الفصل الرابع عشر
لم يقف نابوليون طويلًا في عاصمة بروسيا القديمة، بل غادرها في الثالث عشر من تموز ووصل إلى دريسد في السابع عشر منه، يرافقه ملك السكس، الذي أقبل إلى ملاقاته في بوتزن التي هي على حدود ولاياته. وفي السابع والعشرين كان نابوليون قد عاد إلى سن كلود فخفَّ مجلس الشيوخ، والفرقة التشريعية، والتريبونه، وأعضاء محكمة التمييز، والإكليروس، والمجلس البلدي، وجميع السلطات المدنية والعسكرية يضعون تهانئهم على قدمَيِ الأمير المنتصِر.
أراد الإمبراطور أن يفتح عهد عودته بوعود ومكافآت، فمنح لقب عضوٍ في مجلس الشيوخ كلًّا من القائدَيْن كلن وبومون، والعالمَيْن كوره وفابر، وأسقف تورين وأحد شيوخ صلح باريس السيد ديبون، أما أمير بنيفان، تلليران فقد سُمِّي «نائب منتخب كبير» ومنح أمير نوشاتيل، برتيه لقب «كونيتابل صغير».
في الخامس عشر من شهر آب، وهو يوم عيد نابوليون، اتجه الإمبراطور باحتفال كبير إلى كاتدرائية نوتردام حيث تُلِيت الذبيحة إكرامًا لصلح تلسيت.
ولقد أقبل وفد من مملكة إيطاليا يجمع تهانئه إلى تهانئ فرق الإمبراطورية فسُرَّ نابوليون سرورًا عظيمًا فقال: «لقد شعرت بسرور عظيم في أثناء الموقعة الأخيرة من التصرُّف المجيد الذي تصرَّفته كتائبي الإيطالية. هي المرة الأولى التي أظهر فيها الإيطاليون أنهم جديرون بأن يلعبوا دورًا شريفًا على مسرح العالم الكبير، وأرجو أن أقوم بجولة في ولاياتي الإيطالية قبل حلول الشتاء.»
في السادس عشر من شهر آب افتتحت الفرقة التشريعية جلستها الأولى، فألقى نابوليون كلمة خالدة أتى فيها على عظمة فرنسا بإيجاز كليٍّ، قال: «لقد شعرتُ بنفسي فخورًا بأن أكون الأول بينكم.» إلَّا أنه، يا للأسف، إزاء هذه الكلمات الطافحة بالنبل ترك سبيلًا للألقاب الأريستوقراطية التي خلقها لتغذِّي الجشع في بعض النفوس، ولقد زعم أنه يريد بذلك أن يحول بين عودة الألقاب الإقطاعية التي لا تتفق ونُظَمه الجديدة.
أعلن نابوليون في خطاب الافتتاح عن تعديلات في الشرائع التنظيمية، وما عتم الأمر أن ألغى «التريبونه» من غير ما سبب موجب لذلك. فما كان من أعضاء هذا المجلس إلَّا أن أظهروا تجلُّدًا غريبًا، وأثنوا على اليد التي أهوت إليهم بالضربة، مؤكِّدين لفرنسا أن إلغاء مجلسهم لا يسيء إلى الحرية الوطنية بل يمحو وهمًا من أوهام التنظيم في الأمة. ولقد غيَّر الإمبراطور بعض التغييرات في تنظيم الفرقة التشريعية، ومن هذه التغييرات أن عضو هذه الفرقة لا ينبغي أن يكون دون الأربعين سنًّا. أما القانون التجاري فقد قُرِّر في تلك الجلسة.
كانت الحرب لا تزال مشتعلة في الشمال بين فرنسا والسويد. في السابع عشر من آب استولى الفرنسيون على مدينة سترالسند، وفي الثالث من شهر أيلول سلَّمت جزيرة روجن، وتمَّ انكسار الجيش السويدي، إلَّا أن ملك السويد لم يبرح منضمًّا إلى الاتحاد الإنكليزي.
