الفصل الثامن عشر
عندما غادر الإسكندر معسكر دريسا ذهب توًّا إلى موسكو، فاستغنم الحاكم روستوبشين فرصة وجود القيصر في العاصمة فجمع الأشراف والتجار في الكريملن ليسألهم تضحياتٍ أخرى بالمال والرجال، وأخذ يصوِّر لهم الأعداء في قلب الأمة، ويمثِّل لهم نابوليون كروح متلفة ترغب في هدم وطنهم وإتلاف استقلالهم الوطني وقلْبِ دينِهم؛ وهذا كافٍ لإثارة هؤلاء الأشراف والتجار على نابوليون. ولم يكتفِ روستوبشين بما فعل، بل كلَّف رئيس الإمبراطورية، وهو أُسْقف عظيم، بأن يجمع الشعب في الكنيسة ويحثَّه على الحماس الشديد ضدَّ الجيش الفرنسي، بينما كان روستوبشين ينفِّذ كلَّ هذا دخل الإسكندر من أحد أبواب الكنيسة وتناول الكلام بنفسه فسرد على مسامع الشعب المُحتشِد غاية الجلَّاد العالمي من هدم وطنهم ودينهم، حتى أخذت السياسة الروسية طابعًا مضطرمًا والحرب شكلًا رهيبًا!
على أن نابوليون لما عزم على الزحف إلى موسكو دفع الحرب بشدَّة هائلة، سوى أن الإسكندر لم ينتظره في الكريملن، وعِوَضًا عن أن يذهب لملاقاته على رأس الجيوش الروسية اتَّجه بسرعة على طريق بطرسبورج، حيث أرسل كوتوزوف ليحلَّ محلَّ باركلاي. فعندما وصل كوتوزوف إلى الجيش كان باركلاي استحكم بين فيازما وغجاث وتأهَّب للقتال الذي سيقع في اليوم التالي. فلم يشأ الجندي القديم كوتوزوف أن يُشعِر القائد المعزول بأنه أحسن اختيار مركزه، ودنا الروسيُّون من الجيش الفرنسي حتى وقفوا بالقرب من موسكو بين الموسكووا والكالوكزا، حيث وقعت الحرب الهائلة التي كثيرًا ما تمنَّاها نابوليون.
في صباح اليوم السابع من شهر أيلول لما بدأت أُولى أشعَّة الفجر بالبزوغ، كان الإمبراطور نابوليون مُمتطِيًا صهْوة جواده وقد التفَّ «بريدنكوته» الأشهب اللون وإلى جنبه راب وكولنكور وبعض الكشَّافة. وما هي إلا هنيهة حتى وصل الكولونيل فابغيير إلى المعسكر يحمل نبأ موقعة سلامنك من أعماق إسبانيا، والسيِّد ده بوسه من سن كلود يحمل رسائل من ماري لويز ورسم ملك روما؛ فاستاء نابوليون من تصرُّف المارشال مارمون الذي سلَّمت كسرته مدريد لويللنكتون، إلَّا أن الكولونيل دافع عن قائده دفاعًا طيبًا، ثم أخذ الإمبراطور رسم ولده بعطف عظيم، وبعد أن أراه لمن يحيط به عَهِد به إلى كاتم سرِّه قائلًا له: «خذْه، وانصرف به الآن، فلا أريد أن يُشاهِد الحرب، فهو لا يزال صغيرًا لذلك.»
موقعة الموسكووا
أيها الجنود
تلك هي الحرب التي تمنَّيتموها كثيرًا! إذن فالنصر يتوقَّف عليكم؛ فنحن بحاجة إليه؛ إذ إنه ليخصب كل شيء في وجهنا ويقرِّب لنا العودة إلى الوطن! انهجوا كما نهجتم في أوسترلتز وفرييدلان، في ويتسك وسمولنسك، ولْتذكُر الأجيال البعيدة هذا النصر بفخر وإعجاب، ولْتقُلْ عنكم: لقد كانوا تحت أسوار موسكو في هذه الموقعة العظيمة!
عن المعسكر الإمبراطوري، من على مرتفعات بورودينو، ٧ أيلول الساعة الثانية صباحًا.
فأجاب الجيش بهُتاف مُتواصِل، وكان المنحدر مغطًّى بجثث الروسيِّين على أثر المعركة التي حدثت في الليلة السالفة.
