الفصل الثالث
إن من الغرابة أن يُرى قاهر أوروبا في الغد مُوقَفًا في وسط ميدانه، معزولًا، وممحوًّا من قائمة القواد الفرنسيين جبرًا، بإشارة من ميرلن دو دوه، وبرليه، وبواسي دانكلاس، وكمبا سيريس الذين سيجيء يومٌ يتبارون فيه بألوان الحمية والتمليق لينالوا بسمة رضا واستحسان من الضابط الفتى الذي كانوا فيما مضى ينهجون معه نهجًا سيئًا.
إلا أنه وُجد بين رجعيِّي الترميدور رجلٌ، لم يشأ أن تبقى مناقب بونابرت العسكرية مهملةً، تلك المناقب الممتازة التي أبرزها في طولون.
كان هذا الرجل بونتيكولان، خلف أوبري، الذي، من غير أن يعرض نفسه لتوبيخ الحزب السائد، وظف نابوليون في عمل خطط المواقع.
على أن هذا المركز الخامل الذي لم ينطبق على سجية محاربٍ جدير بالمجد وإضرام الفتن، ما لبث أن اعتبر فوق استحقاق الضابط الفتى الذي كانوا يعملون على إتلاف حظه وحطم سلاحه، فاسترجع ده لامانش الذي ناب عن بونتيكولان في رئاسة الجمعية العسكرية تلك الأحقاد القديمة التي كان أوبري متخلقًا بها، وفقد نابوليون كل نوع من أنواع الخدمة.
كان من جراء ذلك أن يئس نابوليون من التغلب على ذلك الحسد وتلك الأحقاد المكينة، ولم يشأ من جهةٍ أخرى أن يخنق تحت صدمات الغباوة والحماقة كل ما كان يشعر به من المقدرة السياسية والعسكرية، فألوى بنظره فترةً عن أوروبا ليشخص به إلى الشرق.
كان بحاجة إلى حظوظ كبيرة تساعده على هذا العمل، إلا أن الطبيعة كانت قد أبدعته أهلًا لكل عمل كبير وتحقيق ما يرغب فيه، وإذا كانت فرنسا تأبى عليه ذلك فالشرق يمنحه إياه.
ملأت هذه الأفكار مخيلة نابوليون فأنشأ مذكرة ليفهم الحكومة الفرنسية أنه من مصلحة الجمهورية أن تساعد على إنماء وسائل الدفاع عن فرنسا ضد مقاصد الممالك الأوروبية الطماعة وتجاربها المغيرة، جاء في المذكرة: «إن الجنرال بونابرت الذي ما زال منذ حداثته يخدم المدفعية، والذي قادها في حصار طولون وفي موقعتين من مواقع جيش إيطاليا يمتثل اليوم لدى الحكومة لتسمح له بالمضي إلى تركيا بوكالة من الحكومة …
إنه سيعمل لمصلحة وطنه في هذا الميدان الجديد، فإذا قيض له أن يشدد قوى الأتراك، ويُحكم صيانة قلاعهم، ويرمم ما تداعى منها، فيكون قد أدى لبلاده خدمةً صحيحة.»
قال السيد ده بوريين: «لو وضع أحد كتاب الحرب كلمة كلمة «مُنِحَ» تحت هذه المذكرة لغيرت هذه الكلمة وجه أوروبا.» إلا أن هذه الكلمة لم توضع، وبقي نابوليون خاملًا في باريس، محكومًا عليه بالبطالة من قِبَل السلطة، ولكن الحكمة كانت تهيئه لأوامر الثورة.
لم تَدَعْه الثورة ينتظر طويلًا. أفاق الملكيون، وقد شجعتهم الرجعة الترميدورية، فتسللوا إلى مداخل الأقسام الباريسية ودفعوها إلى التمرد على الاتفاقية، فكان الفوز الأول للمتمردين.
عند هذا سمع الجمهوريون المضطهدون نداء مضطهديهم، فأسرعوا إلى السلاح ليتلافوا الخطر الداهم، إلا أن هذا الجيش الفجائي كان بحاجةٍ إلى قائدٍ بعد أن سقط مينو ووُضع قيد التوقيف، وبعد أن عين باراس لرئاسة ذلك الجيش وظهر عجزه عن قيادته، غير أن باراس هذا أتاح له الفكر الصائب أن يفهم موقفه العاجز، فطلب معاونًا له أخبر منه بمهنة الحرب، وعين الجنرال بونابرت، فوافقت الاتفاقية على هذا التعيين بأمر منها، وقيض لنابوليون أن يسمعه من على المنابر العمومية، التي كان قد أسرع إليها ليشهد عن قرب سلوك الجماعة الذين يقبضون بيدهم على مقدرات الجمهورية.
بقي نابوليون يشاور نفسه مدة نصف ساعة تقريبًا بين أن يقبل أو أن يرفض ذلك المنصب المهم؛ إذ إنه لم يكن ليرضى أن يحارب ضد الفانده، ولم يكن من السهل عنده أن يعزم من غير تردد على تصويب مدافعه على صدور الباريسيين، قال نابوليون في مذكراته التي كتبها في سنت هيلين ما يلي: «كنت أقول في نفسي: ولكن إذا سقطت الاتفاقية ماذا يحل بحقائق ثورتنا الكبرى؟ إن انتصاراتنا العديدة ودَمَنَا الذي كثيرًا ما هرقناه ما هي اليوم سوى أعمال مخجلة، والغريب الذي كثيرًا ما غلبناه ينتصر ويرهقنا باحتقاره …» هكذا يكلل سقوط الاتفاقية جبين الغريب ويلصق العار والعبودية بالوطن، فهذا الشعور، والخمس والعشرون سنة، والثقة بقواه، وحظه، كل ذلك كان يدفعه إلى الأمام، فعقد النية على العمل ومثَل أمام الجمعية.
هذا العزم الثابت جاء شؤمًا على العصاة؛ إذ إن نابوليون عرف أن يحقق مقاييسه تحقيقًا حسنًا، وقدر له ببعض ساعات حربٍ أن يطرد الجيش الباريسي من جميع مراكزه ويقضي على التمرد قضاءً مبرمًا.
أما الاتفاقية فجازت منقذها بأن سمَّته قائدًا عامًّا لجيش الداخلية، منذ ذلك اليوم صرح نابوليون بأنه سينظم قوى فرنسا العسكرية، ووضع قدمه على الدرجة الأولى من العرش قابضًا بيده على قيادة العاصمة، تلك القيادة السامية العليا، يا له انقلابًا في أربعٍ وعشرين ساعة! في الثاني عشر من فندميير كان يعيش في البطالة وزوال الحرمة، يائسًا من عودة ذكائه إلى العمل والنشاط، تدفعه العقبات والنوائب إلى الريبة بمستقبله، وقد أتعبته الموانع والعراقيل التي صدمته في المسرح السياسي، حتى إنه لم يجد مفيضًا من القول، ساعة تناهى إليه زواج أخيه جوزيف من ابنة تاجر كبير من تجار مرسيليا: «يا له من عفريت سعيد!»
وفي الرابع عشر من فنديميير كان الأمر بالعكس، فقد توارت جميع تلك الإرادات المدنية التي لم يكن لها قسطٌ من الثبات، وأصبح طريد الأمس قاهر الغد، أجل، أصبح مركز المؤامرات والمطامع جميعها كما كان روحًا لجميع الفتن، لقد علق قاهر الأقسام الباريسية الفتى، على مرأًى من الملكيين الذين كانت روح فرنسا تدفع عَلَمهم إلى الوراء، وفي حين لم يكن فوق رأسه سوى جماعة شاخت سريعًا في وسط ميدان الصدمات الدولية والمقاصل، لقد علق بكوكبه الطالع مقدرات الثورة التي لم يبق باستطاعة كوكب الاتفاقية الشاحب أن يقودها بذلك البريق الذي كان يزينه في أولى سنوات الحرية.
أول ما بدأ به نابوليون، هو استعمال نفوذه ومقدرته لإنقاذ مينو الذي كانت الجمعيات تعمل على إهلاكه.
لم يستطع المقهورون، بالرغم من إنصافه واعتداله، أن يغفروا له هزيمتهم، إلا أن انتقامهم اقتصر على إعطائه لقب «رامي القنابل».
كان الشعب الباريسي قد جرح في صميمه، وجاءت المجاعة تضع يدها على رجال الحرب الذين سببوها، قال السيد ده لاس كاز: «ذات يوم، في حين أن توزيع الخبز لم يكفِ حاجة الجمهور، وبينما كان الحشد الغفير مجتمعًا على أبواب الخبازين، مر نابوليون تصحبه فرقةٌ من ضباطه ليتفقد حالة شعبه، فتألب حوله جمع غفير من الرجال والنساء يصرخون بأعلى صوتهم طالبين الخبز، هائلة البدن امتازت عمن حولها بألوان الحركات والكلام، فكانت تصرخ مخاطبةً هذا الجمع من الضباط بقولها: إن جميع هذه الرمانات التي على أكتافكم إنما هي دلائل الهزء بنا، فأنتم لا يهمكم إلا أن تأكلوا جيدًا وتسمنوا، وسواء عندكم أمات الشعب جوعًا أم لم يمت! فخاطبها نابوليون بقوله: انظري إليَّ أيتها المرأة، من منا أجسم من الآخر؟ — كان نابوليون أبعد ما يكون من السقم، وكان يقول عن نفسه: كنت في ذلك الحين قطعةً من الرق — فاستولى على الجمهور ضحكٌ شديد، وأتيح لفرقة الضباط أن توالي سيرها.»
لا شك في أن السيدة ده بوهارني، التي كانت في عنفوان الصبا، لم تحجب في تلك الزيارة اللطافة والجواذب التي امتازت بها في أظرف مجتمعات العاصمة، فأثَّرت هذه الأدلة في نابوليون أيما تأثير، حتى إنه أصبح بعد ذلك يتوق إلى مواصلة علائقه معها فيصرف سهر لياليه في منزل جوزيفين.
كان يجتمع في منزل السيدة ده بوهارني بعض حكام هؤلاء الأشراف القدماء من غير أن يزعجهم وجود «رامي القنابل» الصغير بينهم، وعندما ينفضُّ الجمع، كان يبقى بعض الخاصة من الأصدقاء، كالسيد ده مونتيسكيو المسن والدوق ده نيفرنه ليتحدثوا في خلوةٍ بأمر البلاط القديم، أو «ليجولوا جولةً في فرسايل».
لم تكن علاقة نابوليون بالسيدة ده بوهارني علاقة وهمية، بل إن أشد عوامل الحب كانت تتغلغل في روحه، وقد وقف سعادته للتزوج من تلك التي كان يعبدها، ثم تم هذا الزواج في التاسع من شهر آذار سنة ١٧٩٦.
كانت عبدة سوداء قد تنبأت لجوزيفين بأنها ستصير ملكة، وكانت هذه تجد لذةً في ذكر ذلك من غير أن تظهر على وجهها دلائل عدم التصديق، وجاء اقترانها ببونابرت خطوةً أولى في تحقيق هذه النبوءة.
كان شيرير، قائد عام جيش إيطاليا قد عرَّض للخطر عسكرية الجمهورية وشرفها بعدم كفاءته العسكرية وفساد إدارته؛ فإنه ترك بين أنياب التلف جياده فماتت جوعًا، وكان الجيش في عوز شديد، لا يملك حطامًا، حتى عجز عن الثبات في نهر جنوا، فلكي يوقف مجلس الشعب هذا العوز الشديد أرسل إلى الجيش قائدًا جديدًا، كان هذا القائد، لحسن الحظ، الجنرال بونابرت الذي ناب ذكاؤه عن كل شيء.
ترك بونابرت باريس في الواحد والعشرين من شهر آذار سنة ١٧٩٦ مخليًا قيادة جيش الداخلية لقائد مسن يدعى هاتري، وعزم على أن يلج إيطاليا من الوادي الذي يفصل أواخر قمم الألب والأبنين، وأن يفرق الجيش الأوسترو ساردي مرغمًا الملكيين على صيانة ميلان، والبيمونتين على التكفل بعاصمتهم، وبلغ نيس في أواخر آذار، عندما استعرض الجنود لأول مرة قال لهم: «أيها الجنود، إنكم عراة، معدمون، وإنهم مدينون لنا بكثير ولا يستطيعون إعطاءنا شيئًا، إن صبركم والشجاعة التي تبدونهما بين هذه الصخور لمن الغرابة بمكان عظيم، إلا أنهما لا يقلدانكم مجدًا، ولقد جئت لأقودكم إلى أخصب أراضي العالم، سيكون تحت تصرفنا مقاطعات غنية ومدن كبيرة، وهناك، تتمتعون بالغنى والشرف والمجد، جنود إيطاليا! أتفتقرون إلى شجاعة؟»
فأثارت هذه الكلمات مكمن الحمية من صدور الجيش، وأعادت إليه الأمل المفقود، فاغتنم القائد العام هذه السانحة ليطلب من مشيخة جنوا بصوت مرتفع عبور البوكشيتا ومفاتيح كافي.
