الفصل الرابع والعشرون
في السادس عشر من شهر أيار ١٨١٨ استلم الدكتور أوميارا كتابًا من الليوتنان كولونيل إدوار وينيار يقول له فيه باسم هدسن لوو إن الكونت باثورست، أحد الوزراء الإنكليز، أصدر أمرًا يقضي عليه بأن يكفَّ عن ملازمة الجنرال بونابرت. قال أوميارا: «كانت الإنسانية، وواجبات مهنتي، وحالة نابوليون الصحية، تمنعني من النزول عند هذه الأوامر الوحشيَّة …» إلَّا أنه ما لبث أن رضخ مُرغَمًا، ولكنه أسرع بإعطاء مريضه التعليمات الطبية التي كان من الواجب أن يستعملها بعد سفره. أما نابوليون، فلما انتهى أوميارا من إعطاء تعليماته قال له بحدَّة: «عندما تصل إلى أوروبا تذهب بنفسك إلى شقيقي جوزيف، وتقول له إنني أرغب في أن يعطيك الرزمة المحتوية على الرسائل الخصوصية التي كتبها إلى الإمبراطور إسكندر وفرنسوا، وملك بروسيا وسائر أمراء أوروبا والتي سلَّمته إياها في روشفور، ثم تنشرها لتظهر عار هؤلاء الأمراء، وتكشف للعالم عن التوسُّلات الدنيئة التي كان يبديها لي هؤلاء التَّبَعة عندما كانوا يطلبون إليَّ أن أُبْقِي لهم عروشهم عندما كنت قويًّا؛ لمَّا كانت السلطة في قبضة يدي كانوا يسعَون إلى نَيْل حمايتي، وشرف الاتحاد معي، ويلعقون غبار قدمي. أمَّا الآن، وقد أصبحت مُسنًّا، فإنهم يظلمونني بخساسة وجبن ويفصلونني عن امرأتي وولدي. أرجو منك أن تقوم بما أعهد به إليك، وإذا قرأت افتراءات مُصوَّبة إليَّ فلا تتأخَّر عن تكذيبها.»
بعد ذلك أملى الإمبراطور رسالة على الكونت برتوان، ذيَّلها بحاشية كتبها بيده، أوصى فيها ماري لويز بالدكتور أوميارا، ثم كلَّف الدكتور بأن يُطْلِع أقرباءه على حالته. قال: «ستعبِّر لهم عمَّا أحفظه لهم من الشواعر والمحبَّة، كنْ ترجمان عاطفتي وإخلاصي لدى لويز المحبوبة ووالدتي المُخلِصة وبولين. إذا رأيت ولدي عانِقْه عنِّي، وقُلْ له: لا ينسَ أنه وُلِد أميرًا فرنسيًّا! وأخيرًا اجْتهِد في أن ترسل إليَّ معلومات صحية عن الطريقة التي يتعهدون بها ولدي.» قال ذلك وأخذ يد الدكتور وعانقه قائلًا: «وداعًا يا أوميارا، هي المرة الأخيرة التي أراك فيها. عش سعيدًا!»
لم يكد أوميارا يغادر سنت هيلين، حتى اضطر غوركو بدوره أن يغادر هذه الجزيرة المؤذية بهوائها الرديء؛ ليوقف مجرى الداء الذي كان ينتهش جسده منذ زمن طويل، فعندما وصل الجنرال إلى أوروبا أذاع نبأ اشتداد المرض على الإمبراطور، فأَسِفت أسرة الرجل العظيم وحلَّ بها حزنٌ أليم، لا سيَّما أمه التي عندما علمت أن ولدها، الذي كان سبب سعادتها ومجدها، قد حُرِم طبيبًا يتعهَّده في مرضه المميت جُرِحَت في صميمها، ونفذ الألم إلى أعمق أعماقها، فطلبت إلى شقيقها الكردينال فيش أن يذهب إلى اللورد باثورست ويستدرجه لإرسال الطبيب أنتومرشي إلى سنت هيلين، فنجحت مساعي الكردينال لدى الوزير الإنكليزي، وما عتم الأمر أن أصدر الوزير أمرًا بإرسال أنتومرشي مع كاهن ورجلين آخرين.
في الثامن عشر من شهر أيلول سنة ١٨١٩ وصل الطبيب أنتومرشي إلى سنت هيلين، إلَّا أن نابوليون، الذي لم يكن قد علم بوصول طبيبه الجديد لا من الكردينال فيش ولا من أحد غيره، تردَّد أولًا باستقباله لأن كلَّ مَن كان يجيئه من إنكلترا أو من قِبَل الوزارة الإنكليزية كان يوحي إليه مقتًا شديدًا؛ سوى أن أنتومرشي ما لبث أن بدَّد شكوك نابوليون لدى المقابلة الأولى. قال الإمبراطور لطبيبه الجديد: «إنك كورسكي، وهذه هي النظرة الوحيدة التي أنقذتك.» ثم صرف الطبيب من عنده، وما هي إلا هنيهة حتى طلبه الإمبراطور، وقال له: قُلْ لي يا دكتور ماذا تظنُّ؟ أتُراني أُقْلِق طويلًا بعدُ خواطر الملوك؟
فأجابه أنتومرشي: ستعيش طويلًا بعدهم يا مولاي.
