الفصل الخامس
بينما كان دوزه يطارد مراد بك في مصر العليا كان نابوليون مهتمًّا في القاهرة بوضع وكالة منظَّمة في المقاطعات المصرية، إلَّا أن إبراهيم باشا، الذي كان قد حمل على سوريا، أرغم الفاتح الشارع بما أتاه من ضروب الحركات على تَرْك أعماله الهادئة للعودة إلى القتال، ولقد قُيِّض لبونابرت أن يلتقي به في الصَّالِحيَّة ويقاتله قتالًا هائلًا.
أمَّا فرح هذا الانتصار الجديد فقد عُكِّر صفْوُه بنبأٍ مُحزِن. أرسل كليبر إلى بونابرت بَرقيَّة يقول له فيها: إن نلسون قد أتلف الأسطول الفرنسي في أبو قير بعد قتال مُقنط، عندما انتشر هذا النبأ في الجيش، أظهر الجنود والقواد استياءً عظيمًا وأخذوا يتذمَّرون من تلك الحالة التي هم عليها، أمَّا نابوليون فقد ظهر عليه القلق بادِئ ذي بَدْء، وعندما قالوا له إن مجلس الشعب سيعوِّض عليه الخسائر التي كابدها قاطعهم بحِدَّة قائلًا: «إن مَجْلِسكم هذا إنما هو جاحِد؛ لأنه يمقُتُني ويريد بي شرًّا.» ثم نَفَضَ عنه جملةَ يأْسِه وصرخ بصوت تُراوِده نَبَرات البطولة قائلًا: «إنَّنا سنبقى هنا، أو نخرج كما خرج الأقدمون كبارًا!» منذ ذلك الوقت أخذ بونابرت يسعى بحَمِيَّة ونشاط لا يكِلَّان إلى تنظيم مصر تنظيمًا وطنيًّا، كان يشعر بحاجة قُصْوى إلى التوفيق بين أهالي البلاد لِيُتاحَ له أن يُوطِّد في مصر إقامة مُستمِرة، وأوَّل ما عمله أن شيَّد جامِعةً على نَسَقِ جامعة باريس، وقسَّمها إلى طبقات أربع: حساب، وطبيعيات، واقتصاد سياسي، وأدب وفنون جميلة؛ وعهد بإدارتها إلى مونج، أمَّا هو فاكتفى بأنْ شَغَل وظيفة نائب مدير.
أحبَّ المسلمون بونابرت مَحَبَّة شديدة فلقَّبوه بالسلطان الكبير أبي النيران، وأخذوا يدعونه إلى أعيادهم واحتفالاتهم. حضر بونابرت الاحتفال الذي أُقِيم بمناسبة فَيَضان النيل، ولكن من غير أن يتصدَّره كما ظنَّ البعض، وحضر أيضًا الاحتفال الذي أُقِيم بمناسبة عيد المَولِد النبويِّ، أمَّا الرعاية والالتفات اللذان أظْهَرَهما نحو دِينِ النَّبِيِّ، فقد كانا أكبر عامِلٍ لاحْتِرام اسمه وسلطته في مصر.
لم يكن بونابرت مُسلِمًا ولا مسيحيًّا، إنما كان هو وجنوده يمثِّلون في مصر الفلسفة الفرنسيَّة، ومَذْهب المُرْتابِين المُتساهِل، والتجرُّد الديني في القرن الثامن عشر، ولكنه، بدلًا من الدين الوضعي، كان يتعهَّد في نفسه زاوية صغيرة من التَّديُّن المُبهَم، إلَّا أنَّ هذه الطويَّة التي صانته من الشبهة في زمنه، وأتاحت له صداقة الأئمَّة والشيوخ، كما أتاحت له في الماضي صداقة رؤساء الدين المسيحي واليهودي، هذه الطويَّة لم تقرِّبْه من القرآن أكثر ممَّا قرَّبته من الإنجيل.
أيها الجنود
كان استقلال الشعب مُهددًا منذ خمس سنوات، إلَّا أن استيلاءَكم على طولون كان دلالةً على إتلاف أعدائكم. بعد سنة، قاتلتم النمسويِّين في ديغو، وبعد سنة أخرى، كنتم على قمَّة الألب، منذ سنتين قاتلتم ضدَّ مانتو، وانتصرنا في موقعة سان جورج المشهورة، وفي العام الماضي كنتم على ينابيع دراف والأيزونزو. مَنْ قال يومذاك إنكم ستصحبون اليوم على شواطئ النيل، في وسط الأرض القديمة؟ إن أنظار العالَم لشاخِصة إليكم، من الإنكليز الذين اشتُهروا بالفنون والتجارة إلى البدوان المتوحِّشين المفترسين.
أيها الجنود
لقد كنَّا منذ ابتعادنا عن أوروبا موضوع عناية أبناء بلادنا، وفي هذا اليوم، أربعون مليونًا من المواطنين يحتفلون بعصر الحكومة التمثيليَّة، أربعون مليونًا من المواطنين يفكِّرون فيكم قائلين: إننا مدينون لأعمالهم ولدَمِهم بالسلام العام، والسكينة، ورُقيِّ التجارة، وحسنات الحرية الوطنية.
أما المشايخ، فلكي يُجازوا بونابرت على الالتفات الحسن الذي أظهره نحوهم في احتفالاتهم، عقدوا اجتماعًا فيما بينهم وقرَّروا أن ينشدوا ألحان الفرح في الجامع الكبير؛ سائلين الله العظيم أن يبارك مُصطَفى النصر ويُنمِّي جيشَ بُسَلاء الغربِ.
