أنتين يذهب في زيارة
لدى أخوات النجمة دائمًا صبيٌّ مُتدرب، دائمًا ولد صغير. حسنًا، لم يكن صبيًّا متدربًا بقدْر ما كان، في الواقع، خادمًا. كانوا يُعينون الصبيَّ في سن التاسعة ويُبقونه إلى أن يُطرَد مع ملاحظة واحدة.
كلُّ صبيٍّ كان يتسلَّم الملاحظة نفسها. في كل مرة الملاحظة نفسها.
كانت الملاحظة تقول: «لقد كانت لدَينا آمال عظيمة، لكنه خيَّب آمالنا.»
بعض الصبية لم يخدموا سوى أسبوعٍ أو اثنين. سمع أنتين عن صبيٍّ من المدرسة لم يقضِ سوى يومٍ واحد. كان يُطلَب من معظمهم ترك الخدمة في سنِّ الثانية عشرة، مباشرةً بعدما يكونون قد بدءوا يشعرون بالراحة. بمجرد أن يُصبحوا على درايةٍ بكمية المعارف التي يُمكنهم تعلُّمها في مكتبات «البرج» ويصبحوا متعطشين إليها، كانوا يُطرَدون.
كان أنتين في سن الثانية عشرة عندما تسلَّمَ الملاحظة الخاصة به، بعد يومٍ واحد من حصوله على امتيازات المكتبة (بعد سنوات من الإلحاح في طلبها). كانت ضربة ساحقة.
عاشت «أخوات النجمة» في «البرج»، وهو مبنًى ضخم يُزعج العين ويشوِّش العقل. ينتصب البرج في مركز «المحمية»، مُلقيًا بظلِّه في كل مكان.
تحتفِظ «أخوات النجمة» بمخازن المؤن والمكتبات المُلحقة والأسلحة في طوابق لا تنتهي تحت الأرض. خُصِّصت غُرَف من أجل تجليد الكتب وخلط الأعشاب والتدريب على المبارزة بالسيف والتدريب على القتال بالأيدي. كانت «أخوات النجمة» يتَّسِمن بالمهارة في جميع اللغات المعروفة، وعلم الفلك، وفن صناعة السموم، والرقص، والتعدين والفنون القتالية، وفن الزخرفة بالقصاصات (الديكوباج)، ويتمتَّعن بمعرفة أدقِّ تفاصيل فنون القتل. فوق سطح الأرض، كان يُوجد مكان إقامة «الأخوات» البسيط (ثلاث لكل غرفة)، ومساحات للاجتماع والتأمُّل، وزنازين مَنيعة، وغرفة تعذيب، ومرصد للأجرام السماوية. كل هذه الأماكن كانت متصلة ببعضها داخل هيكل معقد من الممرات ذات الزوايا الغريبة والدرجات المتقاطعة الملتفَّة حول نفسها من باطن المبنى وحتى أعماقه السحيقة، كما تلتف إلى أن تصل إلى قمته فوق المرصد وتعود. إذا كان هناك شخص أحمق بما يكفي لدخول المبنى دون تصريح، فسيقضي أيامًا يتجول فيه دون أن يعثر على مخرج.
خلال السنوات التي قضاها أنتين في «البرج»، كان بوسعِهِ أن يسمع أصوات نعير «الأخوات» في غُرَف التدريب، وكان بوسعه أن يسمع أصوات نحيبٍ متقطعةً من الزنازين وغرفة التعذيب، كما كان بوسعه أن يسمع انغماس «الأخوات» في مناقشات حامية الوطيس حول عِلم النجوم والتركيب الكيميائي لثمار الزيرين أو معنى قصيدة مثيرة للجدل جدًّا. كان بوسعه أن يسمع «الأخوات» يتغنَّينَ وهن يطحنَّ الدقيق أو يَغلين الأعشاب أو يَسننَّ سكاكينهن. تعلم أن يكتُب ما يُملى عليه، وتنظيف المراحيض، وإعداد الطاولات، وتقديم وجبة غداء مُمتازة، وأتقن فنَّ تقطيع الخبز إلى شرائح. وتعلم متطلبات إعداد إبريقٍ ممتاز من الشاي، والتفاصيل الدقيقة لإعداد الشطائر وكيفية الوقوف بثباتٍ تامٍّ في ركنٍ من أركان الغرفة والاستماع إلى محادثة، وتذكُّر التفاصيل كلها دون أن يجعل المُتحدِّثين يُلاحظون وجوده على الإطلاق. وكثيرًا ما أثنت «الأخوات» عليه أثناء فترة وجوده في «البرج»، وامتدحن حُسن خطِّه وسُرعته وسلوكه المهذب. لكن هذا لم يكن كافيًا. لم يكن كافيًا على الإطلاق. فكلَّما تعلَّم أكثر، أدرك أن أمامه المزيدَ كي يتعلَّمه. كانت تُوجَد هناك حصيلة هائلة من المعرفة داخل المجلدات المغبرة المرصوصة فوق أرفف المكتبات، وكان أنتين مُتعطشًا لأن ينهل منها جميعًا. لكن لم يُسمَح له بأن ينهلَ منها. عمل بجد. وبذل قصارى جهده. وحاول ألا يفكر في الكتب.
