الفصل الثاني والعشرون
وصل الإمبراطور إلى أبواب باريس في مساء عشرين آذار، وكان العَلَم المثلث الألوان يخفق على التويلري منذ الساعة الثانية بعد الظهر، أما الذي رفعه فقد كان أكسلمان الباسل.
تحفَّل الشعب والجيش حول نابوليون وتهافتا إليه كما جرى في غرونوبل. وفي نحو الساعة التاسعة من المساء، عندما دخل إلى التويلري، استقبله جمعٌ من الضباط وقد ترامَوا عليه بحماس وشوق حتى اضطرَّ أن يقول لهم: «إنكم تخنقونني!» أما السيد ده مونتاليفه، الذي خدمه بإخلاص ونشاط في عهد النعمة وبقي وفيًّا له في العهد المشئوم، فقد جاء لملاقاته وأخذه بين ذراعيه، ثم حمل الإمبراطور إلى إحدى الغُرَف، حيث كانت تنتظره الملكة هورتانس مع عدد غفير من موظفي الإمبراطورية القدماء.
وفي اليوم التالي استعرض الإمبراطور جميع كتائب العاصمة، وقال لها: «أيها الجنود، لقد جئت إلى فرنسا مع تسعمائة رجل لأنني كنت أتَّكل على محبة الشعب وتذكار الجنود القدماء، فلم يخدعني انتظاري! إنَّ مجد الأعمال التي قمنا بها إنما جميعه للشعب ولكم!
أيها الجنود، إن عرش البوربونيين لغير شرعيٍّ؛ لأنه رُفِع على أيدٍ غريبة؛ لأن أماني الأمة التي عبَّرت عنها جميع مجالسنا الوطنية قد طاردته؛ ولأنه لم يضمن إلَّا مصالح فئة قليلة من الرجال المُتصلِّفين الذين خالفت مزاعمهم حقوقنا. إن العرش الإمبراطوري يستطيع، وحده، أن يضمن حقوق الشعب، ويؤيد الصالح الأول وهو مجدنا.
أيها الجنود، سنزحف لنطرد من الحدود هؤلاء الأمراء الغرباء؛ أمَّا الأمَّة فستدعمنا، ليس بأمانيها فحسب، بل بالحثِّ والتحريض. إني والشعب الفرنسي، نتَّكل عليكم، لا نريد أن نتحكَّم في شئون الأمم الغريبة، ولكن الويل لكلِّ مَن يريد أن يتحكَّم في شئونِنا!»
تلقَّى الجنود هذه الخطبة، بمثل الحماس الذي تعوَّدوا أن يبدوه لدى خطب نابوليون، ودوى الفضاء بهُتاف «ليحي الإمبراطور!» وإذا بكتيبة جزيرة ألبا ظهرت، يقودها كامبرون، الذي لم يُتَحْ له أن يصل إلى باريس في الوقت الذي وصلها به الإمبراطور. عندما أبصر نابوليون هذا المشهد صرخ قائلًا: «هؤلاء هم ضبَّاط الكتيبة التي صحبتني في أيام الشقاء. إنهم أصدقائي جميعًا، ولقد كانوا أعزاء على قلبي! كنت كلما رأيتهم، تتمثَّل لي جحافل الجيش في مختلف ألوانها؛ إذ إن بين هؤلاء البواسل الستمائة رجالًا من جميع الجحافل، كانوا يذكِّرونني جميعُهم بتلك المواقع الخالدة الطيبة الذِّكْر؛ إذ إنهم جميعًا يحملون جراحات شريفة أُصِيبوا بها في تلك المواقع المجيدة! أما إذا أحببتهم، فإني إنما أحب فيهم بسالتكم وإخلاصكم يا جنود الجيش الفرنسي. إنهم يحملون إليكم النسور! فلتكن هذه الأعلام صلة المجد بينكم جميعًا!
