الفصل العاشر
بعد مرور خمسة وعشرين يومًا من التتويج افتتح الإمبراطور جلسة الفرقة التشريعية، قال: «أيها الأمراء، والحكام، والجنود والمواطنون، ليس لنا جميعًا في حياتنا إلَّا غايةٌ واحدة، هي صالح الوطن، وإنْ كان هذا العرش الذي أصعدتني إليه الحكمة العلياء وإرادة الأمة عزيزًا في نظري؛ فذلك لأنه يستطيع وحده أن يدافع عن مصالح الشعب الفرنسي المُقدَّسة.
إنَّ ضعف السلطة السامية إنما هو بليَّة الشعوب. لم يكن لي وأنا جندي أو قنصل أول إلَّا فكرة واحدة، أمَّا وأنا إمبراطور فلم يبقَ لي غيرها وهي سعادة فرنسا. لقد أُتِيح لي حظٌّ كبير بتمجيدها بالانتصارات وتثبيتها بالمعاهدات، وإنقاذها من الفتن الأهلية، وتنشيط العادات والمجتمع والدين فيها. وإني لعلى يقين، إذا لم يدهمني الموت في وسط أعمالي، أن أترك للأجيال ذكرًا يكون مثلًا أو تأنيبًا لخلفائي.
سيُفْصِح لكم وزيرُ داخليَّتي عن بيان موقف الإمبراطور.»
عند هذا أخذ السيد ده شانيانيي الكلام فتكلَّم عن الأمن في فرنسا، وعن عظمتها وفلَاحها بعد تلك الاضطرابات العديدة التي مرَّت عليها، وتكلَّم أيضًا عن الكهنة والرعاة الصالحين من مختلف المذاهب الذين اتَّحدوا جميعًا في محبة الوطن والإعجاب بنابوليون، وعن وضع الشرائع الجديدة التي اشتُهرت كعملٍ جميلٍ في كلِّ مكان، وعن مدارس الحقوق التي قرُب عهْدُ افتتاحها، والمدرسة الحربية، ومدرسة الفنون والصنائع في كومبياني التي تترقَّى من يوم إلى يوم، وعن النبوغ الفرنسي المستعدِّ لتوليد الروائع في جميع فروع العلوم والآداب والفنون وقد وُضِعت له جوائز لدفعه إلى الأمام وتنشطيه، وعن إنشاء الجسور والطرق، وتكلَّم أيضًا عن مدينة جديدة شُيِّدت في الفانده (نابوليون فانده) لتكون مهد الأنوار، ومركزًا لحراسة نشيطة أكيدة، وعن التجارة التي أُعِيدت إلى شاطئ الرين الأيسر فأعطت مايانس وكولونيه جميع عائدات المخازن، وعن الصناعة الفرنسية التي تمدُّ أصولها من يوم إلى يوم وتدفع الصناعة الإنكليزية بعيدًا عن الحدود الفرنسية بعد أن قُدِّر لها أن تضارعها في كلِّ ما يئول إلى مجدها ونشاطها، وعن الزراعة الناشئة من يوم إلى يوم، وتكلَّم أخيرًا عن الثروة الحقيقية النامية في جهات الإمبراطورية جميعها، ثم بعد ذلك حقَّق الوزير أن عدد المحتاجين في العاصمة إنما هو أقل باثنين وثلاثين ألفًا ممَّا كان عليه عام ١٧٩١.
أمَّا حالة مستعمرات فرنسا فقد كانت أقلَّ فلاحًا بسبب الحرب البحرية، وأما علاقاتها الدولية مع سلطات البرِّ فقد كانت ودِّية في الظاهر فقط؛ لأن ذلك الصلح إنما كان يحضن الحرب دائمًا.
