الفصل الثاني عشر
في السادس والعشرين من كانون الثاني سنة ١٨٠٦ دخل نابوليون وجوزيفين إلى باريس، فسبَّب وجودهما في العاصمة حركةَ حماس عمومي، وأُقِيم لهما مهرجان حافل اشتركَ فيه مجلس الشيوخ والتريبونه في الثامن والعشرين، في التويلري.
وقف فرنسوا ده نوشاتو، رئيس مجلس الشيوخ، وقال للإمبراطور: «مولاي، إن تواضُعك ليتكلم ببساطة عن العجائب العديدة التي ولَّدها نبوغك الذي فاق نبوغ جميع الأبطال الذين تقدَّموك، فاسمح بأن ننفِّذ أمر مجلس الشيوخ الذي يمنح منقذ فرنسا لقب «كبير»، وهو لقبٌ عادل فوَّض إلينا الشعب أن نمنحك إياه، وصوت الشعب هو صوت الله.»
فأجاب الإمبراطور إنه يشكر مجلس الشيوخ على الشعور الأكيد الذي عبَّر عنه رئيسه، وإنه يضع مجده الوحيد لتأييد مقدَّرات فرنسا بنوع أن تبقى الأجيال المتأخرة معترفة بالشعب الكبير.
أمَّا هذه الإكرامات الاحتفالية فقد عقبها الشعب بإقامة مهرجانات عديدة على شرف الإمبراطور.
كان نابوليون يرغب رغبة شديدة في أن يجعل حكومات أوروبا جميعها تعترف بلقبه الإمبراطوري الذي منحته إياه الأمة الفرنسية. كان إسكندر قد أغاظ نابوليون إغاظة شديدة لمَّا أرسل إليه كتابًا بهذا العنوان البسيط «رئيس الحكومة الفرنسية» كما فعل ملك إنكلترا الذي تكلَّف أيضًا أن لا يكتب إليه إلَّا على يد كاتِم أسرار الدولة. ولكن الإمبراطور لما تناهى إليه أنَّ السلطان سليم الثالث اعترف به علنًا إمبراطورًا على الفرنسيين، شعر بنوع من التعويض لتلك الإهانة المزدوجة التي ألحقها به إسكندر وجورج الثالث.
في العشرين من شهر شباط عام ١٨٠٦ قال السيد ده شانبانيي، وزير الداخلية، للإمبراطور ما يلي:
«مولاي، كانت كنيسة القديسة جنفياف، وهي أجمل معبدٍ بين معابد العاصمة، تكلل بنبل عظيم مجموع الروائع التي تزيِّن هذه العاصمة، وتعلن للأجانب من بعيد سلطنة الدين العظمى على هذا الشعب الغفير، تلك السلطنة التي نُزِعت من أماني التقوى يوم أوشكت أن تعتز بها، وخُصِّصت بعد ذلك لغاية أخرى، ثم غودرت فارغة! إنَّ الشوق المثلج، عندما يزور ذلك المعبد، ليستغرب أن يشاهد رهبة الخرائب في بناية يكاد الباني ينفض منها يده، وإنَّ روح الفن ليأسف أن يرى ذلك المعبد لا وسمَ له ولا حياة، والدين الذي يرى آماله قد خُدِعت يحول نظره عن معبد لا يتمُّ جلالُه إلَّا بدين العليِّ العظيم.
مولاي، إن فكرتك إنما هي وحدها التي أحيت، أو بالأحرى أعادت خلق هاتين البنايتين، وإنها لترجع إليهما جميع عظمتهما الأولى.»
لم يُعبَّر عن العودة إلى الأفكار الدينية والملكية بأبلغ من ذلك. لما أعاد القنصل الأول فتح أبواب المعابد الكاثوليكية في بلادٍ تعتنق الأكثرية فيها الدين الكاثوليكي إنما كان ينهج نهج رجل الأمة، كان يذعن إلى سلطان الظروف وتطلُّبات المبادئ. وكانت أماني الشعب، والدين والفلسفة الصرفة مغتبطةً جميعها؛ إذ إن ذلك لم يكن سوى التساهُل والحرية اللذين لا ينفيان الحماية عندما لا تكون معادية لغيرها من المصالح والمعتقدات. ولكن عندما أقدم الإمبراطور على إرجاع الكنائس المهجورة إلى الإكليروس، ووضع الكاهن الكاثوليكي تحت حماية الشريعة وبيت مال الأمَّة طرد الفلسفة من هياكلها لينيب عنها الكثلكة. عندما أُفسِح السبيل لأن تلقى كلمات الاحتقار على الضريح العظيم الذي وقفه الوطن العارف الجميل لعظام رجاله العظماء، وأصغى بانتباهٍ إلى عباراتٍ فخمة عن رماد الملوك في سن دنيس، تلك العبارات التي من شأنها أن تُسقِط العظمة الفلسفية عن عرشها، وتنفي ذكر الرجال العظماء من أقبية البانتيون، وأن تجعل رماد فولتير وروسو مداسًا بأقدام الكهنة، وتضمن للرماد الإمبراطوري حراسة الكهنة في سن دنيس ممتزجًا برماد الملوك، لم يكن ذلك مظهرًا من مظاهر التساهُل والحرية من قبل الإمبراطور، وإنما كان تهجُّمًا على المبادئ التي وقفت البانتيون لعظام الرجال العظماء، كان قضاءً على الحاضر ورجوعًا إلى الماضي، كان تحريكًا لثورة جديدة في قلب الأمة، وسيبرهن المستقبل عن ذلك.