– أعتقد ذلك، فلن يستطيعوا أن ينفُوا من أوروبا دويَّ انتصاراتنا، فسيجتاز العصور مُصرِّحًا بأسماء القاهرين والمقهورين، بالذين كانوا كرماءَ وبالذين لم يكونوا، وستقف الأجيال حَكَمًا بيننا!
– ولكنك لم تصل إلى نهاية حياتك يا مولاي، فلا يزال أمامك وقت طويل بعدُ.
– لا، يا دكتور، فالمأرب الإنكليزي قد تمَّ، ولا إخالني سأذهب بعيدًا تحت هذه السماء الرديئة.
وبعد هنيهة استطرد قائلًا: لقد حُرِمت نجدة الطب منذ أكثر من سنة، فكأنَّ الجلَّاد رأى احتضاري بطيئًا فأراد أن يعجِّله، لقد كنت حليمًا نحْوَ الجميع، إلَّا أن الجميع خانوني، وغدروا بي، وصقلوا حديد قيودي.
بقي أنتومرشي ثمانية عشر شهرًا يقاوم، بكلِّ ما أُوتيه من الخبرة الطبية والغَيْرة الروحية، استفحال داءٍ عضال ملأ سجن لونكوود حزنًا وحدادًا، ولقد لاحظ قبل الساعة المشئومة أن عنايته ومساعيه تذهب أدْراج الرياح؛ ففي منتصف شهر آذار عام ١٨٢١ كتب إلى الشفاليه كولونه، وهو حاجب السيدة ليتيسيا والدة نابوليون، رسالةً يتنبَّأ له فيها عن نكبة قريبة جاء فيها: «إن الجرائد الإنكليزية تذكر دائمًا أن صحَّة الإمبراطور حسنة، فلا تصدِّق، وستُبْدي لك النكبة القريبة أن ما يذكرونه خطأٌ مبين.»
بعد مرور بضعة أيام قال نابوليون لأنتومرشي: لقد دنت الساعة يا دكتور، بالرغم من عقاقيرك، أفلا تصدق؟
فأجابه الطبيب: أقل من كلِّ يوم.
– حسنًا، أقل من كلِّ يوم! وهذا ضربٌ من التكتُّم الطبي. أيُّ تأثير سيُحْدِث موتي في أوروبا يا تُرى؟
– لن يُحْدِث تأثيرًا قطُّ يا مولاي.
– أبدًا؟
– لا؛ لأنه لن يحصل.
– وإذا حصل؟
– إذن، يا مولاي، إذن …
– قُلْ …
– إن جلالتك إنما هي معبودة البسلاء، فسيشملهم الحزن من جميع أطرافهم.
– والشعوب؟
– تصبح تحت تصرُّف الملوك، وتمسي القضية الشعبية وقد خسرت إلى الأبد.
– إلى الأبد يا دكتور! وولدي! أتظنُّ …
– لا يا مولاي، لا، فإن هناك مسافة طويلة يجب أن تُجتاز!
– أهي أطول من التي اجتزتها؟
– وهناك عراقيل عديدة يجب أن تُخترَق!
– ليست أكثرَ عددًا من التي اخترقتها! إنه ليحمل اسمي يا دكتور! وإني لأترك مجدي وشعور أصدقائي، فهو ليس بحاجة إلى أكثر من ذلك ليجمع ميراثًا.
قال أنتومرشي في نفسه: «إن كلامه هذا إنما هو هذيان والدٍ في ساعة الاحتضار!» ولم يصرَّ طويلًا على تبديد هذا الوهم.
في التاسع عشر من شهر نيسان أعلن نابوليون بنفسه عن ساعته الأخيرة لأصدقائه، الذين كانوا يظنونه قد تقدَّم إلى العافية، قال: «إنكم لم تُخطِئوا فأنا اليوم أعفى مني قبلًا؛ ولكني أشعر بدنوِّ أجلي، عندما أموت يعود كلٌّ منكم إلى أوروبا حيث يشاهد بعضكم أهله والآخر أصدقاءه، أمَّا أنا فسأرى بسلائي في الشنزاليزه. أجل، سيخفُّ إلى ملاقاتي كليبر، دوزه، باسيير، دوروك، ناي، مورات، ماسينا وبرتيه، وسيحدِّثونني عن الأعمال التي قمنا بها معًا. سأُطْلِعهم على الحوادث الأخيرة التي طرأت عليَّ في حياتي، وعندما يرونني تدبُّ فيهم حماسة المجد! أجل، سنتحدث معًا عن حروبنا مع السيبيون والأنيبال والقيصر والفردريك! وسنطرب لهذه التذكارات!» ثم استطرد ضاحكًا: «بشرط ألَّا يخافوا هناك مشهد تجمُّع هؤلاء المحاربين في مكان واحد.» وبعد هنيهة قال للدكتور أرنولت الذي كان إلى جنبه: «لقد كان من الواجب أن يسجنني وزراؤك بين أربعة حواجز في هواء قذر كهذا الهواء، أنا الذي اجتازَ أوروبا على جواده! لقد قتلتموني مطوَّلًا، وكان هدسن الخسيس منفِّذ وزارتك! إنني لأُلقِي، وأنا أموت على هذه الصخرة المُوحِشة، عارَ موتي وخِزْيَه على الأسرة المالكة في إنكلترا!» وفي الواحد والعشرين من الشهر أحسَّ نابوليون باشتداد الحمَّى، وأدرك أنه يسرع إلى الموت، فطلب أن يحضر إليه الكاهن فينيالي وقال له: «لقد وُلِدت في الدين الكاثوليكي وأريد أن أُتمِّم الواجبات التي يفرضها.»