ومع ذلك، عاد في أحد الأيام إلى غرفته ووجد حقائبه قد حُزمت. ثبتت «الأخوات» ملاحظةً على قميصه وأرسلوه إلى أُمِّه. كانت الملاحظة تقول: «لقد كانت لدَينا آمالٌ عظيمة، لكنه خيَّب آمالنا.»
لم يتمكن من تجاوُزِ هذا مطلقًا.
الآن، بصفته «حكيمًا تحت التدريب»، كان من المفترض أن يكون في قاعة المجلس، يُعِد جلسات الاستماع، لكنه ببساطة لم يستطع. بعدما اختلق الأعذار، مُجددًا، بشأن عدم حضور «يوم التضحية»، لاحظ أنتين اختلافًا واضحًا في علاقة الأُلفة بينه وبين الحكماء. وجد مزيدًا من الغمغمة. وكثرت النظرات الجانبية. والأدهى من ذلك كله، أن خاله رفض حتى أن ينظر إليه.
لم يكن أنتين قد وطِئ «البرج» منذ أيام تدريبه، لكنه شعر أنه آن الأوان كي يزور «الأخوات»، اللاتي كنَّ بالنسبة له عائلة مؤقتة، على الرغم من غرابتهن وتحفظهن ودمويتهن التي لا يمكن إنكارها. ولكن هذا لم يكن يُشكل فارقًا. فالعائلة تظل هي العائلة، هكذا قال لنفسه وهو يسير لأعلى نحو الباب المصنوع من البلوط ثم يطرق الباب.
(ثمة سبب آخر للزيارة بالتأكيد. لكن أنتين لم يكن يستطيع أن يعترِف به ولو حتى لنفسه. وكان هذا السبب يجعله يرتعش.)
أجاب أخوه الصغير الطرق على الباب. اسمه رووك. كان أنفه يسيل كالمعتاد، وكان شعره أطول مما كان عليه حين رآه أنتين آخِر مرة، منذ عام.
قال رووك: «هل أنت هُنا كي تصحبني إلى البيت؟» وكان صوته خليطًا من الأمل والخجل. «هل خيبتُ آمالهم أنا أيضًا؟»
قال أنتين، وهو يحكُّ رأس أخيه الأصغر وكأنه كلب حسَن السلوك: «من الرائع أن أراك يا رووك. لا. أنت هنا منذ سنة واحدة فقط. لديك مُتسع من الوقت كي تُخيب آمالهم. هل الأخت إجنيشا موجودة؟ أودُّ أن أتحدث معها.»
ارتعش رووك ولم يلُمْه أنتين على ذلك. فقد كانت الأخت إجنيشا امرأة جبارة. ومرعبة. لكن أنتين كان دومًا على علاقة طيبة معها وبدت مُولَعة به دائمًا. وكانت «الأخوات» الأخريات على يقينٍ من أنه كان يعلم كم أن هذا أمر نادر. اصطحب رووك أخاه الأكبر لغرفة مكتب «رئيسة الأخوات»، مع أنه كان يستطيع الوصول إليها مغمض العينين. إذ كان يعرف كل خطوة، وكل شقٍّ صخري في الجدران العتيقة، وكل لوح خشبي يُصدر صريرًا في الأرضية. كان، بعد كل هذه السنوات، لا يزال يحلم بالعودة إلى «البرج» مرة أخرى.