لم ينظر نابوليون من غير حزن إلى البلطيك منفتحًا أمام العلم البريطاني، وإلى بلاط ستوكهولم متمرِّدًا على الحصار البري، إلا أنه كان هناك مملكة أخرى لم تزل علاقاتها المستمرة مع إنكلترا تضاد المبدأ الفرنسي أكثر من غيرها ألا وهي مملكة البرتغال، ثم إن أسرة براغانس، المتَّفقة بمصالحها التجارية وتقارُبها السياسي، لم تجد بدًّا من النزول في أمرها على الرضوخ لجميع تطلُّبات المجلس الإنكليزي ولكنها تظاهرت بالعداء لبريطانيا العظمى لتخدع نابوليون.
لم يلبث الأمر حتى انكشفت تلك الخيانة المستترة، فوشى بها نابوليون لأوروبا جمعاء، وأرسل فرقة من الجيش إلى البرتغال تحت قيادة جونو بعد أن تذاكر مع بلاط مدريد (البلاط النمسوي) بشأن مرور الكتائب الإمبراطورية إلى جهات إسبانيا.
بينما كان جونو متجهًا نحو «التاج» كان نابوليون يهيِّئ العدة لزيارة شواطئ البو والأدرياتيك مرة أخرى. وقبل سفره، تقبَّل زيارة سفير العجم، الذي جاء إلى باريس حاملًا إلى الإمبراطور هدايا نفيسة بينها سيفا تمرلان وتماس خولي خان.
في السادس عشر من شهر تشرين الثاني عام ١٨٠٧ غادر نابوليون باريس ووصل إلى ميلان في الواحد والعشرين منه. وبعد أيام قلائل دخل الحرس الإمبراطوري عاصمة النمسا دخولًا مُظفَّرًا، فملك الفرح قلوب السلطات الباريسية، فعزمت أن تُقِيم له عند عودته مهرجانًا عظيمًا في الأوتيل ده فيل (دار الحكومة) وتهيَّأ مجلس الشيوخ للاحتفال به في قصر مجلس الشيوخ نفسه.
بعد أن أشار الإمبراطور بتلاوة هذه الفتاوى على مسمع من الفِرَق التشريعية الإيطالية أخذ الكلام هو نفسه فقال: «لا يمكنكم أن تتصوروا أيَّ فرح عظيم يستولي عليَّ إذ أراكم تحفُّون بعرشي. إنني لأغتبط أن ألاحظ، بعد غياب ثلاث سنوات، أيَّة خطوة من خُطَى الرقي، عملتها شعوبي، ولكن كم من أعمالٍ لا تزال بحاجة إلى القيام بها لمحْوِ ما ارتكبه آباؤنا من الهَفَوات، وبلوغ الأَوْج الذي يؤهِّلكم للحظوظ التي أعدَّها لكم!
إن الانشقاقات الأهلية التي سبَّبها أجدادنا هيَّأت إتلاف جميع حقوقنا. لقد هوى الوطن عن أوجه واستحقاقه بعد أن حمل بعيدًا شرف الجندية وبريق الفضائل، ولكني سأقف مجدي لإرجاع تلك الفضائل وذلك الشرف.»
حلَّت هذه الكلمات محلًّا جميلًا في نفوس النواب الإيطاليين.
