِّر لبعض الكتبة أن يختلقوا للإمبراطور المزمع سلسلة نسب تصله بالأمراء، وأن يوجدوا له أجدادًا بين ملوك الشمال القدماء، إلا أن الجندي الذي كان يشعر بثورة فرنسا تتمخض فيه، ولا يجهل أن استحقاقه وحده هو الذي حمله، في عهد المساواة، من أسفل مراتب الجندية إلى أقصى طبقة من طبقات الملك، أوعز إلى جرائده أن تجيب بأن شرفه لا ينتمي إلى غير الخِدَم التي أداها إلى بلاده، وأن ذلك الشرف يبتدئ تاريخه من عهد موقعة مونتينوت.
أنهى والد نابوليون دروسه في بيز وروما، فكان على بسطة في العلم والفصاحة ما أتاح له أن يبرز قسطًا وافرًا من النشاط والجد في كثير من المواقف المهمة خصوصًا في مفاوضة كورسكا، تلك المفاوضة التي انتهت باستيلاء فرنسا على تلك الجزيرة سنة ١٧٦٨.
ظهر شارل بونابرت بعد ذلك في مدينة فرسايل، على رأس وفد ولايته، بداعي المخاصمات التي قامت بين القائدين الفرنسيين ماربوف وناربون بيليز اللذين كانا آمرين في كورسكا، كان نفوذ هذا الأخير عظيمًا لدى البلاط، إلا أنه سقط أمام الشهادة القوية الصادقة التي أداها شارل بونابرت في دفاعه البليغ عن ماربوف ليبقى وفيًّا للعدالة والحق، أما ماربوف فلم يفُتْه بعد ذلك أن يمد يد المساعدة إلى أسرة بونابرت.
كان نابوليون، بالرغم من أنه ثاني أولاد شارل بونابرت، معتبرًا كرأس للأسرة، وكان عمه الأكبر الأرشيدياكنوس لوسيان، الذي كان عمد ذويه، قد أعطاه هذا اللقب وهو على فراش الموت.
في سنة ١٧٧٧ وضع في مدرسة بريين، فاجتهد وخص نفسه بدراسة التاريخ والجغرافية وسائر العلوم المدقَّق فيها، فنجح في جميع هذه المواد وخصوصًا في الرياضيات، أما ميله إلى المواد السياسية فقد بدأ ينمو ويُعرف منذ ذلك الحين.
عُزِيَ إليه خطأ أنه كان في المدرسة ميالًا إلى الوحدة والصمت، لا أصدقاء له ولا أنداد، ولا نصيب له من حب أحد لما اشتملت عليه نفسه من القساوة وخشونة الطبع، بل كان عذب الخلق، لين العريكة، أدعى إلى الحب بما تناهى إليه من الدماثة واللطف، ولم يطرأ بعض الانقلاب على طبعه إلا في عهد البلوغ فأصبح وهو كئيب النفس عبوس، هذا ما قاله عن نفسه في مذكراته التي كتبها وهو أسيرٌ في سنت هيلين.
وزُعم أن ميله إلى العزلة ورغبته في الفن العسكري، تلك الرغبة التي نضجت قبل أوانها، إنما هما اللذان كانا يحببان إليه الاختلاء في حديقته التي كان يتحصن فيها ضد غارات رفاقه، إلا أن أحد هؤلاء الرفاق أخذ على نفسه تكذيب هذا الزعم فقال: «في شتاء سنة ١٧٨٣-١٧٨٤، الذي تراكم فيه الثلج على الطرق وفي باحات المدارس، جنح نابوليون عن تردده إلى الحدائق الصغيرة التي كان يستعذب فيها الخلوة والسكون، وأصبح في أوقات فرصه المدرسية يُضطر إلى الاختلاط برفاقه والتنزه معهم في قاعةٍ كبرى من قاعات المدرسة، ولكي يتخلص من تلك الحالة المملة، قيض له أن يحرك المدرسة جميعها، بأن هيأ لرفاقه أنهم يستطيعون أن يجدوا له مخرجًا إلى التسلية واللهو إذا هم فتحوا بالمجارف معابر مختلفة في وسط الثلوج أو حفروا خنادق ورفعوا أسوارًا وخيالة … وزاد على ذلك بقوله: عندما ينتهي العمل الأول، ننقسم إلى فرقٍ، ونعمل لنا حصنًا، وبما أني مخترع هذا النوع من التسلية آخذ على عهدتي إدارة القتال، فنزل الرفاق عند فكرته بغبطة وفرح، وبقيت تلك الحرب المتنكرة مدة خمسة عشر يومًا، ولم تضع أوزارها إلا عندما تخللت كرات الثلوج حصياتٌ وحجارة صغيرة نجم عنها أن بعض التلاميذ أصيبوا بجراحٍ بليغة، أذكر أنني كنت في عداد الذين اضطهدوا اضطهادًا فظيعًا في تلك المعركة.»
