الفصل التاسع
لو لم يرغب بونابرت في سوى سلطة كبرى لتوطيد النظام في الدولة وإعطاء الثورة النموَّ المُنظَّم الذي جعلته تشنُّجات الديموقراطية مستحيلًا مدة طويلة لكفاه الحكم السامي الدائم، لا سيما مع إعطائه حقَّ اختيار خَلَفِه بنفسه، إلَّا أنه كان يطمح في الحصول على سلطة وراثيَّة اعتقادًا منه أنه إنما يعالج في ذلك دوام النظام الجديد، سليل الثورة. قال: «إن الوراثة تستطيع وحدها أن تمنع ثورة جديدة تنقُض مجريات الأولى. لا يُخشَى على شيء في مدة حياتي، إلَّا أن كلَّ رئيس انتخابي سيكون بعدي عاجزًا عن الوقوف في وجه محاربي البوربون … إن فرنسا مدينةٌ بكثير لقوَّاد فِرَقها العشرين الذين قاتلوا ببسالة في سبيلها، إلَّا أن هؤلاء القوَّاد لم تتوفَّر في أحد منهم شروط القائد العام، أو رئيس الحكومة.» إلامَ استند بونابرت بهذا الرأي الصارم الذي أعطاه عن قوَّاد الفرق الممتازين؟ ألم يكذِّب أحدٌ من هؤلاء، فيما بعدُ، ما عزاه إليهم من عدم الأهلية للحكم؟ أوَ ليس أحد هؤلاء القواد الذين قِيل عنهم باحتقار، سنة ١٨٠٤، إنه لم تتوفَّر في أحد منهم شروط الحكم، هو الذي بقي حتى عام ١٨٣٩ يشغل عرش «وازا» الذي صعد إليه في سنة ١٨١٠ من غير أن يُتاح لحزب السلالة الملكية القديمة، التي حطَّمت صولجان نابوليون، أن تجد في هفوات ذلك القائد الفرنسي القديم وسيلةً لترميم الحقِّ في السويد، كما أُتِيح لها أن تعمل في فرنسا، وإنقاذ أوروبا من عار السرقة الملكية؟ وإذا كان حقيقةً أن القوَّاد العظام يعجزون عن إدارة الدولة أفليس في هؤلاء الرجال السياسيين الممتازين الذين يُحِيطون بالقنصل الأول مَن هو جديرٌ بذلك المنصب؟
إننا لا نوافقه على ذلك، ولا شك في أن طمع بونابرت هذه المرَّة غرَّه غرورًا واضحًا. قيل إنه وهو يبحث عن ضمانٍ ثابت في تأسيس الوراثة الحاكمة إنما كان يتَّكل على أهمية المبدأ الوراثي؛ فهذا الأمل يُبْرِهن برهانًا أكيدًا أن للنبوغ مهما تسامى أوقات رقاد، وللحذاقة مهما رُوِّضت ساعات غباوة.
لقد استُند إلى عظمة المبدأ الوراثي في القرون الوسطى، ولم تكن الوراثة يوم ذاك مُمكِنة فقط بل ضرورية أيضًا. كانت مُمكِنةً لأنه كان يكفي أن يَقِفها الدينُ لتصبح حرَمًا في نظر الأمراء والشعوب، التي كان إيمانهم الحي المُتحِد بذاته له السلطة على كلِّ تنظيم وكلِّ سنة تحمل الطابع الإلهي. كانت ممكنة لأن دَهْن الملوك في تلك الأوقات، التي كان الإيمان فيها عامًّا وحقيقيًّا، لم يكن احتفالًا باطلًا؛ ولأنَّ الزيت المقدس كان ينطوي على فضيلة سياسية، ولم يكن الختم الشرعي إلَّا ملك مسيح الإله وسلالته. وكانت ضرورية لأن أمان المملكة ووحدتها، لولا «التكريس» الديني لتلك العقيدة السياسية، لعُرِّضا للخطر، لدى نهاية كلِّ ملك، على يد مزاحمات التوابع العظام الذين قد يجدُّ بعضهم في طلب التاج عن طريق السلاح، والبعض الآخر عن طريق القوة لينالوا استقلالهم ويحطِّموا نِير كلِّ سيادة. عندما انتهى ريشاليوه ولويس الرابع عشر من قمع الأريستوقراطية القديمة ورسما خطة الوحدة والانضمام التي حقَّقتها الثورة الفرنسية فيما بعدُ، قُدِّر للشدة والجَوْر اللذين عالجاهما ضد الكبراء أن ينجحا لصالح السلطة الملكية بدل أن يكونا شؤمًا عليها؛ لأن السلطة الملكية كانت يوم ذاك تمثِّل الحقَّ الإلهي المُصان بإيمان الشعب. ما حلَّ بالحق الإلهي صائن الوراثة في سنة ١٨٠٤؟ لقد تاب عنه الحقُّ الإلهي للأهلية والنبوغ!