فأجابه الإمبرارطور: «بل إنَّه أثَّر كلَّ التأثير. لقد كان جدُّك رجلًا مجنونًا، معتوهًا؛ فإنه، وهو في الستين من عمره، حاول أن يهدم تنظيماتي بخُطَط تنظيمات جديدة عملها هو. إن الدول لفي حاجة إلى رجال مثل جدِّك يديرون شئونها، إنهم لمجانين هؤلاء الذين يدينون الرجال في الكتب والعالم على «الخارطة»! … ألا إنَّ الاقتصاديين إنما هم أدمغة مجوَّفة تحلم بخطط مالية، في حين أنها غير جديرة بأن تتمِّم وظيفة جابٍ في آخر قرية من إمبراطوريَّتي. وقُصارى الكلام أن مؤلَّف جدِّك إنما هو عمل رجل عنيد مسنٌّ مات وهو يكرِّر الأقوال المضجِرة على مسامع الحكومات.» عند هذا حزن حفيد نيكر فقاطع الإمبراطور بقوله إن جلالته، ولا شك، أخذ هذه النظريات في الكتاب من قوم أردياء، وإنه لم يقرأه بنفسه لأن المؤلَّف يأتي على ذكر نبوغ نابوليون بكلام صريح. فقال له الإمبراطور بحدَّة: «إنك لفي ضلال، فلقد قرأته من أوَّله إلى آخره … أجل! إنه يأتي على ذكري بكلام طيب إذ إنه يدعوني بالرجل الضروري! ولكنه يرى من الضروري أن يُقطَع عنق هذا الرجل الضروري! أجل، لقد كنت ضروريًّا لمحو هفوات جدِّك التي ارتكبها بحقِّ فرنسا … إنه إنما هو الذي عمل الثورة! … أما الآن فقد انتهى حكم المفسدين، وإني لأريد الطاعة المطلقة! … احترموا السلطة لأنها تأتي من الله … إنك لا تزال فتًى، فلو كانت لك خبرتي لكنت ترى الأشياء بعينٍ غير العين التي تراها بها الآن! … إلا أنَّ صراحتك راقتني جدًّا … فإني أحب أن يأخذ الولد الدفاع عن أمِّه … ولكني لا أريد أن أمنحك رجاءً كاذبًا، إذن فلا أستطيع أن أُنِيلَك شيئًا.»
عند هذا انصرف السيد ده ستال، فالتفت نابوليون إلى ديروك وقال له: «ألم أكن قاسيًا مع هذا الشاب؟ … ولكن لا بأس، فلن يجيئني بعد ذلك مَن هو مثله … إن هؤلاء الناس يعيبون كلَّ ما أعمل … لأنهم لا يفهمونني.»
في ذلك العهد أدَّت الجامعة الوطنية واجبًا مهمًّا، كان الإمبراطور قد عهد به إليها، في ظرف من تلك الظروف التي تنعتق فيها روح الرجل من عظمة العروش لتتجرَّد إلى الأعمال الكبرى، التي من شأنها أن ترفع مستوى الشعوب أخلاقيًّا وعلميًّا وفنيًّا، فلقد أدَّت كلٌّ من فِرَق هذه الجامعة الثلاث ملخَّصًا عن نتائج المعارف البشرية التي كانت موضوع أعمالها الخاص، فاللائحة التاريخية اعتنقت العلوم والفنون والآداب منذ سنة ١٧٨٩. سرد شينيه أعمال الفئة التي كانت تمثِّل المجمع العلمي الفرنسي القديم، وعرض ديلمبر وكوفيه نتائج العلوم الطبيعية والرياضية، وتكلَّم داسيه باسم هذه الفئة من الجامعة التي تؤلِّف اليوم مجمع المخطوطات والآداب، وعرض لبرتون ملخَّص أعمال فئة الفنون الجميلة. إن عمل الجامعة سيبقى مثالًا لعظمة الشعب الذي لم تمنعه اضطرابات الحروب الأهليَّة وتعاقُب الحروب الخارجية عن الاهتمام بالعلوم والآداب والفنون، في حين أنَّ أوروبا والعالم أجمع، كانا يظنَّانه شعبًا عسكريًّا صرفًا.