في اليوم الثاني من شهر كانون الثاني عام ١٨٠٥ اتجهت الفرقة التشريعية بلِباسها الرسمي إلى مقابلة الإمبراطور لترفع إليه عرض حال دس فيه الرئيس السيد ده فولتان، بالرغم من تذمُّر أكثرية رفاقه، هذا الاصطلاح القديم: «الأشخاص المطيعون»، وبعد أيَّام قلائل جرى تدشين تمثال نابوليون الذي صنعه الحفَّار شوده، في مكان جلسات النُّواب، وفي تلك الحفلة ألقى السيد ده فوبلان، أمين صندوق هذه الفرقة، أمام الإمبراطور والإمبراطورة وكُبَراء الإمبراطورية، خطبةً ابتدأها هكذا: «أيُّها الأسياد، لقد كلَّلتم إنجاز مجموعة القوانين الملكية بعملٍ يدل على الإعجاب ومعرفة الجميل؛ إذ إنكم رفعتم تمثالًا للأمير العظيم الذي أنجزت إرادته الصلبة هذا العمل الكبير، في الوقت نفسه الذي نشر فيه ذكاؤه الواسع أسمى شعاع من النور على هذا الجزء من التنظيمات البشرية النبيلة. إنه ليبرز في هياكل الشرائع مُزيَّن الرأس بهذا الإكليل الظفري الذي منطقه به النصر متفائلًا له بعصابة الملوك …
إن كان الثناء يُفْسِد ضعفاء النفوس فإنه غذاء النفوس الكبيرة …
من يستحق أكثر من نابوليون الشرف السامي الذي تخصِّصونه له اليوم وستخصِّصه له الأجيال فيما بعد؟»
ثم جاء دور السيد ده فونتان فلم يكن ثناؤه أقلَّ جمالًا؛ إذ قال: «إن المجد لينال دائمًا أحقَّ جزاء، وتنال السلطة في الوقت نفسه أنبل تثقيف. إن هذا التمثال لم يُشيَّد للقائد الكبير، ولا لقاهر الشعوب العديدة؛ فإن الفرقة التشريعية قد وَقَفَتْه لمُصلِح الشرائع، وإن العبيد المضطربين، والأمم المُقيَّدة لا يخشعون على أقدام هذا التمثال، ولكن الأمة الكريمة ترى فيه بغبطة ملامح مُنقذِها. ألا فلْتُبلَ التماثيل المشيَّدة بالكبرياء والتملُّق! ولْتكرَّم معرفة الجميل تلك التي تكون جزاء البطولة والحسنات.» وبعد وقت قصير ختمت الفرقة التشريعية جلستها. أما الاختتام فقد لَفَظَه السيد ده سيغور، مستشار الدولة، الذي بعد أن ذكر في خطبته، ولكن بشكل مُختلِف، تلك العجائب التي تكلَّم عنها لاسيبيد، وفرنسوا ده نوشاتو، وفوبلان، وفونتان وغيرهم، ردَّد على مسمع النوَّاب الكلمات التي فاه بها الإمبراطور عند افتتاح هذه الجلسة: «أيُّها الأمراء، والحكام، والجنود، والمواطنون، ليس لنا جميعًا إلَّا غاية واحدة، هي صالح الوطن.»
إلَّا أن نابوليون كان يعلم أن هذا الصالح، إنما يتطلَّب قبل كلِّ شيء سلامًا مكينًا مستديمًا، سلامًا أوروبيًّا حقيقيًّا لا تُستثنَى إنكلترا منه، فتناسى عند ذلك الخَيْبة التي لقيتها رسالة القنصل الأول إلى الملك جورج الثالث، وعالج تجربة أخرى بصفته إمبراطورًا. فكتب إلى هذا الملك في الثاني من كانون الثاني عام ١٨٠٥ ما يلي: «أخي، دَعَتْني إلى العرش الحكمة السامية، وتصويت الشيوخ والشعب والجيش، فإذا بميلي الأوَّل رغبة في السلام. إن فرنسا وإنكلترا تتصرَّفان بسلاحهما تصرُّفًا مطلقًا فهما تستطيعان أن تتخاصما قرونًا طوالًا. ولكن، أتقوم حكومتاهما بالواجب المقدس قيامًا صحيحًا؟ أو لا يبكِّتهما ضميرُهما على ذلك الدمِ المهروق من غير فائدة وغاية؟ إنني لا أتهيَّب عارًا، ولقد برهنت للعالم طويلًا أنني لا أخشى عاقبة حرب؛ إذ إن الحروب لم تخيِّب أملي حتى الآن فأخشاها. إن السلام إنما هو أمنية قلبي، ولكن الحرب لم تعاكس مجدي بعدُ …»
لم يستلم نابوليون جوابًا من الملك، الذي اكتفى بالإيعاز إلى اللورد ملكراف بأن يكتب إلى السيد ده تالليران رسالة مُبهَمة، ألقاها الإمبراطور تحت نظر مجلس الشيوخ مع نسخة من الرسالة التي وجَّهها هو نفسه إلى جورج الثالث. قال اللورد ملكراف: «إن جلالته استلم الرسالة التي وجَّهها إليه رئيس الحكومة الفرنسية.