أكان حول الكرسي القنصلي توابع مهيبون، أسياد على أجمل مقاطعات الملك، يترصَّدون الفرصة لشهر الحرب وإطلاق الفوضى في الدولة ليستولوا على السلطة السامية أو يستقلُّوا في زاوية من زوايا المملكة؟ لا، لم يكن يخشى من ذلك شيء؛ إذ إن الطغراء كانت مُمزَّقة! وكانت فرنسا ترى بدل السلطات الإقطاعية سلطة جديدة تتدفَّق من جميع الجهات، من الزراعة والتجارة والفنون والعلوم، وترتفع فوق السلطات القديمة بكلِّ ما في السيادة الحقَّة من الأهلية الشخصية التي هي فوق أعراض النسب، والتي لا تستطيع أن تبقى وتنشأ إلا بالسلام.
لقد أخطأ بونابرت بطلبه تحقيق الحكم الوراثي على يد قواعد وأعمال هي من شأن حالة اجتماعية مختلفة، والذي كان ممكنًا وضروريًّا في وسط مجتمع عسكري مؤمن، لم يكن ممكنًا ولا ضروريًّا في مجتمع صناعي مرتاب لا تحيط به عربدة إقطاعية يخشاها، ولا يطلب من حظوظ المواقع نفسها ثمنًا للانتصارات الحربية اللامعة إلَّا الحق في الاستسلام بطمأنينة إلى أعماله الهادئة. كان القنصل الأول، في الأيام المجاورة للثامن عشر من برومير، قد أعطى بنفسه أسبابًا عظيمة ضدَّ الوراثة، وصرَّح أن هذا التنظيم، الذي كان صالحًا لفرنسا في القرون الوسطى، أصبح مُستحِيلًا على فرنسا في القرن التاسع عشر، قال: «إن الوراثة منافية للعقل ليس لأنها لا تضمن ثبات الدولة فحسب بل لأنها مستحيلة في فرنسا. لقد وُطِّدت زمنًا طويلًا في فرنسا، ولكن بتنظيمات جعلتها ممكنة. تلك التنظيمات لم تبقَ، ويجب أن لا تُوطَّد بعدُ، إن الوراثة تشتق من الحق المدني؛ إنها وُجِدت لتثبيت تقلُّبات الملكية. كيف يُوفَّق بين وراثة الحكم الأول ومبدأ سيادة الشعب؟ كيف يُعتقَد أن هذا الحكم مِلك. عندما كان التاج وراثيًّا كان هناك عددٌ كبير من الولايات الوراثية أيضًا، تلك الفِرْية كانت قاعدة كادت تكون عمومية، ولكن لم يبقَ منها شيء اليوم.» (عن كتاب القنصلية والإمبراطورية للكاتب تيبودو).
إن من الحق أن نقول إن بونابرت، وهو يذعن لانتساب طمعه إلى العصور القديمة، قد احتفظ بميله إلى ضروريات «العصر الحالي» لكيلا يعزو إلى الوراثة التي يؤسِّسها الطابع المطلق ونتائج الحق الإلهي القديم. وكان يرغب في التوفيق بين الوراثة وسيادة الشعب بقدر ما يستطيع؛ فعندما توجَّه إليه مجلسُ الشيوخ في الثامن عشر من شهر أيار سنة ١٨٠٤ ليرفع إليه المرسوم الذي به دُعِي القنصل الأول إلى العرش وبه أُعلِن المقام الإمبراطوري وراثيًّا في أسرته قال في جوابه متكلفًا: «إنني أُذعِن إلى تثبيت الشعب شريعة الوراثة، وآمل أن فرنسا لن تندم على المراتب العليا التي ستشمل بها أسرتي.»
إلا أن المبدأ الوراثي لم ينسب إلى أعضاء الأسرة الإمبراطورية إلَّا نوعًا من الطلب الشرعي من غير أن يَحْرِم الشعب حقَّ خلْعِ الخلف الذي لا يستحق محبته وثقته أو يقف عن استحقاقها. هكذا اتفق على الوراثة في فرنسا منذ مطلع القرن التاسع عشر.