قالت الأخت إجنيشا من مكتبها: «أنتين!» كانت، حسبما بدا، تُترجِم نصوصًا ذات صلة بالنباتات. كان شغف الأخت إجنيشا الأكبر هو النباتات. كان مكتبها ممتلئًا بنباتات من كل الأوصاف، مُعظمها أتى من أكثر المناطق غموضًا في الغابة أو المُستنقع، لكن بعضها جاء من جميع أنحاء العالم عن طريق تجَّار مُتخصصين في المدن الموجودة على الطرف الآخر من «الطريق».
قالت إجنيشا، وهي تنهض من مكتبها وتقطع الغرفة التي تفوح منها رائحة عطر ثقيل كي تضع رأس أنتين بين يدَيها القويتَين الخشنَتَين: «عجبًا، يا فتاي العزيز.» ربَّتت برفق على خدَّيه لكن يدها كانت لا تزال تلسع. «لقد أصبحتَ اليوم أكثر وسامةً بكثير مما كنت عليه حينما أرسلناك إلى البيت.»
قال أنتين، يُراوده نفس الشعور بالخجل لمجرد التفكير في ذلك اليوم المقيت الذي ترك فيه «البرج» مع ملاحظة: «أشكرك أيتها القائدة.»
«اجلس، من فضلك.» نظرت إلى خارج الباب وصاحت بصوتٍ مرتفع جدًّا. نادت رووك: «يا ولد! يا ولد، هل تسمعني؟»
صاح رووك بصوت كالصرير: «نعم أيتها القائدة» وهو يندفع عبر مدخل الغرفة ويتعثر في عتبة الباب.
لم تكن إجنيشا مسرورة بذلك. «نُريد شاي اللافندر وبسكويت بزهور الزيرين.» نظرت إلى الصبي نظرةً قاسية، فركض بعيدًا وكأن نمرًا يركض خلفه.
تنهدت الأخت إجنيشا. «يؤسِفني أن أقول إن أخاك يفتقر إلى مهاراتك. هذا مؤسف. كانت لدَينا آمال كبيرة.» أشارت لأنتين أن يجلس على أحد الكراسي؛ كان مُغطًّى بنوع شائك من النباتات المتسلقة. لكن أنتين جلس عليه عَلَى أَيِّ حَال، محاولًا أن يتجاهل الوخز في ساقَيه. جلست الأخت إجنيشا قُبالته وانحنت مُتفحصةً وجهه.
«أخبِرني يا عزيزي، هل تزوَّجْت؟»
قال أنتين، وقد احمرَّ وجهه خجلًا: «لا يا سيدتي. ما زلتُ بَعدُ صغيرًا».
طقطقت الأخت إجنيشا بلسانها على سقف حنكها. «لكن تعشق فتاةً ما. يُمكنني أن أتبين ذلك. لا يمكنك أن تُخفي أي شيءٍ عني، أيها الصبي العزيز. إياك حتى أن تحاول.» حاول أنتين ألا يُفكر في الفتاة التي كانت في مدرسته. إيثين. كانت في مكانٍ ما في هذا البرج. لكنه فقدها، ولم يكن يُمكنه فعل شيء حيال ذلك.
قال متهربًا: «مهامِّي مع المجلس لا تُتيح لي الكثير من الوقت.» وهو ما كان صحيحًا.
قالت وهي تلوِّح بيدها: «بالطبع، بالطبع. المجلس.» بدا لأنتين أنها قالت الكلمة بنبرةٍ تنطوي على بعض الاستهزاء. لكنها بعد ذلك عطست قليلًا، وافترض أنه حتمًا تخيل ذلك.
«لم يمضِ على كوني «حكيمًا تحت التدريب» سوى خمس سنوات، لكنني أتعلم …» توقف فجأة. واختتم كلامه بصوت مكتوم، قائلًا: «كثيرًا».
تردَّد صوت بداخله: «الرضيعة على الأرض.
المرأة تصرخ من العوارض الخشبية.»
مهما حاول، لم يتمكن بعد من طرد تلك المشاهد من رأسه. ولا رد المجلس على أسئلته. ما الذي دعاهم إلى التعامُل مع أسئلته بهذه الاستهانة؟ لم يكن لدى أنتين أي فكرة.