قال الدكتور أنتورمرشي: لا أعلم أيَّة حركة فاجأها إذ ذاك على وجهي فساءته، فقال لي: أتستطيع أن تذهب بإلحادك إلى هذا الحدِّ؟ أتقدر أن لا تؤمن بالله؟ بَيْد أنَّ كلَّ شيء يثبت وجوده، فضلًا عن الأدمغة الكبيرة قد آمنت به. قال أنتومرشي: فأجبته أنني لم أشكَّ يومًا في وجوده، وأنَّ جلالته قد أخطأ في تصفُّح وجهي. فأجاب نابوليون مُبتسِمًا: إنك طبيب يا دكتور. ثم زاد بصوت مُنخفِض: «هؤلاء القوم لا «يخضخضون» إلَّا المادة فلا يصدِّقون شيئًا.»
كان الإمبراطور لا يزال يرى نفسه، على ما هو عليه من الهزال المُستمرِّ، قادرًا على النهوض من فراشه من حين إلى آخر، إلَّا أنه لم يشأ أن يحمله أحد من أوفيائه، فقال لهم ذات يوم، وقد حاولوا أن يحملوه من غرفته التي أراد أن ينتقل منها إلى غرفة أخرى أطلقَ هواءً: «لا، بل عندما أموت، أما الآن فيكفي أن تساعدوني.» وذات يوم طلب إليه الدكتور أنتومرشي، وقال له بسكون تامٍّ: «بعد موتي، الذي قرُب كثيرًا، أريد أن تُشرَّح جثتي وألَّا تسمح لطبيب إنكليزي بأن يمُدَّ يدًّا إليها. أما إذا احتجت إلى مساعد، وكان لا بدَّ منه، فالطبيب أرنولت هو وحده الذي يُؤذَن له بمساعدتك. أرغب إليك أن تأخذ قلبي فتضعه في روح الخمر، وتذهب إلى حبيبتي ماري لويز في بارم. ستقول لها: إنني أحببتها كثيرًا ولم أقف يومًا عن حبِّي إيَّاها، وتطلعها على جميع ما شاهدتَ وجميع ما يتعلَّق بحالتي وبموتي، ثم إني أُوصِيك بأن تفحص معدتي فحصًا مُدققًا، وتكتب عنها شهادة صريحة، مطوَّلة، تسلِّمها إلى ولدي … فالتقيُّؤ المُتواصِل يجعلني أعتقد أن المَعِدة، هي العضو الأكثر مرضًا من جميع أعضائي، ولا يبعد أن تكون مصابة بالداء نفسه الذي حمل والدي إلى القبر، أريد أن أعني أنها مصابة بورم.
عندما أموت تذهب إلى روما، حيث تشاهد والدتي وجميع أسرتي؛ ستطلعهم على جميع ما لاحظت في ما يتعلَّق بحالتي، بمرضي وبموتي على هذه الصخرة المُوحِشة! ستقول لهم إن نابوليون الكبير قد أطلق أواخر أنفاسه في أشدِّ حالةٍ من حالات البؤس، محرومًا من كلِّ شيء إلَّا من مَجْدِه، ستقول لهم إنه ألقى، وهو يموت، عار ساعته الأخيرة على جميع الأُسَر المالكة.»
إلا أن الهذيان ما لبث أن أقبل يشترك مع الحمَّى، فكأن ذلك الذكاء الغريب، الذي ظهر في العالم كأنه مشتقٌّ من الذكاء الإلهي، خضع لشرائع البشر. صرخ نابوليون في نزوة من نزوات الهذيان قائلًا: «ستنجل، دوزه، ماسينا! آه! إن النصر قد تحقَّق! هيوا! أسرعوا! إلى الهجوم!» ثم قفز إلى الحضيض وأراد أن يخرج إلى الحديقة، فسقط إلى الوراء، في حين كان أنتومرشي مُسرِعًا لأخذه بين ذراعيه. ولمَّا سَكَنَتْ سَوْرة الهذيان وخفَّت وطأة الحمَّى، ظهر الرجل العظيم بهدوئه المعتاد وقال لأنتومرشي: «تذكَّرْ ما عَهِدْتُ به إليك عندما أموت. افحص جثتي فحصًا مُدقَّقًا، ولا سيما المعدة، فلقد قال لي أطباء مونبللييه: إن الورم سيكون وراثيًّا في أسرتي … يجب أن أنقذ ابني، على الأقل، من هذا المرض العضال. ستشاهده يا دكتور، وتقول له ماذا يجب أن يعمل، هذا آخر رجاء أنتظره منك.» وفي الثاني من شهر أيار، ظهرًا، عاودته الحمى فقال لطبيبه مُطلِقًا تنهدة عميقة: «أشعر بألم يا دكتور، فسأموت!» ولم يكد يتلفَّظ بهذه الكلمات، حتى فقد الرشد.
كان الكاهن فينيالي ينتظر كلمة من الإمبراطور ليقوم بواجبه الكهنوتي، فهذه الكلمة خرجت من شفتي الرجل العظيم في الساعة الثانية من بعد ظهر الثالث من شهر أيار. كانت الحمَّى قد سكنت قليلًا، فأُخْرِج جميع الناس من غرفة نابوليون، إلَّا الكاهن الذي ناوله القربان المُقدَّس.