لقد ألقت علينا الخيانات والظروف وشاحًا أسود! ولكنها عادت اليوم إلى التألُّق بمجدها القديم، بفضل الشعب الفرنسي وفضلكم. أقْسِموا أنها ستكون دائمًا حيث يكون صالح الوطن! أقسموا أن الخائنين، والذين يريدون أن يُغِيروا على أراضينا، لن يستطيعوا يومًا أن يتحمَّلوا نظراتها!»
فأجاب الجنود: «نُقْسِم!» وفي حين كانوا يمرون أمام الإمبراطور، كانت الموسيقى تعزف لحن الثورة: «لنسهر على سلام الإمبراطورية!»
كان الشقاء والبوربونيون قد وفَّقوا بين نابوليون والديموقراطية، التي قاست أكثر من مرة سقوطها في عهد الإمبراطورية، ولكي يجعل الإمبراطور هذا التوفيق أكثر ثباتًا، أعطى كارنو وزارة الداخلية، ودعا بنجمان كونستان إلى مجلس الشورى؛ ما دلَّ على اعترافه بسلطة الرأي العام، ونزوله على التحريض في سبيل الحرية الذي كان يمثِّله، في أشكال مُختلِفة، هذا الرجلان العظيمان. ولقد تحدَّث نابوليون إلى بنجمان كونستان عن طابع السياسة الجديدة التي ودَّ أن يتخذها، ومن غير أن يعْدِل عن الأفكار التنظيمية، أو يُظهِر استعداده إلى تشجيع التذكارات الديموقراطية التي اشتركت في إرجاع العرش إليه، صرَّح بأنه ينزل عند مطاليب الشعب حتى وعند أهوائه أيضًا، وأنه سيسير في الطريق التي تنقاد فيها الأفكار. نعرِّب هنا فقرة من هذا الحديث، الذي خرج من فم نابوليون، وأبقاه الكاتب الكبير الذي وُجِّه إليه، قال: «لقد استراحت الأمة اثنتي عشرة سنة من أيَّة حركة سياسية، ولقد مضى عليها سنة كاملة وهي مستريحة من الحرب، فهذه الراحة المزدوجة جعلتها بحاجة إلى النشاط. إنها تريد، أو يُخيَّل إليها أنها تريد حكومة ومجالس، سوى أنها لم تُرِدْ ذلك قبل الآن. لقد ترامت على قدميَّ عندما وصلت إلى الحكم، ويجب أن تذكر ذلك أنت الذي حاول الاعتراض. أما الرغبة في التنظيمات، والمباحثات، والخطب فقد ظهر لي أنها تعود … إلَّا أن الذي يريدها إنما هو الأقليَّة فقط، فلا تخطئ؛ لأن الشعب أو الجمهور، إذا أردتَ، لا يريد سواي. أوَ لم تشاهد ذلك الجمهور يتحفَّل حولي، وقد تهافت إليَّ من أعالي الجبال، مناديًا بي، باحثًا عني، محيِّيًا إيَّاي؟ لست كما قيل عني إمبراطور الجنود فحسب، بل أنا إمبراطور الفلاحين والسُّوقة وفرنسا … ثم إنك لترى، بالرغم من الماضي، ذلك الشعب الكريم عائدًا إليَّ، ذلك لأن ثمة جاذبية بيننا! … وما عليَّ إلا أن أعمل إشارة أو أن أحوِّل نظري حتى تجد الأشراف وقد ذُبِحوا جميعًا في جميع المقاطعات، ولكني لا أريد أن أكون ملك المذابح! لقد أردت إمبراطورية العالم، ولذا كنت بحاجة إلى سلطة لا حدَّ لها، أما إذا شئتُ إمبراطورية فرنسا وحدها، فقد تكفي لذلك شريعة أو سنَّة … هاتِ أفكارك لأرى. انتخابات حرة؟ وزراء مسئولون؟ الحرية؟ أريد جميع ذلك … لا سيما حرية الصحافة … فأنا رجل الشعب؛ وإذا رغب الشعب في الحرية فأنا مدين له بها، لقد اعترفت بسلطته، إذن فيجب علي أن أُصغِي إلى إرادته حتى وإلى أهوائه. لم تحدِّثني نفسي يومًا بأن أُرهِقه في سبيل ملذَّاتي، لقد كان لي مقاصد كبيرة إلَّا أن الحظَّ قضى عليها، فلم أبقَ ذلك الفاتح، ولم أبقَ أستطيع أن أكونه؛ وجل ما أرغب فيه هو أن أُعْلِيَ شأن فرنسا وأُعْطِيَها حكومة توافقها … لا أمقت الحرية قطُّ، أما إذا نحَّيتها في الماضي، فلأنها كانت تقف في طريقي، ثم إن أعمال السنين الخمس عشرة قد تهدَّمت، ولم يبقَ سبيل لترميمها إلَّا إذا ضُحِّي بعشرين سنة وبمليونين من الرجال … بيد أني أرغب في السلام، ولا سبيل إليه إلَّا بقوة الانتصارات، وإني لأتنبَّأ عن حرب طويلة يجب أن تدعمني الأمَّة فيها.»