في أواخر شباط افتُتحت جلسة الفرقة التشريعية فلم يفكِّر أحد من نواب فرنسا في أن يعترض على التخلية عن المعبد الوطني للإكليروس الروماني، عند ذلك لم يبقَ من حق فرنسا أن تعالج ثورتها في أوروبا على المنابر أو في الصحف.
لَفَظ نابوليون بنفسه خطبة الافتتاح، فاعترف بالكرم الرحب الذي سبق لنا أن لمناه عليه، قال: «إن روسيا لمدانة بعودة بقايا جيشها لشروط التسليم التي منحتها إياها، ولقد أيدت عرش النمسا الإمبراطوري في حين كنت قادرًا على قلبه، أتُرى يعمل سلوك ديوان فيينا على جعل الأجيال المُقبِلة تلومني على تقصيري في الحكمة والتبصر؟»
ثم شرحت الوزارات موقف الإمبراطورية التي كان فلاحها ينمو من يوم إلى يوم، فالطرق، والترع، والجسور، والبنايات، والتماثيل الفنية كانت جميعها تنتهي أو تبتدئ في جميع جهات تلك الإمبراطورية الرحبة التي كانت تتألَّف من مائة وعشر مقاطعات عدا هولانده، والولايات البندقية، ومملكة إيطاليا (راجع المقدمة).
قال وزير الداخلية: «كثيرٌ من الطرق الجديدة التي رغب الشعب في إيجادها قد نالت التفات الحكومة. فطريق فالونيه إلى الهوك قد أُنجِزت، وطريق كاين إلى هونفلور على وشك الانتهاء، وطريق أجاكسيو إلى بستيا أُنجِز نصفها، وطريق ألكسندري إلى سافون قد خُطِّطت، وصَدَرَ الأمر بإيجاد الطرق بين باريس ومايانس، وبين أكس لاشابيل ومونجوا. وهناك جسور تُرَمَّم، في الرين، وكهل، وبريساك، والموز، وجيفه، والشير، وتور، واللوار، ونيفر، وروان، والسون، وأكسون، وغيرها، وسيُسخَّر للمرور تحت الجسور سيلان جارفان هما الدورانس والإيزير.
وهناك أيضًا ست ترع كبرى على وشك الإنجاز: ترعة نابوليون الواصلة بين الرين والرون، ترعة بورغونيا، وترعتا بلافه والإيلليرانس، وترعة أرل، وترعة ملتقى بلجكا.
وبعض الترع قد بُوشر بها، وهي ترع سن فاليري وبوكير إلى أيك مورت، وسيدان ونيور إلى الروشيل، ونانت إلى برست، وكثيرٌ غيرها على وشك المباشرة وهي ترع سنسه، وشارلروي، وإيبر وبربار.
وإذا ألقيتم النظر على مرافئنا ترون أن قد بوشر بجعلها أكثر سهولة وتوطيدًا ممَّا هي عليه.»
ثم جاء دور السيد ده شانبانيي فتكلَّم عن بنايات باريس الكبرى وزخرفتها قال: «لقد دهش نظرك من رؤية العاصمة لدى عودتك إليها أكثر جمالًا مما كانت عليه قبل سنة الحرب. فالأرصفة الجديدة قد امتدت إلى شواطئ السين. والجسران اللذان أُنجِزا في السنين الماضية عقبهما اليوم جسر أكثر أهمية وأوسع نطاقًا. ولقد خُطِّط في جواره حيٌّ جديد حملت شوارعه أسماء المحاربين الذين ماتوا في ساحات الشرف، وأمَّا الجسر الثالث فقد حمل اسم أوسترلتز.
وهناك على مقربة من شواطئ السين يقوم قوس نصر جُعِل تمثالًا جديدًا لذكرى تلك الحوادث التي سيظل تذكارها أبقى من جميع ما يُتاح لنا تخليده. ألا فلتُثْبِت هذه الأعمال للأعقاب أننا كنَّا منصفين كما سيكونون، وأن معرفتنا الجميلَ قد ضارعت إعجابنا.»
ثم نهض ده فونتان وقال للإمبراطور: «إن السنين التي تعاقبت في عهد ملكك إنما هي أكثر خصابة في الأعمال المجيدة من القرون التي توالت على السلالات الأخرى.»
وفي هذه الجلسة صادقت الفرقة التشريعية على مجموعة القوانين المدنية التي قال عنها وزير الداخلية: «إنها لن تكون عملًا كاملًا فحسب بل ستكون أفضل من جميع ما تقدَّمها حتى الآن.»
