الفصل الثاني
عندما وصل نابوليون إلى أسوار طولون وجد فرقةً من المتطوعين البسلاء، إلا أنه لم يجد زعيمًا جديرًا بقيادتهم.
كان الجنرال كارتو، وهو من أشد المتظاهرين بعظمة وجبروت لا ينطبقان على صعوبة المبادئ الجمهورية، ينطوي على جهلٍ أكثر مما ينطوي على زهوٍ وفخفخة، وكان فتح طولون عملًا تعجز عنه قواه، غير أنه لم يكن ليعترف بذلك العجز المقنط، فكان من تلك الثقة العمياء أن أوحت إليه تلك الخطة التي حملت هذه الكلمات: «إن قائد المدفعية سيصعق طولون مدة ثلاثة أيام، أهجم في نهايتها بثلاث فرق وأستولي عليها.»
إلا أن حسن الحظ شاء أن يكون إلى جنب هذا الفنان الماهر الذي يستشعر الإيجاز في خططه، ضابطٌ قُيِّض له أن يكون على بسطة في العلوم العسكرية بقدر ما قدر له أن يكون في رتبةٍ سفلى، كان هذا الضابط فتًى في الرابعة والعشرين من عمره، وكان مع ما هو عليه من الضعة وخفض الجناح لا يقدر على حجب مقته للقسم الأكبر من الرجال، الذين كانت سلسلة المراتب والنظم توجب عليه أن يحترمهم كرؤساء لهم عليه واجب الإذعان، بالرغم من أن عجزهم وقصورهم كانا يهددان الجمهورية بسوء المصير، فهذا المقت الحلال، وتلك الثقة التي أكدت له أنه إنما هو فوق من حوله، كانا يشجعانه على أن يغالط رؤساءه أنفسهم، بدل أن يدعهم ينفذون من غير مخالفةٍ مقاييس كان يراها مضرةً جدًّا، حتى إن امرأة الجنرال كارتو لم تجد بدًّا من أن تقول لزوجها: «دع هذا الفتى يجري ما يراه صالحًا، فهو أعرف منك بكل شيء، ألا تراه لا يسترئيك قط؟ أما المجد فهو باقٍ لك لا ينازعك إياه أحد.»
عندما وصل نابوليون إلى المعسكر، أدرك بتلك النظرة الثاقبة التي كثيرًا ما ساعدت نبوغه في ساحة الحروب، أن استرجاع طولون يتوقف على الإغارة عليها من منفذ الخليج، إلا أنه سعى طويلًا مساعي خائبة حتى أتيح له أخيرًا أن ينفذ فكرته، كان بين ممثلي الشعب رجلٌ قدر له أن يكون على بسطة في الفِراسة والذكاء فتوسم مستقبلًا عظيمًا لهذا الضابط البسيط، وما عتم الأمر أن قُيِّض لنابوليون أن ينال ما يحتاج إليه من السلطة ليحقق نجاح خططه.
أبرز نابوليون في مدة الحصار مثلًا في الاطمئنان والشجاعة النادرة لا يرتفع مثلٌ عليه؛ إذ إنه لم يكن ليظهر حذاقته وخبرته في المشورة فقط بل كان يبرزهما في وسط العمل بذلك الهدوء الباسل الذي اضطر رؤساءه أن يحترموا فيه بسطة علمه ويعجبوا بسرعة ذكائه، أما هذه الجرأة المدهشة فقد كلفته سقوط جياد كثيرة تحته، وسببت له جرحًا بليغًا في فخذه الأيسر.
كان استعداده في العلم النظري الصرف ليس بذي أهمية، وكان احتقاره للتفوق والعلوم النظرية عظيمًا حتى إنه لم يكن ليستطيع أن يضع لنفسه حدًّا فيها، فالإدراك والتنفيذ كانا عنده أمرين متصلًا بعضهما ببعض اتصالًا كليًّا، ولكانت فكرته الرحبة قد أزعجته لو لم يشعر بروح وساعِد يعملان معًا على تحقيقها بشجاعة وثبات.
إن الحاجة إلى العمل تبعت نابوليون في كل مواقفه، فلقد حافظ عليها في وجوه حظوظه جميعها، وعندما أصبح من الصعب عليه أن يواصل تحقيقها، ختم الموت حياته، لقد مات في حين رأى نفسه مضطرًّا على أن يطوي تلك المخيلة الرحبة التي ملأت أوروبا بإبداعها العظيم.
لم يكن يطبق ذلك النشاط المتواصل في المسائل الكبرى فحسب، بل كان يضع يده على كل شيء عندما توجب عليه الظروف، ولا يخشى قط أن يعرض روحه الزاخر للمخالفة عند الاقتضاء.
ذات يوم في حصار طولون، بينما كان في أحد صفوف المدافع، قُتل رجلٌ من رجال المدفعية فاستولى على مدفع القتيل بسرعة، وأطلق بنفسه عدة طلقات، فكان من جراء ذلك أن أصيب بداء الجرب الذي كان القتيل مصابًا به، وقد أسقمه ذلك الداء إسقامًا لازمه في حروب مصر وإيطاليا، ولم يقيض له الشفاء إلا في عهد المملكة بعناية كورفيزار.