وأما زعماء المماليك المُتحِدُون مع إنكلترا، وإبراهيم باشا ومراد بك، فقد عمدوا إلى تهييج العصيان الذي ما لبث أن انطلق في عاصمة مصر نفسها، كان بونابرت يوم ذاك في القاهرة القديمة، فلما تناهى إليه ذلك أسرع بالعودة إلى معسكره، وما هي إلَّا سانحة حتى كنست الكتائب الفرنسية شوارع القاهرة، واضْطرَّت المُتمرِّدين على الالتجاء إلى الجامع الكبير حيث صعقتهم المَدافِع عن بكرة أبيهم، كان المُتمرِّدون قد رفضوا التسليم، إلَّا أن دويَّ الصواعق جعلهم سُهَلاء الجانب، أما نابوليون فرفض طَلَبَهم المُتأخِّر قائلًا لهم: «لقد مضت ساعة الصفح، شِئْتم أن تبدءوا فمن حقِّي أن أُنْهِي.» وما هي إلَّا فترة حتى اغتُصبت أبواب الجامع وتدفَّقت دماء الأتراك كالسيل الجارِف، كان على بونابرت، فضلًا عن ذلك، أن يثْأَر لموت القائدَيْنِ دوبوي وسولكوسكي الباسل الذي كان يعطف عليه بقدر ما كان يحترمه.
قُدِّر للسلطة الإنكليزية التي كانت قد هيَّجت فتنة القاهرة وعصيان مصر جميعها أن تُغرِي ديوان القسطنطينية على معاداة فرنسا. فأصدر الصَّدْرُ الأعظم منشورًا مملوءًا سُبابًا وشتائم وقف أعلام الجمهورية للخزي والعار وجهودها للانقراض، فأجاب بونابرت على هذه الإهانات والتحريضات الدمويَّة بنداءٍ جاء في نهايته: «إن أكبر الأنبياء المُتديِّنين قد قال: إنَّ العصيان لنائم، فملعون هو الذي يوقظه!»
بعد مدة قصيرة اتَّجه نابوليون إلى السويس ليزور آثار القتال القديم الذي كان يجمع مياه النيل بالبحر الأحمر، وقد رافقه مونج وبرتوللـه، وكان بودِّه أن يشاهد مصادر موسى، إلَّا أنه كان أوشك أن يذهب ضحيَّة تطفُّله بتَيَهانه في الليل بين المدِّ والجزر، قال: «لقد خاطرت بنفسي كما خاطر فرعون؛ ما جعل مُبشِّري المسيحية جميعهم أن يؤدُّوا نصًّا معظَّمًا ضدي.»
عندما عرف قُسُوس جبل سينا بوجوده في جوارهم أرسلوا إليه وفدًا ليسأله أن يُدوَّن اسمه في سِجلِّهم عقيب علي وصلاح الدين وإبراهيم … إلخ، فلم يرفض نابوليون سؤالهم هذا ونزل عنده بطيبة خاطر، في أثناء ذلك كان الجزَّار باشا قد استولى على قلعة العريش في سوريا، إلَّا أن نابوليون الذي كان فكَّر منذ زمن في حملة على تلك المقاطعة عَزَم عند ذلك على تنفيذ مقصده، كان نبأ فوز الجزَّار قد تناهى إليه في السويس، فأسرع بالعودة إلى القاهرة ليأخذ الكتائب التي يحتاج إليها في غَزْوته، وبعد أن وَثِق من خضوع هذه العاصمة، ترك مصر ودخل إلى آسيا، كانت الصحراء تمتد على مدى بصره، فاجتازها على جَمَل؛ لأن الجِمال تتحمَّل الحرَّ والتعب أكثر من الجياد، إلَّا أن الجنود كانوا قد ضلُّوا في مطارح تلك الصحراء، وأضناهم العطش والتعب حتى أوشكوا أن يموتوا في وسط الطريق، فقال لهم بونابرت: «لا يحقُّ لكم أن تتذمَّروا وتقنطوا. أيها الجنود، تعلَّموا أن تموتوا بشرف.»
إنني أرغب إليك أن تُحِيطَني علمًا بالموقف السياسي الذي يُحِيط بكم، وأرغب أيضًا أن تُرْسِل إلى السويس أو إلى القاهرة الكبرى رجلًا ماهرًا اكتسب ثقتك يُتاح لي أن أتفاوض معه.»
بقيت هذه الرسالة من غير جواب؛ ذلك لأنها كُتِبت في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني عام ١٧٩٩، وبعد مدة قصيرة سَقَطت سلطة تيبو سائيب.
في السادس من شهر آذار هُوجِمت يافا واستسلمت للنَّهْب والمذبحة، فأرسل بونابرت معاونيه بوهارنه وكروازيه ليسكِّنا غَضَب الجند، ولقد أُتِيح لهما أن يصلا في الوقت المُعيَّن فأنقذا حياة أربعة آلاف من الأرناءوط أو الألبان الذين قُيِّض لهم أن يَفْلِتُوا من المذبحة ويَلجَئوا إلى فنادق وسيعة.
عندما أبصر نابوليون هؤلاء الأُسَراء الذين جِيء بهم إليه صرخ بشفقة: «ماذا تريدون أن أعمل بهم؟ ألديَّ مؤنة لأقوتهم، ومراكب لِأُقلَّهم إلى فرنسا أو إلى مصر؟» إلَّا أن معاوِنَيْه ذكَّراه بالإنسانية التي أوصاهما بها في معاملة الأعداء، فأجابهما بحِدَّة: «أجل، بدون شك، ولكني أوصيتكما بها في معاملة النساء والأولاد والشيوخ وليس في معاملة الجنود المُسلَّحين، كان أحرى بكم أن تموتوا جميعًا من أن تجيئوني بهؤلاء المساكين، ماذا تريدون أن أعمل بهم؟» بقي نابوليون ثلاثة أيام يُشاوِر نفسه في مصير هؤلاء المساكين، إلَّا أن تذمُّر الجيش لم يَتْرك له سبيلًا لأن يتردَّد أكثر من ذلك في أمرٍ كان يُوحِي إليه كراهة شديدة، فأصدر أمره بإعدام الأرناءوط والألبان في العاشر من شهر آذار.