كان نابوليون يسعى إلى إنزال إسبانيا على المبدأ الفرنسي لأنها، وهي محاطة ببحرين وعلى رأسها أحد البوربونيين، إنما كانت عُرْضةً للحثِّ على الوقوف في وجه فرنسا، فلم يلبث أن قرَّر عزمه على احتلال مقاطعات هذه المملكة احتلالًا عسكريًّا.
أُعطِيت فِرَق تنقيب الجيروند البيرينه أوامر للسير إلى الأمام، فدخل المرشال مونساي المقاطعات الباسكية، وأقام ديبون بفاللادوليد، وولج دوهيم كاتالونيه، كان في ذلك الحين سبعون ألفًا من الفرنسيين في شبه الجزيرة ما عدا فرقة جونو، ولقد دخلت هذه الكتائب الأماكن المحصَّنة من غير مقاومةٍ البتة.
لو لم يشأ الإمبراطور إلَّا ضمانًا قويًّا من بلاط مدريد ليتثبِّت من إخلاصه للعصبة الفرنسية لكفاه احتلال هذه الأماكن الحصينة، على أن موقف إسبانيا الداخلي، والحوادث الأهلية التي طرأت على قصر الإسكوريال غيَّرت خطَّته القديمة، وهيَّأت له أن يضمَّ الأمة الإسبانية إلى الشعب الفرنسي.
كانت العناية الإلهية قد تخلَّت عن مملكة بيلاج ملك الإستوري، كما تخلَّت عن عرش كلوفيس قبل ذلك بقرن، فلم يُبقِ طابع الانحطاط آثار الزيت المقدَّس على الجباه المحطَّمة تحت ثِقَل التاج المُثقَل بالرذائل والعار، إلَّا أن الملكية لم تقاسِ وحدها لطمات العجز والقصور؛ فإن الأشراف والإكليروس، الذين كانوا الدعامة القوية للسلطة المالكة في أيام عظمتها، قد شاطروها بؤس الشيخوخة وعجزها. عند ذلك شعر نابوليون بدافعٍ يدفعه إلى أن يدقَّ جرس الحزن في ذلك المأتم الرهيب!
لم يكن في بادئ الأمر قد فكَّر في سوى التثبُّت من إخلاص حليفة مشبوهة، إلَّا أنه لما رأى الأسرة المالكة تحفر قبرها بظَلَفها، والشعب يهيج هياجًا مخيفًا، وكارلوس الرابع وفرديناند يتوسَّلان إليه الواحد ضدَّ الآخر ليمنحهما عضد فرنسا، خُيِّل إليه أنه يستطيع أن يستفيد في إسبانيا من غير طريق الاستيلاء على الحصون، وأنه قد حانت ساعة تغيير وجه تلك البلاد النبيلة وضمها إلى إمبراطوريته بنشر الأفكار الفرنسية في مدريد، إنْ باسم كارلوس الرابع، أو باسم فرديناند أو غيرهما حسب ما يقع اختياره، فوجَّه لهذه الغاية المرشال بسيير على رأس خمسة وعشرين ألف رجل إلى المقاطعات الباسكية ليعضد هناك مونساي وديبون، وأعطى قيادة الحملة لمورات الذي أخذ أركان جيشه إلى بورغوس في أوائل شهر آذار.