عند هذا بدأ الأمير بونياتووسكي الذي يؤلِّف الميمنة بالتحرُّك ليدور دورة الغاب، الذي كان العدوُّ داعمًا فيه ميسرته. وبدأ أمير أكموهل بالزحف على طول الغاب.
في الساعة السادسة بدأ الجنرال الكونت سوربيه بإطلاق النار، ورئس الجنرال برنتي كتيبة كومبان بثلاثين مدفعًا. وفي الساعة السادسة والنصف جُرِح الجنرال كومبان. وفي الساعة السابعة قُتِل جواد أمير أكموهل. وما هي إلَّا بضع دقائق حتى استولى نائب الملك على قرية بورودينو التي لم يقوَ العدوُّ على حمايتها. في الساعة السابعة انقضَّ المرشال الدوق دلشنجن على الوسط يحرسه ستُّون مدفعًا كان الجنرال فوشه قد ركَّزها في المساء ضدَّ وسط العدو. هناك ألف مِدْفَع تتقيَّأ بالموت من جميع الجهات. في الساعة الثامنة استولي على مراكز العدوِّ، وأصبح الروسيون يرون الموقعة خاسِرة بعد أن خُيِّل إليهم أنها لا تزال في بدئها. لقد نُزِع من العدوِّ قسمٌ كبير من مدافعه، والقسم الآخر باقٍ على الخطوط المهجورة في الوراء. ثلاثمائة مِدْفَع فرنسيٍّ تقذف القنابل من المرتفعات على كُتَل الأعداء.
يقوم ملك نابولي بهجمات مُختلِفة وهو على رأس الخيَّالة، لقد كُلِّل الدوق ولشنجن بأكاليل المجد لِمَا أظهره من الحماس والتجلُّد، أصدر الإمبراطور أمرًا بالزحف إلى الجبهة، وإذا بنا نستولي على ثلاثة أرباع ساحة الحرب. الأمير بونياتووسكي يقاتل في الغابات بفوز عظيم.
بقي للعدوِّ حصونُ ميمنتِه، فزحف الجنرال الكونت موران واستولى عليها، ولكنَّه لم يقوَ على البقاء فيها؛ إذ هُوجِم من جميع الجهات في الساعة التاسعة من الصباح. عندما شعر العدوُّ بهذا الفوز عاد الأملُ إليه وأشار إلى جيشه الاحتياطي بالتقدُّم إلى الأمام. هو ذا الحرس الإمبراطوري يشترك في المعركة ويهاجم وسطنا؛ ولكنَّ ثمانين مِدْفعًا فرنسيًّا أوقفت العدوَّ، ثم حطَّمت جميع صفوفه التي مرَّت عليها ساعتان وهي لا تجرؤ على التقدُّم ولا تستطيع التقهقُر. لقد قُتِل الكونت كولنكور في هذه المعركة بعد أن أبلى فيها بلاءً حسنًا؛ إنه مات مِيتةً مجيدة يُغبَط عليها!
هي الساعة الثانية بعد الظهر، لقد قطع العدوُّ كلَّ أمل بالنجاح، وانتهت المعركة، إلَّا أن المدافع لا تزال تقصف، ذلك أن العدوَّ لا يزال يقاتل في سبيل خلاصه وضمانًا لتقهقُره لا لنصره.
لقد خسر العدوُّ من اثني عشر ألف رجل إلى ثلاثة عشر ألفًا، ومن ثمانية إلى تسعة آلاف جواد أُحْصِي عددُها في ساحة القتال، وستين مدفعًا، وخمسة آلاف أسير بقُوا في حوزتنا.
أما نحن فقد قُتِل منا ألفان وخمسمائة رجل، وجُرِح سبعة آلاف وخمسمائة. لقد قُدِّر مجموع خسارتنا بعشرة آلاف مقاتل، وقُدِّر مجموع خسارة الأعداء بأربعين أو خمسين ألفًا. لم تُشاهَد ساحة قتال أدمى من هذه بعدُ. فلقد ذهب فيها أربعون قائدًا روسيًّا بين قتيل وجريح وأسير! جُرِح القائد باغراسيون.
لقد خسرنا قائد الفرقة الكونت مونيرن الذي قُتِل بقنبلة مِدْفَع، وقُتِل الجنرال الكونت كولنكور الذي أُرسِل ليحل محلَّ الكونت مونبرن.
لقد أطلقنا ستين ألف قنبلة مدفع، فجميع الغابات والقرى ملأى بجُثَث القتلى وبالمجاريح. وأمَّا فرقة الحرس فلم تخسر رجلًا واحدًا.