ما كان تأثير الحاكمية المُطلَقة والسلطة الوراثية في فرنسا على عقلية الشعوب الأوروبية؟ وهل نجحت الملكية والوراثة نجاحًا حقيقيًّا، وأصبحت العروش أدعم مما كانت عليه؟
لا بل بالعكس، لقد فسد مبدأ الوراثة عندما نابت الأسر الشعبيَّة عن أنبل السلالات في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، واستقرَّت بين أعقاب كارلوس الخامس وبطرس الكبير وفريدريك. في الثامن عشر من أيار سنة ١٨٠٤، عندما عُهِد إلى القنصل كمباسيريس بوضع المرسوم العلني على أقدام زميله، الذي أصبح سيِّده، تلفَّظ بهذه الكلمات التالية:
«لقد تذوَّق الشعب الفرنسي مدة عصورٍ عديدة الفوائد المنتمية إلى وراثة السلطة، لقد اختبر الطريقة المعاكسة اختبارًا قصيرًا ولكن مُتعِبًا. وإنه ليدخل في سبيلٍ موافق لروحه، ويتصرف بحقوقه تصرُّفًا حرًّا ليفوِّض إلى جلالتك الإمبراطورية سلطة لا يسمح له صالحه أن يعالجها بنفسه، ثم إنه يفوِّض سعادة ذريته — بمعاهدة علنية — إلى أعقاب هم مِن نسلك. وهؤلاء الأعقاب سينهجون نهجك في الفضيلة، ويرثون حبَّنا ووفاءنا.»
فأجاب نابوليون: «إن كل ما يئول إلى خير الوطن إنما هو متعلَّق بسعادتنا جميعًا.
وإنني لأرضى بالمقام الذي تعتقدون أنه عائد بالخير إلى مجد الأمة.»
وفي ذلك الوقت تلفَّظ بونابرت بتلك العبارة المشهورة التي سبق لنا أنْ ذكرناها وهي: «إنني أُذْعِن إلى تثبيت الشعب شريعة الوراثة، وآمل أن فرنسا لن تندم على المراتب العليا التي ستشمل بها أسرتي.»
عندما خرج مجلس الشيوخ من مقابلة الإمبراطور اتجه إلى جوزيفين ليحييها بلقب إمبراطورة، قال لها كمباسيريس: «مولاتي، إن الشهرة تُذِيع عمل الخير الذي لم تقفي فترةً عن القيام به، ولقد قالت: إنك لم تتصرفي بنفوذك بالقرب من رئيس الدولة إلَّا لتخفِّفي من مصائب المساكين. هذا الاستعداد يا مولاتي، يشير إلى أن اسم الإمبراطورة جوزيفين سيكون علامة التعزية والأمل … إذن فمجلس الشيوخ يفتخر بأن يكون في مقدمة من يحيي جلالتك الإمبراطورية.»
فجوزي كمباسيريس على غيرته هذه بأن مُنح مقام مهردار كبير، ومنح لويرون مقام كبير وكلاء الخزينة.
لم يجتهد نابوليون بمراعاة النزاقة الجمهورية في جوابه إلى مجلس الشيوخ فحسب، بل إنه راعى ذلك في القَسَم الذي أعطاه ساعة ملك زمام العرش. لقد أراد أن تدرك فرنسا كلَّ الإدراك أن الإمبراطور كالقنصل ليس إلَّا ممثل الثورة الأول، والعضد الأقوى للمسألة الشعبية، والمحامي السامي عن الجمهورية نفسِها، وهذا هو القَسَم: «إنني أقسم أن أؤيد حقوق أرض الجمهورية؛ أن أحترم وأدعو إلى احترام شرائع الاتفاقية المُقدَّسة وحرية العبادات، أن أحترم وأدعو إلى احترام مساواة الحقوق، والحرية السياسية والمدنية، ورواج المصالح الوطنية، أن لا أفرض ضريبة قطُّ، أن لا أقرِّر تسعيرًا إلا بموجب القانون، أن أؤيد نظام جوقة الشرف، وأن أسلك في الحكم بمقتضى صالح الشعب الفرنسي وسعادته ومجده.»