أما الاستيلاء على حيفا فقد أُعْلِن على مصر بما يلي:
«باسم الله الرحمن الرحيم، سيِّد العالم القدوس، الحاكم بملكه كما يشاء، المتصرِّف بالنصر تصرُّفًا مطلقًا، هذا نبأ الإنعامات التي مَنَحَها الله العليُّ للجمهورية الفرنسية، ثم إننا استولينا على حيفا في سوريا.
كان الجزَّار عَزَم على دخول مصر، مأوى البائسين، مع شِرْذمة من أشقياء العرب، إلَّا أن أحكام الله تهدم حِيَل الرجال، كان يرغب في هرق الدم حسب عادته الوحشيَّة، وبسبب كبريائه والمبادئ الرديئة التي أخذها عن المماليك، ولم يعلم أن كلَّ شيء إنما هو آتٍ من الله.
في السادس والعشرين من رمضان أحاط الجيش الفرنسي يافا، وفي السابع والعشرين منه أشارَ القائد العام بأن تُركَّز فيها المدافع، وتُصوَّب الفوَّهات إلى جهة البحر لمنع الخروج منه.
وفي نهار الخميس، آخر أيام رمضان، أشفق القائد العام على سكَّان يافا، فنبَّه الحاكم، إلَّا أن التنبيه بَقِي من غير جواب بالرغم من شرائع الحرب ومحمد، عند هذا انطلق غضب بونابرت، فأمر بإطلاق القنابل، وما هي إلَّا بعض ساعة حتى هَجَم الجند من الصور المهدوم واستولوا على المدينة وحصونها، وبُدِئ القتال بين الجيشين، فانتصر الفرنسيون، ودام النهب طوال الليل. ونهار الجمعة أشفق القائد على المصريين الذين في يافا، من فقراء وأغنياء، ومَنَحَهم السماح وأعادهم إلى بلادهم بشرف، ولقد نهج النهج نفسه مع الدمشقيين والحلبيِّين.
قُتِل في المعركة أكثر من أربعة آلاف رجل من رجال الجزَّار رميًا بالرصاص وبالسلاح الأبيض، ولم يخسر الفرنسيون إلا قليلًا من الجند. يا عباد الله، اخضعوا لأحكامه، لا تخالفوا مشيئته، واحفظوا وصاياه، واعلموا أن العالم إنما هو ملكه، وأنه يعطي هذا الملك لمن يشاء.»
كان الجيش الفرنسي قد صَحِب جراثيم الطاعون إلى سوريا فانتشرت في حصار يافا وصارت تشتد يومًا بعد يوم، قال بونابرت عن القائد غريزيو الذي أَبَى أن يلمس أحدًا خَشْيَة انتقال العدوى إليه: «إنه إذا خَشِي الطاعون مات فيه.» هذه النبوءة تمَّت في حصار عكا.
في السادس عشر من آذار وصل بونابرت أمام عكا، فلاقى هناك مقاومةً أشد مما كان يُتوقَّع، قُيِّض للجيش الفرنسي، في ذلك الحصار، أن يربح موقعة جبل ثابور المشهورة، حيث أُتِيح لكليبر أن يقاوم بثلاثة آلاف عسكري جيشًا مؤلَّفًا من أربعة وعشرين ألف رجل بين فرسان ومشاة، عندما علم بونابرت بقوَّة العدوِّ أسرع إلى مساعدة كليبر مع فَيْلق من الجند، فلما وصل إلى ساحة القتال قسَّم فَيْلقه إلى قسمين مُربَّعين ونظَّمهما بشكل أن جعلهما، مع مُربَّع كليبر، زاوية مثلثة متساوية، وإذا بالعدوِّ في وسط تلك الزاوية. أمَّا النار الهائلة التي انطلقت من أطراف تلك الزاوية فقد أهلكت المماليك وتركت الساحة ملأى بالجثث. كان الفرنسيون الذين أهلكوا ذلك الجيش، الذي قال عنه الأهالي إنه يربو على عدد نجوم السماء ورمال البحر، لا يجاوزون ستة آلاف.
وبعد حصارٍ دام شهرين، عَزَم بونابرت أن يعود إلى مصر وقد اتَّضح له أن جيشه الصغير يضعف من يوم إلى يوم بانتشار الطاعون والمواقع العديدة، في تلك الساعة، تضاءلت تلك النوايا العظيمة التي رسمتها مُخيِّلته الطمَّاعة للزحف طورًا إلى الهند وتارة إلى البوسفور؛ ما جعله يقول فيما بعد: «لو سقطت عكا لقلب سقوطها وجه العالم، لقد كان مستقبل الشرق مُرتكِزًا على تلك المحلة الصغيرة.»
أيها الجنود
لقد اجتزتم الصحراء التي تفصل أفريقيا عن آسيا بسرعة أعظم من سرعة جيش عربي.
لقد هلك الجيش العربي الذي كان زاحفًا ليشنَّ الغارة على مصر، وقُدِّر لكم أن تقبضوا على قائده، ونوتيِّيه، وأمتعته وقِرَبه، وجماله.
لقد استوليتم على جميع القلاع القويَّة التي تحرس آبار الصحراء.
لقد شتَّتم في سهول جبل ثابور هؤلاء الرجال الذين أسرعوا من جميع جهات آسيا على أمل أن يدمِّروا مصر.
إن الثلاثين مركبًا التي أبصرتموها قادمة إلى عكا، منذ اثني عشر يومًا، كانت تُقِلُّ الجيش الذي أُمِر بمحاصرة الإسكندرية، إلَّا أنَّه اضطرَّ إلى الإسراع إلى عكا حيث لقي أَجَلَه، وسيزيِّن قسمٌ من أعلامه دخولَكم إلى مصر.
وأخيرًا، بعد أن غذَّيتم الحرب ثلاثة أشهر في قلب سوريا، بعدد من الرجال قليل، وبعد أن غنمتم أربعين مدفعًا حربيًّا، وخمسين علمًا، وأَسَرْتم ستة آلاف، ودرستم حصون غزة وحيفا ويافا وعكا، بعد كلِّ هذا نعود إلى مصر.