وبعد مرور ساعة زادت الحمَّى، إلَّا أن المريض بقي مُحتفِظًا بحواسه فأوصى القوَّاد برتران ومونتولون ومرشان بألَّا يسمحوا لطبيبٍ إنكليزي إلَّا الدكتور أرنولت أن يدنوَ منه ساعةَ يفقد الرشد، ثم قال لهم: «لقد دَنَتْ ساعةُ موتي، ولكن لديَّ ما أوصيكم به قبل فراقي الحياة. كما أنكم شاطرتموني النفي، هكذا ستكونون أُمَناء على اسمي فلا تفعلون شيئًا يجرحه. لقد أثبَتُّ جميع المبادئ، وأنزلتها في شرائعي وأعمالي، إلَّا أن الظروف كانت صارمة لسوء البخت، فحُرِمتْ فرنسا من التعاليم الحرَّة التي هيَّأتُها لها. كونوا أمناء على الأفكار التي دافعنا عنها والمجد الذي اكتسبناه، فما خارج ذلك إلَّا العار والمقت!»
وفي الليلة التالية هبَّت زوبعة هائلة في سنت هيلين فاقتلعت جميع أشجار لونكوود، ولم تُبقِ على الصفصافة المحبوبة، التي كان ظلُّها العميق يحجب عن نابوليون حرارة الشمس في نُزهاتِه اليومية.
في الرابع من شهر أيار كان الإمبراطور يواصل نزعه، وفي اليوم التالي، عند بزوغ الفجر، كان جسده يبشِّر بأن الروح تفارقه، وقد بدأ يثْلُج شيئًا فشيئًا، إلَّا أنه لا يزال يتنفَّس، ولا يتلفَّظ في هذيانه بسوى هاتين الكلمتين: «رأس … جيش»، دنت الساعة الرهيبة، وقرُب تنفيذ «المأرب الإنكليزي»، وستهتز أوروبا القديمة! إن بطل فرنسا الفتاة يلامس نهاية حياته العجيبة، فهو على وشك أن يُطلِق آخر نفَسٍ من أنفاسه، وهدسن لوو هو هنا يرقُب أنفاسه، وقد عِيل صبره؛ ليُعْلِن إلى الأريستوقراطيين والملوك والمتسلِّطين أن واجبه قد تُمِّم إلى النهاية، وأن الضحية قد حصلت.
إلَّا أن مشهدًا يمزِّق الفؤاد جاء يَسِمُ ساعات البطل الأخيرة؛ فإنَّ السيدة برتران، وهي مريضة أيضًا، قد نسيت آلامها الشخصية وجاءت تحضر موت نابوليون، صاحبةً معها ابنتها وأبناءها الثلاثة، الذين رغبوا في مشاهدة ملامح الرجل العظيم للمرة الأخيرة. عندما وصل هؤلاء الأولاد إلى سرير الإمبراطور تراموا عليه، مُقبِّلين يده، ومرطِّبيها بالدموع، أما برتران الصغير، وهو أحد الأبناء الثلاثة، فقد أُغْمِي عليه من شدَّة الألم. في تلك الساعة كان الجميع في حالة من الحزن لا تُوصَف، ولم يكن يُسمَع إلَّا تنهُّدات وشهقات … إن حادثًا خطيرًا يتهيَّأ للعالم … في الساعة السادسة إلَّا الدقيقة الحادية عشرة فاضت روح نابوليون.
بعد أن شُرِّحت جُثَّة الإمبراطور، وُضِعت على سرير هناك، وغُطِّيت بالوشاح الأزرق الذي كان البطل يرتديه في معركة مارنغو. بقي سكان الجزيرة مدَّة يومين متألِّبين حول ذلك الكفن المجيد؛ ولمَّا نُقِل رفات الرجل العظيم، أخذ الجميع يتسابقون للحصول على كلِّ شيء لامسته يده ليجعلوه ذخيرة ثمينة.
كان الثامن من شهر أيار ميعاد جنازة نابوليون، فدُفِن في مكان يبعد فرسخًا عن لونكوود. أما قبره فأصبح، منذ اليوم الأول، قِبلة التعظيم والإكرام، إلَّا أن هدسن لوو، عنصر الأحقاد التي كان عليها أن تتبع ابن الثورة الفرنسية العظيم إلى ما وراء القبر، لم يجد مفيضًا من استشعار السَّخَط لدى هذا المشهد، فوضع حول القبر حرسًا دائمًا ليمنع أيًّا كان عن الدنوِّ منه، ولكن مقرَّ البطل الأخير لم يفرغ من الزوَّار، بالرغم من الاحتياطات التي اتُّخذت له.
سوى أن مَدْفَن نابوليون في سنت هيلين لم يكن إلَّا وقتيًّا، فلقد قال نابوليون في إحدى وصيَّاته المؤرَّخة في السادس عشر من نيسان سنة ١٨٢١: «أرغب أن يستريح رُفاتي على شواطئ السين، في وسط ذلك الشعب الفرنسي الذي كثيرًا ما أحببته.» ولكن، لكي تتحقَّق أمنية الرجل الكبير، كان من الواجب على الشعب الفرنسي أن يهزَّ نِير البوربونيِّين وأن تنعتق حكومته من النفوذ الأجنبي.