كانت زعامة البوربونيِّين قد امَّحت في فرنسا الشعبية، وحلَّ محلَّها الإعجاب بنابوليون، إلا أن السلام كانت أمنية الشعب، ولكن الحرب كان لا بدَّ منها.
في أثناء ذلك جرى حادث خطير في ما وراء الألب؛ فإن مورات، الذي كان مُهدَّدًا بمعاهدة فيينا، أخذ يحاول أن يهيِّج إيطاليا على النمسا زاعمًا أن الملوك لا يحفظون له حرمةً، ما جعل الملوك يتصوَّرون أن الإمبراطور لم يخرج من جزيرة ألبا، إلَّا بعد أن تفاهم وصهره مورات واتفقا على شهر الحرب، فهذا التصوُّر كان كافيًا لأن يجعل ديوان فيينا أصمَّ عن مطاليب نابوليون السلمية، وجعل الوزراء النمسويين يتمسَّكون بالمعاهدة التي عُقِدَت في الخامس والعشرين من شهر آذار، عام ١٨١٥ والتي اتفقت فيها العصبة على أن لا تلقي السلاح إلا بعد أن تُسْقِط العرشَ الذي استرجعه الإمبراطور بطريقة عجيبة.
أما نابوليون، الذي بقي له أملٌ ضئيل بفصل النمسا عن العصبة ودفع السلطات الباقية إلى إلقاء السلاح، فقد كتب إلى جميع أولياء الأمر رسالةً بهذا الموضوع، إلا أن الأمراء المتحالفين لم يتنازلوا أن يجيبوه على مفاتحته هذه، عند هذا اتضح لنابوليون أنه أصبح من الواجب أن يسرع بالاستعداد إلى الحرب.
في الثاني عشر من شهر حزيران ترك الإمبراطور العاصمة واتَّجه نحو الحدود البلجيكية، وفي الرابع عشر منه وصل إلى أفيسن حيث أذاع الكلمة التالية:
«أيها الجنود، هذا اليوم عيد تذكار مارنغو وفرييدلان، فيجب أن نزحف لملاقاة هؤلاء الذين يريدون النيل من استقلال فرنسا وحقوقها المُقدَّسة.
أيها الجنود، علينا أن نقاسي زحفًا متواصِلًا شاقًّا، وأن نشهر مواقع عديدة، ونتحمَّل أخطارًا جمَّة، ولكن النصر سيكون لنا، على كلِّ فرنسي يضمُّ في صدره قلبًا شريفًا أن ينتصر أو يموت!»
وفي حين كان نابوليون يحرِّك شجاعة جنوده، كانت الخيانات تَلِجُ من جديد صفوفَ الفرنسيين؛ فإن الجنرال بورمون وبعض الضباط قد انحازوا إلى الأعداء، عندما بلغ نابوليون هذا النبأ الفجائي، تقدَّم من ناي وقال له: «ماذا تقول عن رفيقك يا مرشال؟» فأجابه باسل البسلاء: «مولاي كنت أتَّكل على بورمون اتِّكالي على نفسي.» فاستطرد نابوليون قائلًا: «لا بأس يا مرشال؛ فإن الزرق يظلُّون زرقًا في كلِّ حين، وفي كل حين يظلُّ البِيض بيضًا!»