مالت الأخت إجنيشا برأسها على أحد الجانبين ونظرت إليه نظرةً متفحصةً. «بصراحة، أيها الصبي العزيز جدًّا، لقد صُعِقتُ من اتخاذك قرار الانضمام لتلك الهيئة، وأُقر بأنني افترضتُ أنه لم يكن قرارك على الإطلاق، وإنما قرار … أُمك الرائعة.» جعَّدت شفتَيها في امتعاض، وكأنها تتناول شيئًا حامضًا.
كان هذا صحيحًا. كان صحيحًا تمامًا. لم يكن الانضمام للمجلس اختيار أنتين على الإطلاق. لو كان الأمر بيده لاختار أن يكون نجَّارًا. ولقد قال هذا لأُمِّه كثيرًا، كثيرًا ومطولًا، لكنها لم تستمع إليه.
تابعت الأخت إجنيشا: «النجارة، كان هذا سيكون تخميني. فقد كنتَ دومًا تميل إليها»، ولم تلاحِظ الصدمة على وجه أنتين لأنها كانت، على ما بدا، قد قرأت ما كان يجول بخاطره.
«أنتِ …»
ابتسمت مُضيِّقة عينيها: «حسنًا، أنا أعرف القليل، أيها الشاب.» وسَّعَت فتحتَي أنفها ورمشت بعينَيها. «ستندهش.»
تعثَّر رووك وهو يدخل حاملًا الشاي والبسكويت، وتمكن من سكْب الشاي ورمْيِ البسكويت في حجر أخيه. رمقَتْهُ الأخت إجنيشا بنظرةٍ حادة كنصل السكين، فاندفع إلى خارج الغرفة في ذُعر، وكأنه ينزف بالفعل.
قالت الأخت إجنيشا، وهي ترتشف من كوب الشاي بابتسامة: «والآن. ما الذي يُمكنني أن أفعله من أجلك؟»
قال أنتين، على الرغم من أن فمه كان مُمتلئًا بالبسكويت: «حسنًا. لقد أردتُ الزيارة فحسب. فأنا لم آتِ منذُ وقتٍ طويل. أنتِ تعلمين هذا. جئتُ للتواصل. والاطمئنان على أخبارِك.»
تردد صوتٌ بداخله: «الرضيعة على الأرض.
الأم تصرخ.
يا إلهي، ماذا لو وصل للرضيعة كائن آخَر قبل الساحرة؟ ماذا سيحدُث لنا عندئذٍ؟
يا إلهي، لماذا يجب الاستمرار في هذا؟ لماذا لا يُوقِفه أحد؟»
ابتسمت إجنيشا. وقالت «كاذب»، فطأطأ أنتين رأسه. ضغطت على ركبتِه بحنان. قالت، ملطِّفةً: «لا تخجل أيها الفتى المسكين. لستَ الوحيد الذي يتمنَّى أن يحملق ويُحدق في الحيوان الموضوع في القفص. أفكر في فرض رسم دخول.»
احتج أنتين، قائلًا: «أوه. لا، أنا …»
أسكتَتْه بإشارة من يدِها. «لا داعي. أنا متفهمة تمامًا. هي طائر نادر. لغز محير. نافورة أحزان.» تنهَّدت تنهيدة خفيفة، وارتجف جانِبا شفتَيها، كطرف لسان ثعبان. رفع أنتين حاجبَيه.
سأل أنتين: «هل يُمكن أن تُعَالَج؟»
ضحكت الأخت إجنيشا. «آه، يا عزيزي أنتين! لا يُوجَد علاج للحزن.» انفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة، وكأن هذا كان أفضل خبر.
ألحَّ أنتين، قائلًا: «بالتأكيد. ولكن، لا يُمكن أن يدوم للأبد. فكثيرون جدًّا من قومِنا فقدوا أطفالَهم. وليس حزن الجميع كهذا الحزن.»