عندما انتهى إلى أوروبا دويُّ هذا الموت رفض الشعب أن يُصدِّق؛ إذ إن فكرة الخلود كانت مُتحِدة باسم نابوليون، إلى درجة أن الشعب لم يكن يرى فيه عنصرًا من عناصر الفناء، وكان ينظر إلى حياته كأنما هي عير مُنفصِلة عن مَجْده. أجل، إن الخوف الذي استولى على ملوك أوروبا القديمة بقي مستمرًّا في إقلاق مجالسها، وطُعِن رُفات الرجل العظيم بالاضطهادات التي أثقلت على كاهله في حياته، كأن الذراع الرهيبة، التي قلبت كثيرًا من العروش، لا تزال تستطيع أن تُحرِّك الأمم من أعماق القبر.
•••
مرَّ تسع عشرة سنة على رقاد نابوليون في سنت هيلين، بالرغم من مطالبة الشعب بنقل رُفاته إلى فرنسا؛ إذ إن المجالس كانت تخشى أن تضاعف قلق السلطة الجديدة، إذا هي أرجعت صورة نابوليون إلى وسط العواصف التي كانت تزعج الأسرة الأورليانيَّة في فرنسا.
إن الواضع اسمه أدناه، السفير المُفوَّض من لدن جلالة ملك الفرنسيين، وفقًا للتعليمات التي أُعْطِيَها من قِبَل حكومته، يتشرَّف بأن يطلع سمو وزير خارجية جلالة ملكة بريطانيا العظمى وإيرلندة، على أن الملك يرغب من صميم قلبه، أن يُنقَل رُفات نابوليون إلى فرنسا ليستريح في الأرض التي دافع عنها ومجَّدها، والتي تحفظ باحترام كُلِّيٍّ بقايا الكثيرين من رفاقه في الحروب الذين أخلصوا الخدمة لوطنهم، كما أخلصها هو.
إن الواضع اسمه أدناه، له ملء الثقة بأن حكومة الجلالة البريطانية لا ترى في رغبة جلالة ملك الفرنسيين إلَّا عاطفة أكيدة صالحة، وتسرع بإعطاء الأوامر اللازمة لنقل بقايا نابوليون من سنت هيلين إلى فرنسا …
من الفيكونت بللماريستون إلى الكونت غرانفيل
ميلورد، لقد احترمتْ حكومة جلالتها طلب الحكومة الفرنسية نقلَ رُفات نابوليون بونابرت من سنت هيلين إلى فرنسا، فتستطيعون أن تؤكِّدوا للمسيو تيير أن حكومة جلالتها ترغب إلى فرنسا في أن تعتبر هذه السرعة، التي نُعطِي بها جوابنا هذا، كشهادة لرغبة الجلالة البريطانية في إخماد تلك الأحقاد الوطنية التي حكَّمت العداء بين الأمتين مدة حياة الإمبراطور، ثم إن حكومة الجلالة البريطانية لها ملء الثقة بأنه، إذا كان هناك باقيًا أثرٌ لتلك الأحقاد، فيجب أن يُدفَن في الضريح الذي سيضمُّ رُفات نابوليون، إن حكومة الجلالة البريطانية والحكومة الفرنسية تتخذان معًا الاستعدادات اللازمة لنقل رُفاته.
أسرع اللورد غرانفيل بإطلاع المسيو تيير على البرقية التي استلمها من لوندرة، فلما وثقت الحكومة الفرنسية من صحَّة عزيمة الوزارة الإنكليزية أسرعت بإطلاع المجالس على الخطة الوطنية الصرفة التي اتخذتها؛ ففي الثاني عشر من شهر أيار صعد المسيو ده ريموزا، وزير الخارجية، إلى المنبر ولَفَظ هذه الكلمات: لقد أمر الملكُ سموَّ الأمير الملكي البرنس ده جوانفيل، بأن يتَّجه بباخرته إلى جزيرة سنت هيلين ليُحضِر رُفات الإمبراطور نابوليون.
ولقد جئنا نسألكم أن تهيِّئوا الأسباب اللازمة لاستقبالها بجدارة وإكرام في أرض فرنسا، وتشييد ضريح أخير لنابوليون. إن الحكومة، التي رغبت من صميم قلبها في تتميم واجب وطنيٍّ، قد وجَّهت إلى إنكلترا طلبها الوديعة الثمينة التي ألقتها الحظوظ في قبضة يدها، ولم تكد مشيئة فرنسا تعبِّر عن فكرتها حتى نالت أمنيتها، وإليكم كلمات حليفتنا النبيلة: «إن حكومة الجلالة البريطانية ترغب إلى فرنسا أن تعتبر هذه السرعة، التي نعطي بها جوابنا هذا، كشهادة لرغبة الجلالة البريطانية في إخماد تلك الأحقاد الوطنية التي حكَّمت العداء بين الأمَّتين؛ فرنسا وإنكلترا، مدَّة حياة الإمبراطور، ثم إن حكومة الجلالة البريطانية لها ملْء الثقة بأنه، إذا كان باقيًا هناك أثرٌ لتلك الأحقاد، فيجب أن يُدفَن في الضريح الذي سيضمُّ رُفات نابوليون.