في الخامس عشر من الشهر افتُتحت الحملة بموقعة فلوروس، فانهزم البروسيون بعد أن خسروا خمسة مدافع وألفي رجل. كانت الجيوش العدوَّة التي وقفت في وجه نابوليون، والتي يقودها ويللنكتون وبلوخر، تُعَد أكثر من مائتين وثلاثين ألف رجل، ولم يكن الجيش الفرنسي ليعد أكثر من مائة وعشرين ألفًا، أما نابوليون فلكي يتملَّص من الخطر الذي قد ينجم عن هذه الأكثرية الساحقة، أخذ يحاول أن ينحِّي الإنكليز عن البروسيين، فنجحت خُطَّته هذه نجاحًا باهرًا في موقعة لينيي في السادس عشر من حزيران؛ إذ إن بلوخر، الذي قاتله الإمبراطور على حِدَة، قد انكسر انكسارًا تامًّا، وترك خمسة وعشرين ألف رجل في ساحة القتال، إلَّا أن هذه الخسارة الكبيرة لم تؤثِّر كثيرًا على جيوشٍ لا يُحصَى عَدَدُها.
كان على نابوليون بعد أن انتصر ذلك الانتصار الباهر، أن يشهد في ساحات واترلو آخر نكبة يضمرها له الحظُّ القاهر، ففي الثامن عشر من شهر حزيران، بعد معركة دامت ثماني ساعات متوالية، خُيِّل للجيش الفرنسي أن الفوز سيكون في جانبه، ولكن في الساعة الثامنة والنصف أزعج الرصاصُ الكتائب الأربع، التي أُرسِلَت إلى سهل جبل سن جان لتعضد الفرقة المُدرَّعة، فمشت بالسلاح الأبيض تستولي على المدفعية، إلَّا أن هجومًا عالجته بعض كتائب إنكليزية تمكَّن من تشتيتها، حتى أوصلها إلى ما وراء الوادي؛ فلما أبصرت الجحافل المجاورة بعضَ جماعات من الحرس مُنهزِمة، صُوِّر لها أنها من الحرس القديم، وارتفع عند هذا صراخ: «لقد خُسِرَ كلُّ شيء! لقد انهزم الحرس!» وسُمِعَت أصوات تصرخ: «ليهرب مَن يقدر!» وما هي إلا هنيهة حتى شمل الخوف جميع الجنود وتفرَّقوا تفرُّقًا فظيعًا، أو امتزجوا بعضُهم ببعض حتى أصبحوا كتلةً مُبهَمة من المستحيل إعادة تنظيمها، وهبط الليل على تلك الكتائب المُبعثَرة فلم تستطع أن تتجمَّع وتتبيَّن خطأها، فتعلم أن الوهم إنما هو الذي سبَّب ذلك التشويش، أما حظائر المؤنة وكلُّ ما كان في ساحة القتال فقد بقي في قبضة العدوِّ.
إن هفوة صدرت من المرشال غروشي اشتركت في القضاء على جيوش الإمبراطور؛ فلقد عهد إلى المرشال غروشي أن يطارد فرق بلوخر البروسيانيَّة، ولكنه تركها تزحف إلى ساحة واترلو من غير أن يُوقِفها هو بنفسه، كما طلب منه ذلك الجنرال جيرار. كان غروشي يعتقد نفسه دائمًا أمام البروسيانيين، في حين لم يكن أمامه سوى فرقة صغيرة من جيشهم. أما هذه الهَفْوة التي ارتكبها المرشال فقد غيَّرت بأقل من ساعة، ليست مُقدَّرات موقعة هائلة فحسب، بل مُقدَّرات أوروبا بأسْرِها.
كان نابوليون يعلم حقَّ العلم الروح السائدة في مجلس الممثِّلين، فاتَّضح له عند هذا أنَّ نبأ تشتيت جيشِه سيُقِيم عليه صواعق الحكومة ويقعدها، وشعر بضرورة رجوعه بأسرع ما يكون إلى عاصمته ليهدِّئ الفوضى البرلمانية. في العشرين من شهر حزيران، الساعة التاسعة مساءً، وصل إلى باريس يصحبه الدوق ده باسانو والقوَّاد برتران، دروو، لابيدوايير وغوركو.