لم يكد الشعب يعرف بدنوِّ الفرنسيين من مدريد حتى صرخ «يا للخيانة!» فلم يجد البلاط بدًّا من الهرب إلى إرنجويز. أما غودوي، الذي صُوِّر له في بادئ الأمر أنه خدع نابوليون، فلم يلبث أن شعر بضياع آماله فنصح كارلوس الرابع بأن ينهج نهج أسرة براغانس وأن ينزوي في أميركا الإسبانية. لم يكن الملك يحسن إلَّا الامتثال لصفيِّه فعزم على الذهاب إلى إشبيلية بأسرع ما يمكن، إلَّا أن عُدَد السفر أسخطت كبرياء الإسبانيين واشتدت وطأة المَقْت لأمير السلام؛ ففي السادس عشر من شهر آذار انفجر الغضب الوطني وهجمت الجماهير الساخطة على قصر أرنجويز طالبة رأس غودوي. وما هي إلَّا ساعات قصيرة حتى أُحْرِق قصر الصفيِّ، ولو لم يختبئ هو نفسه في أحد الأقبية لما سلم من موت مُحقَّق. أما كارلوس الرابع، الذي كان قد حاول أن يهدِّئ حدَّة الشعب بقوله له: إن أمير السلام قد عزم أن يستقيل من جميع وظائفه، فلم يجد بدًّا من تنازُله عن حقِّه الملكي، ثم نشر إذاعة عمومية أعلن فيها تخلِّيته عن العرش لأمير إستوري الذي اتخذ عقيب ذلك لقب فرديناند السابع، وافتتح عهد ملكه بحجز أملاك غودوي الذي أُلقِي في أحد السجون لينتظر محاكمة الملك إيَّاه.
لم تكد ضجة هذه الحوادث تصل إلى بورغوس حتى أسرع مورات بالزحف إلى مدريد، التي دخلها في الثالث والعشرين من شهر آذار، على رأس ستَّة آلاف رجل من حرس ديبون وفرق مونساي. ولما كان من غدٍ ترك فرديناند السابع قصر أرنجويز ليدخل إلى عاصمة إسبانيا، عند هذا تبدَّل السكون المُظلِم، الذي استقبل الفرنسيين قبل ذلك، بفرح عظيم لدى قدوم الملك الجديد، وتدفَّق الشعب جميعه لملاقاته وتحية الأمير الذي أنقذه من نِير غودوي الظالم.
أما مورات فأرسل موفدًا إلى كارلوس الرابع ليطمئنه إلى حمايته، ولكن الملك القديم لم يفكِّر في بادئ الأمر بسوى إنقاذ صفيِّه قائلًا: «إن ذنب غودوي إنما هو تعلُّقه بي مدة حياته، وإن موت صديقي المسكين سيكون سببًا لموتي أنا أيضًا.» فلم يجد مورات عند ذلك بدًّا من إعادة غودوي إليه.
أرسل أمير إستوري إلى نابوليون كتابًا يُظهِر له فيه شكره العظيم على إصعاده إلى العرش، ويطلب إليه وضع سلطته الناشئة تحت عضد الاتفاقية الفرنسية؛ فأدرك نابوليون إذ ذاك أن أمير إستوري إنما هو عاجزٌ عن القيام بما يدعو إليه الملك، إلَّا أن طبائع الشعب الإسباني كانت توحي إليه خوفًا وريبة فكتب إلى مورات في التاسع والعشرين من شهر آذار يقول: «لا تعتقد أنك لا تحتاج إلَّا جيوش وكتائب لتقمع إسبانيا وتضعها تحت سلطتنا؛ فإن ثورة عشرين آذار إنما جاءت أكبر دليل على أن الإسبانيين شعبٌ له جرأته وحماسه … ثم إن الأريستوقراطية والإكليروس هم أسياد إسبانيا، فإذا مُسَّت امتيازاتهم أو خشوا عليها لا يلبثون أن يشهروا علينا حربًا عوانًا … إن في إسبانيا اليوم أكثر من مائة ألف رجل تحت السلاح، وهذا لعمري فوق ما تحتاج إليه دولة للوقوف في وجهنا ورمي نواة ثورة داخلية في قلب الملكية … وها أنذا أعرض أمامك جملة العوائق التي لا تُلافَى ولا سبيل إلى تجنُّبها؛ إن إنكلترا لن تدع هذه الظروف تفلت من يدها فهي سوف تستفيد منها لتضاعف عراقيلنا … وبما أن الأسرة المالكة لم تغادر إسبانيا لتستوطن في الهند، فلم يبقَ هناك سوى ثورة تستطيع أن تقلب وجه هذه الأمة، وقد تكون ثورة أوروبا التي هي أقل استعدادًا من غيرها … أما أنا فإنني أستطيع أن أُفِيد إسبانيا إفادة كبرى، ولكن ما هي الوسائل لبلوغ ذلك؟ …
أأذهب إلى مدريد؟ … لقد تبيَّن لي أنه من الصعب إصعاد كارلوس الرابع إلى العرش؛ لأن الشعب نزع ثقته من حكومة هذا الملك وصفيِّه غودوي إلى درجة أنه أصبح من المؤكَّد أنهما لا يدومان ثلاثة أشهر.