إن إنكلترا مصيبة، أيها الأسياد، فهذا الإصلاح الشريف يوثِّق عُري الاتحاد الذي يجمعنا، ويحجب آثار الماضي الأليم. لقد دنا الوقت الذي يجب فيه على الأمَّتين ألَّا تتذكَّرا إلَّا مجدهما. ستتَّجه البارجة، المعهود إليها بنقل رُفات نابوليون، إلى مصبِّ السين، حيث تقف أمام بارجة أخرى يُعهَد إليها بنقل الرُّفات إلى باريس، فستُوضَع في الأنفليد حيث تُقام لها رتبة دينية فخمة وأبهة عسكرية حريَّة بها.
إن من حق تلك الذكرى الجليلة، أيها الأسياد، أن لا يعرض ذلك الضريح العظيم في مكان عمومي، بل يجب أن يُشيَّد في مكان معتزل مقدَّس، يستطيع أن يزوره فيه كلُّ من يحترم المجد والنبوغ، العظمة وسوء المصير.
لقد كان إمبراطورًا وملكًا، وكان سيِّد بلادنا الشرعي، إذن فمن الواجب أن يُدفَن في سن دنيس، ولكن لا يليق بنابوليون مدفن الملوك العادي، فيجب أن يسود بعدُ في وسط الضريح الذي سيرقد فيه جنود الوطن، والذي سيستوحيه في كلِّ حين هؤلاء الذين سيُدعَون للدفاع عنه … وسيُوضَع سيفه على ضريحه.
سيشيِّد الفن، في وسط الهيكل الذي وقفه الدين لإله الجيوش، ضريحًا جديرًا باسم الذي سيرقد فيه، وسيكون هذا الضريح على جمال بسيط، وظواهر فخمة، وهيئة صُلْبة لا تُقهَر كأنما هي تسخر من كرور الزمن. إن نابوليون لحريٌّ بضريح خالد كذِكْره.
لا نشكُّ في أن المجلس سيشترك بعاطفة وطنية مع الفكرة الملكية التي نعبِّر عنها الآن.
إن فرنسا، وفرنسا وحدها، ستملك من الآن فصاعدًا كلَّ ما بقي من نابوليون، وإن ضريحه، كشهرته، لا يخصُّ سوى بلاده؛ إذ إن سلطة ١٨٣٠، إنما هي الوارثة الشرعية الوحيدة لجميع الذكريات التي تفتخر بها فرنسا.
لقد حُقَّ لهذه السلطة، التي عضدت جميع أمنيات الثورة الفرنسية، أن تمجِّد ضريح بطلٍ شعبيٍّ؛ إذ إن هناك عنصرًا واحدًا لا يتهيَّب المقارنة بالمجد، هو الحريَّة!»
إن من الصعب أن نصف الحماس الذي هيَّجته هذه الكلمات في المجلس، حتى خُيِّل أن شبح الرجل العظيم قد ظهر لدى صوت الوزير في وسط ممثِّلي فرنسا، وأن روح الحزب الحاقد، الظالم بآرائه، قد حُكِم عليه بالصمت فجأة لدى ظهور هذا الشبح، لكيلا يُسمَع إلَّا هتاف الإعجاب ومعرفة الجميل.
أمَّا الحكومة، التي فرحت دون شكٍّ بالحماس الشديد الذي هيَّجته كلماتها النبيلة؛ فإنها أخذت تهتمُّ بإعداد العدَّة للبعثة التي سيُعهَد إليها بإحضار البقايا الثمينة من سنت هيلين إلى فرنسا، فكلَّف الملك أحد أولاده، البرنس ده جوانفيل، بقيادة الأسطول المؤلَّف من البارجة لابيل بول والمركب البخاري لافافوريت، وفي السابع من شهر تموز أبحر الأسطول من تولون، وكان على البارجة لابيل بول البرنس، والقبطان هرنو، وتوشار، وروهان-شابو مفوِّض الملك، ولاس كاز الابن عضو مجلس النواب، والقائدان برتران وغوركو، والدكتور غيللار، والأب كوكرو، وسن دنيس ونوفراز خادما غرفة الإمبراطور في الماضي وبييرون وأرشامبول. كان هؤلاء الأشخاص يؤلِّفون بعثة سنت هيلين مع الأمين مرشان، الذي كان الإمبراطور يحبُّه كثيرًا، والذي كان مُبحِرًا في المركب لافافوريت الذي يقوده القبطان غوييت.
وكان الجنرال برتران قد رغب أيضًا في أن يُشرِك بهذه الرحلة الصالحة ولده الصغير، أرثور، الذي وُلِد في سنت هيلين، والذي قدَّمته أمه إلى الإمبراطور «كأول فرنسي دخل إلى لونكوود من غير إذن الحاكم.»
مرَّ الأسطول أمام جبل طارق في الخامس عشر من تموز، وفي اليوم التالي رسا في مرفأ كاديس.
في الرابع والعشرين من تموز توقَّف في مادير، وفي التاسع والعشرين منه كان يحتفل بذكرى ثورة ١٨٣٠ في جزيرة تتريف.
في العشرين من شهر آب عبر خطَّ الاستواء، وفي الثامن والعشرين منه كان في باهيا، التي بقي فيها حتى الرابع عشر من أيلول. وبعد مرور ثلاثة وعشرين يومًا وصل الأسطول إلى مقربة من سنت هيلين.