إلَّا أن ممثِّلي فرنسا كانوا قد أذعنوا لإشارة لافاييت، الذي قال: إن وجود نابوليون عالة على سياسة فرنسا. فهلَّل البوربونيون والغرباء لهذه الفكرة، ورحَّبوا بها أيما ترحيب! أما الرجال المُخلِصون لنابوليون فقد تركوا لليأس سبيلًا إليهم، ونصحوا الإمبراطور بأن يرضخ للقدر المحتوم الذي يتقاضاه تضحية جديدة؛ عند هذا شعر نابوليون بأن القضاء أصبح لا مردَّ له، وأن أصدقاءه وأعداءه يجمعون الكلمة على ضرورة تنازُله، فصرَّح أنه عزم على التنازُل لابنه. ولكن أعداء السلالة الإمبراطورية، الذين انتصروا في مجلس الممثِّلين، نحَّوا طلب إصعاد نابوليون الثاني إلى العرش، وألَّفوا لجنة من خمسة أعضاء لتشكيل حكومة مؤقَّتة وهم: فوشه، كارنو، فرونيه، كينيت وكولنكور.
عندما علم نابوليون بهذا النبأ استسلم لسَخَطَه الشديد فصرخ قائلًا: «لم أتنازل لديركتوار جديد! بل تنازلت لابني، فإذا لم يريدوا ذلك يكون تنازُلي وهميًّا! تعلم المجالس حقَّ العلم أن الشعب والجيش والرأي العام كلهم يرغبون في ذلك بل يريدون! لقد رأى الغرباء بأمِّ عينهم أن عشرين آذار لم يكن مسألة حزبية، بل نتيجةَ تعلُّق الفرنسيين بي وبسلالتي.» كانت باريس تضمُّ في أحشائها عددًا كبيرًا من الوطنيين الذين كانوا يفكِّرون في أنه من الواجب تحصين البلاد قبل كلِّ شيء، وأن هذا التحصين لا يتمُّ بدون ذراع الإمبراطور ونبوغه واسمه، وكان الجنود يشتركون معهم بهذا الرأي، إلَّا أن الأكثرية كانت تصرخ من جميع الجهات: «لا إمبراطور! لا جنود!» سوى أن وجود نابوليون في باريس كان يُخِيف المجالس، ويدبُّ الريبة في نفس فوشه، الذي كان يُدِير الحكومة المؤقتة ويتداول مع الخارج، فعهد إلى كارنو بأن يذهب إلى الإمبراطور ويبتَّه على ترك العاصمة، فلما وصل كارنو إلى الإليزه وجد نابوليون وحده في الحمَّام، ولما أطلعه على الغاية من زيارته، تعجَّب الإمبراطور المخلوع من القلق الذي يُحدِثه وجوده في باريس، فقال لكارنو: «أنا لست إلَّا مواطنًا بسيطًا، بل أقلَّ من مواطن بسيط.»
في السابع والعشرين من حزيران، عندما شاع نبأ دنوِّ الحلفاء من باريس، كتب نابوليون إلى الحكومة المؤقتة يطلب منها أن تقبله كجندي، قائلًا إنه لم يعْدِل عن أشرف واجب وطني في تنازُله عن السلطة، وإن دنوَّ الأعداء من العاصمة لا يترك رِيبة بنواياهم السيئة. إلا أن طلبه هذا رُفِضَ بتاتًا، فسَخِطَ نابوليون لهذا الرفض سَخَطًا شديدًا، وحدَّثته نفسه بأن يسترجع قيادة الجيش ويحاول إسقاط الحكومة كما عمل في الثامن عشر من برومير، ولكن الدوق ده باسانو حوَّله عن هذه الفكرة، بقوله له: إن الظروف الحالية لم تبقَ هي نفسها التي كانت في العام الثامن، فاضطر نابوليون أن يُذعِن، وترك ملميزون واتَّجه إلى روشفور، وفي نيته أن يُبحِر إلى الولايات المتحدة.