بالرغم من الجهود التي عُملت لِتَعْتقد الأمة أن تأسيس الإمبراطورية لا يحول دون بقاء الجمهورية فإن تأسيس النسب الجديد أيقظ مخاوف الجمهوريين الثابتين وخلق بعض اعتراضات جديدة. وكان كارنو العضو الأشد بين هؤلاء المعترضين؛ فإنه قاوم فكرة تأسيس السلطة الوراثية لصالح نابوليون وأسرته منذ ظهرت تلك الفكرة في التريبونه. قال: «منذ الثامن عشر من برومير، كان عهد فريد في تاريخ سنيِّ العالم لتأسيس الحرية على أسس مكينة اعترف بها الاختبار والعقل. وبعد معاهدة إميان أُتِيح لبونابرت أن يختار بين القاعدة الجمهورية وقاعدة الحكم المطلق؛ لقد عمل كلَّ ما أراد من غير أن يعترض عليه. عُهِد إليه بأمانة الحرية، فأقسم على المدافعة عنها، ولقد ملأ — ببرِّه بالقسم — رجاءَ الأمة التي لم تجد سواه أهلًا لحلِّ مُشْكِل الحرية الكبير في ولاياته الرحبة؛ إنه لقد غمر بمجد لا مثيل له …»
وعندما انتهى لاسيبيد من خطبته دعا ضبَّاط الجوقة العظام كلًّا باسمه وكان بينهم الكردينال كابرارا. أما الإمبراطور فقد تزيَّا بزي ملوك فرنسا، وفي وسط السكون العميق، وتأمُّل الجمع الديني، رفع صوته وقال: «أيها القواد، والضباط، وأعضاء جوقة الشرف، أيها المواطنون والجنود، إنكم تُقسِمون على شرفكم أن تتفانَوا في خدمة الإمبراطورية والمحافظة على أرضها، إنكم تقسمون أن تدافعوا عن الإمبراطور، وشرائع الجمهورية والمزايا التي أثبتتها، إنكم تقسمون أن تحاربوا كلَّ مشروع يحاول إعادة السياسة الإقطاعية بجميع الوسائل التي يسوِّغها الحق والعقل والشرائع، وأخيرًا تقسمون أن تبادروا بكلِّ قواكم إلى صيانة الحرية والمساواة اللتين هما الأساس لتنظيماتنا، إنكم تُقْسِمون.»
فهتف أعضاء الجوقة جميعهم قائلين: «أُقْسِم!» ودوَّى الهتاف «ليحيَ الإمبراطور!» تحت شرفات الهيكل. وفي اليوم التالي استلمت المدرسة الحربية نظامًا جديدًا. وبعد يومين ذهب نابوليون من باريس ليزور شواطئ المانش ويستكشف المعسكرات التي أنشأها هناك. وكان قد أذاع أن الغاية من هذا السفر إنما هي توزيع أوسمة الشرف على البُسَلاء الذين لم يحضروا حفلة الأنفليد، إلا أن الحقيقة هي أن هذا التوزيع لم يكن سوى حجة، وأن نابوليون إنما كان يرمي إلى تحقيق خطته المنشودة وهي الزحف إلى إنكلترا.
كانت الكتائب في الشواطئ تمتد من الأيتابل حتى أوستاند، وكان دافو يقود فرقة في دونكرك، وناي في كاله، وأودينو في سنت أومار، ومارمون على حدود هولاندا، وسول في معسكر بولونيا العام.
عندما وصل الإمبراطور إلى هذه المدينة الأخيرة وجد الجيش طافحًا نشاطًا وغيرةً؛ إذ إن الجنود والقواد كانوا يخالون نفوسهم على وشك أن يجتازوا المضيق. وكان هناك خمسمائة مركب يقودها الأميرال فرهويل تتراءى أنها لا تنتظر إلَّا إشارة لتتجه إلى مرافئ بريطانيا العظمى. كان نابوليون وحده يعرف سرَّ تعيين هذه المعسكرت الهائلة. وكان يرى صواعق جديدة تتأهَّب على البر، وفي حين كان يظهر مُستغرِقا في تجهيزات حملة بحرية هائلة كان يُعدُّ العدة لحربٍ برية لم يكن بدٌّ من انطلاقها.
تجمَّع ثمانون ألف رجل من معسكري بولونيا ومونترويل تحت أوامر المرشال سول، في سهل واسع، على مقربة من برج القيصر. وظهر الإمبراطور بينهم مُحاطًا بفرقة من الضباط تضمُّ خِيرة قوَّاد هذا العصر الكبير، ثم استقر على مرتفع كأنَّ الطبيعة جعلته له عرشًا، وكرَّر بصوت قويٍّ الخطبة التي وجَّهها إلى أعضاء جوقة الشرف في حفلة الأنفليد، لم يكن كلامه في باريس أقل منه عظمة في بولونيا؛ فإنه هيَّج هيجانًا عموميًّا أدب الغبطة في قلب بونابرت حتى إن القائد راب صرَّح بعد ذلك أنه لم ير نابوليون في تلك الحالة من الفرح.