في الثامن من شهر نيسان كتب إلى مجلس الشعب يقول: «لقد وجدت هذا الجيش مشتت النظام، في حالة تمرد دائم فوق ما هو عليه من الفاقة، ولكن ثقوا بأن النظام والسلام سيستتبان في القريب العاجل … وعندما تقرءون هذه الرسالة نكون قد قاتلنا»، ولقد جرى كل ما توقعه بونابرت وأكده.
كان الجيش العدو بقيادة الضابط الممتاز بوليو الذي كسب شهرةً في مواقع الشمال، فعندما تناهى إليه أن الجيش الفرنسي، الذي كان يدافع بصعوبة قبل الآن قد أتيح له فجأةً أن يتأهب بجسارة لعبور أبواب إيطاليا، أسرع بإخلاء ميلان وهرول إلى نجدة جنوا.
عندما استتب نابوليون في نوفي، التي كان فيها قواد جنوده، قسم جيشه إلى ثلاث فرق، وأنشأ منشورًا أرسله إلى مجلس الشعب قال فيه: إنه سيجيب عليه ثاني يوم الحرب.
وقعت هذه الحرب في اليوم الحادي عشر من الشهر نفسه، وكانت فاتحة انتصارات القائد الجمهوري الذي أحب فيما بعد أن يجعلها «مصدر شرفه».
ووقعت حروبٌ أخرى لم تكن إلا لتكسبه انتصارات، ففي الرابع عشر من هذا الشهر فاز في ميلليزيمو، وفي السادس عشر في ديغو، ثلاثة انتصارات في أربعة أيام كانت جوابًا عظيمًا على منشور بوليو! وفي مساء موقعة ديغو، أدى بونابرت علمًا إلى مجلس الشعب عن أعماله المجيدة وخص بالثناء الرؤساء الذين كانوا تحت قيادته وهم جوبر، وماسينا، وأوجيرو، ومينار، ولاهارب، ورامبون، ولان؛ الذين أبلوا بلاءً حسنًا في تلك المواقع اللامعة، قال نابوليون: «لقد ربحنا في هذا النهار من سبعة إلى تسعة آلاف أسير بينهم ملازم عام وعشرون أو ثلاثون أميرالاي … وأصيب الأعداء بعددٍ من القتلى يتراوح بين ألفين وألفين وخمسمائة رجل، سأطلعكم عن قريب على تفاصيل هذا العمل المجيد وعلى الرجال الذين امتازوا فيه بنوع خاص.»
في أثناء ذلك كتب الجنرال كوللي، قائد فرقة اليمين، إلى بونابرت يوسطه في رسول صلح يدعى مولين، وهو مهاجر فرنسي أوقف في ميرسيكو، ويهدده لمعاملته قائد الفرقة العسكرية برتيليمي، الذي أسره النمسويون، معاملة سيئة، فأجابه بونابرت: «إن المهاجر يا حضرة السيد، إنما هو ولدٌ قاتل أباه وأمه لا يحمل خُلقًا يؤهله لأن يكون مقدسًا، ولقد أساءوا إلى الشرف وإلى مراعاة حقوق الشعب الفرنسي، بإرسالهم السيد مولين ليفاوض في شروط الصلح، ثم إنك تعرف قوانين الحرب، فأنا لا أصدق أنك تهدد برتيليمي بالعذابات، وإذا كنت تخترق قوانين الحرب جميعها فتجيز لنفسك عملًا فظيعًا كهذا العمل، فاعلم أن جميع أسرى أمتك يعترضون عليك بأفظع ما في الثأر من الصرامة؛ إذ إنني أوفر لضباط بلادك الاحترام الجدير برجال الحرب البسلاء.» لم يكن تهديد بونابرت تهديدًا باطلًا؛ إذ إنه كان موقف قائد يعرف أن تحت تصرفه عددًا كبيرًا من الأسراء، ولقد رد على كوللي بهذا الجواب في الثامن عشر من شهر نيسان.
كانت نتيجة المواقع اللامعة التي اشتهر فيها جوبير وماسينا وأوجيرو، أن تجزأ أخريات الجيش العدو التي كان يقودها بوفيرا وتُجبر على رمي سلاحها، وأن تُهيأ انفصالات النمسويين والبييمونتيين، ويفتح في وجه جيوش الجمهوريين طريق ميلان وتورين المزدوج.
في الثاني والعشرين فوز جديد، عُبر نهر تانارو، ورُفع متراس بيكوك، وأصبحت موندوفي ومخازنها تحت تصرف الجيش الجمهوري، وفي الخامس والعشرين أُخذت شيراسك، وكان فيها مدافع، فعملوا على تقويتها بنشاطٍ متواصل، وفي الثامن والعشرين عُقدت فيها هدنة.
كان نابوليون، في الرابع والعشرين، قد أجاب الجنرال كوللي على رسالة أرسلها هذا إليه، بهذه الكلمات: «إن مجلس الشعب التنفيذي قد احتفظ لنفسه بحق المذاكرة في الصلح، إذن فيجب على مفوَّضي الملك سيدك أن يحضروا إلى باريس أو أن ينتظروا في جنوا المفوضين الذين قد تستطيع الحكومة الفرنسية أن ترسلهم إليها.
إن موقف الجيشين العسكري والأهلي يجعل كل توقيف بسيط مستحيلًا، فمع اقتناعي بأن الحكومة ستمنح ملكك شروط صلح معتبرة، لا أقدر أن أوقف سيري استنادًا إلى ظنون مبهمة، غير أن هناك وسيلة للوصول إلى غايتك، موافقة لمصالح بلاطك، وقد توفر هرق دمٍ باطل معاكس للعقل ولقوانين الحرب: تلك الوسيلة هي أن تضع تحت تصرفي قلعتين من ثلاث قلاع كوني وألكسندري وتورتون، أترك الاختيار لك.»
فسُلمت قلعتا كوني وتورتون إلى الجمهوريين وأضيفت عليهما قلعة سيفا وعُقدت الهدنة.
كم أنجز من الأعمال في شهر واحد! أصبحت الجمهورية مطمئنة إلى مرافئها وحدودها لا يهددها مهدد، بل أصبحت بدورها تخيف الملوك الذين كانوا يهددونها فيما مضى، وهذا الانقلاب تم بسرعة مدهشة على يد جيشٍ فانٍ لم يكن لديه زادٌ ولا مدافع ولا خيالة، هذه الأعجوبة كانت نتاج نبوغ رجل عظيم، وروح الحرية التي أعطته جنودًا وقوادًا حريِّين به.
أصيب الغرباء بدهش عظيم، وقلق خاطر الجيش الفرنسي الذي كان طافحًا بالإعجاب بقائده الفتى، في وسط تلك الانتصارات الغريبة؛ لأنه كان يفكر في ضعف الوسائل التي يملكها ليتابع مجريات ذلك الحظ اللامع، فلكي يبدد نابوليون ذلك القلق ويدفئ أيضًا حماسة الجماهير، وجه إليهم من شيراسك هذا الالتماس الآتي:
إن الجيشين اللذين كانا يهجمان عليكم بجسارة وجرأة يهربان من وجهكم اليوم، والرجال الأردياء الذين كانوا يضحكون من فاقتكم ويفرحون في قلوبهم لفوز أعدائنا أصبحوا اليوم خجلين مضطربين، ولكن، أيها الجنود، يجب ألا أكتمكم أنكم لم تعملوا شيئًا حتى الآن لأن أمامكم بعدُ أعمالًا عظيمة، فلا تورين تخصكم ولا ميلان، ورماد منتصري تاركين لا تزال تدوسه قتلة باسيفيل! لقد كنتم مجردين من كل شيء في بدء المعركة، وهو ذا أنتم مزودون بكل شيء، إن المخازن التي أخذتموها من أعدائكم لكثيرة العدد، ولقد وصلت إلينا مدفعية الحصار.
أيها الجنود! يحق للوطن أن ينتظر منكم أعمالًا كبيرة، أتحققون أمله؟ إن الموانع الكبرى قد اختُرقت كلها، ولكن لا يزال أمامكم حروب تشهرونها، ومدن تملكونها، وأنهر تعبرونها، أفينا من تخونه شجاعته؟ أفينا من يؤثر العودة إلى قمة الأبينين والألب ليسمح بأناةٍ لعنات هؤلاء العساكر العبيد؟ لا! ليس بين منتصري مونتينوت، وميليزيمو، وديغو، وموندروفي من يُقدم على ذلك، إنكم جميعًا تضطرمون لتحملوا بعيدًا مجد الشعب الفرنسي، إنكم جميعًا ترغبون في إذلال هؤلاء الملوك المتصلفين الذين كانوا يعزمون بجسارة على إعطائنا الحديد، إنكم جميعًا ترغبون في نص سلام مجيد يعوض على الوطن ضحاياه العديدة، أيها الأصدقاء! إني أعدكم بهذا الفتح، ولكن هناك شرطًا يجب أن تقسموا على تتميمه: هو أن تحترموا الشعوب التي تنقذونها، وأن تقمعوا النهب المشين الذي لا يندفع إليه إلا الأشرار صنيعة أعدائكم، وإلا فلا تصبحون منقذي الشعوب بل بلاياها، لا تصبحون شرف الشعب الفرنسي وينكركم! فانتصاراتكم، وشجاعتكم وفوزكم، ودم إخوتنا الذين ماتوا في الحروب، كلها تفقد حتى الشرف والمجد، وأما أنا والقواد الذين استوت لهم ثقتكم فإننا لنخجل أن نقود جيشًا لا نظام له ولا رادع، ولا يعرف قانونًا إلا القوة، إلا أني، استنادًا إلى السلطة الوطنية وإلى قوتي المؤسسة على العدالة والقانون، سأعرف كيف أجعل ذلك العدد القليل من الرجال الجبناء، الضعفاء القلوب، يحترمون شرائع الإنسانية والشرف التي يدوسونها بأقدامهم، إنني لن أطيق على نفسي أن أرى بعض اللصوص يلطخون أكاليل الغار المتلألئة على جباهكم، وسأنفذ تنفيذًا مطلقًا القانون الذي نظمته، فالناهبون يعدمون بالرصاص، ولقد جرى ذلك لكثيرين حتى الآن!
شعوب إيطاليا! إن الجيش الفرنسي قادم ليحطم قيودك: فالشعب الفرنسي هو صديق الشعوب كلها، تعالوا إليه بثقةٍ ورجاء، وأيقنوا أن أملاككم ودينكم وعاداتكم تبقى محترمة، إننا نحارب كأعداء كرماء، ولا تنال إلا من الظالمين الذين يستعبدونكم.»
كان هذا الكلام يبشر في نابوليون بأكبر من القائد الكبير، كان يبشر برجل الأمة والسياسي الماهر الذي شعر بأن الحظ سيرفعه إلى قمة «المنتصر الشارع»، والذي يسعى إلى تهييج ميول الشعب نحوه، كما يسعى إلى استمالة إعجابهم بأن ينادي عليهم بإنقاذهم ومعاقبة الناهبين واحترام دينهم وعاداتهم.
فرحب وكلاء الشعب بهذا الخبر وهللوا له، وأعلنوا للمرة الخامسة في ستة أيام أن جيش إيطاليا قد استحق ثناء الوطن استحقاقًا حسنًا، وجاء الصلح مع ملك سردينيا يضيف على سرور الشعب سرورًا آخر، فقد عُقد في الخامس عشر من شهر أيار بشروط ملائمة لمصالح فرنسا.
وإذ لم يبقَ على بونابرت إلا محاربة الملكيين، أخذ يتساءل عما إذا كان من الواجب أن يحرس خط تازين، أو يحمل على الأديج بتلك العجلة الجريئة التي جعلته بأيام قلائل سيدًا على أجمل مقاطعات المملكة السردية.