لم يكن في جميع رؤسائه من تملكه الحسد والسخافة ككارتو، بل إن القائدين دوتيل ودو كوميه كانا يظهران له احترامًا ساميًا ومراعاةً لم يظهرا مثلها لأحد من مرءوسيهما قبله، حتى إن دو كوميه لم يجد بدًّا من الدهشة والاستغراب ساعة سمعه يقول له بعد الاستيلاء على البتي جيبرالتر: «خذ لنفسك الراحة، فلقد استولينا على طولون وتستطيع أن تنام فيها بعد غد!» إلا أن هذه الدهشة تركت محلًّا للإعجاب الشديد عندما تحققت تلك النبوءة الغريبة، فكتب دو كوميه عندئذ إلى جمعية السلام العام يطلب منها رتبة قائد فرقة عسكرية للكومندان بونابرت قائلًا: «كافئوا هذا الشاب وادفعوه إلى الأمام، فهو إذا بقي منكور الجميل لا يلبث أن يدفع نفسه بنفسه.» فنزل ممثلو الشعب عند هذا الطلب، ووُظف القائد الجديد في إيطاليا تحت إشراف دو ميربيون وساعد بمقدرة عظيمة على أخذ ساورغيو.
كان نابوليون، مع تعلقه بقواعد الجمهوريين الغُيُر الذين كانوا يعملون على إنقاذ البلاد بنشاط كثيرًا ما رافقته مقاييس هائلة، يشرف على الأهواء والآراء التي كانت تصطدم بشدة لكيما تبقي تحت سطوة الحمَّى الثورية نفسها خُلُقًا من الاعتدال وعدم التعصب، فإنه لم يستعمل نفوذه وقدرته إلا ليصون أخصامه السياسيين من الاضطهاد، وينقذ المهاجرين الذين ألقتهم الزوبعة في جهة فرنسا وكان بينهم عائلة شابريان.
كان روبسبيير في ذلك العهد في غضاضة العمر، وكان شديد الإعجاب بنابوليون، فسعى إلى أخذه إلى باريس قبل التاسع من ترميدور بوقت قصير، قال نابوليون: «لو لم أرفض بقساوة وصلابة، لما عرف أحدٌ إلى أين قذفت بي تلك الخطوة الأولى وأي قدر كان ينتظرني.»
صادف نابوليون دوروك وجونو في حصار طولون، فملك دوروك محبة بونابرت وثقته، وأما جونو فقد امتاز في عينيه بهذه النادرة: «كان قائد المدفعية، عند وصوله إلى طولون، قد احتاج إلى الكتابة في المكان نفسه الذي كان يجهز فيه صفًّا من المدافع، فطلب أحد الجنود ليلازمه بصفة كاتم أسرار فمثل الجندي لديه، ولم تكد الرسالة تنجز حتى انطلقت قنبلة فملأتها ترابًا، فقال العسكري بهدوء وسكينة تامة: حسنًا، لم أبق بحاجة إلى التراب، كان هذا الجندي جونو، فهذا المثل في الشجاعة كان كافيًا لإلفات نظر قائده إليه، فرقاه من ذلك الحين إلى أعلى رتبة في الجيش.»
لم يقدر فتح طولون الذي توقف على بونابرت الفتى أن يضعه في أمنٍ من الاضطهادات، فذات مرة صدر أمرٌ بقي بدون تنفيذ يطلبه إلى الديوان العرفي ليجيب على أسئلة تتعلق ببعض أوامر نظمها في تحصينات مرسيليا، ومرة غضب أحد الوكلاء من صلابة طبعه؛ إذ رآه غير مطيع لمطاليبه فلفظ ضده هذه الكلمة التي كثيرًا ما كانت قتالة إلا أنها ذهبت هذه المرة أدراج الرياح: «يوضع خارج الشريعة.»
قلنا: إن جميع وكلاء المعاهدة في جيش الشمال كانوا يسيئون التصرف مع نابوليون إلا واحدًا لا غير، كان متزوجًا من امرأة كثيرة اللطف والجمال؛ فإنه أسبغ عليه جزيلًا من الإنعام، وأحله في بيته محلًّا موفور الكرامة وكانت امرأته تشاطره هذا الإكرام.
عندما صار نابوليون إمبراطورًا، أبصر ثانيةً المرأة الجميلة التي أضافته في نيس، إلا أن الأحزان والمصائب كانت قد محت عنها جميع الجواذب التي استهوته في الماضي، فقال لها: «كيف لم تستعيني بمعارفنا في جيش نيس للوصول إليَّ؟ فلا يزال قسمٌ كبيرٌ منهم له علاقة متواصلة معي.» فأجابته: «واحسرتاه يا مولاي! لقد انقطع تعارفنا منذ صاروا كبارًا وصرت تعسة.»
كانت المسكينة قد أصبحت أرملة وعضها الفقر المدْقِع، فنالها نابوليون كل ما طلبت.