استلم الجنرال بيكر، وهو الذي عُهِدت إليه الحكومة المؤقَّتة بحراسة سيِّده العظيم في ملميزون، أمرًا بمرافقة نابوليون حتى روشفور، وبأن لا يتركه إلَّا عندما يصبح في عرض البحار؛ أمَّا الجنرال الباسل هذا فقد قال للإمبراطور وهو يقترب منه: «لقد عُهِد إليَّ بأمر شاقٍّ، وسأفعل ما بوسعي لمرضاتك.» ولقد برَّ الجنرال بكلامه؛ إذ إنه لم ينسَ قطُّ أن يؤدِّي إليه ما يجب أن يؤدي للعظمة الساقطة والنبوغ التعس.
ترك نابوليون ملميزون في التاسع والعشرين من شهر حزيران، ووصل إلى روشفور في الثالث من تموز، وفي اليوم التالي أقبل عليه شقيقه جوزيف. وفي الثامن من شهر تموز أبحر نابوليون وفي نيَّته أن يتَّجه إلى الولايات المتحدة، وفي الرابع عشر منه كان في جزيرة إكس ينتظر جواب أميرال الباخرة الإنكليزيَّة على كتاب أرسله إليه مع لاس كاز وسافاري، يسأله فيه عمَّا إذا كان الوزراء الإنكليز لم يرسلوا إليه أمرًا يقضي بعدم تعرُّضه له في المرور. إلَّا أن الأميرال ظلَّ ساكِتًا مدَّة طويلة حتى عِيل صبر الإمبراطور؛ ولمَّا أرسل لاس كاز مرة أخرى إلى الأميرال ميتلان، علم منه أنه يرغب في إقلال نابوليون إلى إنكلترا، حيث يجد ما يليق به من الإكرام.
عندما حمل لاس كاز هذا النبأ إلى الإمبراطور، جمع هذا رفاقه حوله، وأخذ رأيهم في القسمة التي قُدِّرت له، وما لبث أن صحَّت عزيمته على الالتجاء إلى كرم الشعب الإنكليزي وحلوله ضيفًا على إنكلترا، فأخذ قلمًا وكتب هذه الكلمة إلى الجلالة الملكية، قال: «أيَّتها الجلالة الملكية، لقد تمَّمت مهنتي السياسية بعد أن رأيتني هدفًا للتحزُّبات التي تتقاسم بلادي ولبغضاء السلطات الكبرى في أوروبا. إني أجيء، كما جاء تميستوكل، لأحلَّ ضَيْفًا على الشعب البريطاني، الذي أضع نفسي تحت حماية شرائعه، تلك الحماية التي أرجوها من جلالتك الملكية التي أعتبرها كأعظم وأكرم وأثبت جلالة بين جميع أعدائي.»
حمل لاس كاز وغوركو هذه الرسالة إلى الأميرال ميتلان، وأبلغاه أنَّ نابوليون سيتَّجه في اليوم التالي صباحًا إلى باخرته، وفي الخامس عشر من تموز، عند بزوغ الفجر، حملت الباخرة «ليبرفيه» الرجل العظيم إلى الباخرة «بللروفون». وفي حين أوشك نابوليون أن يصعد إلى هذه الباخرة الأخيرة، رأى الجنرال بيكر يدنو منه ليودِّعه، فقال له بحدَّة: «تَنَحَّ يا جنرال، فلا أريد أن يتصوَّر البعض أن فرنسيًّا سلمني إلى أعدائي.» ثم مدَّ له يده ولم يُبْعِده، إلَّا بعد أن ضمَّه إلى صدره للمرة الأخيرة.