قد لا تمضي أيام قلائل حتى تستولوا على الباشا نفسه في وسط قصره، إلَّا أن الاستيلاء على قصر عكا في هذا الموسم لا يوازي خسارة بعض أيام؛ إن البُسَلاء الذين أخسرهم إنَّما هم اليوم ضروريُّون للقيام بأعمال أكثر أهمية وجوهرًا.
أُعْطيت علامة الرجوع في العشرين من شهر أيار. أراد بونابرت أن يزحف الجميع على الأقدام ليتركوا الجِياد تحت تصرُّف الأُسَراء والمرضى، وعندما دخل عليه سائسه الخاص وسأله أيَّ جوادٍ يستبقيه لنفسه انْتَهرَه بغضب صارخًا فيه: «ليذهب الجميع على الأقدام! … وأنا في الأول، ألا تعرف النظام؟ اخرج.»
وصلوا إلى يافا في الرابع والعشرين فوجدوا المستشفيات غاصَّة بالمرضى، والحمَّى تشتد اشتدادًا عظيمًا، فأخذ القائد العام يزور هؤلاء المساكين ويتشفَّق على أوجاعهم مُظهِرًا لهم الحزن الشديد، وكان بينهم عددٌ يحْتَضِر، فسأل بونابرت ماذا نعمل بهؤلاء المُشْرِفين على الموت، فأُجِيب أن الكثيرين منهم يطلبون الموت عاجلًا، وأن ملازمتهم إنما هي خطرة على الجيش، وزِيد على ذلك أنه من الرحمة والحكمة أن يُقدَّم موتُهم بعض ساعات. إنَّ من المؤكد تقريبًا أنهم أُعطوا شرابًا مخدِّرًا في تلك الساعة.
عندما اقتربوا من القاهرة أشار بونابرت بأن يُهيَّأ له استقبال عظيم في تلك العاصمة لِينْفِي ما قد تكون عاقبة حملة سوريا قد أثَّرت تأثيرًا مشئومًا على الأهالي والجنود، فنزل ديوان القاهرة عند مشيئة بونابرت، وأمر بأن تُقام الاحتفالات البهجة، وأصدر نشرة ننقُل منها الفقرة الآتية: «لقد وصل بونابرت الذي يحب دِينَ مُحَمَّدٍ … لقد دخل إلى القاهرة من باب النصر … فهذا اليوم يوم كبير لم يُشاهَد مثيل له … كان في غزَّة ويافا. لقد حمى سكان غزَّة، ولكن سكَّان يافا أبوَا أن يسلِّموا فأُعمل فيهم النهب والموت. ولقد هدم جميع الحصون وأهلك كلَّ من كان فيها.»
انصرف بونابرت، عهد إقامته بالقاهرة، إلى القيام بأعمال المساحة. إلَّا أنه ما لبث أن انقطع عن أعماله الهادئة بسبب غزوات مراد بك في مصر السفلى، فترك القاهرة في الرابع عشر من تموز وزحف إلى الأهرام.
مشى القائد لان على طول بحيرة معدية حيث كانت ميسرة العدوِّ، واصطفَّ للقتال تجاه تلك الميسرة، في حين كان القائد مورات الذي يقود الصف الأول يقاتل الميمنة على يد القائد ديستنغ، وكان يعضِّده القائد لانوس.
هناك سهل جميل يبلغ ألفين وأربعمائة قدم يفرِّق أجنحة الجيش العدو؛ فولجته خيَّالتنا، وبأسرع من الفكر وصلت إلى وراء ميسرة العدوِّ وميمنته اللتين أُغْرِقتا في البحر بعد أن أُعْمِل فيهما الضرب، لم ينجُ منهما أحدٌ قط.
وكان صفُّ العدو الثاني يشغل مركزًا هائلًا على بعد ثلاثة آلاف أو ثلاثة آلاف وخمسمائة قدم؛ إذ إن البرزخ ضيِّق جدًّا هناك، وهو مُقوَّى بالمتاريس بعناية كبيرة، ومُحصَّن بثلاثين زورقًا مدفعيًّا، وكان العدوُّ مستوليًا أمام هذا المركز على قرية أبو قير التي سدَّها بالمتاريس.
أقْدَمَ القائد مورات على اغتصاب القرية، وهجم القائد لان على ميسرة العدوِّ بالفرقة الثانية والعشرين وقِسْم من التاسعة والستين، وأما الميمنة فقد قاتلها القائد فوجيير بصفوف مُلْصَقة بعضها إزاء بعض، كان الدفاع والقتال شديدَيْنِ جدًّا، إلَّا أن خيَّالة القائد مورات الباسِلة عَزَمَتْ أن تنال القسم الأكبر من شرف هذا النهار، فهجمت على ميسرة العدوِّ ووثبت على الميمنة من ورائها وفاجأتها من ممرٍّ مشئوم فأعملت فيها ذبحًا هائلًا.
كان من أمر الصف الثاني أن أُصِيب بما أُصِيب به الصف الأول؛ فإنه بقي بعضه في ساحة القتال وأُغرق البعض الآخر.
بقي للعدو ثلاثة آلاف رجل لوقت الحاجة وُضِعوا في قلعة أبو قير على بعد ألفين وأربعمائة قدم من الصف الثاني، فحاصر القائد لانوس القلعة وأطلق عليها قنابل ستة مدافع، لم ينجُ من الأعداء أحدٌ قط.
إن مصطفى باشا، قائد الجيش العام، وابن عم السفير التركي في باريس، قد أُسِر مع جميع ضباطه.