هذا النهار المشهود عكَّرت صفوه في المساء عاصفة هائلة خُشِي منها خطرٌ على قسم من المراكب، فأسرع الإمبراطور في الحال إلى المَرَفأ ليعطي أوامره باتخاذ الاحتياطات والوقوف على تنفيذها، ولكن عندما وصل هدأت العاصفة كأن العناصر أذعنت أيضًا إلى نفوذ الرجل العظيم وسحر نظراته القاهرة. دخلت المراكب سالمةً إلى المَرْفأ، وعاد نابوليون إلى المعسكر حيث استسلمت الكتائب للغبطة والطرب، وخُتِم المهرجان بنيران اصطناعية أُرسِلت على الشاطئ وشوهدت أشعَّتها من شواطئ إنكلترا نفسها. بينما كان نابوليون مقيمًا بمعسكر بولونيا هرب بحريَّان إنكليزيان، كانا أسيرين في مستودع فردون، وبلغا إلى بولونيا حيث بنيا مركبًا صغيرًا ببعض أخشاب سمَّراها بعضها على بعض سوَّلت لهما نفسهما ركوبه إلى إنكلترا. عندما أنجز عملهما ركب النوتيَّان البحر وحاولا اللحاق ببارجة إنكليزية كانت تجول بمرأى من الشواطئ، إلَّا أنهما ما كادا يسيران قليلًا حتى أُلقِي القبض عليهما وسِيقا إلى المرفأ، ثم مثلا أمام الإمبراطور الذي طلب أن يراهما مع المركب لما أحدثاه من الضجة بجرأتهما النادرة على اقتحام الخطر.
تأمَّلهما الإمبراطور هنيهةً وسألهما قائلًا: أحقيقة أنكما تحاولان عبور البحر بهذا المركب؟ فأجاباه: إن كنت تشكُّ في ذلك يا صاحب الجلالة، فإيذَنْ لنا ترَنا نذهب.
– بطيبة خاطر، إنكما لجسوران، وإني لأعجب بالشجاعة حيثما كانت، ولكني لا أريد أن تخاطرا بروحيكما؛ أنتما حران، إلَّا أني أودُّ أن أقودكما إلى مركب إنكليزي. ستقولان في لوندن أيَّ احترام أحفظه للبُسَلاء حتى ولو كانوا أعدائي.
هذان الرجلان اللذان كانا أُعْدِما كجاسوسيين لو لم يُحْضِرهما الإمبراطور إليه لم ينالا حريتهما فحسب، بل إن نابوليون أعطاهما فوق ذلك كثيرًا من القطع الذهبية، ولقد شعر بلذة فيما بعدُ أن يطلع رفاقه المنفيين في سنت هيلين على هذا الصنيع.
قلنا إن الإمبراطور كان يتوقَّع حربًا برية قريبة؛ لأنه أدرك أن مداولة أوروبا الملوكية، وإن غيَّرت لهجتها وأطماعها تحت ضغط القوى الفرنسية المنتصرة، إلَّا أنها لم تغيِّر ميولها ومبادئها، وإن دسائس الديوان الإنكليزي سيُقدَّر لها من يوم إلى يوم أن تجرَّ بلاط فيينا وبطرسبرج وبرلين إلى مؤامرة جديدة ضدَّ فرنسا. ولقد شعر بهذه الاستعدادت العدوة كلُّ مَن أدرك تنافُر دولة فرنسا الثورية مع باقي الدول أصحاب الملكية القديمة. إلَّا أن نابوليون كان يدرك أيضًا، وبنوع أكيد، مَيْلَ الدواوين النمسوية والروسية والبروسية للحرب، والثمانون ألف الرجل الذين كانوا أمامه في معسكر بولونيا إنما وُجِدوا هناك ليساعدوه على ملافاة ما قد يُحْدِثه ذلك المَيْل الحزبي، ثم إنه أخذ ينشئ ببقايا جنود الجمهورية نواة الجحافل الإمبراطورية الذين قدَّرت لهم الحكمة أن يمرُّوا بجميع عواصم أوروبا. كان هؤلاء دائمًا جنود الماضي وقوَّاده نفوسهم، كانوا رجال القرن الثامن وصفوة روحه، كانوا أبناء الثورة البررة! كان معسكر بولونيا مهد ذلك الجيش الكبير الفاتح المجدِّد الذي، بعد أن مرَّ عليه عشر سنوات من الانتصارات المُدهِشة الغريبة، وجد في ساحة واترلو قبرًا حفرته الخيانة والقَدَر عزَّزه بشجاعته مُؤثِرًا الموت على الاستسلام.