عندما شاع على شواطئ إنكلترا أن الإمبراطور أصبح على مقربة منها، خفَّ الأهلون من جميع الجهات وأحدثوا على الشواطئ شبه مظاهرة لنابوليون؛ فهذا الاحتفاء الذي أبداه الشعب، كان يختلف كلَّ الاختلاف عن القدر الذي خصَّصته الحكومة البريطانية للإمبراطور. أُحِيطت الباخرة بللروفون بالمراكب المُجهَّزة بالمدافع، وأُعطِيت أمرًا بإطلاق النار على المُتظاهِرين لتنحيتهم؛ إلَّا أن إنكلترا بأسرها لم تتردَّد، بالرغم من هذه الأوامر الوحشية، أن أسرعت لتشاهد بطل فرنسا عن كَثَب، في حين كان البحر يمتلئ رويدًا رويدًا بالمراكب المُدرَّعة، حول الباخرة التي كانت سجنًا للرجل العظيم، أما نابوليون فقد كان يحترق صبرًا، في وسط تلك المظاهرات التي قامت بها الأمَّة، التي كثيرًا ما كانت عدوَّة له؛ ليعلم أيَّة قِسْمة تضمرها له الحكومة البريطانية، ولكن لم يمرَّ وقت طويل، حتى قدم اللورد كيث إلى الباخرة بللروفون، حامِلًا أمرًا وزاريًّا يعيِّن جزيرة سنت هيلين سكنًا «للجنرال بونابرت»، فلمَّا علم نابوليون من فم الأميرال عزم الديوان الإنكليزي هذا، استسلم للغضب والسخط، واعترض بكلِّ قواه على اختراق حرمة حقوق البشر، قال: «إني ضيف إنكلترا لا أسيرها، ولقد جئت بإرادتي أضع نفسي تحت حماية شرائعها، إنهم يخترقون حرمة حقوق الضيافة المقدسة، فلن أرضى مختارًا بالإهانة التي تصوِّبونها إليَّ!»
أما إنكلترا، فلكي تجعل المنفى أشدَّ ظلمًا على نابوليون، أرادت أن تَحصُر حاشيته في ثلاثة لا غير، وحذفت من رفاقه سافاري ولاللمان، اللذين اعتقدا أن سيُضحَّى بهما على المِقْصَلة، التي نصبها لويس الثامن عشر في الرابع والعشرين من شهر تموز. وأما نابوليون فاسترأى لاس كاز في ما إذا كان من الممكن احتمال حياة كهذه، فأخذ لاس كاز يعزِّيه بقوله: «مَن يعلم ماذا يخبِّئ الوقت؟» ثم أشعره بأنه يستطيع أن «يعيش في الماضي»، فأجابه الإمبراطور: «إذن فسنكتب مذكِّراتنا. أجل، يجب أن نعمل، فالعمل هو مِنْجَل الوقت، ثم إنه من الواجب علينا أن نقوم بما قُدِّر لنا.» وهكذا عاد نابوليون إلى نفسه! فإذا كانت رداءة الرجال ولؤمهم ونكرانهم الجميل قد دفعته فترةً إلى اليأس وأرهقته بالغموم؛ فإن ذكريات مجده القديم لترفعه عن هذا اليأس وتلك الغموم.
في الرابع من شهر آب خرجت الباخرة بللروفون من المرفأ، ولكنها لم تتَّجه إلى الجنوب بل سارت في مياه المانش؛ فأدرك نابوليون أنه سينتقل إلى باخرة أخرى، وهي النورثنبرلان، التي ستُقِلُّه إلى سنت هيلين.
نعرِّب هنا الكلمات القوية التي وجَّهها إلى اللورد كيث، ساعةَ حمل هذا إليه النبأ المشئوم بإقلاله إلى جزيرة سنت هيلين، والتي أرسلها نابوليون إلى الأميرال، قال: «إني أعترض اعتراضًا علنيًّا، أمام السماء الرجال، على الظُّلم الذي لَحِق بي، وعلى اختراق حرمة حقوقي المقدسة بالتصرُّف، بالقوة الجبرية، بشخصي وبحرِّيتي، لقد جِئت مختارًا إلى بللروفون لدى إلحاح الأميرال نفسه، الذي قال إن لديه أوامر من الحكومة باستقبالي والذهاب بي إلى إنكلترا مع حاشيتي، إذا راقني ذلك، وما كدت أصل إلى بللروفون حتى رأيتُني في وطن الشعب البريطاني. أما إذا كانت الحكومة، عندما أصدرت أوامرها لأميرال بللروفون باستقبالي مع حاشيتي، قد أرادت أن تنصب لي كمينًا فقد أساءت إلى الشرف وأهانت علمها.