ورِبْح هذه المعركة عائدٌ خاصةً إلى القائد مورات؛ إني أسألكم رتبةَ قائِد فرقة لهذا القائد النشيط لأن خيَّالته عملت المستحيل …
لقد أهديت إلى القائد برتيه من قبل المجلس التنفيذي خنجرًا جميلَ الصُّنْع لما قام به من الأعمال المجيدة طوال وقت الموقعة …»
استفاد نابوليون من هذا النجاح ليرسل مُداوِلًا إلى الأميرال الإنكليزي، إلَّا أن هذا بعث إليه بجريدة فرنسية، فقرأها نابوليون بلهف؛ لأنه لم يأخذ منذ زمن طويل خبرًا عن أوروبا، فوقف منها على موقف فرنسا المُحزِن ونكبات الجيوش الفرنسية، فصرخ قائلًا: «أجل إن دلالة قلبي لم تخدعني قط، فقد خسرت إيطاليا! وتوارت ثمرة انتصاراتنا! إذن فيجب أن أرحل.»
أفضى بعزمه هذا إلى برتيه والأميرال غانتوم الذي عهد إليه بتهيئة باخرتين وسفينتين صغيرتين لإقْلال القائد وحاشيته إلى فرنسا.
كان من الواجب أن تسلَّم قيادة الجيش العامة إلى الأيدي الأكثر جدارة، فاختار بونابرت بين دوزه وكليبر، إلَّا أنه رغب في أن يصحب الأول معه وصحَّت عزيمته على تعيين الآخر خلفًا له بالرغم مما هما عليه من النفور، فكتب ليطلعه على قصده ويسلِّمه السلطة التي عَهِد بها إليه، جاء في التعليمات التي أدْلَى بها هذه العبارة: «سيبقى المسيحيون أصدقاءَنا دائمًا، فيجب أن تمنعوهم من التطاوُل لئلا يغذِّي الأتراك فطرة التعصُّب ضدَّنا.»
أتُرى رغب مجلس الشعب في عودة بونابرت إلى فرنسا بعد أن أبصره ذاهبًا منها بغبطة سريَّة لم يجهلها المحارب نفسه؟ إنَّ من الصعب أن يدرك سبب هذا الرجوع الفجائي بعد أن تناقضت الآراء فيه، إلَّا أن الحقيقة التي نراها هي أنه بعد أن سئم الشرقَ لما لقيه من المعاكسات في سوريا، وبعد أن تناهت إليه الحالة الفكرية في فرنسا شخص إليه أنَّ الوقت قد حان ليظهر أفكاره الطمَّاعة ويحوِّلها إلى الغرب، قال في نشرة أصدرها في الإسكندرية ما يلي: «إن أنباء أوروبا حتَّمت عليَّ الذهاب إلى فرنسا؛ فإني أترك قيادة الجيش إلى الجنرال كليبر، سيطَّلع الجيش على أخباري عما قريب، إنني آسف جدًّا على تركي جنودًا أَجِدُني كثيرَ التعلُّق بهم، ولكن لن يطول غيابي، والقائد الذي أتركه يحمل ثقتي وثقة الحكومة.»
أبحر نابوليون في أواخر آب صاحبًا معه برتيه، ومارمون، ومورات، ولان، وأندريوسي، ومونج، وبرتوﻟﻠﻪ، وغيرهم، وتحايد مراقبي الإنكليز الذين يجولون في البحر؛ إذ كانوا قد ابتعدوا على الشواطئ الأفريقية واتجهوا إلى مرفأ في قبرص ليذخروا مؤنة لهم، وصل بونابرت إلى فريجوس في السادس من شهر تشرين الأول.
لقد تخلَّل السفر من الإسكندرية إلى فريجوس أخطارٌ وعوائق عديدة؛ فإن المراكب اضطرت لتخرج من مياه مصر، أن تقاوم رياحًا معاكسة أجبرت الأميرال أن يلجأ إلى المرفأ، ولولا عزم بونابرت الراسخ الذي وطَّن النفس على اقتحام جميع المخاطر لتحقيق حظوظه العلياء التي تنتظره في أوروبا، لما وجد الجنود مفيضًا من البقاء في المرفأ، ولقد صادف عند رحيله من أجاكسيو عوائق شديدة كالتي صادفها بين الإسكندرية وفريجوس إلَّا أنه أصرَّ على مواصلة السير كما أصرَّ هناك، هذا العزم الثابت القوي والدليل الرهيب الذي رسمه بونابرت للأميرال غانتوم، على طول شواطئ أفريقيا؛ ليجيء عقيب ذلك فيدخل إلى رأس سردينيا، كانا السبب في تملصه من رقباء الإنكليز.
كان منظر المحجوزين «المكرتنين» يكدِّره جدًّا، كما أنه إنما كان يحزن لرؤية أصغر مركب في البحر. تناهى إليه وهو في أجاكسيو خبر عاقبة موقعة نوفي المشئومة، فكان لا يفتأ يردِّد قوله: «لولا هذا الحجر الملعون لما تردَّدت عن قيادة جيش إيطاليا، فهناك وسائل لا أزال أراها.»
كان بونابرت يشعر بحاجة إلى إضعاف التأثيرات المُؤسِفة التي قد يسبِّبها سفره من مصر، ذلك السفر الفجائي الشاذ الذي سيعرِّض القائد للتوبيخ على هجر جيشه، ولكن، عندما أدرك مدى النكبات التي قاساها الجند الفرنسي ما وراء الجبال، فقد الأمل بتحقيق الانتصارات السريعة التي حلم بها، وأُسْقِط في يده، حتى إن حزنه جعل القائلين يقولون: إنَّه يحمل حزن إيطاليا. عدا عن ذلك؛ فإن تهافُت سكان فريجوس إليه وقاه من غموم الحجر وضجره، لم يكد هؤلاء يعلمون بدخول القائد بونابرت إلى مرفئهم، حتى مَلئوا البحر بالمراكب، واتجهوا جماعاتٍ حول المركب الكبير الذي يقِلُّ الرجل العظيم وهم يصرخون: «إننا لنؤثر الطاعون على النمسويين.» عند هذا أصبحت الاحتياطات الصحية صعْبَة مراعاتها، فاغتنم بونابرت هذه الفرصة لتعجيل عودته إلى باريس.