كان على بونابرت الفتى ليتمكن من القيام بهذا العمل، بالرغم من ميله إلى الوحدة والتأملات، أن يكون ذا سطوة على رفاقه، وهذه السطوة لا تُكتسب بالخشونة والتوحش اللذين عزاهما إليه بعض المترجمين الأغبياء.
لم يكن نابوليون متمتعًا باحترام رفاقه فحسب، بل كان حاصلًا على ثقة معلميه وإكرامهم حتى إن كثيرين منهم كانوا يتنبئون له عن مستقبلٍ عظيم، وقد أكد ده لاكيل، أستاذه في التاريخ، أنه إذا فُتحت خزائن المدرسة الحربية قرئ في أحد سجلاتها حاشية ضمنها مستقبل تلميذه وهي: «كورسكي الملة والخلق، سيبلغ شأوًا بعيدًا إذا ساعدته الظروف»، وكان دو ميرون، أستاذه في الآداب، الذي امتاز بين معلمي البيان، يسمي شروحه: «حجارة من الصوان أحميت في بركان.»
في مباراة سنة ١٧٨٥، اختاره الشفالييه ده كيراليو لمدرسة باريس الحربية، فسعوا عبثًا أن يحولوه عن فكرته هذه؛ لأن التلميذ لم يكن بالغًا السن؛ ولأنه لا يجيد إجادةً تامة إلا المواد الرياضية، فلم يقنع هذا القول الشفالييه الذي كان ضابطًا كبيرًا ويشغل وظيفة مفتش فأجاب: «إنني إنما لا أجهل ما أعمل، وإذا كنت الآن أخترق النظام فليس ذلك إكرامًا لأسرته لأني لا أعرف أحدًا من أعضائها، إنما يتراءى لي في هذا التلميذ جذوةٌ متقدة من الواجب أن يواصل اضطرامها.»
عندما دخل نابوليون تلك المدرسة الجديدة، لم يلبث أن حزن من التربية اللينة المرفهة التي يتعهدون بها فتيانًا يعدونهم للحياة القاسية في المعسكر ولمهنة الجندية الشاقة، فكتب مذكرة أرسلها إلى السيد بروتون قال فيها: «إن تلاميذ المدرسة الملكية يسلكون منهجًا لا يصل بهم إلى الغاية التي تنتظرها منهم بلادهم، فبدل أن يخصص عددٌ من الخِدَم لقضاء حاجاتهم، أو أن تصرف الأموال الكثيرة بترويض خيولهم على يد السياس، يجدر بهم هم أنفسهم أن يقوموا بهذا العمل، أليسوا جميعًا بعيدين عن طُرَف القصور وبهرجة الغنى، معَدِّين للخدمة العسكرية التي من أجلها وحدها إنما وُجدوا في هذه المدرسة؟ لقد قدر لهم أن يسلكوا حياة متزهدة، لا حياة ترف ورفاه، وأن يتعهدوا نفوسهم بنفوسهم فيصبحوا أشداء يقتحمون المصاعب بتجلدٍ وقوة، ويتحملون بشجاعة وبسالة أهوال الحروب الشاخصة إليهم من خلال المستقبل، ولا يصدفون عن احترام الجنود الذين سيكونون تحت سلطتهم.»
هكذا كان نابوليون وهو لا يزال ولدًا، يملي في مذكرة التلميذ قواعد نظامٍ حققها فيما بعد وهو في أعلى ذروةٍ من ذرى مجده.
أما الامتحانات اللامعة التي قدمها، فقد مهدت له شهرة في باريس كما مهدت له في بريين، وفي سنة ١٨٨٧ خرج من المدرسة الحربية برتبة ملازم ثانٍ، وانخرط في فرقة مدفعية لافير التي كانت وقتئذٍ محافظة في غرونوبل.
كان نابوليون في مدة إقامته بباريس، وهو لا يكاد يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يتردد إلى الأب راينال فيبحث معه باطلاع وافر في أكبر مسائل التاريخ وأصول وضع الشرائع والسياسة، ثم أرسل إلى فالنس، وفيها قسمٌ من فرقته، فما عتَّم الأمر أن أتيح له أن يتعرف إلى المجتمعات الراقية، خصوصًا مجتمع السيدة ده كولومبييه، وهي امرأة على جانب عظيم من الذكاء والعلم، فتعرف هناك إلى السيد ده مونتاليفه الذي جعله فيما بعد وزير خارجيته.
كان للسيدة كولومبيه ابنةٌ، أوحت إلى الضابط الفتى أولى عواطف الحب التي اختبرها في حياته، قال نابوليون: «كان ذلك الميل الطاهر مشتركًا بيني وبينها، وكانت أسعد أوقاتي معها مقتصرة على قطف الكرز وأكله جنبًا إلى جنب.»