نابوليون، إمبراطور الفرنسيين
سلام على كلِّ من يقرأ هذه الأسطر.
بما أننا عزمنا على تشجيع العلوم والآداب والفنون التي تساعد مساعدةً عظمى على شرف الأمم ومجدها.
وبما أننا نرغب ليس في أن تحافظ فرنسا على السيادة التي اكتسبتها في العلوم والفنون فحسب، بل في أن يفوق القرن الناشئ القرون التي تقدَّمته.
وبما أننا نريد أيضًا أن نعرف الرجال الذين يمتازون بالاشتراك في ازدهار العلوم والآداب والفنون.
- البند الأول: سيجري كلَّ عشرة أعوام في مهرجان ١٨ برومير توزيعُ جوائز كبرى تُعطَى بِيَدِنا في المكان والاحتفال اللذين سيُعيَّنان لها.
- البند الثاني: ستتبارى للجائزة الكبرى جميع المؤلفات العلمية، والأدبية، والفنية؛ جميع المخترعات القيِّمة، والإنشاءات المخصَّصة لترقية الزراعة أو الصناعة الوطنية التي تُنشَر أو تؤلَّف في خلال عشر سنوات، وتُقدَّم سنة قبل أوان التوزيع.
- البند الثالث: سيكون التوزيع الأول للجوائز الكبرى في الثامن عشر من برومير سنة ١٨، وبموجب البند السابق ستشمل المباراة جميع المؤلفات والاختراعات والإنشاءات المنشورة أو المعروفة من ١٨ برومير عام ٧ إلى ١٨ برومير عام ١٧.
- البند الرابع: ستُمنَح تسع جوائز قيمة الواحدة عشرة آلاف فرنك.
- أولًا: لمصنِّفي أفضل تأليفين في العلوم: الأول في العلوم الطبيعية، والثاني في العلوم الرياضية.
- ثانيًا: لمصنِّف أفضل تأليف في التاريخ، قديمًا كان أو حديثًا.
- ثالثًا: لمخترع الآلة الأكثر فائدة للفنون والصناعة.
- رابعًا: لمؤسِّس أفضل نظام للزراعة والصناعة الوطنية.
- خامسًا: لمصنِّف أفضل تأليف «دراماتيكي»، مضحكًا كان أو محزنًا، مُثِّل على المسارح الفرنسية.
- سادسًا: لصانعي أفضل مثالين في الرسم والحَفْر، يمثِّلان حوادث مهمَّة مُستَقاة من تاريخنا.
- سابعًا: لمؤلِّف أفضل «أوبرا» مُثِّلت على مسرح أكاديمية الموسيقى الإمبراطورية.
- البند الخامس: ستُمنَح ثلاث عشرة جائزة قيمة الواحدة خمسة آلاف فرنك.
- أولًا: لمترجمي عشرة كتب خطية من المكتبة الإمبراطورية أو غيرها من مكاتب باريس، كُتِبت بلغات قديمة أو لغات شرقية قيِّمة إنْ في العلوم وإن في التاريخ أو في الآداب والفنون.
- ثانيًا: لناظمي ثلاث قطع شعرية صغيرة موضوعها حوادث مهمَّة مستقاة من تاريخنا، أو أعمال من شأنها أن تشرِّف الخلق الفرنسي.
- البند السادس: تُمنَح هذه الجوائز بشهادة لجنة محكمة مؤلَّفة من أربعة كَتَبة من المجمع العلمي، وأربعة رؤساء.
ترك نابوليون مدينة شرلمان ومشى إلى مايانس مجتازًا كولونيه وكوبلن، فخفَّ إليه أمراء الإمبراطورية، فاغتنم ساعةَ تهافُتهم ليؤسِّس معاهدة الرين التي فكَّر في جعلها حائلًا لفرنسا دون سلطات الشمال الكبرى.
إلَّا أن الإكرام الأكيد والمتصنَّع الذي أبداه الأمراء ورضا الشعب لم يكفِ مجدِّد إمبراطورية شرلمان العظيم. كان بطل القرون الوسطى قد وقف سلطته للدين، وشاء نابوليون أن يُحيط عرشه بجميع المساعدات التي أُحِيط بها عرش شرلمان. ولكي تكون المشابهة قريبة، بقدر ما يُستطاع، رغب في المَسْحة الحبرية وأرسل لهذه الغاية من مايانس إلى روما وسيطًا يُدعَى كافاريللي ليُقنِع بيوس السابع بالمجيء إلى باريس ليمسح إمبراطور الفرنسيين. وفي حين كان هذا التوسُّط جاريًا في روما، كان نابوليون مهتمًّا في شواطئ الرين بتسفير الأسطولين أحدهما من روشفور والآخر من طولون، تحت قيادة الأميرالين ميسبيسي وفيللنوف.