كان قد بشَّر إخوته وامرأته بوصوله، فأسرعوا لملاقاته على طريق بورغونيا حسب الدليل الذي أرسله إليهم، إلَّا أنه ما وصل إلى ليون، حتى غيَّر فكرته وأخذ طريق البوربونه، أما جوزيفين وأسلافها، فعندما لم يجدوه في ليون عادوا بسرعة إلى باريس، إلَّا أن السواد الأعظم من الشعب، بالرغم من تضارُب الآراء في عودة القائد العام الذي تَرَك جيشه ما وراء البحار، تحت سماء مُحرِقة وفي أرض وبائية، لم يجدوا بدًّا من استقباله كرجل منقذ. كانت الديموقراطية، بعد أن أعطت فرنسا طرقها العظيمة ضدَّ الخارج، قد أُتِيح لها أن تسبِّب في الداخل مللًا عموميًّا من فرط التقلُّبات والمعاكسات، ولم يبقَ للثورة التي قُيِّض لها وجود أعضاءٍ جديرين في المجلس الشرعي، والاتفاقية، وجمعية السلام العام، أن تنتظر نظمًا وولاة من هذا العصر؛ لأنهم أضاعوا احترام السلطة فأفقدوا الحرية منفعتها، واستبدلوا بمظالم الأحزاب المتوالية سلطة الشعب المطلقة، إذا أضفنا على ذلك أن الجمهورية لم تستطع في الشكل الذي اتخذته، أن تُبْقِي النصر تحت الأعلام الفرنسية، وأن النكبات المتتالية قد أضاعت ثمرةَ أولى الفتوحات الخالدة، يُدرَك بسهولة أن الأفكار قد أصبحت جميعُها مُهيَّأة لانقلاب سياسي كبير، ولكن، من يحقِّق هذا الانقلاب، وفي أيِّ شكل يكون؟ هذا ما كان الجميع يتساءلون عنه، وهم في تيَّار من الظنون والآمال والمخاوف. أما الانقلاب في الحكومة فلم يكن من صالح الجمهورية التي تحمل أثقال الذكريات والظنون، تلك الأثقال التي لم تنجُ منها بعدُ والتي كان يتذمَّر منها ويتوقَّع نهايتها بفارغ صبر. ولم يكن ذلك الانقلاب أيضًا ليستطيع أن يتحوَّل إلى جهة الملكية؛ لأن الكتلة الشعبية لم تقف عن رغبتها في نتائج الثورة على ما هي عليه من التَّعَب في تيَّار السياسة الجمهوريَّة.
إن الذي يتاح له وحده أن يقمع الأسد الشعبي ويقلب القاعدة الجمهورية من غير أن يمسَّ البدع الثورية التي كانت عزيزة على فرنسا، إنما هو جندي من جنود الثورة، كان هذا الجندي منذ زمن طويل يحدِّث نفسه بهذا العمل العظيم، ويرقُب الوقت للاستيلاء عليه؛ لأن فطرته ومركزه وقواه كانت تقول له إنه إنما يستطيع أن يحقِّق جميع الشروط بنجاح وفوز عظيمَيْنِ.
إن الذي تنبَّأ بونابرت عنه ورغب فيه إنما كان يتَّفق اتفاقًا عظيمًا مع تمنِّيات الجمهور وحاجاته، فعندما شعر القوم بعودته، فكَّرت الأحزاب جميعها في أن تتألَّب حوله وتتخذ شهرته ونبوغه عضدًا لها مكينًا، وأن تستخدمه لتحقيق خُطَطها وتدبيراتها.
أرادت أكثرية مجلس الشعب المُؤلَّفة من بارَّاس وكوهيه ومولين أن تحتفظ بنظام عام ٣ لأن بارَّاس كان يجد فيه وسيلة تضمن له استمراره في رئاسة السلطة؛ ولأن كوهيه ومولين كانا يثقان ثقةً أكيدة بالقبض على زمام القاعدة الجمهورية بشكلها الحالي، أمَّا سياييس الذي كان دائمًا يغذِّي في أعماق قلبه ميلًا ملكيًّا وكراهة للصيغ الشعبية، فقد كان ينتظر بفارغ صبر فرصةً سانحة ليظهر ميله السري، حتى شُكِي أنه فكَّر في خيانة الجمهورية لفائدة أمير من أمراء برونسويك، كما اتهموا بارَّاس بأنه فتح علاقات مع البوربونيين.
كان سياييس موقوفًا لكلِّ مَن يجرؤ على تسويل انقلابٍ ضد الجمهوريين ونظمهم، وكان روجير ديكو، رفيقه لا يفكِّر ولا يعمل إلَّا على يده، على أن بونابرت أنكر بادِئ ذي بَدْء هذه المشاركة في الجريمة، حتى إنه أظهر نحو سياييس احتقارًا مهينًا في وليمةٍ له أقامها كوهيه ثاني يوم المقابلة التي جرت بين القائد ومجلس الشعب، قال سياييس بشراسة عقيب تلك الوليمة: «انظروا كيف أن هذا المتغطرس يعامل عضوًا في سلطة كان من حقِّها أن تعدمه رميًا بالرصاص!»
إن التدبيرات التي سبَّبت ١٨ برومير إنَّما دُبِّرت في المجالس على يد لوسيان بونابرت وسياييس، وتالليران، وفوشه، وريال، ورينيول ده سن جان دانجلي وغيرهم. أمَّا فوشه، فقد أظهر خاصة، فراغ صبر في إتلاف القاعدة الجمهورية التي خدم في الماضي مطاليبها الصارمة، قال لكاتم أسرار بونابرت: «قُلْ لقائدك ليسرع؛ فإذا تأخَّر هلك!» وأمَّا كامباسيريس ولوبرون فقد كانا بطيئين في عزمهما؛ فإنَّ دور المتآمر لم يتَّفق مع احتراس الأول واعتدال الآخر. فلما أُخْبر بونابرت بتردُّدهما، صرخ كمَن مَلَك التصرُّف في مقدرات فرنسا قائلًا: «لا أريد تردُّدًا ومحاولة، ألا فليعلما أنني لست بحاجة إليهما، وليعزما اليوم إذا شاءَا وإلَّا فغدًا يفوت الحين؛ إنني لأشعر بقوة في نفسي تسمح لي أن أعمل وحدي!»