رسا الأسطول في مياه سنت هيلين في الثامن من شهر تشرين الأول، ونزل مُفوَّض الملك والسيد عمانوئيل ده لاس كاز إلى اليابسة، وفي اليوم التالي، الساعة الحادية عشرة، حذا حَذْوَهما الأمير وحاشيته.
قال السيد عمانوئيل ده لاس كاز: «في الساعة الثانية والدقيقة العشرين دخلنا إلى السور … وقد ظهر أمامنا الضريح … لا شكَّ أن قد أصبح تُرابًا ذلك الذي أدهش العالم بمجده وعظمته!
كشف البرنس ده جوانفيل عن رأسه، وسجد الأب كوكرو إلى يسار الباب، على أقدام السروة، يتلو صلاة … أما نحن فكنَّا صامتين … مُسترسِلين في التأمُّلات … شاخِصين عن كَثَب إلى تلك الحجارة السوداء … التي لم يُكتَب عليها شيء! إلَّا أننا لم نقوَ على سلْخ أعيننا عنها … دار البرنس دورة الضريح بهدوء تام، ثم عاد فقطف بعض ورقات من أغراس بصليَّة نبتت في الجهة التي يرقد فيها رأس الإمبراطور، وبعد ذلك نادى السيد هرنو، مُعاوِنه، وقال له ليعطي الجندي القديم حارس الضريح كلَّ ما يستطيع أن يجمعه من الدراهم، فكان قبضةً كبيرة من الذهب، وخرجنا.»
عندما ترك البرنس المكان الذي يضمُّ رُفات نابوليون، اتجه إلى المقر الكئيب الذي أطلق فيه الرجل العظيم أنفاسه الأخيرة. مَن لا يعلم أي تأثير استولى على سكَّان لونكوود القدماء ساعة وَلَجُوا ذلك السجن؟! أجل، لقد أبصروا فيه عذاب ذلك الذي أحبُّوه فوق كلِّ شيء، وشاهدوا موت ذلك الذي أُعجِبوا به فوق كلِّ إنسان، ذلك الذي احترموه وكان في حياته موضوع عبادتهم، والذي لا يزال ذِكْرُه، بعد عشرين سنةً مرَّت على موته، يملأ صدورهم ومخيِّلاتهم.
كانت الغرفة التي شغلها الإمبراطور قد استحالت إلى جدران أربعة لا غير؛ فلما دخلها البرنس وموكبه كشفوا عن رءوسهم جميعًا، وحذا الإنكليز حَذْوَهم، ثم عبروا إلى الغرفة التي مات فيها البطل، فوجدوا طاحونًا للقمح يشْغَل معظم تلك الغرفة، التي لم تكن نوافذها وأبوابها وحيطانها وسقفها إلَّا لتبدي مشهدًا قذرًا من مشاهد التلف والدمار؛ أمَّا غرفة النوم فكانت قد أصبحت مراحًا للمواشي! عندما التفت البرنس ده جوانفيل ليخاطب الضبَّاط الإنكليز وجدهم قد احتجبوا، فلا شكَّ أن هؤلاء البُسَلاء قد خجلوا من تصرُّف حكومتهم الممقوت التي، بعد موت الضحية، احتفظت نحوها بأحقادها ومظالمها، كأنما هي لم تبقَ قادرة على النيل من شخص الرجل العظيم فتحاملت على خياله، على ذكره، وعلى كلِّ ما يُعزَى إليه حتى على الأشياء اللَّاحياة لها، والتي أطلق فوقها آخر نفس من أنفاسه! أجل، لقد ترك الإنكليز الوحول والحشرات تقتحم الأماكن التي خلَّدها نفي نابوليون وقدَّستها ساعته الأخيرة، والتي لم يجرؤ حفيد هنري الرابع ولويس الرابع عشر أن يَلِجها إلا حاسِر الرأس! أيَّتها الأريستوقراطية الإنكليزية، إنك لن يُتاح لك أن تُنسِي الأجيال، أن بين ذلك السقف الذي ينهار وتلك الأخشاب التي تضمحل، قد ارتفع صوتٌ عظيم صارخًا في مسامع العصور الآتية هذه الكلمات الخالدة: «لقد قتلتموني مطوَّلًا، وكان هدسن الخسيس مُنفِّذ مآرب وزراتك! إنني لأُلقِي، وأنا أموت على هذه الصخرة الموحشة، عارَ موتي وخِزْيه على الأسرة المالكة في إنكلترا.»
في الخامس عشر من شهر تشرين الأول، الساعة الثانية عشرة والربع ليلًا، بدأت أعمال الحفر على مشهد من مُفوَّضي الأمتين الفرنسية والإنكليزية؛ فلما حُفرَت خمس أقدام من التراب الرطيب، صادف الحفَّارون قشرة سميكة صُلْبة ظنُّوها في البدء البلاطة التي تغطِّي القبر، ولكن عندما رجعوا إلى التقرير الذي وضعه هدسن لوو عن الضريح، اتَّضح لروهان-شابو أنَّ هناك قشرتين من التراب مُكلَّستين تكليسًا متينًا تعلوان البلاطة، فعلم المفوَّضون عند هذا أن القشرة السميكة الصلبة، التي صادفها الحفَّارون، هي إحدى تَيْنك القشرتين المكلَّستين اللتين ذُكِرتا في التقرير، واستمرَّ الحفر.