فجلالته يرى من المستحيل أن يُجِيب على تلك المفاتحة، حتى يُتاح له أن يتفاهم مع سلطات البر التي ارتبط معها بعلاقات سرية، وخصوصًا مع إمبراطور روسيا الذي برهن بشدة وإخلاص عن حكمة وسموِّ نفس صحيحَيْنِ، وعن اهتمامه بكلِّ ما يدعو إلى سلامة أوروبا واستقلالها.»
إن هذا الجواب، بالرغم من جهود المداول الإنكليزي في أن يُخْفِي استعدادت ديوان لوندن تجاه فرنسا، إنما يدل دلالة واضحة على أن تلك الاستعدادات ليست سليمة هادئة. ما معنى ذلك الرفض المتكلف عدم إعطاء نابوليون المقام الذي منحه إياه الشعب الفرنسي، والذي كرَّسه البابا، واعترفت به جميع أوروبا البرية؟ وما هي تلك العلاقات السرية مع سلطات البر، وخصوصًا مع إمبراطور روسيا، ولأية غاية وُجِدت وضِدَّ مَن؟ أجل، إن كلَّ ما جاء في تلك الرسالة ليشير إلى استعداد ديوان سن جمس للخصومة، وشهر الحرب على فرنسا مباشرة أو بدسائس سرية حتى تضطر فرنسا على قلب تنظيماتها الجديدة والرجوع إلى سياستها القديمة. لم يخْفَ ذلك على نابوليون فأذاع هذا الأمر في أوروبا جمعاء مُظْهِرًا أن شهر الحرب على الإمبراطور إنما هو شهر الحرب على الثورة.
كان بيوس السابع باقيًا في باريس، فشهد وصول نوَّاب المجامع المنتخبة وفرق الجمهورية الإيطالية وقد جاءوا إلى باريس ليضعوا على أقدام الإمبراطور أُمنية أمَّتهم وينادوا بنابوليون ملكًا على إيطاليا. وكان ملزي، نائب رئيس الجمهورية، عضو هذا الوفد، فمَثَل أمام الإمبراطور في السابع عشر من شهر أيار عام ١٨٠٥، وألقى خطبة بمحضر من مجلس الشيوخ ختمها بهذه العبارة: «مولاي، أردت أن توجد الجمهورية الإيطالية فوُجِدَت، فتكرَّم بأن تكون المملكة الإيطالية سعيدة فتكون.» فأجاب نابوليون: «كانت مشيئتنا الأولى التي لا تزال مُلطَّخة بدم الحروب وغبارها تنظِّم الوطن الإيطالي مرة أخرى.
ولقد رأيتم ضروريًّا لمصالحكم يوم ذاك أن نكون رئيسًا لحكومتكم، واليوم تريدون أن نكون أول ملك لكم؛ إن انفصال تاجَيْ فرنسا وإيطاليا، الذي قد يكون مفيدًا لتوثيق استقلال أبنائكم، إنما هو في الحال الحاضرة شؤم على كيانكم وراحتكم. أما إنني لأُبقي هذا التاج، ولكن طالما تقتضيه مصالحكم، وإنني لعلى يقين أنْ سيحين الوقت عما قريب لوضعه على رأسٍ تشرُّب روحي ليكمل عملي ويكون مستعدًّا دائمًا للتضحية بذاته ومصالحه في سبيل سعادة الشعب.»
كان البابا يرى بأسف عميق سرِّي تشكيل مملكة إيطاليا الجديدة وامتداد سلطة بونابرت حتى أبواب روما. وكان للسفر من فرنسا، الذي بتَّته أسباب زمنية، مأربٌ غير ذلك الجوار المخيف. على أن بيوس السابع أخفى استياءه في الظاهر؛ لأنه عزم مرَّة أخرى أن يمنح الأسرة الإمبراطورية واسطته الحبرية.