وبعد غياب طال ثلاثة أشهر أخذ بونابرت طريق عاصمته، ووصل إلى سن كلود في أواخر تشرين الأول.
كان التتويج من عهده على أيَّام. أرسل كافاريللي من روما يقول إن بعثته قد نجحت، إذن فسيتم لنابوليون أن يجلس على عرش أبناء الكنيسة الأبكار برضا الشعب العلني وتحت عناية رأس الكنيسة المعصوم، ولكن كان من الواجب أن تشترك فخفخة التمثيل السياسي بأبَّهة الدين، وكان مجلس الشيوخ، والتريبونه، ومجلس شورى الدولة معتبرين في حالة استمرار؛ أما الفرقة التشريعية فقد كانت وحدها بحاجة إلى استدعائها قبل زمن طويل، ولقد جرى ذلك بأمرٍ صدر في ١٧ تشرين الأول.
كان أعضاء مجلس الشيوخ قد أقسموا قسمًا شخصيًّا للإمبراطور، حتى إن رئيس تلك الفرقة، فرنسوا ده نوشاتو، لَفَظ خطبةً ننقُل منها الجملة التالية: «مولاي، في المستقبل البعيد، عندما يجيء أبناء أبنائنا، بمثل هذا الموكب، ليعترفوا بأحد أحفادك إمبراطوارًا عليهم، بأحد أحفادك الذي من حقِّه أن يسمع قسم وفائهم، عندما يجيئون ليظهروا له دعاء الشعب وحاجاته، ويرسموا له واجباته، لا يجدون غير كلمة يقولونها له وهي: إنك تُدعَى بونابرت، أنت رجل فرنسا، أيها الأمير، تذكَّر نابوليون الكبير.»
عندما جُمِعت أصوات الشعب لمرسوم الشيوخ الصادر في ٢٨ فلوريال عام ١٢، وأكَّد رودورير، عضو لجنة الإحصاء، أن ثلاثة ملايين وخمسمائة واثنين وسبعين ألفًا وثلاث مائة وتسعة وعشرين مواطنًا قد صرَّحوا بأنهم يريدون وراثة الحقِّ الإمبراطوري لسلالة نابوليون بونابرت الطبيعية، والشرعية، والمتبنَّاة، ولسلالة جوزيف بونابرت ولويس بونابرت الطبيعية والشرعية، عُهِد أيضًا إلى فرانسوا ده نوشاتو بأن يهنِّئ نابوليون على شهادة الثقة وعرفان الجميل الجديدة التي منحه إيَّاها الشعب الفرنسي، فأجاب نابوليون: «إنني أصعد إلى العرش الذي دعتني إليه أماني مجلس الشيوخ والشعب والجيش، وملء قلبي عاطفة هذا الشعب الذي كنتُ أولَ مَن حيَّاه باسم كبير في وسط الحروب.
لقد حقَّت له جميع أفكاري منذ نعومة أظفاري، وأراني مضطرًّا إلى القول إن أفراحي وأحزاني لم تعد تتألَّف اليوم إلَّا من سعادة شعبي وشقائه.
سيحافظ أعقابي طويلًا على هذا العرش، الأول في العالم.
وسيكونون في الحروب الجنود الأوَّلين في الجيش فيضحُّون بحياتهم لأجل بلادهم.
وأنتم أيها الشيوخ الذين لم يفتني عضدهم ومشورتهم في أشدِّ المواقف صعوبة، كونوا دائمًا سَنَدَ هذا العرش الضروري لخير هذه الإمبراطورية الرَّحْبة.»
في أوائل تشرين الثاني سافر بيوس السابع من روما فوَصَل إلى فونتينبلو في الخامس والعشرين منه، فاتجه نابوليون إلى ملاقاته على طريق نمور، وكان قد دبَّر نزهة صَيْد لِيُصادف وجوده على طريق البابا. عندما وقع نظر بونابرت على البابا ترجَّل، وعمل الخليفة مثله، وبعد أن تعاقنا صعدا إلى المركبة معًا واتجها إلى قصر فونتينبلو الإمبراطوري حيث جرت بينهما محادثات عديدة، وفي الثامن والعشرين دخلا منه إلى باريس.