لقد ترك لنا في مذكرة من مذكرات القديسة هيلانة الأسباب التي كانت تتنازع بين الرأي الأول والثاني، أما الأول فلم يكن يصلح، لا لموقف الجمهورية الناشئة التي كانت بحاجة إلى تخويف المؤامرة بصدمات شديدة ومعجزات متواصلة، ولا للقائد الفتى الذي كان خلقه وطمعه يدفعانه إلى النيات التي كانت تتطلب جرأةً ونشاطًا وتعرض نصيبًا وافرًا من الصعوبة والجلال، فاندفع نابوليون إلى الأمام بعد أن كتب إلى مجلس الشعب يقول: «إني زاحفٌ غدًا إلى بوليو، فسأرغمه على عبور البوثانية، وأعبره بدوري على الأثر، سأستولي على لومباردي كلها وأرجو من الآن إلى أقل من شهر أن أكون على جبال تيرول، فألقى جيش الرين وأحمل الحرب إلى البافيير.»
في التاسع من شهر أيار كتب إلى المدير كارتو يقول: «لقد عبرنا البو، وبدأنا بالموقعة الثانية وبوليو قلقٌ جدًّا، إنه لا يجيد الحساب قط، فيقع دائمًا في الشَّرَك الذي يُنصب له، قد يريد أن يشهر حربًا فهذا الرجل يملك جرأة الغضب لا جرأة الذكاء … فوزٌ واحدٌ بعدُ ونَصِيرُ أسيادَ إيطاليا … إن الذي أخذناه من الأعداء لا يحصى عدده … فأنا مرسلٌ إليكم عشرين رسمًا من ريشة أكابر الرسامين، من كوريج وميكل أنج.
إنني مدينٌ لكم بشكر خصوصي لما تبدونه من الالتفات نحو امرأتي، إنني أوصيكم بها، فهي محبة للوطن ومخلصة، وأحبها حتى الجنون.»
في اليوم الثاني تم الفوز الذي كان بونابرت يتوقعه لامتلاك إيطاليا، فجعل خالدًا اسم بودي التي ربحها الجمهوريون.
جاء ربح هذه الحرب مقدمة لفتح لومباردي، وفي أيام قلائل وقعت بيزيفيتون وكرتميون وجميع مدن ميلاني الكبرى في يد الجيش الفرنسي.
في وسط الخيام، ومن خلال قرقعة السلاح، كان نابوليون الذي خيِّل للبعض أنه رازحٌ تحت مشاغله الحربية والسياسية، يبدي اهتمامًا بالفنون ويسأل مجلس الشعب وكالة أساتذة فنانين يجمعون الأشياء الثمينة التي يضعها الفتح تحت تصرفهم، ورئي فيما بعد، يرفض كنوزًا كان يستطيع أن يجعلها ملكه الخاص؛ ليحفظ رسمًا من كوريج كان يود أن يزين به المتحف الوطني.
إلى المواطن أورياني
إن العلوم التي تشرف العقل الإنساني، والفنون التي تزين الحياة وتحول الأعمال المجيدة إلى الأجيال يجب أن تكون معززة في الحكومات الحرة، وإن رجال النبوغ جميعهم، وكل الذين أوتوا مقامًا في جمهورية الآداب، إنما هم إخوة مهما اختلفت المدن التي رأتهم يولدون.
كان العلماء في ميلان لا يتمتعون بالمراعاة التي هم جديرون بها، فكانوا ينزوون في أعماق مصانعهم ويرون نفوسهم سعداء بأن الملوك والكهان لا يريدون بهم شرًّا، أما اليوم فقد انقلبت الحالة وأصبحت الفكرة حرة في إيطاليا، ولم يبقَ ديوان تفتيش، ولا ظلم، ولا عذاب، إنني أدعو العلماء إلى عقد اجتماع، فيبسطون لي نظراتهم في الوسائل التي يرونها موافقةً لإحياء العلوم والفنون الجميلة حياةً جديدة، كل الذين يرغبون في الذهاب إلى فرنسا ينالون هناك كل إكرام وترحيب، فالشعب الفرنسي يدفع لأجل الحصول على عالم رياضي أو رسام شهير أو رجل ممتاز، مهما كان نوع عمله، أكثر مما يدفع للحصول على أغنى مدينة في العالم.
كن دائمًا، أيها المواطن، عضدًا لهذه الآراء إلى جنب العلماء الممتازين في الميلاني.
إلا أن هذا الذوق، وهذا الميل الطبيعي، وهذه الغيرة التي كانت تهتم بكل شيء وتذيع مجموع الذكاء، وإن كانت تملأ صدور أصدقاء فرنسا وأعدائها بالدهشة والإعجاب، إلا أنها لم تكن إلا لتوحي بعض الغموم إلى الحكومة الخائفة التي كانت تريد الجمهورية يومذاك.
كان مجلس الشعب يشعر بخلفه في منتصر مونتينوت ولودي، وكان يرغب في إبعاد افتتاح تلك الخلفية قدر استطاعته، فأخذ يحاول إعطاء مساعد للذي كان قد برهن بسلسلة انتصارات غير منتظرة أنه يعرف كيف يعمل وينتصر وحده، أما نابوليون فلم يخطئ قط في اعتقاده بأنهم يرغبون في ضم كيلليرمان إليه، فكتب رسالة إلى كارنو الذي كان يحترمه احترامًا شديدًا لما توسم فيه من الخلق الطيب والمعارف العالية يفضي إليه بعدم رضاه عن ذلك الانضمام. قال: «إنني أعتقد أن انضمام كيلليرمان إليَّ في إيطاليا يُفقد كل شيء، إنني لا أستطيع أن أخدم مختارًا مع رجلٍ يظن نفسه أول قائد في أوروبا، ثم إني أعتقد أن قائدًا سيئًا أفضل من قائدين صالحين، فالحرب هي كالحكومة، إنها مسألة ذوق.»
بقي نابوليون يعمل بحسب نظرياته الخاصة وينفذ خطته، وكان قد دخل إلى ميلان دخول المنتصر في الخامس عشر من شهر أيار، في حين كان يباشر في باريس بعقد الصلح الذي كان قد طرحه بنفسه على سردينيا ومونتينوت وديغو وميلليزيمو وموندوفي.
لم يجرؤ مجلس الشعب على تحقيق الغاية من هذا الانضمام، فسُمي كيلليرمان حاكمًا عامًّا للبلدان المتخلَّى عنها لفرنسا، بمقتضى الاتفاقية الأخيرة مع الجلالة السردية، وحفظ بونابرت لنفسه، من غير مقاسمة، القيادة العامة لجيش إيطاليا.
لم يكن نابوليون، من جهته ليجهل أن الحروب اليومية والمرض تنتهي بجعل جيشه، الذي أصبح ضعيفًا، قليل العدد بالنسبة إلى الملكيين، بيد أنه لم يقف فترةً عن مطالبة مجلس الشعب بإرسال عساكر جديدة إليه، وعن الإفاضة إليهم بأن جيش الرين قد عمل عملًا عظيمًا برجوعه إلى العداوة مرة أخرى.
بعد موقعة لودي بأيام قلائل كتب نابوليون إلى كارنو يقول: «يخيل إليَّ أنْ ستنشب معركة على الرين، فإذا بقيت الهدنة لا يعتم أن ينسحق جيش إيطاليا، وتصبح الجمهورية مضطرةً على التوجه إلى قلب البافيير أو النمسا المذهولة لتمضي معاهدة الصلح مع الثلاثة الجيوش المتحالفة.»
كان نابوليون مصيبًا في طلب المساعدة لجيوش الرين وسامبري-موز التي وُعد وعدًا صريحًا، عند رحيله من باريس، بأنه سينالها في منتصف نيسان، إلا أن هذه الجيوش لم تبدأ بالتحرك إلا في أواخر حزيران، عندما أتيح لورمسر أن يصل مع مدده إلى إيطاليا.
إن الذي طلبه القائد الفرنسي لم ينله بسهولة؛ فمجلس الشعب بقي أصم عن إلحاحه، إما عن تعذر وإما عن سوء طوية، وهكذا اضطر على الوقوف في وجه جيش مؤلف من مائة ألف مقاتل بجيش مؤلف من ثلاثين ألفًا، إلا أن ذكاءه وحظه لا يتركانه في مثل هذا الموقف، فأخذ يتصور خطةً للهجوم يستطيع بها أن يفرق الجيوش الثلاثة ويغير عليها واحدًا بعد الآخر، جاء النجاح الباهر محققًا فكرة القائد الكبير، المعضود بالذكاء وبشجاعة القواد والعساكر الجمهوريين.
بينما كان ورمسر يعتقده محتلًّا أمام مانتو، أفلت هو من حصار هذه الجهة وزحف بسرعة البرق من بو إلى الأديج ومن شييسا إلى منسيو فكثر ونما، ورأى نفسه في الوقت نفسه مستقبلًا جميع الأقسام العدوة، فقاتلها، وبددها، وقضى عليها في حروب متتالية سميت «موقعة الأيام الخمسة»، جرى كل ذلك في سالو، ولونادو، وكاستيكليون وهي أتلف تلك المواقع، جاء في خلاصة هذه الموقعة العجيبة، التي كتبها القائد المنتصر في ساحة الحرب وأرسلها إلى مجلس الشعب في التاسع عشر من ترميدور عام ٤ (٦ آب ١٧٩٦) هذه التفاصيل الآتية:
«منذ أيام كثيرة وصل المدد المؤلف من عشرين ألف رجل الذي أرسله الجيش النمسوي إلى جيش إيطاليا فضم إلى عددٍ كبير من الجنود وعددٍ كبير آخر من الجحافل جاء من داخل النمسا فجعل هذا الجيش ذا هيبة عظيمة، وكان الرأي العام أن النمسويين يصبحون قريبًا في ميلان …
عندما نزل العدو من تيرول إلى الأديج عن طريق بريسيا جعلني في الوسط، ولكن الجيش الجمهوري، وإن كان قد ظهر ضعيفًا أمام أقسام العدو، إلا أنه كان يستطيع أن يقاتل كلًّا منها على حدة، كان من الممكن، إذا تراجعت بسرعة، أن أحيط بالقسم العدو المنحدر من بريسيا وآخذه أسيرًا ثم أقاتله كله وأعود من هناك إلى المنسيو فأقاتل ورمسر وأرغمه على عبور التيرول مرةً أخرى، إلا أنه كان ينبغي لإجراء ذلك، أن نستولي في مدة أربعٍ وعشرين ساعة على حصار مانتو الذي كان على وشك أن يؤخذ، وأن نعود حالًا فنعبر منسيو ثانيةً ولا ندع للأقسام العدوة فرصةً لإحاطته، شاء الحظ أن يبتسم لهذه الخطة، ولقد جاءت مواقع ديزانزانو، وسالو، ولونادو، وكاستيكغيون نتيجةً واضحةً لها.
في اليوم السادس عشر، عند مطلع الصباح، وجدنا أنفسنا مهيئين؛ فلقد عهد إلى القائد غيو الذي على يسارنا أن يهاجم سالو، وإلى القائد ماسينا الذي في الوسط أن يهجم على لونادو، وإلى القائد أوجرو الذي كان إلى اليمين أن يهجم من كاستيكليون، أما العدو، فبدل أن يهجم عليه، هجم هو على حرس ماسينا الذي كان في لونادو، فأصبح الحرس محاطًا والقائد أسيرًا، وأخذ العدو منا ثلاثة مدافع، فلم أتردد عند ذلك أن هيأت الفرقتين الثامنة عشرة والثانية والثلاثين، وفي حين كنا نعمل على خرق العدو، كان هذا يتسع بزيادة ليحيط بنا حتى خيِّل إليَّ أن حركته هذه ستضمن له النصر المحتم.
أرسل ماسينا بعضًا من الجنود إلى أجنحة العدو ليؤخروا سيرها، فعندما وصلت الفرقة الأولى إلى لونادو قهرت العدو، وأتيح للفرقة الخامسة عشرة أن تسترجع مدافعنا المأخوذة.
وما هي إلا فترة حتى كان العدو مشتتًا تشتيتًا عظيمًا، إلا أنه حاول أن يلجأ إلى المنسيو، فأمرت معاوني قائد الجند جونو بأن يستلم رئاسة قوادي ويطارد العدو ويقهره في ديزانزانو بأسرع ما يكون، فالتقى بالكولونيل باندير مع قسم من فرقته، إلا أن جونو الذي لم تكن غايته الهجوم من الوراء، عمل دورةً من جهة اليمين، فجابه الفرقة، وجرح الكولونيل الذي كان بوده أن يأخذه أسيرًا، وبعد أن قتل بيده ستة جنود، هوى في إحدى الحفر مصابًا بست طعنات يقال: إنها غير خطرة.