- (١)
إن الفرقة التشريعية قد نُقلت إلى مديرية سن كلود.
- (٢)
ستتجه المجالس إلى سن كلود غدًا ١٩ عند الظهر.
- (٣)
إن القائد بونابرت مُكلَّف بتنفيذ هذا الأمر، سيتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لتأمين التمثيل الوطني. إن الفرقة العسكرية السابعة عشرة، وحرس الفرقة التشريعية، والحرس الوطني المستقر، والكتائب في مديرية باريس موضوعة كلها تحت أوامره، إلخ.
- (٤)
يُدعَى القائد بونابرت إلى وسط المجلس ليُقْسِم اليمين على القيام بهذه الأعمال، وسيتداول مع مفوضي المجلسين.
أيها الجنود
إن أمر مجلس القدماء هذا إنما هو مُطابِق لبند ١٠٢ و١٠٣ من الحكم الشرعي، إنه يلقي إليَّ قيادة المدينة والجيش.
لقد رضيت به لمساعدة الاحتياطات التي سيتَّخذها، والتي هي بكاملها لفائدة الشعب.
لقد فسد حكم الجمهورية منذ عامين، فأمَّلْتم أن عودتي تضع حدًّا لآلام كثيرة، ولقد احتفلتم بي احتفالًا يكلِّفني ذمَّةً لكم سأفيها، وإنكم ستفون ذمَّتكم أيضًا فتعضدون قائدكم بذلك النشاط، والثبات، والثقة التي كثيرًا ما عرفتها فيكم.
إن الحرية والنصر، والسلام ستعيد الجمهورية الفرنسية إلى المقام الذي شغلته في أوروبا، والذي أفقدها إيَّاه القصور والخيانة.
ثم بعد ذلك أعلن بونابرت النداء الآتي:
«إن مجلس القدماء، مُستودَع الحكمة الوطنية، قد أصدر هذا الأمر، ولقد فوَّض إليه ذلك البند ١٠٢ و١٠٣ من الحكم الشرعي.
إنني آخذ على نفسي احتياطاتٍ لازِمة لتأمين التمثيل الوطني، وإن الفرقة التشريعية لفي حاجةٍ إلى اتحاد الوطنيين وثقتهم، فالْتَئِموا حولها، تلك هي الوسيلة الوحيدة لإجلاس الجمهورية على أُسِس الحرية المدنية، والنصر والسلام.»
بينما كان بونابرت مُحاطًا بالأعمال في سبيل قيادة العاصمة، كان مجلس الشعب مُتوانِيًا، مُتراخِيًا، لا يقوم بعمل، وبعبارة أَجْلى، كان لا يستطيع أن يعمل شيئًا لإبطال الدسائس المُحاطة به من جميع أطرافه، كان كوهيه ينتظر في منزله في لوكسنبرج زعيم المتعصِّبين الذي دعا نفسه إلى الغداء عنده من غير كلفة، وكان مولين يطلق سخطه وحقده تضادات ملؤها العجز والقصور، ولقد تناهى إلى بارَّاس أن الانقلاب الذي وُعِد به قد تمَّ بدونه، وقد أصبح مُرغَمًا على احتمال العجز الذي كاد يوقعه. أما سياييس وروجير دوكر فقد كانا مُصمِّميْنِ النية على الاستعفاء من وظيفتهما، في حين كانا يمثِّلان، لا سيما الأول منهما، دورًا مهمًّا بين زعماء المؤامرة، وأما العوائق التي كان بونابرت مُهدَّدًا بها، فلم يبقَ لها وجود إلَّا في المجلس.
في الساعة الواحدة بعد ظهر ١٩ اتجه بونابرت إلى مجلس القدماء بعد أن أشغل جميع المراكز المهمَّة بكتائبه تحت أوامر القواد المُخلِصين، وصحب معه برتيه ولوفيفر، ومورات ولان وغيرهم. أمَّا مورو فقد جعله سجَّانًا على المديرين المتمرِّدين وكوهيه ومولين اللذين أُعطي استعفاؤهما بحيلة من تلك الحِيَل الجائزة في مثل تلك الظروف، وأما سياييس وروجيرديكو فقد أرسلا استعفاءهما؛ كان سياييس يعتني كثيرًا بإيجاد مَخْرجٍ له في كلِّ حادث، فاحتاط لذلك بأن أوقف نفسه في منزله لِيُزِيل كلَّ شبهة، ثم إن بارَّاس، بعد أن أعلمه تالليران بزيارة يوريين له، استعفى على يد المداول العظيم وذهب على الفور إلى كروسبو تاركًا رسالة إلى رئيس مجلس القدماء صرَّح فيها، بعد أن أقسم بنزاهته وتجرُّده في سبيل الوطن والحرية، أنه ينضمُّ بغبطة إلى صفوف المواطنين، سعيدًا بأن يسلِّم بعد تلك العواصف مقدَّرات الجمهورية التي اقتسم ودائعها.
هذه الكلمات الأخيرة هيَّجت جميع الأهواء التي كانت تضْطَرِب في المجلس، فطُلِبت الجمعية السرية، إلَّا أن الأكثرية خالفت ذلك، وأُمِر بونابرت بأن يتكلم بصراحة أمام الأمة، فأُسْقِط في يده عند ذلك، وختم كلامه بهذا الصراخ الذي لفظه وهو مُنْسِحب: «مَن يحبني فليتبعني!»
أيها المواطنون والجنود
إن رئيس مجلس الخمس المائة يصرِّح لكم أنَّ أكثريَّة هذا المجلس إنما هي الآن مُهدَّدة بهول بعض ممثِّلي الشعب القتلة الذين يحاصرون المنابر، يعرضون الموت على رفاقهم، ويتعمَّدون أشياء فظيعة!