ونال تنظيمُ بنك فرنسا التصديقَ الشرعي لدى موافقة مستشار الدولة رينيول ده سان جان دانجلي.
في الواحد والثلاثين من شهر آذار عام ١٨٠٦ قُدِّمت نُظُمٌ إمبراطورية إلى مجلس الشيوخ تقرِّر مصير أمراء الأسرة الإمبراطورية وأميراتها، وتدعو جوزيف نابوليون بونابرت إلى عرش نابولي، وتمنح مورات، صهر الإمبراطور، سلطة دوقيَّتي برج وكليف، والأميرة بولين إمارة كاستاللا، وتمنح برتيه إمارة نوشاتيل وغيرهم.
إلَّا أن إصعاد جوزيف بونابرت إلى عرش نابولي بعد نفي البوربونيين إلى سيسيليا سيحرك الأفكار الفرنسية ويهيِّئها إلى ثورة جديدة، وسترمي يدٌ خفية بذورَ الثورات الحرة على أقدام الفيزوف ولا تلبث هذه البذور أن تنمو وتثمر.
وكان لنابوليون شقيق آخر وهو لويس بونابرت فولَّاه عرشًا آخر. طلب نوَّاب الشعب الباتافي من الإمبراطور أن يمنحهم الأمير لويس نابوليون رئيسًا مطلقًا لجمهوريتهم تحت لقب ملك هولانده، فحقَّق الإمبراطور أمنيتهم هذه بسهولة. وفي الخامس من حزيران سنة ١٨٠٦ سمَّى نابوليون شقيقه ملكًا على هولانده في جلسة علنية عُقِدت في التويلري، وقال له: «احكم أيها الأمير على هذه الشعوب؛ فإن آباءهم لم يجنوا استقلالهم إلا بمعاضدة فرنسا، إذن فقد حقَّ لك عليهم ملوك يحامون عن حريتهم وشرائعهم ودينهم، ولكن ابقَ دائمًا فرنسيًّا.»
هذه الكلمات الأخيرة تلخِّص سياسة نابوليون في الإغارة على العروش المجاورة. لم تكن غايته عند تتويجه إخوته أن يعطي أسرته مقامًا ساميًا جديرًا بمقامه فحسب، بل كان يودُّ قبل كلِّ شيء أن تصبح الممالك المجاورة المُذعِنة إلى شرائعه مقاطعات تابعةً للإمبراطورية الفرنسية، ولكي تكون ملاءمتها للإمبراطورية أكثر رسوخًا وتأييدًا وضعها تحت سلطة دمه.
لم يكن الإمبراطور يتقدَّم من غايته بوضع أقربائه على عروش السلالات القديمة فحسب، بل بإنشاء معاهدات عظيمة ترأَّسها هو نفسه تحت لقب محامٍ أو وسيط. فإنه، بعد أن رفع منتخبي البافيير وويرتنبرغ إلى مقام الملوك، أراد أن يربطهم ربطًا مُحكَمًا بمقدَّرات إمبراطوريته على يد اتِّفاقٍ علنيٍّ نجمت عنه معاهدة الرين، وكانت نتيجته جعل أجمل نواحي ألمانيا شبه فرنسية.
كانت الحرب يوم ذاك منحصرة بين فرنسا وروسيا وإنكلترا المتحالفتين. وكانت فرنسا قد عقدت اتفاقًا مهمًّا مع الباب العالي العثماني بفضل ذكاء سفيرها في القسطنطينية الجنرال سبستياني. ولقد منح نابوليون مقابلة أولى لمحيي الدين أفندي، سفير الباب العالي، في اليوم نفسه الذي جرى فيه استقبال نوَّاب هولانده في التويلري، وصدور الأمر بتهيئة إمارتَيْ بنيفان وبونت كورفو تحت رعاية تالليران وبرنادوت.
كان فوكس ونابوليون يحترمان بعضهما بعضًا؛ ففي حين كان فوكس يشغل مركز وزير عُهِد إليه بأن يشترك في التعدِّي على حياة الإمبراطور، إلَّا أنه أسرع بإيقاف تلك الجناية على حدِّها، وكتب إلى وزارة العلاقات الخارجية في باريس يُطْلِعها على ذلك، ويحرِّص نابوليون على تجنُّب ذلك الخطر واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
إن وجود وزيرٍ كهذا كافٍ لأن يجعل العداء القديم بين فرنسا وإنكلترا أقلَّ خطرًا مما هو عليه، وأن يُفسِح سبيلًا للسلام. إلَّا أن الثورة الفرنسية لم تكن بعدُ قد زارت إلَّا عاصمة واحدة من عواصم أوروبا الكبرى. في الخامس عشر من أيلول سنة ١٨٠٩ مات فوكس، في حين كانت المداولات جارية بين فرنسا وإنكلترا، عند هذا قدر لطيف بيت أن يمكِّن الإصرار الحربي في المجالس البريطانية.