كان العدو لاجئًا إلى سالو؛ وبما أن سالو كانت بيدنا، قدر لنا أن نأسر تلك الفرقة التائهة في مطارح الجبال، في ذلك الوقت، زحف أوجرو إلى كاستيكليون واستولى عليها، لقد صرف النهار كله في شهر الحروب ضد قواتٍ كانت تضاعف قواته، حتى أتيح له أن يقهر العدو قهرًا تامًّا.
خسر العدو في ذلك النهار عشرين مدفعًا، ألفين أو ثلاثة آلاف رجل بين قتيل وجريح، وأربعة آلاف أسير بينهم ثلاثة قواد …
بقي ورمسر، طوال اليوم السابع عشر، يجمع بقايا جيشه، ويُخرج من مانتو كل ما كان يستطيع إخراجه، ويعد بقايا ذلك الجيش للحرب في مطارح السهل بين قرية سكانيللو حيث عضد ميمنته والشييزا حيث عضد ميسرته.
لم يكن موقف إيطاليا قد بُتَّ بعدُ، فجمع فرقة خيالة من خمسة وعشرين ألف رجل، وخيِّل إليه أنه يستطيع أن يهز بها القدر مرة أخرى، أما أنا فقد أعطيت الأوامر لجمع فرق الجيش كلها.
واتجهت بنفسي إلى لونادو لأقف على حالة الجنود الذين أستطيع أن أخرجهم منها، ولكن كم كانت دهشتي عظيمة عندما دخلت إلى هذا الوسط، فاستقبلت رسول صلح كان يحث قائد لونادو على الاستسلام، زاعمًا أنه كان محاطًا من كل الجهات! كانت مراقب الحرس المختلفة تنبئني بأن كثيرًا من الصفوف كانت تلحق بفرقة حرسنا الكبير، وأن طريق بريسيا إلى لونادو كانت مسدودة بجسر سان ماركر، فشعرت عندئذٍ بأن تلك الصفوف ليست سوى بقايا القسم المنشق الذي بعد أن تاه تجمع بعضه إلى بعض وأخذ يعمل على فتح طريق له.
كانت الظروف في أبعد ما يكون من التشويش، ولم يكن معي في لونادو إلا ألف ومائتا رجل تقريبًا، فأحضرت رسول الصلح، وأشرت بإنزال العصابة عن عينيه، وقلت له: إنه إذا كان في توهم قائده أن يقبض على القائد العام لجيش إيطاليا فما عليه إلا أن يتقدم، وصرحت له بأنه إذا لم تلقِ فرقته السلاح في مدة ثماني دقائق، فلا أصفح بعد ذلك عن أحد مطلقًا.
كان استغراب رسول الصلح لوجودي هنا شديدًا جدًّا، وبعد فترة قصيرة ألقت الفرقة سلاحها، كانت محصنة بأربعة آلاف رجل ومدفعين وخمسين خيالًا، وكانت قادمة من كافاردو تفتش عن مخرج تهرب منه، لم يقدر لها في الصباح أن تنفذ من سالو، فعالجت ذلك من لونادو.
في اليوم الثامن عشر، عند مطلع النهار، وجدنا أنفسنا مهيَّئِين، إلا أنه صارت الساعة السادسة ولم تبدُ حركة بعد، فأشرت إلى الجيش بأن يعمل حركة تقهقر ليجذب العدو إلينا، في حين كان القائد سيروريه الذي كنت بانتظاره على أحر من الجمر، قادمًا من ماركاريو وقد حوَّل إلينا ميسرة ورمسر كلها، فهذه الحركة حققت النتيجة التي كنا نتوقعها.
عندما أبصرنا فرقة القائد سيروريه التي كان يقودها القائد فيوريللا المعهود إليه بالهجوم على الميسرة، أمرت المساعد العام فيرديير بالهجوم على متراس كان العدو قد عمله في وسط السهل ليثبت ميمنته، وعهدت إلى مساعدي قائد الجحفل مارمون بأن يدير عشرين مدفعًا من المدافع الخفيفة ويرغم العدو بنارها على التخلي لنا عن هذا المركز المهم، وبعد عدة إطلاقات نارية اضطرت ميسرة العدو على الجلاء التام.
أما أوجرو فقد هجم على مركز العدو المحصن ببرج سولفيرينو، وهجم ماسينا على ميمنته، وأما المساعد العام لوكليرك الذي كان على رأس فرقة الحرس الخامسة فقد زحف إلى نجدة فرقة الحرس الرابعة، وزحفت فرقة الخيالة بقيادة القائد بومون إلى ميمنة العدو لتعضد فرقتي المدفعية الخفيفة والمشاة، فكان النصر حليفنا في جميع هذه المواقع.
لقد غنمنا من العدو ثمانية عشر مدفعًا، ومائة وعشرين صندوقًا من الذخائر الحربية، وخسر قدر ألفي رجل بين قتيل وأسير، وتشتت الباقون تشتتًا فظيعًا، إلا أن جحافلنا، التي كان التعب قد بلغ منها مبلغًا عظيمًا، لم تقوَ على اللحاق بها أكثر من ثلاثة فراسخ، ولقد قُتل المساعد العام فرونتين: قُتل هذا الرجل الشجاع تجاه العدو.
أما ورمسر فقد خسر في هذه الأيام الخمسة سبعين مدفعًا وصناديق ذخائر مشاته جميعها، ومن اثني عشر إلى خمسة عشر ألف أسير، وستة آلاف رجل بين قتيل وجريح، وجميع الجحافل التي جاءت من الرين، وفوق ذلك، فقد تشتت قسم كبير من رجاله، سنضمهم إلينا بطريقنا في مطاردة العدو، وأما الضباط والجنود والقوَّاد فقد أبدوا في هذه المواقف الصعبة شجاعةً ما بعدها شجاعة.»
هذه الحوادث الغريبة المدهشة هيَّجت حماسة شعوب إيطاليا التي كانت قد جاهرت بميلها إلى الثورة الفرنسية، وصرع محازبو النمسا الذين دعاهم تغفلهم إلى إظهار غبطتهم لدى قدوم ورمسر، وإلى الاشتراك بفخفخة الملكيين الذين، استنادًا إلى كثرة عددهم، كانوا يحتفلون سلفًا بانكسار الفرنسيين وطردهم من شبه الجزيرة، إلا أن الدعاية الثورية، التي كانت منتشرة في بيمونت ولومباردي وغيرهما، قد صادفت عددًا كبيرًا من المتحزبين، وكان الميلانيون قد أظهروا تعلقًا شديدًا بالعلم الجمهوري، فأبدى لهم القائد العام عرفان الجميل بهذه الكلمات: «عندما كان الجيش يقاتل متقهقرًا، كان بعض متحزبي النمسا وأعداء الحرية يعتقدونه مقهورًا لا وسائل لديه، وعندما اتضح لكم أن هذا التقهقر ما كان سوى حيلة أظهرتم تعلقًا بفرنسا، وميلًا للحرية، ولقد أبديتم غيرةً وخلقًا استحققتم من أجلها احترام الجيش، وسيستوجبان لكم حماية الجمهورية الفرنسية.
إن جدارة شعبكم بالحرية لتزداد كل يوم، فهو في كل حين يكسب نشاطًا وبأسًا، وسيأتي يوم يظهر فيه على مسرح العالم محفوفًا بالمجد والعظمة، تفضلوا بقبول شهادة استحساني ورضاي والدعاء الأكيد الذي يعمله الشعب الفرنسي ليراكم أحرارًا وسعداء.»
لم تقتصر علاقة نابوليون بهذه الشعوب على تهنئات بسيطة، بل إنه استفاد من استعداداتهم الحسنة فأفادهم وأفاد الجمهورية الفرنسية، في حين كان ينظم الثورة ما وراء الألب بإنشاء الجمهوريات الترانسبودية والسيبودية، هذه المبدعات العظيمة، التي كان يبتدعها وهو يركض من ساحة حرب إلى أخرى، لم تكن لتمنعه عن أن يدفع الحرب إلى أبعد مراميها، فما كاد ينجو من الجيش الهائل الذي كان ديوان فيينا قد عهد إليه بطرد الفرنسيين من إيطاليا، حتى شرع ثانيةً بتعجيل حصار مانتو، الذي لم يُتَح لورمسر أن ينقضَّ عليه ببعض جحافل وذخائر إلا في اليوم نفسه الذي سقطت فيه لينياغو (١٣ أيلول)، وبعد أن قُهر في عشر حروب هي: ٦ آب، في باشييرا؛ ١١ منه، في كورونا؛ ٢٤ منه، في بورغوفورت وكرفرنالو؛ ٣ أيلول، في سيرافال؛ ٤ منه، في روفيريدو؛ ٥ منه، في ترانت التي سقطت؛ ٧ منه، في كوفولو؛ ٨ منه، في باسانو؛ ١٢ منه، في سيركا.
وثاني يوم دخوله إلى مانتو، تشتتت بقايا جيشه مرة أخرى في دو كاستيللي، وفي اليوم التالي أنهت موقعة سن جورج إتلاف الجيش الإمبراطوري، إلا أن حاشية رومسر لم تتخلَّ عنه في ذلك الموقف الحرج، وكان إمبراطور النمسا يعتبره أكثر قواده خبرةً وحذقًا، ثم إنه كان يدرك أن مانتو إنما هي مفتاح ممالكه، فأجريت في فيينا جهودٌ أخرى لتعويض نكبات الحملة الأولى وتهيئة ما كان الملوك والأريستوقراطيون الأوروبيون يسمونه إنقاذ إيطاليا؛ إذ ذاك نظم جيشٌ إمبراطوريٌّ جديد مؤلفٌ من ستين ألف رجل تحت قيادة المرشال دالفانزي وأسرع لنجدة مانتو.
لم يجد نابوليون لدى هذه الحركة الجديدة بدًّا من التأسف على كون نصائحه لم يعمل بها في الرين، حيث كانت القوات الجمهورية كافية لإجراء عمل نافع؛ إذ كان قد طلب نجدةً ولم ترسل إليه، غير أنه وإن كان دائمًا يثق بنفسه وبجنوده، إلا أنه رأى من الضروري أن يوضح لمجلس الشعب عن مخاوفه من عقبى الموقعة الجديدة لكي يفهم الحكومة الفرنسية خطأها الفادح نحو جيش إيطاليا الذي أهملته في وسط انتصاراته العديدة.
قال: «أرفع إليكم عِلمًا بالأعمال التي حدثت منذ الواحد والعشرين من هذا الشهر، فإذا لم تكن مرضية فليس الخطأ على الجيش؛ إن عجزه وانحطاطه وإن كانا مدعومين برجال شجعان، إلا أنهما يدعوان إلى الخشية عليه، قد نكون على وشك فقدان إيطاليا إذ إن النجدات التي انتظرتها لم تصل إلي واحدة منها، وقد لا يفكَّر في أن نصيب إيطاليا وأوروبا يتوقف على هذه الظروف، لقد كانت السلطة في حركة دائمة ولما تزَلْ، ألا إن الحماسة التي أبدتها حكومتنا في بدء الحرب لتستطيع وحدها أن تعطي فكرة عن المنهج الذي نُهج في فيينا، فلم يكن يمر يوم إلا ويصل لنا فيه خمسة آلاف رجل، ومنذ شهرين ونحن في حاجة إلى نجدات، إذ لم يصل إلينا إلا جحفل من الفرقة الأربعين لم يتعود النار بعد، في حين أن جندية جيش إيطاليا القديمة تنهكها الراحة في الفرقة الثامنة، إنني أقوم بواجبي والجيش يقوم بواجبه، ونفسي مطعونة ممزقة إلا أن ضميري هادئ مطمئن، أرسلوا إلي نجدات! فجنودي اليوم لا يزيدون على ألف وخمسمائة.
إن جرحانا إنما هم صفوة الجيش؛ كل ضباطنا السامِين وجميع قوادنا المنتخبين هم اليوم خارج الحرب، لا أستلم إلا العاجزين الذين لا يحملون في قلوبهم ثقة الجندي، ولقد أصبح جيش إيطاليا منهوك القوى، في أشد حالة من حالات الضنك، أما أبطال لودي، وميلليزيمو، وكاستيكليون، وباسانو فقد ماتوا في سبيل وطنهم أو هم في المستشفى، ولم يبقَ في الجيش إلا شهرتهم وفخرهم، لقد جرح جوبير، ولان، ولانوس، وفيكتور، ومورات، وشارلو، ودوبوي، ورامبون، وبيجون، ومينار، وشابران، أجل، إننا مهجورون في أطراف إيطاليا.