زمَّت شفتَيها كنايةً عن الاستهجان. «لا. لا ليس كذلك. جنونها هو الذي يُعَظِّم حزنها. أو جنونها نابع من حزنها. أو ربما هو أمر مُختلف تمامًا. هذا يجعل منها مادةً شَيِّقةً للدراسة. أنا بالفعل أُقدِّر وجودها في «برجنا» الحبيب. نحن نستفيد استفادةً جيدة من المعرفة التي نحصل عليها من ملاحظة عقلها. فالمعرفة في النهاية سلعة لا تُقدَّر بثمن.» لاحظ أنتين أن خدَّي «رئيسة الأخوات» كانا مُتورِّدين أكثر قليلًا مما كانا عليه آخر مرة كان فيها في «البرج». «ولكن صدقًا، أيها الصبي العزيز، مع أن هذه السيدة العجوز، تُقدِّر الاهتمام من شابٍّ وسيم، لستَ في حاجةٍ للتمسُّك بالرسميات معي. يومًا ما يا عزيزي، ستنال عضويةً كاملةً في المجلس. كل ما عليك فعله أن تطلُب من الصبي الموجود عند الباب أن يُريك أي مسجونٍ تودُّ رؤيته. تلك هي القاعدة المتبعة.» رمقته ببرود. لكن هذا لم يدُم طويلًا. وسرعان ما منحت أنتين ابتسامةً دافئة. «هيا تعالَ أيها الحكيم الصغير.»
نهضت وسارت نحو الباب دون أن تُصدِر صوتًا. تبِعها أنتين، يمشي مُتثاقلًا وحذاؤه يُحدِث جلبةً على الأرضية.
على الرغم من أن زنازين السجن كانت فوقهما بطابقٍ واحد، تطلَّب الصعود إلى هناك أربع سلالم. اختلس أنتين النظر من غرفةٍ إلى أخرى، على أمَلِ أن يلمح إيثين، الفتاة التي عرفها من المدرسة. رأى العديد من العضوات اللاتي ترهبن لكنه لم يرَها. حاول ألا يشعُر بخيبة الأمل.
كانت درجات السلالم تلتفُّ يمينًا ويسارًا وتنحدِر في دوَّامةٍ ضيقة إلى حافة الغرفة الرئيسية في طابق السجن. كانت الغرفة المركزية عبارة عن مساحة دائرية ليس بها نوافذ، وبها ثلاث «أخوات» يجلسْنَ في المنتصف بالضبط على كراسي موضوعة على شكل مثلث ضيق بحيث كانت كل واحدة تُولي ظهرها للأُخرَيَين، وتضع كل واحدة منهن قوسًا على حِجرها.
نظرت الأخت إجنيشا نظرةً آمِرةً إلى أقرب «أخت». وأشارت بحركةٍ من رأسها نحو أحد الأبواب.
«دعيه يدخل لرؤية رقم خمسة. سيطرق الباب عندما يكون مُستعدًّا للمُغادرة. حاذري أن تُصيبيه بغير قصد.»
ثم بابتسامة، عادت ببصرِها إلى أنتين وعانقَتْه.
قالت، بوجهٍ بشوش: «حسنًا، سأذهب»، ومضت عائدةً إلى السُّلَّم الحلزوني بينما نهضت أقرب الأخوات وفتحت الباب المكتوب عليه الرقم «٥».
التقت عيناها بعينَي أنتين وهزَّت كتفَيها بلا مبالاة.
«لن تُقَدِّم لك الكثير. كان علينا أن نُبقِيَها في أوضاعٍ خاصة كي نُبقِيَها هادئة. وتعين علينا أن نحلق شعرها الجميل لأنها لم تتوقَّف عن محاولة شدِّه وتقطيعه.» تفحَّصَتْه من أعلى لأسفل. «أنت لا تحمل معك أي أوراق. أليس كذلك؟»
رفع أنتين حاجبيه. «أوراق؟ لا. لماذا؟»
زَمَّت «الأخت» شفتيها في امتعاضٍ فصنعتا خطًّا رفيعًا. وقالت: «غير مسموح بحيازة الأوراق.»
«لمَ لا؟»
صار وجه «الأخت» خاليًا من أي تعبير. صار جامدًا كيدٍ داخل قفاز. قالت: «سترى.»
وفتحت الباب.
كانت الغرفة عبارة عن فوضى من الأوراق. كانت السجينة قد مزقت الأوراق وطوتها ولفَّتْها وهدَّبَتها مكونة عدة آلاف من الطيور الورقية، من كل الأشكال والأحجام. كانت تُوجَد بجعات ورقية في الزاوية، وطيور بلشون ورقية على الكرسي، وطيور طنانة ورقية صغيرة تتدلى من السقف. وبطَّات ورقية وطيور أبو الحناء ورقية وطيور سنونو ورقية ويمام ورقي.