إن فرديناند عدوُّ فرنسا، ولهذا السبب جعلوه ملكًا … ثم إن جلوسه على العرش يساعد التحزُّبات التي لم تزل تعمل منذ خمس وعشرين سنة على إضعاف فرنسا وملاشاتها … أمَّا أنا فأعتقد أنه لا ينبغي لنا التهوُّر في شيء وأنه من الحكمة أن نسترئي الحوادث التي ستتوالى … لقد أعطيت سافاري أمرًا بملازمة الملك الجديد لمعرفة ما يجري هناك، وسيتداول وجلالتك الملكية … ستعملان معًا بنوع أن لا يشعر الإسبانيُّون بالخطة التي سأتَّخذها. وهذا غير صعبٍ عليكما فستقولان لهم إن الإمبراطور يرغب في تكميل تنظيمات إسبانيا السياسية لتُماشي تنظيمات أوروبا … وإن إسبانيا لفي حاجة إلى خلْقِ حكومة ثابتة وإيجاد نُظُم تضمن الوطنيين الاختياريِّين وتعدِّيات الإقطاعية، إلى إيجاد نُظُم تنعش الصناعة والزراعة والفنون. ستصوِّران لهم حالة الهدوء والنعمة التي تتمتع بها فرنسا، بالرغم من الحروب التي مرَّت عليها، وازدهار الدين الذي يعود الفضل في توطيده إلى الاتفاقية التي أمضيتها والبابا. وستبيِّنان لهم الفوائد التي يستطيعون أن ينالوها من تجديدٍ سياسي، وهي النظام والسلام في الداخل، والرعاية والعظمة في الخارج. هذا هو الروح الذي يجب أن تبثَّاه في جميع الخطب والمناشير التي تُرسِلانها … لا تتعجَّلا خُطَّة من الخطط … ولا تفكِّرا في مصالحكما الشخصية فأفكِّر فيها أنا … إذ إنه إذا شُهِرت الحرب خسرنا كلَّ شيء … فإن مقدَّرات إسبانيا إنما تتوقف على السياسة والمداولات دون غيرها.»
أراد نابوليون، قبل أن يقف عند عزمٍ، أن يشاهد عن كثب مجريات الأحوال ويجسَّ بنفسه الموقف الخطير، فغادر باريس في اليوم الثاني من شهر نيسان ووصل إلى بوردو في الرابع منه، حيث بقي ينتظر جوزيفين التي وافته في اليوم العاشر.
اتجه الاثنان معًا إلى بايون، التي وصلاها في الخامس عشر من الشهر الجاري، فسكنا بعض أشهر قصر ماراك الذي كان مُعدًّا ليشهد أعظم حادثٍ سياسي في ذلك العهد. وفي اليوم التالي خفَّ نابوليون للردِّ على أمير إستوري مؤجِّلًا حكمه في معنى اعتزال كارلوس الرابع، فلم يمنح الابن إلَّا لقب «جلالة ملكية»، وحدَّثه عن الخطر الذي يحيط بالأمراء، وعن الانتحار السياسي الذي يرتكبه والعار المعيب الذي يلطِّخ به جبينه إذا هو انقاد إلى الحطِّ من كرامة أمِّه برفعه دعوى فضَّاحة على الصفيِّ غودوي. وفي ختام الكتاب أظهر الإمبراطور رغبته في مقابلة خصوصية؛ إذ إن درس الأشخاص عن كَثَب، إنما كان ضروريًّا له؛ ليوقفه عند حقيقة صريحة.