خسرت في هذه الحرب قليلًا من الناس، ولكن هذا القليل إنما هو صفوة رجال لا يعوض عنهم، أما الباقون لدي من الشجعان فإنهم ليرون الموت لا يخطئ في وسط حوادث غير منقطعة وقوات ضعيفة عاجزة، وقد تكون ساعة أوجرو الشجاع، وماسينا الباسل، وبرتيه، و… على وشك أن تدق، وبعد ذلك! وبعد ذلك! ما يحل بهؤلاء البسلاء؟ هذه الفكرة تجعلني متحفظًا، فلم أعد أجرؤ على مجابهة الموت! ولكن بعد أيام قلائل سنجرب عملًا أخيرًا، فإذا بَسَمَ لنا الحظُّ استولينا على مانتو وعلى إيطاليا.»
انظروا الآن كيف أن قاهر جميع هؤلاء المحاريين الألمان كان يتناسى أتعابه وانتصاراته أمام العاطفة المتأججة التي كان يقفها لامرأته، فقد كتب إليها من فيرون يقول: «إنني عدت أخيرًا إلى الحياة يا معبودتي جوزيفين، فالموت أصبح بعيدًا عني ولا يزال المجد والشرف في حنايا قلبي، لقد قُهر العدو في أركول، وغدًا نتلافى حماقة فوبوا الذي أهمل ريفولي، وبعد ثمانية أيام تصبح مانتو بين أيدينا فيتاح لي إذ ذاك أن أعطيك ألف برهان عن الحب المضطرم الذي يجول في عروق زوجك، أشعر الآن بتعب خفيف، وساعة تعود إلي الراحة أتجه إلى ميلان، لقد استلمت كتابًا من أوجين وهورتانس، فهذان الولدان هما في أبعد ما يكون من اللطف.
وفي ٢٩ برومير (١٩ تشرين الثاني)، أي ثالث يوم معركة أركول، قدم القائد المنتصر إلى مجلس الشعب علمًا عن تلك الموقعة العظيمة قال: «كنا رأينا من الموافق إخلاء قرية أركول، وقد توقعنا أن يهاجمنا العدو في مطلع الصباح، عندما برز الفجر الأول بدت طلائع الحرب في جميع الجهات، وقُيض لماسينا، الذي كان إلى اليسار، أن يشتت الأعداء ويطاردهم حتى أبواب كالديرو، وأتيح للقائد روبير، الذي كان في سد الوسط مع الفرقة الخامسة والستين أن يتعجل الأعداء بالحراب ويملأ بالجثث ساحة الحرب، فأشرت إلى المعاون فيال بأن يزحف على شاطئ الأديج مع فرقة من الجند ليحول ميسرة العدو، إلا أن هذا البلد ذو حواجز منيعة، فلم يستطع المعاون الشجاع، بالرغم من وثوبه إلى وسط المياه، أن يعمل عملًا كافيًا، واضطررت أن أصرف ليلة ٢٦-٢٧ في إلقاء الجسور على القنوات والبطاح، حتى تسنى للجنرال أوجرو أن يعبرها مع فرقته، في الساعة العاشرة من الصباح كنا مهيَّئِين: الجنرال ماسينا إلى الشمال، والجنرال روبير في الوسط، والجنرال أوجرو إلى اليمين، فقاتل العدو فرقة الوسط بشدة هائلة حتى قمعها، عند هذا، سحبت الفرقة الثانية والثلاثين ووضعتها في كمين في الغابات، وفي حين أوشك العدو أن يحول ميمنتنا، خرج القائد غارادن من كمينه فأخذ العدو من ورائه وأعمل فيه ذبحًا هائلًا، أما ميسرة العدو فقد كانت محصنة في بطاحٍ إلى ميمنتنا، فأشرت إلى الضابط هرقل بأن يختار خمسة وعشرين رجلًا من رفاقه ويزحف بهم نصف فرسخ على شاطئ الأديج، وبعد أن يعمل دورة البطاح التي تحصن ميسرة الأعداء يهوي بسرعة عظيمة على ظهر العدو نافخًا بأبواق عديدة.
هذه الحركة نجحت نجاحًا باهرًا؛ وجدت فرقة المشاة في ذهول غريب فعرف القائد أوجرو أن يستفيد من هذا الموقف، إلا أن الفرقة بقيت تقاوم بالرغم من تقهقرها حتى فاجأتها فرقة من ثمانمائة رجل فشتَّتَتْها تشتتًا، عند هذا، زحف الجنرال ماسينا الذي كان يرجع إلى الوسط قاصدًا قرية أركول، فاستولى عليها وطارد العدو حتى قرية سان بونيفاسيو، ولكن الليل حال بيننا وبين مواصلة السير إلى الأمام …
لقد أبدى القواد والضباط نشاطًا وشجاعة لا مثيل لهما، ولقد قتل منهم بين اثني عشر وخمسة عشر رجلًا، كانت المعركة هائلة جدًّا حتى لم تسلم ثياب أحد منهم من ثقوب الرصاص.»
إلا أن دالفانزي حاول أن ينهض من سقوطه مرة أخرى، فعاد مع بروفيرا عن طريق مضايق تيرول، على أن هذه المبادهة لم تكن إلا لتسبب انتصارات جديدة للجيش الفرنسي ولقائده؛ فإن موقعة ريقولي وموقعتي سان جورج والفافوريتا التي بقي النصر فيها أمينًا للعلم الجمهوري أجبرت بروفيرا على الخضوع مع فرقته، وذلك على مرأًى من ورمسر الذي سلم نفسه بعد ذلك في مانتو.
جاء في الأوراق التي ملأها بونابرت على قائده ده رووفيربلو في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من نيفوز عام ٥ (١٧ و١٨ كانون الثاني ١٧٩٧)، والتي تضمنت تفاصيل هذه الانتصارات الجديدة ما يلي: «في الرابع والعشرين، ألقى العدو جسرًا في إنكياري ومرت عليه فرقة حرسه على مسافة فرسخ من بورتولينياغو، وفي الوقت نفسه، أعلمني القائد جوبير، أن جحفلًا كثير العدد ينسل من مونتيانا ليحوِّل وجهته إلى الكورونا، فأدركت الخطة التي اتخذها العدو، ولم أشك في أنه يريد الهجوم على فرقة ريفولي ومن ثم يصل إلى مانتو، فأرسلت في الليل القسم الكبير من فرقة القائد ماخنا، واتجهت بنفسي إلى ريفولي التي بلغتها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
لم أتردد ساعة وصلت أن أعدت القائد جوبير إلى مركزه الخطير في سان ماركو، وأشرت بتجهيز قمة ريفولي بالمدافع، ونظمت كل شيء، حتى إذا ما جاء الفجر أكون قد أعددت المعدات القاهرة فأمشي بنفسي إلى العدو.
ولما كان الفجر الأول تلاقى جناحنا الأيمن وجناح العدو الأيسر على مرتفعات سان ماركو، وكانت الموقعة في أبعد ما يكون من الهول، على أنه كان قد مر ثلاث ساعات على الموقعة، من غير أن يبرز لنا العدو جميع قواته، بعد ذلك، أبصرنا فرقة من الأعداء، كانت قد اجتازت شاطئ الأديج بعدد كبير من المدافع، تسير على خط مستقيم إلى ريفولي لتستولي عليها، فأشرت إلى قائد الخيالة لوكليرك بأن يهيئ نفسه للهجوم على العدو إذا تمكن من الاستيلاء على مرتفع ريفولي، وأرسلت قائد الكتيبة لازال مع خمسين من الخيالة ليأخذوا العدو من ورائه ويهجموا عليه هجومًا شديدًا، في الوقت نفسه، كان القائد جوبير قد أنزل من مرتفعات سان ماركو، بعض كتائب كانت تخوض مرتفع ريفولي، أما العدو، الذي كان قد صعد المرتفع وهوجم من جميع أطرافه، فقد ترك عددًا غير قليل من الموتى وقسمًا من المدافع وآوى إلى وادي الأديج، وفي الوقت نفسه، كانت الكتيبة العدوة التي مضى عليها زمن طويل في الزحف إلينا لتقطع علينا خط الرجوع، قد اصطفت للحرب على رززٍ وراءنا، وأما أنا، فقد كنت احتفظت بالفرقة الخامسة والسبعين التي هجمت على الميسرة وشتَّتْتها بسرعة غريبة، وما هي إلا مدة، حتى قدمت الفرقة الثامنة عشرة، في حين كان القائد قد تمكن من مركز وراء الفرقة العدوة التي حاولت أن تأخذنا، فعاجلت العدو ببعض إطلاقات من مدافع ١٢ وأشرت بالهجوم، وما هي إلا ربع ساعة أو أقل حتى سقطت تلك الفرقة المؤلفة من نحو أربعة آلاف رجل أسيرةً في قبضة يدي.
صرفنا معظم ذلك الليل باستلام الأسراء من جميع الجهات، كان ألف وخمسمائة رجل يهربون بطريق غاردا، فأوقفهم خمسون رجلًا من الفرقة الثامنة عشرة الذين ساعة أبصروهم مشوا إليهم بثقة تامة وأمروهم بإلقاء السلاح.
كان العدو لا يزال مستوليًا على الكورونا إلا أنه لم يكن خطرًا، وكان علينا أن نسرع بالزحف إلى كتيبة القائد بروفيرا الذي كان قد عبر الأديج في الرابع عشر من الشهر، فأرسلت إليه القائد فيكتور مع الفرقة السابعة والخمسين الباسلة، وأرجعت القائد ماسينا، الذي وصل إلى روفير بللو في الخامس والعشرين مع قسم من فرقته، وعندما رحلت، أشرت إلى القائد جوبير بأن يهاجم العدو في مطلع الصباح، إذا تجاسر هذا على البقاء في كورونا.
كان القائد مورات قد زحف طوال الليل مع فرقة من المدفعية الخفيفة حتى إذا كان الصباح بلغ أعالي مونتيبالدو التي تكتنف الكورونا، أما العدو، فبعد أن قاوم مقاومة شديدة، لم يجد بدًّا من الاندحار.
لقد أسرنا في موقعتي ريفولي ثلاثة عشر ألف رجل وغنمنا تسعة مدافع.»
وجاء في وصف مواقع سان جورج وأنكيازي وفافوريتا التي شُهرت ضد القائد بروفيرا ما يلي: «في موقعة إنكياري الثانية تقدم قائد فرقة الرماحة النمسوية أمام فرقة الخيالة التاسعة وصرخ قائلًا: «سلموا»، فأوقف المواطن دو فيفيه فرقته وصرخ في القائد العدو قائلًا: «تقدم واقبض عليَّ إذا كنت شجاعًا!»
عند هذا توقفت الفرقتان، وانقض القائدان كل منهما على الآخر، فأصيب العدو بضربتَيْ حسام، وتقاتلت الفرقتان، فأسفرت النتيجة عن انكسار فرقة الرماحة وأسرها برمتها …
في السابع والعشرين، ساعة قبل طلوع النهار، هجم الأعداء على الفافوريتا في حين كان ورمسر يهجم على خطوط المحاصرة من سنت أنطوان، فقيض للقائد فيكتور وهو على رأس الفرقة السابعة والخمسين، أن يقهر كل من كان أمامه، واضطر ورمسر أن يعود إلى مانتو وهو يكاد يخرج منها تاركًا ساحة القتال ملأى بجثث القتلة وأسراء الحرب، إذ ذاك أشار سيروريه إلى القائد فيكتور وفرقته السابعة والخمسين، بأن يتقدموا إلى الأمام لكي يحصروا بروفيرا في ضاحية سان جورج ويضربوا حلقة عليه، كانت صفوف الأعداء في بلبلة وتشويش، فالخيالة والمشاة والمدفعية كانت كلها مختلطةً بعضها ببعض، فلم يثن الفرقة السابعة والخمسين حائل، فاستولت من جهة على ثلاثة مدافع، ومن جهة أخرى أنزلت خيالة العدو عن جيادها، في هذا الوقت، طلب القائد المحترم بروفيرا أن يسلم، وكان يثق بكرمنا وظل عند ثقته، فأوليناه التسليم مع شروط سأرسل إليكم تفاصيلها: ستة آلاف أسير بينهم جميع متطوعي فيينا، وعشرون مدفعًا، تلك هي ثمرة هذا النهار المشهود.»