كان المسح قد عُيِّن في اليوم الثاني من كانون الأول. إلَّا أنهم تردَّدوا أولًا في اختيار المكان. قال بعضهم في شان ده مرس، وقال البعض الآخر في كنيسة الأنفليد، سوى أن نابوليون فضل نوتردام. كان شان ده مرس طافحًا بالذكريات الثورية فلم يصلح لاحتفالٍ أرادت الثورة أن تظهر فيه أوروبا أنها تستطيع أن توفِّق بين وحدة السلطة والدين، وقد عملت على أن تنسي ابتداءاتها الهائجة وأحقادها الأولى على الملوك والكهنة.
في اليوم المُعيَّن اتَّجه بيوس السابع إلى نوتردام يتبعه عددٌ غفير من الإكليروس، وتتقدَّمه، حسب العادة الرومانية، بغلة أضحكت الباريسين كثيرًا، مما أفسد مدَّة قصيرة جلال الموكب الحبريِّ. أما الإمبراطور فقد جاء بعد البابا، لم يُحَط أميرٌ من أمراء العالم بموكب أعظم وأفخم من الموكب الذي أحاط بنابوليون. كان هناك جميع العظماء العسكريين والملكيين؛ وكانت عظمة المجد الشخصي تمتزج بعظمة المقامات والجدارة. أما فخفخة الأشعرة والأزياء، وزين المركبات والجياد، وازدحام المتفرِّجين الذين أقبلوا من جميع أطراف الإمبراطورية فقد اشتركوا كلُّهم في إعارة ذلك المهرجان مَشْهدًا من العظمة لم ترَ العصور مثله قط. وأما الأمة فقد مثَّلها في نوترادم رؤساء الأقاليم، والمدارس المنتخَبة، ونواب وكالات الجيش، والفرقة التشريعية وباقي الفرق الكبرى في الدولة.
عندما انتهى البابا من الذبيحة تقدَّم الإمبراطور من الهيكل، ولكنه لم ينتظر حتى يتوِّجَه البابا، بل أخذ التاج من يدي الحبر ووضعه على رأسه، ثمَّ توَّج الإمبراطورة. وفي اليوم التالي جرى استعراضٌ في شان ده مرس تبعه توزيع النسور الإمبراطورية على فِرَق الجيش. ولقد وزَّع الإمبراطور بنفسه هذه الأعلام على كلِّ فرقة بمفردها، ثم أشار إلى الكتائب فاقتربت منه، فقال لها: «أيها الجنود، هذه هي أعلامكم، إن هذه النسور إنما هي عنوان التئامكم؛ ستكون دائمًا حيث يرى إمبراطوركم أنها ضرورية للدفاع عن عرشه وشعبه.
إنكم لتقسمون أن تضحُّوا بحياتكم في سبيل الدفاع عنهما، وأن تؤيِّدوهما بشجاعتكم في طريق الشرف والنصر؟»
فأجاب الجنود بهتاف واحد: «نقسم!»
أراد مجلس الشيوخ ومدينة باريس، عقيب ذلك، أن يُثْبتا عهد التتويج بمهرجانات أقامها للإمبراطور والإمبراطورة، ولقد رفع مجلس العاصمة البلدي، بهذه المناسبة، كِتاب تهنئة إلى الإمبراطور، الذي أجابه بما يلي:
«حضرات أعضاء المجلس البلدي، لقد مَثَلْتُ بينكم لأعطي مدينتي الطيبة باريس ضمان حمايتي الخاصة، وإني لأجد لذَّة وواجبًا في كلِّ سانحة أن أُبْرِهن لها عن حسْن التفاني؛ إذ إني أريد أن تعرفوا أنني، في المواقع، في أصعب المواقف الخطرة، في البحار، في وسط الصحاري نفسها، لم أحوِّل نظري فترة عن مذهب عاصمة أوروبا هذه.»
كان بيوس السابع قد بقي في باريس مدَّة تلك المهرجانات كلِّها؛ فإنه لم يحضر إلى فرنسا إلا على أمل أن يستفيد من تنازُله ليس لصالح الدين فسحب، بل لسلطته الزمنية أيضًا. إذن كان من الطبيعي أن يمدِّد إقامته بالقرب من نابوليون بقدر ما أوجبته الضرورة لتحقيق آماله. وسنرى فيما بعدُ هل تحقَّقت هذه الآمال، وهل خطر يومًا للإمبراطور، الذي بذل للحبر الروماني تلك الإكرامات وذلك الاحترام لقاء المَسْحة المقدسة التي أخذها منه، أن يضحِّي له بمبادئ السياسة الفرنسية في إيطاليا وفوائدها؟