قال نابوليون ذات مرة، وقد مر بمخيلته ذلك العهد الجميل، على لغة الناس أو بالحري على لغة الأخلاق: «كنت في ميعة العمر يومذاك، وكنت سعيدًا وفخورًا بنجاحي الصغير، كنت ذات يوم أتنزه معها في وسط مواقعنا، في نواحي تاند، فخطر لي فجأةً أن أريها مشهد حربٍ صغيرة وأمرت بالقتال، فكان النصر حليفنا، إلا أن الأمر كان مجردًا من نتيجة؛ لأن القتال كان وليد هوًى لا غير، مع أنه لم يخلُ من بعض القتلى الذين ذهبوا ضحية ذلك الهوى الفارغ، فيما بعد، كلما تذكرت ذلك العمل وبخت نفسي عليه.»
صُرِّح بأنه غير أهلٍ لثقة الجيش وعزل، إلا أنه لم يسكت عن هذا السقوط وهذه الشكوى، فأنشأ مذكرة رفعها إلى الوكلاء الذين أوقفوه، تضمنت ذلك الإنشاء السامي القوي الذي أعجب به بعد ذلك في جميع خطبه وإنشاءاته، ندرج هنا بعض مقاطع من تلك المذكرة النفيسة: «إنكم أوقفتموني عن أعمالي وصرحتم بعزلي …
فها أنذا مهتوك الحرمة من غير محاكمة، أو محاكمٌ من غير أن يصغى إلى دفاعي.
إن في المواقف الثورية أمرين: الشكوك وحب الوطن … ففي أية مرتبة يراد أن أكون؟
ألم أكن منذ بدْء الثورة متعلقًا بالنظم؟
ألم أشاهَد دائمًا في الحروب تارة ضد الأعداء الداخليين وتارةً ضد الغرباء؟
لقد ضحيت بمقاطعتي، وهجرت مصالحي، وفقدت كل شيء في سبيل الجمهورية.
لقد خدمت في طولون خدمةً ممتازةً وأكسبت جيش إيطاليا أكاليل الغار بأخذ ساورغيو وأونيل وتانارو …
لقد كان تصرفي في اكتشاف مؤامرة روبسبيير تصرف رجلٍ لم يتعود إلا السير على النظم.
إذن، فلا يستطيع أحد أن يجردني من لقب محب للوطن.
لماذا يصرح بعزلي من غير أن يصغَى إليَّ؟
بريء، محب للوطن، مفترًى عليه، مهما كانت المقاييس التي تتخذها الجمعية فلا يمكنني أن أتشكى منها.
إذا صرح ثلاثة رجال أنني مذنب فلا أتظلم من الجمعية التي تحكم عليَّ.
أيحق للممثلين أن يضعوا الحكومة في مأزقين: إما أن تكون ظالمة، وإما أن تكون غير صالحة للسياسة؟
أصغوا إليَّ، واعدلوا عن الظلم الذي يحيط بي، وأرجعوا إليَّ إكرام المحبين للوطن …
إذا بقي الأردياء، ساعةً بعد الآن، مصرين على أخذ حياتي فإني أنبذها كما نبذتها مرارًا قبل الآن … أجل، إن الأمر الوحيد الذي يشجعني على احتمال أثقال حياتي هو أنها قد تكون مفيدة للوطن.»
فهذا الاعتراض الشرعي، الذي انطوى على كل ما في بساطة الكلام من العزة والفخر، دعا الممثلين إلى التبصر في أنهم ينهجون مع رجل ذي قدر سامٍ وخلق كبير وأنهم يجب أن يقنطوا من إذلاله واضطهاده من غير أن يعرضوا نفوسهم إلى مقاومته الشديدة المتواصلة، فعقد ألبيت وساليستي والجنرال دو ميربيون مجلسًا فيما بينهم ورأوا من الحكمة أن يلغوا حكمهم إلى حين، فقرروا إطلاق حرية الجنرال بونابرت، قائلين: «إن معارفه الحربية قد تكون مفيدة للجمهورية.»
في غضون ذلك كانت الرجعة الترميدورية قد دفعت إدارة الجمعية الحربية إلى قائد مدفعية قديم يدعى أوبري، وكان نابوليون قد رُفع من العسكرية وعين قائدًا للمشاة ليذهب إلى الفانده فيقوم بخدمته هناك، فعندما وصل إلى باريس، ساخطًا على تغيير مهين بحقه، غير مستعدٍّ لأن يقف ذكاءه لحربٍ عقيمة، أسرع برفع اعتراضاته إلى الجمعية العسكرية فبين أفكاره بكثير من الحمية والشدة، إلا أن أوبري ظل صلبًا وقال لنابوليون: «إنك فتى ويجب أن يفسح السبيل للقدماء …» فأجاب نابوليون: «إن من يشهد ساحات الحروب تدهمه الشيخوخة عاجلًا»، ولم يكن رئيس الجمعية قد شهد النار بعد.
على أن هذا الجواب البديهي الحاد أغاظ أوبري بدل أن يرضيه فأصر على البقاء فيما كان عليه، أما الضابط الفتى، الذي لم يكن أقل تشبثًا منه في عزمه، فقد آثر العزل على الإذعان للظلم.