أما نابوليون فاخترق الأسوار، ولكنَّه في تلك الساعة لا أعلم أي إلهام صوَّر له أنه يضع قدمه على لجَّة، وأن موسكو تخبِّئ في أسوارها نهاية انتصارات الجيش الفرنسي وأول بادرة من بوادر انحطاط الإمبراطورية الكبيرة فخشي أن يتوغَّل في المدينة، وعمل فيها بضع خطوات، ثمَّ بات في أحد الفنادق؛ وفي اليوم التالي مشى إلى الكريملن وقد نفض عنه الوجيب والهَدْس!
ماذا يبقى على الثورة الفرنسية لكي تُنجِز دورتها المُنتصِرة في أطراف أوروبا، وتعاقب الأريستوقراطية القديمة على تمرُّدها ضدَّ فرنسا الفتاة؟ فإنها بعد أن قادت ممثِّلها العظيم إلى جميع العواصم تمهِّد له اليوم مكانًا في الكريملن مأوى القياصرة العظماء! ماذا يبقى عليها بعد ذلك لكي تصل إلى رغبتها الأولى؟
ستجيب الحوادث على هذا السؤال.
لم يكد نابوليون يجلس في الكريملن حتى شبَّ حريقٌ هائل ساعدت الرياح على إضرامه، وارتفعت في الفضاء أعمدة من الدخان سوداء! وما هي إلا هنيهة حتى غرقت المدينة في محيط من اللهيب عجَّاج كأنما الأرض قد انفتحت لتبتلع جميع ما بنته يد الإنسان في تلك العاصمة الأوروبية.
رأى نابوليون الآن ما الذي أراد الروسيون أن يفعلوه؛ فإنَّه لم يجد في موسكو بدل المداولات أو المفاوضات في سبيل الصلح إلا مضرمي نارٍ غلَّفوا المدينة باللهيب وزنَّروها بالخرائب! لقد حُقَّ له أن يقول مع مدام ده ستال: «ما من أمَّةٍ حضرية ضمَّت من المتوحِّشين ما ضمَّته روسيا.»
على أن النار ما زالت تمتد حتى جاورت الكريملن فتحطَّم زجاج القصر الإمبراطوري، وخشي نابوليون على نفسه فعزم على الرجوع، ولكنَّه لم يشأ أن يتقهقر أمام الفظاعة التي قهرها في عشرين موقعة فعدل عن عزمه؛ عند هذا أخذ الجميع يحاولون إقناعه بضرورة الرحيل مُشيرِين إلى الشرر المتساقط على باحات القصر والمشاقات الملتهبة المنتشرة على الحضيض المُعسكِرة عليه فرقة المدفعية، سوى أنه بقي مصرًّا على عزمه، قائلًا إنه لا يطيق على نفسه أن يطرده بضع مئات من مُضرِمي النار، من عمَّال روستوبشين، ولكن الحياة التي يعرِّضها للخطر إنما هي ملك الجيش، ملك فرنسا. وفي نهاية الأمر، لما عاد برتيه من إحدى شرفات القصر المرتفعة وأطلع الإمبراطور على أن الخطر كاد يلامسه وأن اللهيب يحيط بالقصر، لم يجِدْ بدًّا من الرضوخ لمشيئة القدر، فتقهقر إلى مسافة صغيرة من موسكو ومكث في قصر بترووسكوني على طريق بطرسبورج.
لمَّا سكنت النار في موسكو عاد نابوليون إلى الكريملن، الذي نجا من الحريق، فرأى المدينة ملأى بالناهبين من جميع الشعوب، فأخذ يهتمُّ بالشرطة في داخل موسكو والبلدان المُفتتَحة. إلَّا أن الإسكندر، على ما حلَّ به من النكبات، بقي أصمَّ عن جميع المطاليب السلمية التي طُرِحَت عليه، وكأنه نسي أن القسم الأكبر من ولاياته أصبح طعمًا للخراب فحوَّل نظره عن الكريملن ليشخص به إلى الوزارة الإنكليزية التي ما فتئت تمْهَره بألوان المديح والتشجيع. ولكن عناصر الطبيعة بدأت تبشِّر بطلائع الفصل الرهيب، فخرج نابوليون من موسكو في التاسع عشر من شهر تشرين الأول بعد أن ترك للمرشال مورتيه أمرًا بنسف الكريملن.