للوهلة الأولى، صُدم أنتين مما رأى. كان الورق غاليًا. غاليًا جدًّا. كان يوجد صناع ورق في المدينة يصنعون حزمًا جميلة من أوراق الكتابة من خليط من لباب الخشب وعشبة البِرك والكتان البري وزهور الزيرين، لكن معظمها كان يباع للتجار الذين يأخذونها إلى الطرف الآخر من الغابة. وعندما كان أي شخص من «المحمية» يدون أي شيء، كان هذا يأتي بعد قدرٍ كبير من التفكير والتأمل والتخطيط.
أما هنا، فكانت تقبع هذه المرأة المجنونة. كانت تُهدِر الورق. لم يستطع أنتين أن يخفي صدمته.
ومع هذا، لم يكن الأمر برمته سيئًا.
كانت الطيور المصنوعة مُعقدة ومفصَّلة على نحوٍ مدهش. ازدحمت الأرضية بالطيور الورقية، كما تراكمت فوق السرير، وكانت تطلُّ من دُرجَي خزانة السرير الصغيرة. ولم يكن يمكنه إنكار أن هذه الطيور الورقية كانت «جميلة جدًّا». كانت «جميلة جدًّا». وضع أنتين يده على قلبه.
همس: «عجبًا.»
كانت السجينة راقدةً على السرير، تغطُّ في النوم، لكنها استيقظت على صوته. فتَمَطَّت ببطءٍ شديد. وببطءٍ شديد، وضعت مرفقَيْها تحت جسدها ومالت على جانبها قليلًا قليلًا.
بصعوبة شديدة تعرَّف عليها أنتين. كانت قد فقدت شعرها الأسود الجميل، الذي حُلق بالكامل، وكذلك فقدت التوهُّج الذي كان يشعُّ من عينَيها، وتورُّدَ خدَّيها. وضمرت شفتاها وأصبحتا مُتدلِّيتَين وكأنهما أثقل من أن يتماسكا، وكان خداها شاحبين وباهتين. حتى الشامة الهلالية على جبهتها كانت مجرد أثر لما كانت عليه في السابق، كأنها بقعة رماد على جبينها. كانت يداها الصغيرتان الماهرتان مُغطَّاتَين بقصاصات صغيرة — قال أنتين في نفسه إنها ربما كانت قصاصات ورقية — ولطَّخَت بقعٌ داكنة من الحبر أناملها. تفحصته عيناها من أعلى لأسفل، ومن أسفل لأعلى، ومن اليمين إلى اليسار، لكنها لم تتعرف عليه. ولم تتمكن من تحديد نواياه.
قالت ببطءٍ: «هل أعرفك؟»
أجاب أنتين: «لا يا سيدتي.»
قالت: «أنت تبدو» — وابتلعت ريقها — «مألوفًا.» بدا وكأن كل كلمة كانت تُسحَب من بئر عميقة جدًّا.
تلفت أنتين حوله. كانت تُوجَد طاولة صغيرة عليها مزيد من الأوراق، لكن هذه الأوراق كان مرسومًا عليها. كانت عليها خرائط غريبة ومُحيرة تحتوي على كلمات غير مفهومة له وعلامات لم يعرفها. وجميع هذه الأوراق كانت تحتوي على عبارة واحدة مكتوبة على الركن السفلي الأيمن منها: «إنها هُنا؛ إنها هُنا؛ إنها هُنا».
تساءل أنتين في نفسه: «من التي هُنا؟»
«أنا عضو في مجلس الحكماء يا سيدتي. في الواقع، يمكنكِ القول إنني عضو مؤقت. «حكيم تحت التدريب».»
قالت «حسنًا» وتراجعت وتمدَّدَت على السرير مرة أخرى محدقةً في السقف بوجهٍ خالٍ من التعابير. «إنه أنت. أنا أتذكرك. هل جئتَ لتسخر منِّي أنت أيضًا؟»
أغمضت عينَيها وضحكت.
تراجع أنتين خطوةً للخلف. وشعر بقشعريرة تسري في جسده لدى سماعه صوت ضحكتها، وكأن شخصًا صَبَّ ماءً باردًا ببطءٍ على ظهره. رفع ناظريه إلى الطيور الورقية المعلقة من السقف. والغريب أن جميعها كانت تتدلَّى مما يُشبه خصلات من شعر أسود مموج طويل. والأغرب من ذلك: أنها كانت جميعًا تنظر نحوه. هل كانت تنظر نحوه من قبل؟
بدأ كفا أنتين يتعرَّقان.