إذن فجيش الجمهورية قد ربح في مدة أربعة أيام ثماني مواقع وخمسة وعشرين ألف أسير، بينهم ملازم عام وقائدان ومن اثني عشر إلى خمسة عشر أميرالاي إلخ، وغنم عشرين علمًا، وستين مدفعًا، وقتل أو جرح لا أقل من ستة آلاف رجل.
هذه البلايا العديدة هيأت ورمسر إلى تسليم لا مناص منه، وأفهمته أن حصار مانتو سينتهي أمره كما انتهت جميع مشاريع الجيش الجمهوري.
عندما وُضعت مسألة التسليم على بساط البحث أرسل القائد كلينو معاونه الأول إلى القائد سيروريه، الذي كان في روفيربللو، والذي لم يشأ أن يصغي إلى أي طلب كان من غير أن يبلغه إلى القائد العام، فمر في خاطر نابوليون أن يحضر المفاوضة متسترًا، فجاء إلى روفيربللو فالتف بمشلحه وجلس يكتب في حين كان كلينو وسيروريه يتناقشان، كان يعين شروطه التي سيقدمها إلى ورمسر، وعندما انتهى منها قال للقائد النمسوي الذي كان ولا ريب قد ظنه كاتبًا بسيطًا من فرقة الضباط: «لو كان لدى ورمسر مؤنة ثمانية عشر أو عشرين يومًا لا غير وفاوض في أمر تسليمه لما كان استحق شرطًا واحدًا من الشروط المكرمة.» ثم أدى الورقة إلى سيروريه وهو يقول: «هذه هي الشروط التي أمنحه إياها، ستقرأ فيها أنني أهبه حريته الشخصية؛ لأني أحترم شيخوخته ومزاياه؛ ولأني لا أود أن يصبح ضحية أصحاب الدسائس الذين يعملون على إهلاكه في فيينا، فإذا فتح أبوابه غدًا تبقى له الشروط التي كتبتها الآن، وإذا تأخر خمسة عشر يومًا أو شهرًا أو شهرين تبقى له أيضًا الشروط نفسها، إنه يستطيع فيما بعد أن ينتظر حتى آخر قطعة من الخبز، إنني مسافر في الحال لأعبر البو، وزاحف إلى روما، لقد عرفت مقاصدي فاذهب وبلغها إلى قائدك.»
بعد ثلاثة أيام من تسليم مانتو اتجه نابوليون إلى إيطاليا مع فرقة من الجنود، ونشر في بولونيا في السادس من شهر شباط عام ١٧٩٧ نداءً نأخذ أوله: «إن الجيش الفرنسي سيدخل إلى أراضي البابا، وسيحمي الدين والشعب.
إن الجندي الفرنسي يحمل بيده حسامًا هو أكبر ضامن للنصر، ويرفع بالأخرى إلى مختلف المدن والقرى سلامًا وحمايةً وأمانًا … فالويل للذين يحتقرونه أو يخدعهم بعض رجال خبثاء قتلة فيجرون إلى بيوتهم الحرب وأهوالها، وانتقام جيش قيض له في ستة أشهر أن يأسر مائة ألف رجل من أشد كتائب الإمبراطور، ويغنم أربعمائة مدفع، ومائة وعشرة أعلام، ويتلف خمسة جيوش …»
لم تستطع مقاومة السدة الرسولية أن تكون شديدة، فأسرع بيوس السادس بطلب السلم إلى القائد الجمهوري فمنحه إياه بمعاهدة كتبت في التاسع من شهر شباط وتحت الشروط الآتية: أولًا: يتخلى البابا عن جميع مطاليبه من أفينيون والكونتية الفينيسيانية، ثانيًا: يتنازل إلى الأبد عن بولونيا وفيرار ورمانية للجمهورية الفرنسية، ثالثًا: يتخلى عن جميع الأشياء الفنية التي يطلبها بونابرت، مثل أبولون لبيلفيدار، والتجلي لرافائيل إلخ … رابعًا: يرمم المدرسة الفرنسية في روما ويدفع ضريبة حربية قدرها ثلاثة عشر مليونًا إما من فضة وإما من أشياء ثمينة، فأضاف البابا بيوس السادس على هذه الشروط، في الثاني والعشرين من شهر شباط، براءة ممتازة وهب فيها بونابرت لقب «ولدي العزيز».
إلا أن البلايا العديدة التي لحقت بالجيوش النمسوية، كانت قد أذلت وأحزنت ديوان البلاط النمسوي، من غير أن تقمع حقده على الثورة الفرنسية أو أن توحي إليه أفكارًا سلمية، وبالرغم من الوهن الذي ألحقته به الحرب، بقي مصرًّا على خرق المقدر والهجوم ببقايا جيوشه العديدة على السلطة المنتصرة، التي كثيرًا ما شتتت كتائبه وقضت عليها أيام كانت هذه الكتائب في قمة سطوتها وآمالها، فأُرسل الأرشيدوق شارل إلى إيطاليا ليستلم فيها القيادة العامة للكتائب الإمبراطورية ويعالج ترميم نكبات سلفائه.
أيها الجنود
إن الاستيلاء على مانتو قد وضع أوزار موقعة أكسبتكم حقوقًا خالدة على الوطن العارف الجميل.
لقد انتصرتم في أربع وثمانين موقعة، وأسرتم أكثر من مائة ألف رجل، وغنمتم من الأعداء خمسمائة مدفع وألفي بندقية وأربعة قُطُر جسور.
إن الضرائب التي فرضت على المدن التي غزوتموها قد أطعمت الجيش طوال الجهاد وصانته ودفعت حسابه، وفوق ذلك فقد أرسلتم ثلاثين مليونًا إلى الوزارة المالية لإعانة بيت المال.
لقد زينتم متحف باريس بأكثر من ثلاثمائة رائعة من روائع إيطاليا القديمة والحديثة التي استوفت ثلاثين قرنًا لإنتاجها.
لقد فتحتم في وجه الجمهورية أجمل جهات أوروبا، وجمهوريتا لومبارديا وترانسبادانيا مدينتان لكم بتحريرهما، إن الأعلام الفرنسية تخفق للمرة الأولى على شواطئ البحر الأدرياتيكي على بعد أربع وعشرين ساعة من مكدونيا القديمة، وملوك سردينيا ونابولي، والبابا والدوق ده بارم قد انفصلوا جميعهم عن عصبة أعدائنا وسعوا إلى اكتساب صداقتنا، لقد طردتم الإنكليز من ليفورن وجنوا وكورسكا … ولكن لم تنهوا كل شيء بعد، فأمامكم قدرٌ محفوظ، وعليكم وحدكم يلقي الوطن أعز آماله، وإنكم لتحققون تلك الآمال.
لم يبقَ في وجهنا من جميع الأعداء الذين اتحدوا ليخنقوا الجمهورية في مهدها إلا الإمبراطور لا غير، فهذا الأمير ينحط عن مرتبة سلطة عظمى ويستنْدِي أكفَّ تجار لندن، لم يبق له إرادة ولا سياسة إلا سياسة هؤلاء الجزارين الغدارين الذين، وهم غرباء عن مصائب الحرب، يبسمون بغبطة لأوجاع أوروبا.
إن المجلس التنفيذي لم يستبقِ شيئًا ليلقي السلم في أوروبا، وإن مطاليبه المعتدلة لم تشعر بقوة جيوشه، إنه لم يستشر شجاعتكم، بل استشار الإنسانية والرغبة في إرجاعكم إلى بيوتكم، إذن، فلم يبق من أمل في السلم، إلا بالبحث عنه في قلب ممالك البلاط النمسوي الموروث، ستجدون هناك شعبًا باسلًا نهتكه الحرب الحالية، إن سكان فيينا وممالك النمسا يئنون من غباوة حكومتهم، فليس فيهم واحد لا يدرك أن ذهب إنكلترا قد أفسد وزراء الإمبراطور، ستحترمون دينهم وعاداتهم وتصونون أملاكهم؛ فالحرية هي التي تحملونها إلى الأمة الهونغرية الباسلة.
إن البيت النمسوي، الذي مر عليه ثلاثة قرون وهو يفقد في كل حرب قسمًا من سلطته، والذي يُغضب شعوبه بتجريدهم من امتيازاتهم، سيُرى في نهاية هذه الحملة السادسة، مضطرًّا على قبول السلم الذي نهبه إياه، وعلى الهبوط إلى مصاف السلطات الثانوية حيث سبق لها أن استوت بوضع نفسها تحت رهون إنكلترا ومقاصدها.
عندما قُهر الأمير شارل وطن النية على الرجوع، ولم يقيض له ذلك إلا بعد أن قاسى انكسارات يومية في معارك لافي، وترامين، وكلوزين، وتارفي، وكراديسا، وفيللاك، وبالمانوفا إلخ …
وفي الواحد والثلاثين كان نابوليون في الكلاجنفور عاصمة الكارنثي، عندما دخل إلى هذه المقاطعة، وجه نداءً إلى الأهلين يدعوهم فيه إلى اعتبار الفرنسيين كمنقذين لا كأعداء، قال: «إن الشعب الفرنسي إنما هو صديق الشعوب كلها وخاصةً شعوب جرمانيا البسلاء … إنني إنما لا أجهل أنكم تمقتون الإنكليز بقدر ما نمقتهم، فهم الذين يستميلون وحدهم وزارتكم التي بيعت لهم.»
كان نابوليون، في وسط هذه الانتصارات، يراقب عدوًّا سريًّا يرقب فرصة سانحة للانفجار: كان هذا العدو مشيخة البندقية، فهذا الحزب الأريستوقراطي المخلص لحزب الملوك ضد الثورة الفرنسية، كان يهيج القتل ويحث عليه في إيطاليا العليا وأراضي البندقية ضد الجيش الجمهوري، فكتب بونابرت إلى رئيس مشيخة البندقية ما يلي:
«إن جمهورية البندقية لتحت السلاح، وإن صراخ الفلاحين المتحدين الذين سلحتموهم يرتفع من جميع الجهات بهاتين الكلمتين «الموت للفرنسيين»، وقد سقطت مئات عديدة من جنود جيش إيطاليا ضحية هؤلاء، إنكم تنكرون عبثًا جموعًا نظمتموها، أو تعتقدون أن وجودي في قلب ألمانيا يعجزني عن جعل أول شعب في العالم محترمًا ومكرمًا؟ أتعتقدون أن جوقات إيطاليا تتحمل المذبحة التي تهيجونها؟ ألا إن دم إخوتي الجنود ليؤخذ ثأره، فليس في العسكر الفرنسي من إذا عهد إليه بمثل هذه الخدمة النبيلة لا يشعر بقوته وشجاعته تتضاعفان وتثوران، لقد أجابت مشيخة البندقية بأفظع ما في نكران الجميل على المعاملات الكريمة التي كثيرًا ما عاملناها بها، إنني مرسل إليكم رسالتي هذه مع معاوني الأول، فالحرب أو الصلح، وإذا لم تعجِّلوا في تدبير الوسائل لتبديد الجموع، وإذا لم توقفوا مسببي القتل الذي حدث وتدفعوهم إليَّ شهرت الحرب، إن الأتراك ليسوا على حدودكم، وما من عدو يهددكم، فلقد تعمدتم خلق حجج لتنظموا جمعًا توجهونه ضد الجيش، ولكنه سينحلُّ في أربع وعشرين ساعة، إننا لسنا اليوم في عهد شارل الثامن، أما إذا اضطررتموني على شهر الحرب، بالرغم من أمنية الحكومة الفرنسية الصريحة، فلا يخالجكم إذ ذاك أن الجنود الفرنسيين سينهجون نهج الجنود الذين سلحتموهم فيدمرون سهول شعب إيطاليا البريء التعس، بل إنني لأحميه، وسيأتي يوم يبارك فيه حتى الجرائم التي أجبرت الجيش الفرنسي أن ينفصل عن حكومتكم الطاغية.»