إلا أن الأم، مع احترامها للفتى وتعلقها به، لم تفكر قط بزواج ابنتها منه، ولكنها كانت تتنبأ له دائمًا عن مستقبل عظيم، حتى إنها كررت نبوءتها هذه وهي على فراش الموت، في حين كانت الثورة الفرنسية تتحفز للوثوب وتفتح ميدانها في وجه ذلك الضابط الفتى.
لم تكن مشاغل القلب ولا الفوز الذي أحرزه في العالم لتحول بينه وبين ممارسته دروسه المجهدة وانصبابه على حل أصعب المسائل الاقتصادية، حتى إنه نال تحت اسم مستعار، الجائزة التي وضعها مجمع ليون العلمي للجواب على هذا السؤال الذي اقترحه الأب راينال وهو: «ما هي القواعد والطرق التي يجب على الرجال أن يتعلموها ليصلوا إلى السعادة الممكنة؟»
أطلقت قنبلة الثورة الفرنسية فقابلها الشباب الراقي بالاستحسان؛ لأنها جاءت طبقًا للمذاهب الفلسفية التي تشربها قبل حين، غير أن فئة من الأشراف الذين كانوا متمسكين بامتيازاتهم وألقابهم، وكان في الجندية عدد غير قليل منهم، لم يشاطروا تلك الفئة الأولى استحسانها لتلك الثورة، أما نابوليون فلم يحذُ حذو الكثيرين من رفاقه الذين ذهبوا إلى الخارج ليظهروا عدم رضاهم بتجدد وطنهم، بل انخرط في سلك المحدثين قائلًا لقائده: «إن الثورات إنما هي فرصة سانحة للجند الأشداء، ذوي الروح الناضج.» أجل، كان نابوليون مصيبًا في قوله؛ إذ إنه لا ينبغي للمسائل العمومية أن تولج عن طريق الزهد إذا أريد أن يعمل في سبيل مستقبل الشعوب، ويجب أن لا يدفع العالم إلى الأمام بعدم التغرض، الذي هو عاملٌ من عوامل الضعف، أجل، كان من حظ فرنسا وسعدها أن يكون بين واضعي الشرائع والجنود المخلصين لتنظيم ١٧٨٩، نفوسٌ تواقة إلى المجد، طامعة في القوة التي تسهل للنبوغ تحقيق أمانيه، وكان من سعد حظها أيضًا، أن يكون بين هؤلاء الطامعين الذين لولاهم لما نالت الثورة قسطها من الحياة، جندي أهلٌ لأن يرتفع إلى شهرة خالدة وسطوةٍ عظيمة بما أتاه من الأعمال المجيدة لمصلحة أوروبا جمعاء.
أذعن نابوليون بوقتٍ واحد إلى حججه وإلى القدر الذي شعر بجناحيه يحلقان فوق مجده وهو يعانق فئة الشعب بحمية وعطف، إلا أن هذه الغيرة الوطنية لم تحوله عن أن يغذي في نفسه مقته الفطري للفوضى، وأن يشهد بألم لا ألم بعده ذلك الإفراط في الثورات الذي كان يشير إلى احتضار سلطة ستعود إليه يومًا.
كان نابوليون، مع انحيازه إلى الثورة الفرنسية، متعلقًا أشد التعلق بفكرة حفظ النظام ومداراة السلطة، فترك عاصمة فرنسا واتجه إلى كورسكا، وفي ذلك الوقت، كان باولي يبث دسائسه في تلك الجزيرة وفقًا لمصلحة إنكلترا، فما كان من نابوليون، الذي استهجن ذلك التصرف السيئ، إلا أن حطم صنم حداثته واستلم قيادة في الحرس الشعبي وأخذ يحارب ذلك الشيخ الذي كثيرًا ما جاهر باحترامه له وإعجابه به.
أحرق الإنكليز أجاكسيو ونال منزل بونابرت نصيبه من ذلك الحريق، فلم تجد عائلته بدًّا من النزوح إلى فرنسا والسكن في مرسيليا، أما نابوليون، فلم يقم طويلًا بهذه المدينة، بل أسرع بالعودة إلى باريس التي كانت الحوادث فيها تتوالى بسرعةٍ وشدة معلنةً في كل يوم وفي كل ساعة عن أزمةٍ جديدة.
عندما قاد النصر هذا الجنرال إلى مرسيليا، أُمر بحصار طولون، فاتجه نابوليون إليها بصفة قائد مدفعية، في ذلك العهد، وضع نبذة صغيرة تحت عنوان «عشاء بوكير»، تضمنت آراءه التي كان عليه أن يبديها بصفته مواطنًا نشيطًا ورجل حرب حاذقًا، وكانت هذه الآراء تحتوي على نظرة في اضطرابات الشمال، وحادثة المعاهدة، أذاعت عن ضابط المدفعية البسيط تلك الحجة السامية وذلك الإدراك الصحيح اللذين أكسباه إعجاب الجمهور وهو إمبراطور.