وُلد للويس بونابرت ابنٌ ثانٍ، فوضع الإمبراطور في خزانة مجلس الشيوخ تذكرة ولادة هذا الأمير الذي أوتي الإمبراطور عرَّابًا له، وعمَّده البابا في قصر سن كلود في الرابع والعشرين من شهر آذار سنة ١٨٠٥.
ترك الإمبراطور باريس في أول نيسان ليتجه مع الإمبراطورة إلى ميلان. فبقي ثلاثة أسابيع في تورين حيث سكن في قصر ستوبينيس المُلقَّب بسن كلود ملوك سردينيا. فزاره البابا في ذلك القصر وهو عائد إلى روما، وجرت بينهما محادثات عديدة لم يمنح نابوليون فيها بيوس السابع حقَّ التخلِّي له عن حدٍّ من الحدود لقاء الزيت المقدس الذي تقبَّله منه.
وفي الثامن من أيار أراد نابوليون، وهو زاحف إلى ميلان، أن يزور ساحة قتال مارنغو، حيث وضع الحجر الأوَّل للتمثال الموقوف للبسلاء الذين ماتوا في تلك الساحة، ووالى سَيْره إلى ميلان.
إن المؤرخين، الأشدَّ كرهًا لنابوليون، صرَّحوا أن هذه العاصمة قد احتفلت به احتفالًا لا يقل فخفخة عن تلك الاحتفالات التي أُقِيمت له في فرنسا بعد ليوبن ومارنغو.
حضرة الرئيس، وحضرات نواب مجلس شيوخ جنوا وشعبها
إن الأفكار الحرَّة قد تكون أُتِيح لها وحدها أن تخلع على حكومتكم تلك العظمة التي كانت لها منذ قرون عديدة، ولكني لم ألبث أن تحقَّقت تعذُّركم عن القيام بعمل ما. أما اليوم فقد تغيَّر كلُّ شيء؛ فإن أصول وضع القوانين البحرية الجديدة الذي اتخذه الإنكليز، والذي أرْغَم القِسْم الأكبر من أوروبا على الاعتراف به، وحق المحاصرة، التي يستطيعون أن يمدوها إلى الأمكنة غير المحاصرة والتي ليست إلَّا حق ملاشاة تجارة الشعوب كما يشاءون، والنكبات الفظيعة التي تتزايد من يوم إلى يوم، كلُّ ذلك كان يوحي إليكم وحشةً في استقلالكم. إن الأجيال ستحمدني وتُثْني عليَّ لما أقوم به من الجهود في سبيل جعل البحار حرَّة وإرغام البربريِّين على العدول عن شهر الحرب ضدَّ الأعلام الضعيفة. لقد رفضت إنكلترا، في معاهدة إميان، أن تساعد هذه الأفكار الحرة.
حيثما لا يُوجَد استقلال بحريٌّ لشعب تجاري تُولَد الحاجة إلى الانضمام تحت ظلِّ علم أقوى. إنني سأحقِّق أمنتيكم، وسأضمُّكم إلى شعبي الكبير.
وجرى ذلك الاتحاد بأسرع ما يكون، وأصبح رئيس مشيخة جنوا عضوًا في مجلس الشيوخ الفرنسي.
في السادس والعشرين من شهر أيار جرى مسح نابوليون ملكًا على إيطاليا في كاتدرائية ميلان، ولقد قام بالذبيحة الكردينال كابرارا أسقف هذه العاصمة، فسلَّم التاج الحديدي القديم للإمبراطور الذي كرَّر ما عمله في باريس فوضعه بيده على رأسه صارخًا: «إن الله هو الذي سلَّمني إيَّاه فويلٌ لمن يمسه!»
أخذ نابوليون وجوزيفين طريق فرنسا فوصلا إلى فونتينبلو في الحادي عشر من شهر تموز، واتجها من هناك إلى باريس فسن كلود. إلا أن الظروف لم تسمح للإمبراطور بأن يتمتَّع بمجده رخيَّ البال هادئ النفس، فلقد قضى عليه الحظُّ أن يشتري عظمته ببذل راحته.