في السابع من شهر نيسان عقدت هدنة في جودنبرج، إن الأمير شارل عندما رأى نفسه غير قادر على إدارة الحملة، وعندما رأى أن مضايق نومارك ومركز هوندمارك يشغلها ماسينا، بدأ يفهم أن صلابة الديوان النمسوي الملكية لم تبق في أوانها، أما نابوليون، الذي كان قد اعتمد على مساعدة جيش سامبري-موز ثم علم أن هذا الجيش لم يتحرك ولن يتحرك؛ فإنه لم يكن ليجرؤ على مجاوزة سيميرنك خشية أن يتقيد وحده، من غير عضد، في داخل ألمانيا، وعندما استلم تبليغ مجلس الشعب، الذي أعلمه رسميًّا أن جيشي الرين وسامبري-موز لا يقومان بالعمل الذي أشعر بأهميته وضرورته، خف للكتابة إلى الأرشيدوق ليعرض له اقتسام المجد بتسكين أوروبا وإيقاف التضحيات العديدة التي تكلفها الحرب للنمسا وفرنسا، قال: «إن الجنود البسلاء يشهرون الحرب ويرغبون في السلام، أما هرقنا كثيرًا من دم الناس وسببنا كثيرًا من الأوجاع للإنسانية الحزينة؟ … وأنت، أنت الذي اقترب من العرش منذ ولادته، والذي يقوم فوق صغائر الشهوات التي تنعش الوزراء والحكومات، أتُراكَ عازمًا على أن تستحق لقب المحسن إلى الإنسانية جمعاء ومنقذ ألمانيا الحقيقي؟ … أما أنا، يا حضرة القائد العام، فإذا قدر لهذه الفاتحة التي أرفعها إليك الآن أن تنقذ حياة رجل واحد، أجد نفسي أكثر فخرًا بهذا الإكليل الشريف الذي أكون قد استحققته من المجد المحزن الذي يُكتسب بالانتصارات العسكرية.»
هذه الطوية الساكنة التي تضمنتها الرسالة، لم تلبث أن انتشرت في فيينا، فهدأت بعض التهدئة الكآبة التي أشاعها دنو العلم الجمهوري، فأسرع الإمبراطور بإرسال السفير النابوليتاني كاللو إلى بونابرت، وكانت هدنة جودنبرج نتيجة هذا العمل.
استفاد نابوليون من خلو البال الذي قيضته له الهدنة ليتشكى إلى مجلس الشعب من نوع «السلاح الذراعي» الذي قدر للجيوش الألمانية أن تعتمد عليه، في حين كان هو يقاتل ضد القوات النمسوية جميعها بوسائل ضعيفة جدًّا.
في السادس والعشرين من جرمينال (نيسان ١٧٩٥) فُتحت المداولات في ليوبن، ووقت فيها فواتح الصلح في التاسع والعشرين، قال نابوليون للمفوضين النمسويين: «إن حكومتكم قد أرسلت ضدي أربعة جيوش من غير قواد، وهذه المرة قائدًا من غير جيش»، وعندما بين له هؤلاء المفوضون في رأس المعاهدة المرسومة أن الإمبراطور كان يعترف بالجمهورية الفرنسية صرخ بشدة قائلًا: «إن وجود الجمهورية لأوضح من نور الشمس، فبندٌ كهذا لا يجوز إلا على العميان.»
كان وقت التفكر في شأن البندقية قد حان، أسرعت هذه الجمهورية إلى أمام الخطر الذي كان يهددها؛ إذ إن أشرافها المتحدين مع النمسا التي كانت تنتظر تحت ظل اتفاقية ليوبن أن يسرع إلى نجدتها بعض القتلة الجبناء وينقذوها من قاهر قُيض له أن ينتصر بشجاعة جنوده القدماء، قلنا إن هؤلاء الأشراف، المتحدين مع إكليروس إيطاليا أشاعوا عاطفة الهيجان في شعوب نواحي الأدرياتيك الجهلاء، وذبحوا عددًا كبيرًا من الفرنسيين في فيرون، في وسط أعياد الفصح، كان رجال الدين، وقد نسوا مهمة السلام والمحبة التي نذورا لها، يعظون بغضب قائلين: إنه من المسوغ، لا بل من الحق أن يُقتل الجاكوبيون.
أسرع نابوليون حالًا ليوقف الهيجان والمذبحة في فيرون، ويثأر من الإكليروس الظالمين، في مساء ذلك الهيجان قال بونابرت لرفيقه القديم بوريتي، الذي كان قد جعله كاتم أسراره الخاص، والذي كان أوشك أن يُقتل تحت الخناجر وهو قادم إليه: «كن مطمئنًّا، فهؤلاء الملاعين سيدفعون ثمن فعلتهم غاليًا»، بعد أيام قلائل كتب إلى مجلس الشعب يقول: «إن العمل الوحيد هو أن تُمحق هذه الحكومة الدموية المتوحشة، وأن يمحى الاسم البندقي من سطح الكرة.»
حاول رجال حكومة بريسيا وبرغام وكريمون عبثًا أن يصنفوا صور دعاويهم التي انطوت على أن الفرنسيين هم الذين هيجوا التعديات التي ذهبوا ضحاياها، وقد رفع بونابرت تكذيبًا علنيًّا في منشور كان حكم الإعدام على الأريستوقراطية البندقية، وتضمن ختامه هذه المطاليب الآتية:
«إن القائد العام يأمر جميع وكلاء الجمهورية البندقية في لومباردية أن يخلوها في مدة أربع وعشرين ساعة، ويأمر جميع قواد الفرق أن يعاملوا كتائب الجمهورية البندقية معاملة أعداء، ويحطموا أسد سن مارك في جميع المدن.»
نُفذ هذا الأمر تنفيذًا مطلقًا، فاستولى الخوف والقلق على مجلس البندقية الأعلى فاستعفى من الحكم، وأرجع الرئاسة إلى الشعب الذي عهد بتدريب السلطة إلى مجلس بلدي، وفي السادس من شهر أيار غُرس العلم المثلث الألوان في ساحة سن مارك بيد القائد باراغاي ديلليه، وسَرَت الثورة الديموقراطية الصرفة في جميع الممالك البندقية، ولقد عُهد إلى داندولو، وهو محام في البندقية نزل من نفس بونابرت منزلة سامية، بإدارة هذه الحركة، وأما أسد سن مارك وجياد كورنثيا التي زينت قوس نصر ساحة كاروزيل فقد نُقلت جميعها إلى باريس.
من الواضح أن فوز نابوليون السريع كان يقلق مجلس الشعب؛ إذ إنه شعر بالإمبراطور في قاهر إيطاليا، ولقد اعترف هو نفسه في سنت هيلين، أنه منذ موقعة لودي، صور له أنه يستطيع أن يكون ممثلًا جازمًا على المسرح السياسي. قال: «عندئذٍ ولدت في نفسي أول شرارة من شرارات الطمع السامي.»
أما المديرون الذين بَصُروا بتلك الشرارة، والذين كانوا يخشون أن تحرق البناء الجمهوري الذي يشغلون قمته، فقد عاكسوا انتشارها ونموها بما أوتوه من الحسد الشخصي والفطرة الديموقراطية، لقد كانوا ينظروا بألم إلى أن عرفان الجميل العمومي وإعجاب أوروبا جمعاء سيؤديان إلى انضمامهم تحت سيطرة رجل واحد، ولم يكونوا ليرغبوا في إعطاء هذا الرجل الوسائل لتطفيح كيل هواه بدخوله إلى فيينا دخول المنتصر على رأس جيوش الجمهورية جميعها، وأما نابوليون فقد حذر كل ذلك منهم كما حذروا هم منه، وأظهر استياءه من هذا التصرف في جميع رسائله ومطارحاته، إلا أن مجلس الشعب استطاع قدر إمكانه أن يكتم الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى هذا التصرف، ما جعل الجنرال بونابرت، قائد جيش الداخلية بعد فنديميير، أن يرسم ويترك في خزانة أوراق الحرب خطة حملة تحدد نهاية المشاحنات على قمة سيميرنك، هكذا كان قد وضع بنفسه ذلك الحاجز الذي يضطرم اليوم لقطعه، إلا أن قاهر الأمير شارل وجب أن يكون ذا أفكار ونظرات أرحب وأسمى من أفكار قاهر الباريسيين ونظراته.
تعب نابوليون في نهاية الأمر من القيود التي كبل بها زعماء الجمهورية تنفيذ خططه وسئم بطء مداولي النمسا، فقال: إنه سيستعفي من قيادة جيش إيطاليا ويأخذ لنفسه بعض الراحة التي زعم أنه بحاجة إليها، لم يكن ذلك سوى تهديد هو بعيد الرغبة عن تحقيقه، كان يعرف كل المعرفة أنه لا يمكنهم الاستغناء عنه بعد الخِدَم التي أداها، والمواهب العظمى التي أبرزها وبرهن عنها، واستمالة قلوب الشعب التي كسبها، وكان خبر استعفائه ينبئه بحادث سياسي خطير يعرِّض للخطر الحكومة التي دعت إليه بظلمها وقبلته بفطرة نكران الجميل والحسد.
إلا أن هذا التهديد لم يكن إلا تهديدًا كاذبًا، فاكتفى نابوليون بالتظلم والشكوى واسترجع موقفه الفخور وصوته العالي في مراسلاته الرسمية، وبعد أن صرح أن المداولات مع الإمبراطور إنما أصبحت عملًا عسكريًّا، تظاهر بأنه قد تشبع من المجد ليؤكد للمعجبين به، لمزاحميه ولأعدائه، أن مصالح فرنسا لا مصالحه الخصوصية كانت المحرك الوحيد للنشاط العظيم الذي أبداه، قال في إحدى رسائله: «لقد وثبت على فيينا بعد أن ربحت من المجد فوق ما تقتضيه شروط السعادة، وبعد أن تركت ورائي سهول إيطاليا الجميلة، وأطعمت الجيش الذي عجزت الجمهورية عن إطعامه.»
قُيِّض لمجلس الشعب، فوق ذلك، أن يعضده هيجان السياسية الداخلية في وسط حسده ومخاوفه، كانت الرجعة الترميدورية قد أنعشت الملكية التي أنهضتها الانتخابات من سقوطها في فندميير، وكان من الأمر الطبيعي أن يهاب الحزب المعاكس الثورة تفوُّق القائد الذي كان قد أنقذ الجمهورية بخمسين فوزًا، والذي كان مجده وشهرته ووجوده متصلة جميعها بإنقاذ الثورة ورقتها، أما خطباء هذه الحرب وكتبته فقد استفادوا من حرية المنبر والصحافة، تلك الحرية اللاحدَّ لها، لكي يذيعوا كل نوع من أنواع الضجيج ويشيعوا الظنون المعيبة عن خلق نابوليون ومقاصده، وأما مجلس الشعب فقد فسح لهم في كل ذلك، وأخذوا يكتبون في الجرائد والرسالات ويخطبون في المجالس والمجتمعات أن حكومة البندقية إنما هي ضحية خداع القائد الفرنسي ومهيجاته السرية، وأن جميع تلك المذابح لم تكن سوى حوادث مستدركة هيأها الجيش الجمهوري بغدر ومخاتلة.
بُلِّغ نابوليون جميع تلك الحملات والمقاصد الرديئة فكتب إلى مجلس الشعب يقول: «كان يحق لي، بعد أن عقدت الصلح خمس مرات وضربت الحزب ضربة قاضية، أن أعيش هادئًا مطمئنًّا، هذا إذا لم يكن لي حق في الانتصارات الوطنية ومساعدة حكام الجمهورية الأولين، واليوم أراني محفوفًا بالوشايات من جميع أقطاري، مضطهدًا، مهتوك الحرمة، تعزى إليَّ جميع المعائب التي في وسع السياسة أن تتهم بها من ترغب في اضطهاده …
ماذا! ألم يعمل الخائنون فينا القتل؟ ألم يمت منا أكثر من أربعمائة رجل؟ إنني إنما أعرف أن هناك جمعيات يصرخون فيها: هل هو طاهر نقي هذا الدم؟ … لو كان هذا الصراخ صادرًا من أفواه رجال جبناء ماتت في صدورهم عاطفة المجد والوطنية لما اكترثت قط، ولما حدثتني النفس يومًا بالتشكي، إلا أني أجدني جديرًا بالتظلم من المهانة التي يلطخ بها حكام الجمهورية الأولون هؤلاء الذين رفعوا عاليًا مجد الاسم الفرنسي.
كان نابوليون قبل مدة كتب إلى كارنو يقول: «لقد استلمت كتابك، يا عزيزي المدير، في ساحة قتال ريفولي، إنني لا أجهل ما يتشدقون عني، فكلٌّ يعزو إليَّ ما يسنح له في خاطره، ولكني أعتقد أنك تعرفني حق المعرفة، فلا يخطر لك أن باستطاعة أحد كائنًا من كان أن يؤثر علي، إن من الرجال من يستشعر الحقد لحاجة، ومنهم من إذا عجز عن قلب الجمهورية يجد عزاءً في بذر الفتن والشقاق في جميع الجهات التي في وسعه أن يبذرها فيها، أما أنا، فمهما قالوا لن يؤثر بي؛ إذ يكفيني احترام عدد صغير من الرجال أشباهك، من رفاقي المخلصين والجنود البسلاء، ولا سيما عاطفة ضميري وَرُقِي وطني.»