قال السيد أرثور برتران: «كنَّا نتنفَّس بصعوبة، ولقد خُيِّل إليَّ أن قلبي ينسحق في صدري وهو يخفق خفقانًا شديدًا! لم يكد غطاء التابوت المصنوع من الحديد الأبيض ينشق حتى وقع نظرنا على مادة بيضاء، كانت نسيجة من الأطلس، رفعها الدكتور غيللار مبتدئًا بكشف الرجلين حتى انتهى إلى الرأس؛ تراءى لنا نابوليون كأنه لا يزال حيًّا، وقد خرجت أصابع رجليه من الحذاء الذي تعفَّنت خيوطه. كانت قبعته موضوعة على ركبتيه، ويده اليسرى مستريحة على فخذه.
ليس هناك جلد على عظم بل يد حيَّة، بيضاء، من لحم … أمَّا رأسه فقد احتفظ بتقاطيعه، إلَّا أن البشرة استحالت إلى لون أصفر، وأمَّا الخدَّان فقد هبطا، وأعارا أسفل الوجه شكلًا مستطيلًا.
أبصرنا بعض أسنان بيضاء انفرجت عنها الشفتان، وكانت شعور الذقن التي قُصَّت في الليلة التي تلت الوفاة قد نبتت … أمَّا جفناه فكانا مُغمَضَيْن! فهو لا يستطيع أن يرانا، وأمَّا نحن فمن خلال دموعنا نراه!»
وقال السيِّد عمانوئيل ده لاس كاز: «أجل، هذا نابوليون، نابوليون المجرَّد من الحياة، ولكنه لم يتهدَّم! لو شهد والدي هذا المشهد أيُّ تأثير كان قد استولى عليه؟ لا شكَّ في أنه كان قد فقد تجلُّده وقواه دون احتمال تجربة كهذه … أمَّا أنا فيُخيَّل إليَّ أن جميع ما حولي إنما هو شكل مادي لحلم سماوي! …»
وعندما انتهت الرتبة الدينية مشى الموكب إلى جمس توون في نحو الساعة الثالثة والنصف، فلاحظ الجمهور، في ساعة الرحيل، وجود الماجور جنرال شورشيل الذي قدم بحالة حِداد كبير، يصحبه ضابطان إنكليزيان، والذي وقف حاسِر الرأس بالرغم من المطر المتساقط، كأنه أراد بذلك أن يُثبِت للعيان أن بُسَلاء بريطانيا العظمى يستنكرون فظاعة الجريمة التي اقتُرفت بحقِّ القائد العظيم من ناحية الوزارات الأوروبية.
كانت الشمس تنحدر إلى المغيب فأنارت أشعتها الأخيرة خروج نابوليون من أرض المنفى ودخوله إلى أرض أبناء فرنسا. لم يكد المركب الذي يقلُّ التابوت يبتعد عن الشاطئ حتى أَعْلَنت بعضُ إطلاقات من المدافع، خرجت من الحصون والمراكب، أن المنفيَّ العظيم يعود على طريق الوطن عَوْدَة «إمبراطور»، وتحت حماية العلم الشريف، الذي غرسه مرارًا عديدة بيديه المنتصرتين على أبراج جميع العواصم الأوروبية.
في الخامس عشر من تشرين الأول عام ١٨١٥ قدم أميرال إنكليزي باسم الأريستوقراطية البريطانية وجميع أمراء البيت البوربوني ورأى كيف يُدفَن حيًّا في سنت هيلين ممثِّل الديموقراطية الفرنسية؛ أمَّا اليوم فنحن في الخامس عشر من تشرين الأول عام ١٨٤٠ أمام سنت هيلين، ونشاهد قائدًا إنكليزيًّا يقاسم أميرًا من أسرة البوربون الفخر والغَيْرة في إرجاع مصطفى الشعب إلى وطنه، في إرجاع منفي عام ١٨١٥ وعدو البوربونيين والإنكليز!
لقد مشى الإمبراطور نابوليون، بعد عشرين سنة على طريق فرنسا! وتحت العلم المثلث الألوان سار إلى المقرِّ الأخير الذي عيَّنه هو بنفسه، فعندما وصل إلى الباخرة واخترق صفوف أركان الجيش صدحت الموسيقى ودوَّت الطبول!
عند هذا خشي الأمير ده جوانفيل من تعدٍّ، يطرأ على الباخرة التي تقلُّ رُفات نابوليون، فحصَّنها بالمدافع العديدة، إلَّا أن هذه المدافع لن تجيب على التي دمَّرت بيروت؛ إذ إن الباخرة لابيل بول عندما رست في مرفأ شربور، في الثلاثين من شهر تشرين الثاني، انتهى إليها أن معاهدة ١٥ تموز قد نُفِّذت تنفيذًا مُطلَقًا من غير أن تحدث مقاومة من ناحية فرنسا، وأنَّ الوزير الذي اعتقد أنه يرى في هذه المعاهدة إهانة موجَّهة إلى بلاده قد اضطر إلى الاستعفاء مع جميع رفاقه؛ إذن فبدل أن تؤخذ رُفات نابوليون إلى هيكل «مارس»، تحت عناية تيير، سيستقبلها بعض الكَتَبة الذين شاء سوء المصير أن ينضمُّوا إلى أعلام الغرباء في عهد المصائب والنكبات!