قالت ببطءٍ شديد جدًّا، وهي تضع كل كلمة بجوار الكلمة السابقة، كمن يُكوِّن خطًّا مُستقيمًا طويلًا من الأحجار المستديرة الثقيلة «لا بد أن تُخبر خالك، أنه مخطئ. إنها هُنا. وهي فظيعة.»
كان مكتوبًا على الخريطة: «إنها هُنا.»
«إنها هُنا.»
«إنها هُنا.»
«إنها هُنا.»
لكن ماذا كان يعني ذلك؟
سأل أنتين، مُكرَهًا: «مَن موجودة أين؟» لماذا كان يتحدث إليها؟ ذكر نفسه: «لا يمكن للمرء أن يجادل المجنون بالمنطق. لا يمكن فعل هذا.» أصدرت الطيور الورقية حفيفًا فوق رأسه. فقال أنتين في نفسه: «لا بد أنها الرياح.»
قالت: «الطفلة التي أخذها! طفلتي!» أطلقت ضحكة جوفاء وتابعت: «لم تمت. يظن خالك أنها ماتت. خالك مخطئ.»
«لماذا يظن أنها ماتت؟ لا أحد يعرف ما تفعله الساحرة بالأطفال.» ارتعدت فرائصه مرة أخرى. كان صوت حفيف مُرتجف صدر على يَساره كخفقان أجنحةٍ ورقية. التفت لكن لم يكن شيء يتحرك. سمِعَه مرة أخرى على يمينه. ومجددًا التفت. ولم يكن شيء يتحرك.
قالت الأم بينما تحاول جاهدة الوقوف على قدمَيها: «هذا كل ما أعرفه.» بدأت الطيور الورقية ترتفع وتدور.
قال أنتين لنفسه: «إنها الرياح لا أكثر.»
«أعرف أين هي.»
قال أنتين لنفسه: «أنا أتوهم أشياء.»
«أعرف ما فعلتم.»
قال أنتين لنفسه: «شيء ما يزحف نزولًا على رقبتي. يا إلهي. إنه طائر طنان. و… آاااه!»
انقض غراب ورقي عبر الغرفة، وضرب بجناحه خدَّ أنتين، مُسببًا فيه جرحًا قطعيًّا ينزف.
كان أنتين مذهولًا لدرجة أنه لم يتمكن من أن يصيح.
«ولكن لا يهم. فيوم الحساب قادم. إنه قادم. إنه قادم. وهو يوشك على أن يحل.»
أغمضت عينَيها وتمايلت. كان من الواضح أنها مجنونة. بالفعل، كان الجنون يخيم عليها كسحابة، ورأى أنتين أنه يتعين عليه الذهاب، خشية أن تُصيبه بالعدوى. طرق الباب بعنف، لكنه لم يُحدث صوتًا. صاح مُناديًا على «الأخوات»: «دعوني أخرج»، لكن بدا أن صوته كان يتلاشى في اللحظة التي خرج فيها من فمِه. شعر بأن كلماته ترتطم بالأرض عند قدمَيه. هل أُصيب بعدوى الجنون؟ هل يمكن أن يحدث شيء كهذا؟ اختلطت الطيور الورقية وتجمَّعت واحتشدت. وارتفعت في موجات كبيرة.
صرخ عندما اتجه طائر السنونو الورقي صوب عينيه وعضت بجعتان ورقيتان قدميه: «رجاءً!» أخذ يركل ويضرب بيدَيه، لكن الطيور الورقية ظلت تقترب.
قالت الأم: «تبدو صبيًّا لطيفًا. اختر لك وظيفةً أخرى. تلك هي نصيحتي لك.» زحفت عائدةً إلى السرير.
طرق أنتين الباب بعنفٍ مجددًا. ومن جديد كان طرقه بلا صوت.
هاجت الطيور وأصدرت نعيقًا وصراخًا حادًّا. وسَنَّت أجنحتها الورقية كالسكاكين. واحتشدت مصدرةً همهمات هائلة؛ وانتفخت وانكمشت ثم انتفخت من جديد. تراجعت الطيور إلى الخلف استعدادًا للهجوم. غطَّى أنتين وجهه بيدَيه.
ثم انقضت عليه.