لو هربت الأسرة المالكة إلى المكسيك لسهل الأمر وكان من الهيِّن تجديد النظام في إسبانيا، ولكن بما أن الأمر كان عكس ذلك، وبما أنَّ الفتنة كانت هي المنتصِرة، أصبح من الطبيعي وجود ملكين بدلًا من واحد ومن الضروري الفضُّ بينهما.
تردَّد أمير إستوري بادئ ذي بدء بالنزول عند رغبة نابوليون؛ إذ إنه بينما كان بعض مستشاريه ينذرونه بالخطر الذي يَحدِق بهذه المقابلة، كان البعض الآخر يشعرونه بوجوب الإسراع لمقابلة الإمبراطور وسبق والده إليها؛ ولكن ما عتم الأمر حتى اقتنع فرديناند بالرأي الأخير، فترك مدريد ينازعه عامِلا الريبة والإيجاس، واتجه نحو حدود فرنسا، فلما وصل إلى فيتوريا أراد أن ينتظر الإمبراطور فيها، إلَّا أن الإمبراطور لم يحضر، فوالى سيرَه إلى بايون. في العشرين من شهر نيسان وصل إلى قصر مارك يصحبه شقيقُه دون كارلوس؛ أما كارلوس الرابع فقد لحق بأمير إستوري صاحبًا معه الملكة وصفيَّه ليضع نفسه تحت حماية الإمبراطور، ولكيلا يترك للأمير المذكور المجالَ واسعًا في بايون. عند هذا أبصر الجندي الأعظم، مصطفى الشعب ووليد الثورة الفرنسية أعقاب القدِّيس لويس مترامين على قدميه؛ أجل أبصر ورَّاث بيلاج وحماة سيف «السيد» واضعين تحت أمانته مقدَّرات تلك المملكة القديمة الشاسعة الأطراف التي جعلت فيليب الثاني يقول بفخر: «إن الشمس لا تغيب عن أراضيه!»
يا له مشهدًا عظيمًا طافحًا بالأمثولات لأوروبا القديمة! فأمام جبال البيرينه الفخورة، التي كثيرًا ما حاول البوربونيين عبثًا أن يمهِّدَها بنُظُم سلاليَّة، أصبحتَ ترى العهد الإقطاعي الفاني، ذلك العهد الذي كساه العار حُلَّته وطَعَنَه العجز طعنته النجلاء، يتزاحف ببؤس نحو رحمة الشعب واحتقاره لكي يضع، قبل اضمحلاله، مزقَ عظمته الماضية ومجده المُنطفِئ على قدمي ذلك الرجل الأعظم مُمثِّل مجد العهد الحالي وجلاله وجبروته!
كان أمير إستوري يرغب في مقابلة مع والده؛ ليتفقا معًا على شجب تداخُل ذلك الوسيط القاهر الذي اختاراه، فصمَّم النية على الدخول على كارلوس الرابع في مخدعه. إلا أن الملك القديم قال له له بحدَّة: «قف أيها الأمير! ألم يكفك إهانة شعوري البيضاء؟» ودفعه عنه، وفي اليوم التالي وبَّخه على سلوكه بعبارات قاسية، إلَّا أن نابوليون لم يعيه الأمر عن الاطلاع على تلك الرسالة التي خُتِمت بهذه الكلمات المرمزة عن فتنة أرنجويز: «يجب أن يُعمَل كل شيء في سبيل الشعب وليس على يده. أما الإعراض عن هذا المبدأ فهو ارتكاب جميع الجرائم التي تتأتَّى عن هذا الإعراض.»