إذا نفَّذت إنكلترا هذا العمل، فمن العَبَث بعدُ أن يتكلم الإنكليزيون عن شهامتهم وشرائعهم وحريتهم؛ لأن الوفاء البريطاني يكون قد ضاع في ضيافة بللروفون.
إنِّي ألجأ إلى التاريخ، فسيقول غدًا إن عدوًّا شهر الحرب عشرين سنة على الشعب الإنكليزي جاء بملء اختياره، وفي أيام تعسه، يفتش عن مأوى له تحت شرائعه.
ولكن بأيِّ لسان أجاب الشعب في إنكلترا على مثل هذه الشهامة؟ لقد تظاهر بمدِّ يدٍ مضيافة إلى هذ العدوِّ، ولما سلَّم نفسه بوفاء وإخلاص ضُحِّي به!»
في السابع من شهر آب ترك الإمبراطور الباخرة بللرفون، ونُقِل إلى الباخرة نورثنبرلان، التي يقودها المير كوكبرن، فاغتُنمت هذه الفرصة لتجريد حاشيته من سلاحها، ولكن بقيَّة من الحياء جعلت سبيلًا لاحترام سيفه. أمَّا أمتعته فقد وقف عليها الأميرال نفسه، يعاونه ضابط من ضبَّاط الجمرك، فجُرِّد من أربعة آلاف ليرة ذهبية، ولم يُترَك له إلَّا ألف وخمسمائة لتساعده على قضاء حاجات خدمته. وعندما حان الوقت للافتراق عن الأصدقاء الأوفياء الذين قُضِيَ عليهم ألَّا يقاسموه سجنه ومنفاه البعيد، ترامى سافاري باكيًا على قدميه وقبَّل يده. قال لاس كاز: «فعانقه الإمبراطور وهو هادئ ساكن، ومشى إلى الزورق، وكان في الطريق كلَّما التقى برجل حيَّاه برأسه تحية لطيفة. أمَّا جميع الذين تركناهم وراءنا، فكانوا يبكون، ولم أتمالك أن قلت للورد كيث، الذي كنت أتحدَّث معه في تلك الآونة: لاحظ يا ميلورد إن الذين يبكون هنا إنَّما هم الخالدون!»
إلَّا أن الوزراء الإنكليز استاءوا استياءً شديدًا من العناية، التي أبداها الأميرال ميتلان وبحريَّته، نحو نابوليون، لقد وبَّخوا هذا الأميرال على إعطائه أسيره اللقب الذي كان يحمله وهو على العرش، وأصرُّوا إصرارًا صارمًا على أن لا يكرِّر هذا العمل بعدُ على ظهر النورثنبرلان، ثم إنهم صرُّحوا في تعليماتهم، أن لقب «جنرال» هو وحده الذي يجب أن يُطلَق على الطاغية المخلوع؛ فلما علم نابوليون بجميع هذه الصغائر صرخ قائلًا: «لِيُطلقوا عليَّ الاسم الذي يختارون، فلن يمنعوني عن أن أكون أنا!»
في الحادي عشر من شهر آب خرجت النورثنبرلان من قناة المانش، ولمَّا مرَّت على مرتفع رأس الهوغ أبصر نابوليون شواطئ فرنسا، فحيَّاها باسطًا ذراعه نحو تلك الشواطئ، وصرخ بصوت مُتفطِّر قائلًا: «وداعًا يا أرضَ البواسل! وداعًا يا فرنسا المحبوبة! بعض خائنين يُحذَفون منك وتظلِّين سيدة العالم!» هذه هي الكلمات الأخيرة التي ودَّع بها الرجل الكبير الأرض النبيلة للشعب الكبير!