ثم أخذ على نفسه أن يرد على افتراءات الحزب الكليشياني، ونشر في الجيش كلمةً باسم مستعار تدحض جميع مزاعم الملكيين الكاذبة وتؤيد الحقيقة من جميع أقطارها.
هذا النوع من المداولة، الذي يثبت ما قاله نابوليون عن قلة استعداده في فن المداولة، حال دون بلوغه النتيجة التي كان وعد نفسه بها، إلا أن الفظاظة في مثل هذه الظروف إنما هي حذاقة ومهارة، كان يجب أن يوضع حدًّا لذلك البطء والتردد الغدار اللذين كان الديوان النمسوي يستشعرهما في مواقفه، ثم إن الحدة التي أبداها بونابرت في سحقه هدية الملكة كاترين، خدمت مصالح فرنسا أكثر مما تستطيعه حيلة رجل من رجال البلاط.
كان على جيش إيطاليا الذي انتصر في مواقع عديدة تحت ظل العلم الجمهوري والقائد العظيم الذي قاده من نصر إلى نصر، كان عليه أن يوقظ انتباه الفئتين، مخاوف الأولى وآمال الأخرى، أما نابوليون، الذي اضُطهد وافُتري عليه قبل هنيهة، وجد نفسه مطلوبًا ومملقًا من جميع الجهات، حتى إن ترونسون ديكودراي، أحد خطباء الأكثرية الملكية، لم يخشَ أن يلقب رامي قنابل ١٣ فنديميير بلقب «بطل» قائلًا: «إنه تفرد بالذكاء في المداولة بعد أن ضاهى في ثمانية أشهر أعظم الرجال في الفن العسكري.»
إلا أن هذا المديح، الصادر من رجل حاذق ذي غرض، لم يكن ليحجب الحقد الذي يغذيه حزبه في جرائده ومنتدياته ضد القائد العام لجيش إيطاليا، وكان أوبري، عدو بونابرت القديم، أحد مديري مجتمع كليشي، فأخذ يطلب بصراخ مرتفع عزل نابوليون وإيقافه، وقد عضده في ذلك بعض الخطباء والساخطين، كان نابوليون يحتقر مجلس الشعب الذي لم يكن يحترم فيه سوى رجل واحد وقف على خِدَمه الصادقة ومقدرته الصحيحة، وهذا الرجل هو كارنو الذي انفصل عن أكثرية مجلس الشعب بعد أن خالجته شكوكٌ فيه.
كان نابوليون قد عزم على الزحف إلى باريس مارًّا من ليون على رأس خمسة وعشرين ألف رجل، ولكان حقق هذا العزم لو بقي الفوز حليفًا للكليشيين في العاصمة، والذي دفعه إلى وضع سيفه العظيم إلى جهة المديرين ضد أكثرية الأحزاب الملكية هو اكتشاف خيانة بيشاغري الذي كان يدير تلك الأكثرية، والذي كُشفت مؤامراته المجرمة مع الخارج في أوراق الكونت دانتريك، وهو ملكي ذو دسائس هائلة قبض عليه في ممالك البندقية ثم أخلي سبيله في ميلان فهرب إلى سويسرا حيث نشر رسالة فضَّاحة بحق نابوليون.
قال نابوليون لجنوده ساعة غضب على الحزب الخارجي: «ليست طريق باريس أكثر عقبات من طريق فيينا، فستنفتح لنا على يد الجمهوريين الذين لا يزالون أمناء على الحرية، عندما أتيح لنا النصر على أبواب فيينا، كان بعض الرجال الغادرين المشبعين بالجرائم يأتمرون علينا في باريس!
اضطربوا أيها الذين حقروا نصراء الجمهورية وتوعدوهم بالموت! فمن الأديج، إلى الرين، إلى السين خطوة واحدة، فاضطربوا! إن مظالمكم لعديدة وثمنها في أطراف حرابنا!»
أما الدراهم التي طلبها باراس على يد كاتم أسراره بوتو فقد وعده نابوليون بإرسالها إلا أنه لم يدفعها قط، وبعث معاونه لافاليت إلى باريس لما عهد فيه من الحمية والذكاء للوقوف على كل ما يجري هناك وفوق ذلك للعمل بحسب ما تقتضيه الظروف.
فقال نابوليون: ألم يفضِ مورو بشيء من ذلك إلى مجلس الشعب؟
– لا.
– إنها لجريمة إذن! فالسكوت مشاركة في الذنب عندما يكون الأمر متعلقًا بسقوط الوطن.
وبعد الثامن عشر من فروكتيدور، عندما صدر أمرٌ بنفي بيشاغري، رفع مورو شكواه عليه وألحق به عارًا فظيعًا، فقال نابوليون: «إنه لقد خان الوطن بالتردد في رفع شكواه حتى الآن، وأرهق تعسًا برفعها بعد حين.»
لا تسل عن الفرح الذي ملك نابوليون عندما تناهى إليه خبر انكسار الكليشيين ونفيهم، الذي أرسله إليه أوجرو في هذه الكلمات: «وأخيرًا، يا قائدي، لقد انتهت خدمتي وتمت وعود جيش إيطاليا في هذه الليلة.»
إلا أن مجلس الشعب، عندما رأى نفسه قد تملص من الملكيين، رجع إلى حسده السري الجاحد الذي كان من قبل، وبالرغم من معرفته فكرة القائد فيما يتعلق ﺑ ١٨ فروكتيدور، بعد أن استلم جميع البرقيات التي كانت تطالب بقلب الحكومة مطالبة شديدة جدًّا، لم يجد بدًّا من أن يذيع في باريس ومنها في الجيش أن رأي بونابرت رأي مريب، ولكي يثقل الريبة هذه، عهد إلى أوجرو بأن يحمل هو نفسه إلى جميع قواد الفرق، النشرة التي كان على القائد العام وحده أن يرسلها إليهم، أما نابوليون فعندما بلغه ذلك، أسرع بإبداء استيائه من هذا التصرف المَشين، فكتب إلى مجلس الشعب يقول: «لا شك في أن الحكومة قد نهجت معي كما نهجت مع بيشاغري بعد فنديميير عام ٤، فأرجو منكم أن تنيبوا أحدًا عني وتمنحوني استعفائي، إنه ما من سلطة على الأرض سيتاح لها أن تبقيني في الخدمة، بعد نكران الجميل الذي أبدته الحكومة نحوي، ذلك النكران الشائن الذين لم أكن لأتوقعه قط، إن صحتي المثقلة تتطلب راحةً وسكونًا، ثم إن حالة نفسي لفي حاجة إلى أن تمتزج بكتلة الوطنيين، فمنذ زمن طويل وفي يدي سلطة عظمى استخدمتها في جميع المواقف حبًّا بالوطن وفي سبيله، ألا إن الحيف لواقع على الذين لم ينزلوا عند الفضيلة في شيء، وعلى الذين قد يتاح لهم أن يشتبهوا في فضيلتي! أما جزائي فهو في ضميري وفي آراء الأجيال …»
أما مجلس الشعب الذي كان يشعر بأنه لا يقوى على مقاومة نابوليون مقاومة مستقيمة فإنه بقي متسترًا في خداعه، وأرسل بعض الإيضاحات إليه ليسكن موجدته قال فيها: «حذار من المؤامرات الملكية أن تحاول رمي السأم والمقت في نفسك، في حين أنها قد تكون مزمعة على تسميم هوش، مخافة أن يسلخ المقت والسأم مساعي نبوغك من الوطن.»
وأما نابوليون، الذي لم يكن في الحقيقة متضجرًا من القيادة العامة، فقد تظاهر بقبول تلك الإيضاحات الخداعة، وأخذ يتراسل وأعضاء مجلس الشعب ووزراءه فيما يتعلق بأغراض الحرب، وشروط الصلح، وأهم مسائل السياسة العامة، كتب إلى فرنسوا ده نوشاتو يقول: «إن مستقبل أوروبا إنما هو في الوحدة والحكمة وقوة الحكومة، فحكمٌ من المجلس التنفيذي يهدم العروش، إذن فيجب أن تعملوا على جعل بعض الكتبة المستأجرين وبعض الطماع المتعصبين الذين يتسترون تحت أقنعة مختلفة يكفون عن إغراقنا بعد في سيول الثورة.»
إنه لمن الغرابة أن يُرى تاليران، الذي عاون بقوة عظيمة على إصعاد البوربونيين إلى العرش، والذي كانت ميوله الأخيرة جانحة نحو السلالة الأورليانية، إنه لمن الغرابة أن يُرى معلنًا لإمبراطوره المزمع، للصنم الذي رفع إليه البخور ثم حطمه: «إن موتًا سريعًا قد لُفظ ضد أي رجل يفكر في إرجاع الملكية، أو شرائع الأورليانيين!»
تلقى نابوليون هذه المقدمات، من رئيس الحزب الذي كان فيما مضى يلقب بحزب الشارعين، أجل تلقاه كرجل يسعى إلى إعطاء طماعيته الكبرى دعائم مكينة ويعد لها معدات قوية، كان يشعر بأن ساعته لم تأتِ بعد، إلا أنها ستأتي، وكان يسعى في جذب الرجال إليه ليحركهم، كما يرغب، عندما تقتضي الظروف ذلك.
إن من يفكر في الفوضى التي كانت مالكةً في فرنسا قبل ١٨ فروكتيدور وبعده، وفي ملاحظات أمناء السلطة وفساد البعض وسخافة البعض الآخر، يصبح من المسوغ له أن يعتقد أن نابوليون إنما كان كثير التحفظ أو كثير المخاوف، وأنه لم يكن ليثق كل الثقة بتأثير اسمه وبملل الأحزاب، عندما تراجع في وجه الانقلاب في الحكومة الذي كان يتأمله ويفكر فيه، والذي نفذه فيما بعد بنجاح عظيم، ولكن تراءى له أنه من الواجب أن يرحب بعد شهرته بعجائب أخر، وأن يترك ملل الكتلة الشعبية يزداد وينمو في وسط زوابع الديموقراطية، قد يكون بدأ منذ ذلك الحين يفكر في غزو مصر، هذا ما ظنه كثير من الناس، بعد أن قرءوا النداء الذي وجهه إلى بحارة أسطول الأميرال بروه في السادس عشر من أيلول عام ١٧٩٧، ذلك النداء الذي مجَّد فيه انتصار مجلس الشعب على «الخائنين والمهاجرين الذين استولوا على المنابر»، قائلًا لهؤلاء البواسل: «إننا لولاكم لا نستطيع أن نحمل مجد الاسم الفرنسي إلا إلى زاوية صغيرة من زوايا أوروبا، وإننا معكم إنما يتاح لنا أن نجتاز البحار ونحمل العلم الجمهوري إلى أبعد جهات العالم.»
لكي يحقق هذا العزم، وجب أولًا أن يعقد الصلح في أوروبا جمعاء، أما النمسا التي هدم ١٨ فروكتيدور آمالها، تلك الآمال المؤسسة على ثورة في داخل فرنسا، فلم تكن لتستطيع بعد أن تؤجل سير المداولات، إلا أن مجلس الشعب، الذي كان منتفخًا بفوزه على الملكيين المتحدين مع الإمبراطور، إنما كان يُظهر استعدادًا حربيًّا، فكتب إلى بونابرت يقول: «يجب أن لا يتساهل مع النمسا بعد؛ فإن نكرانها ومساعيها مع متآمري الخارج إنما هي واضحة.» غير أن هذه الأوامر الحربية لم تكن قط لتدخل في نظريات القائد العام، ودفعه دنو الشتاء إلى الإسراع في عقد الصلح، قال لكاتم أسراره: «يقتضي لجيوش الرين أكثر من شهر لتتمكن من مساعدتي، إذا كانت متأهبة لذلك، وبعد خمسة عشر يومًا تتراكم الثلوج فتسد المعابر والطرق، لقد عزمت على عقد الصلح، وستدفع البندقية كلف الحرب وحد الرين، فليقل مجلس الشعب والمحامون ما يريدون.»
وعُقد الصلح في كامبو-فورميوو في السادس والعشرين من فنديميير عام ٦ (١٧ تشرين أول عام ١٧٩٧)، وكان من أولى شروط الاتفاقية إنقاذ الأسرى أولمز، ولافاييب، ولاتور موبور، وبورو ده بوزي، كان نابوليون يجري جميع ذلك بمقتضى تعليمات مجلس الشعب.