في أثناء ذلك كان نابوليون قد اختبر ذينك الرجلين اللذين ما جاء إلا ليدرسهما عن كَثَب؛ إذ إنه، لدى المقابلة الأولى التي جرت بينهم، اتضحت له الحقيقة الناصعة فقال بعد ذلك: «عندما أبصرتهما متراميَيْن على قدمي، وقُيِّض لي أن أتسلَّل إلى مداخل نفسهما العاجزة، هزَّتني الشفقة على مصير شعبٍ كبير فقبضت على ناصية الظروف التي وفَّرها لي الحظ لإقالة عثرة إسبانيا، ونزعها من نِير إنكلترا، وضمها إلى مبادئنا ضمًّا وديًّا، وكان من حقِّ هذا العمل أن يكون حجر الزاوية في بناء سلام أوروبا وطمأنينتها.»
أجل، لم يعتم الأمر أن صحَّت مشيئة نابوليون؛ فلقد حدثت فتنة في مدريد، تركت عاصمة إسبانيا في حالة ثورة، ما لبثت أن عمَّت جميع المقاطعات، وأصبح البوربون لا يستطيعون السيادة على الشعب الإسباني إلَّا تحت تأثير العصيان والتمرُّد المعاديين للنفوذ الفرنسي. في الخامس من شهر أيار تنازل كارلوس الرابع إكرامًا لنابوليون، وفي العاشر منه صدَّق أمير إستوري، ودون كارلوس، ودون أنطونيو، ودون فرنسيسكو وهم أولياء عهده على هذا التنازُل. وقد تنازلوا هم أيضًا عن أيَّة رغبة في عرش إسبانيا. أما الملك القديم فانسحب إلى كومبياني تصحبه الملكة والصفيُّ غودوي، وأما أولياء العهد فقد انسحبوا إلى فالانساي.
ولقد جاء تخلِّي كارلوس الرابع وأولاده عن التاج خاتمة لتمرُّد الأمة الإسبانية، فتألَّفت المجالس التنظيمية في جميع الجهات لإدارة حماية البلاد ضدَّ الهجمات الأجنبية، عند هذا ألَّف نابوليون مجلسًا تنظيميًّا وضع على رأسه صهره مورات، ولم يكد هذا المجلس يُعقَد، حتى سمى ملكًا على الإسبانيين شقيق الإمبراطور جوزيف نابوليون، الذي كان يشغل عرش نابولي.
في أثناء ذلك كانت الثورة تستعد استعدادًا عظيمًا في الأندلس، فانسلخ الجنرال ديبون، الذي أبلى بلاءً حسنًا في موقعة فرييدلان، عن فِرَق الجيش الفرنسي ليدخل إلى الأندلس. إلا أن هذه الحركة، التي بدرت منه، نجمت عنها عاقبة وخيمة؛ إذ إنه لم يكد بسيير يربح موقعة ريوسيكو، ويستولي مونساي على بلنيسا، حتى كدَّرت هزيمةُ بايلن وتسليمها بريقَ العلم الفرنسي، وأظهرا لأوروبا أن جيوش نابوليون لم تكن معصومة عن الانكسار كما كانت تظنُّ.
إن كان العار الذي لحق بتسليم بايلن لا يُمحَى، فإن الخسائر المادية التي سبَّبتها تلك النكبة إنما كانت مثله لا تُعوَّض. بعد أن فضح نابوليونَ سلوكُ قائده أخذ يهتمُّ بردِّ الآمال على الجندي الفرنسي في إسبانيا، فأمر بتجنيد جديد وأرسل مدَدًا، ولكي يُظْهِرَ إظهارًا صريحًا أن عزمه على ربط الأمة الإسبانية بالإمبراطورية الفرنسية إنما كان ولا يزال ربطًا مُحكَمًا وديًّا لا ينفصل، أذاع أمرًا في الثالث عشر من شهر آب يقضي بفتح طريق كبير من مدريد وباريس.