إنني أصرِّح لكم أن هؤلاء القتلة الجسورين الذين هم ولا شك أُجَرَاء إنكلترا يتمرَّدون على مجلس القدماء، ويتجاسرون أن يقولوا بوضع القائد المُكلَّف بتنفيذ الأمر الذي بيده خارج الشريعة، كأننا لا نزال في عهد حكمهم الفظيع الذي تكفي فيه كلمة «خارج الشريعة» لأن تسقط رءوس أعزِّ أبناء الوطن.
إنني أصرِّح لكم أن هذا العدد القليل من الساخطين إنما هو الذي وضع نفسه خارج الشريعة بتعدِّيه على حرية هذا المجلس.
فبِاسْمِ الشعب الذي هو منذ سنوات عديدة لُعْبة أبناء عهد الهول المساكين، أُفوِّض إلى المحاربين إنقاذ أكثرية ممثِّليهم، حتى إذا ما تملَّصت من الخناجر بالحراب يُتاح لها أن تتشاور في مستقبل الجمهورية.
أيها القائد، وأنتم أيها الجنود، وأنتم أيها المواطنون أما أنكم لن تعرفوا شارعين لفرنسا غير الذين يتألَّفون حولي، أمَّا الذين يلبثون في الأورنجري فلتخرجهم القوة! فهؤلاء القتلة لم يبقوا ممثِّلي الشعب، بل هم ممثِّلو الخنجر! ألا فلْيُلصَق بهم هذا اللَّقب، ولْيَتْبعْهم حيث ذهبوا! وعندما يتجاسرون على الظهور أمام الشعب فلْتُشِرْ إليهم الأصابع جميعُها تحت هذا اللقب المُستحَق: ممثِّلو الخنجر! … لتحيَ الجمهورية!
بقي الجنود مُتمرِّدين أمام هذا الكلام، فلكي يبتَّهم لوسيان زاد على قوله: «أُقْسِم أن أَبْقُر بطن أخي إذا تجاسر يومًا أن يثلم حرية فرنسا!»
هذا القسم الذي لُفِظ بشدة فاز على تردُّد الجنود، لكن بونابرت لم يُشِرْ إلى مورات بأن يمشي على رأس الحرس ويُشتِّت التمثيل الوطني من غير قلق ملك عليه. إلَّا أنه، وقد خاب أمله بالحصول على رغباته من وراء نفوذه وخطبه، صحَّت عزيمته على حلِّ المجلس بالقوة، وما هي إلا هنيهة حتى أُخْلِيَت القاعة.
على أن مُسبِّبي ١٨ برومير، أرادوا، لكي يُعِيروا أعمالَهم ظاهر المشروعية، أن يستخدموا مرة أخرى صِيَغًا شرعية يكادون يُتْلِفونها، وأخذوا يجمعون لذلك، من جميع الجهات، بعضَ بقايا المجلس الذين كانوا طردوهم بشدَّة لكي يؤلِّفوا هيئةً للتمثيل الوطني. وقد أُتِيح للوسيان أن يجمع في سن كلود ثلاثين نائبًا أخذوا على أنفسهم مباشرة السلطة السامية التي قُدِّر لبونابرت أن يملكها ملكًا صحيحًا، وحكموا بالتعاقب، فضلًا عن طرد الواحد والستين من رفاقهم، بحلِّ مجلس الشعب وتشكيل جمعية قنصلية مؤلفة من ثلاثة أعضاء هم سياييس وروجرديكو، وبونابرت. تُمِّم هذا الانقلاب الكبير في الساعة التاسعة مساءً. أما بونابرت فبقي حتى الساعة الحادية عشرة من غير أن يأخذ طعامًا، وعِوَضًا عن أن يهتم بحاجاته الجسدية، لم يفكِّر وهو داخل إلى منزله في ساعةٍ متأخِّرة من الليل، في غير إتمام ذلك اليوم المشهود بإعلانه إلى الشعب الفرنسي، فأصدر هذه النشرة التالية:
«لدى عودتي إلى باريس، وجدت الانقسام في جميع السلطات، والرأي العام مُتوطِّنًا على هذه الحقيقة الوحيدة وهي أن قوانين المملكة المُتلَفة لا تستطيع أن تنقذ الحرية.
ولقد انضمَّت إلي جميعُ الأحزاب، وأفضت إليَّ بمقاصدها، كاشفةً لي أسرارها، وطلبت مني يدَ المساعدة، فرفضت أن أكون رجل حزب.
وطلبني مجلس القدماء فلبَّيْت طلبَه، ولقد دبَّرت خُطَّة ترمي إلى تجْديدٍ عامٍّ على يد رجال تعوَّدت الأُمَّة أن ترى فيهم محامين عن الحرية والمساواة والتملُّك. كانت هذه الخطة بحاجة إلى تدقيق هادئ، حرٍّ منزَّه عن كلِّ تأثير وكلِّ خوف. وفي الخلاصة عزم مجلس القدماء على نقل الفرقة التشريعية إلى سن كلود، وعهد إليَّ بتهيئة القوة اللازمة للحراسة على حريته، فنزلتُ عند رغبته في سبيل مواطنيَّ، والجنود الذين ذهبوا ضحية جهادهم، والمجد الوطني المشترى بدمهم.»
وبعد أن سرد بونابرت ما جرى في سن كلود، وأثبت بشهادته العظيمة الإفك الجسور الذي حاكه لوسيان عن الخناجر، ختم كلامه هكذا: «أيها الفرنسيون، إنكم ستكافِئون بدون شكٍّ غيرة جندي من جنود الحرية، غيرة مواطن مخلص للجمهورية. إن الأفكار المحافظة، الحارسة، الحرة، قد دخلت إلى مأوى حقوقها بتشتيت المتحزِّبين العصاة الذين كانوا يتعدَّون على حقوق المجالس.»