أنتين يكذب
لم تُشفَ الجراح التي سببتها الطيور الورقية. لم تُشفَ تمامًا، على أي حال.
ولولت والدة أنتين: «كانت مجرد أوراق. كيف يمكن أن تُسبب هذه الجروح العميقة؟»
لم تكن مجرد جروح، فالعدوى التي سببتها الجروح كانت أسوأ بكثير. ناهيك عن فقدان كمية كبيرة من الدم. كان أنتين قد رقد على الأرض لمدةٍ طويلة بينما كانت المرأة المجنونة تحاول إيقاف النزيف بالورق، لكنها لم تفعل ذلك بطريقة جيدة. فالأدوية التي أعطتها لها «الأخوات» جعلتها مضطربة وضعيفة. كانت تغيب عن الوعي وتعود مرة أخرى. وعندما جاءت الحارسات لفحصه أخيرًا، كان هو والمرأة المجنونة يرقدان في بركة من الدم، واستغرقن لحظاتٍ حتى عرفنَ لمن منهما هذا الدم تحديدًا.
استشاطت الأم غضبًا، قائلةً: «ولماذا لم يأتين لنجدتكَ حين صرخت؟ لِمَ تركْنَكَ؟»
لم يعرف أحدٌ الإجابة عن هذا السؤال. ادعت «الأخوات» أنه لم تكن لديهن أي فكرة. وأنهن لم يسمعنه. وفيما بعد، نظرة واحدة إلى شحوب وجوههن واحمرار أعينهن كانت كفيلة بجعل الجميع يعتقد أن هذا صحيح.
تهامس الناس قائلين إن أنتين هو من جرح نفسه.
تهامس الناس قائلين إن قصة الطيور الورقية محض خيال. ففي نهاية المطاف، لم يرَ أحدٌ أي طيور. مجرد رزم من الأوراق الملطخة بالدم على الأرض. على أي حال مَن سمع من قبل بطائر ورقي يُهاجم؟
تهامس الناس قائلين إن طفلًا كهذا لا يصلح لأن يكون «حكيمًا تحت التدريب». وفي هذه النقطة، كان أنتين يتفق معهم تمامًا. وعندما شُفِيَت جروحه، كان قد أعلن للمجلس أنه مستقيل. وأن استقالته سارية المفعول فورًا. وبعد أن تحرَّر أنتين من المدرسة، وتحرر من المجلس، ومن تأنيب أُمِّه، أصبح نجَّارًا. وكان بارعًا جدًّا في النجارة.
ونظرًا لأن أعضاء المجلس كانوا يُشعرون بالمسئولية حيال الأذى العميق الذي أصاب أحد أعضائه، وذلك كلما نظروا إلى الندوب العميقة التي غطت وجه الفتى — ناهيك عن إصرار أمِّه — فقد أعطاه المجلس مبلغًا محترمًا من المال تمكَّن من خلاله من الحصول على أخشابٍ نادرة وأدوات ممتازة من التجار الذين كانوا يباشرون أعمالهم عبر «الطريق». (يا إلهي! هذه الندوب! يا إلهي! كم كان وسيمًا! يا للهول! يا لتلك الإمكانيات المفقودة. يا له من أمر مؤسف. يا للأسف الشديد).
تعين على أنتين أن يعمل.
وبسرعة كبيرة، نظرًا لانتشار الحديث عن مهارته وحُسن صنعته على طرفي «الطريق»، تمكن أنتين من تكسُّب عيش كريم يكفي لجعل أُمِّه وإخوته سعداء وراضين. وشيَّد لنفسه بيتًا مستقلًّا، صحيح أنه أصغر حجمًا وأبسط وأكثر تواضعًا، لكنه مع ذلك كان مريحًا.
لكن هذا كان خلافًا لرغبة أُمِّه. فهي لم توافق على رحيله من المجلس، وأخبرته بهذا. لم يكن أخوه رووك يفهم، هو الآخر، لكن اعتراضَهُ جاء مُتأخرًا جدًّا؛ بعد أن طُرد من «البرج» وعاد إلى البيت يجرُّ أذيال الخزي. (وعلى عكس أخيه، لم تحتوِ ملاحظة رووك على الديباجة: «كان لدَينا آمال عظيمة»، بل كانت ببساطة «هذا الصبي خيب آمالنا.» وألقت الأم باللائمة على أنتين.)
لم يكد أنتين يُعير ذلك اهتمامًا. كان يقضي أيامه بعيدًا عن الجميع، يعمل وسط الخشب والمعادن والزيوت. يشعر بحكة نشارة الخشب. وانزلاق الحبيبات تحت أصابعه. كان كل ما يُهمُّه هو أن يصنع شيئًا جميلًا ومكتملًا و«حقيقيًّا». مرت الشهور والسنوات، وأُمُّه لا تزال مُنزعجة منه.
ولولت ذات يومٍ أصرَّت فيه أن يصطحبها إلى السوق: «أي نوع من الأشخاص هذا الذي يترك المجلس؟» ظلَّت تُعاتبه وتلومُهُ وهي تتفحص الأكشاك التي تحتوي على مجموعات مختلفة من الزهور الطبية والتجميلية، وعسل الزيرين ومربى الزيرين وبتلات الزيرين المُجففة، التي يمكن خلطها باللبن ووضعها على الوجه لمنع التجاعيد. لم يكن بمقدور الجميع التسوق من السوق؛ فمعظم الأشخاص كانوا يتَّبِعون نظام المقايضة مع جيرانهم كي لا تكون دواليبهم خاوية تمامًا. وحتى أولئك الذين كان يمكنهم زيارة السوق، لم يكونوا قادرين على شراء أكوام السِّلع التي تُكوِّمها والدة أنتين في سلة تسوُّقها. فكونها الأخت الوحيدة لكبير الحكماء كان أمرًا له مزاياه.
ألقت نظرة متفحصة على بتلات الزيرين المُجففة. ورمقت المرأة الواقفة في الكشك بنظرة صارمة. «منذ متى حُصدت هذه؟ أتجرؤين على الكذب عليَّ!» فشحب وجه بائعة الزهور.
همهمت قائلةً: «لا يُمكنني أن أجزم يا سيدتي.»
رمقتها والدة أنتين بنظرة مُتعالية. «إن لم يكن يُمكنكِ أن تجزمي، إذن لن أدفع ثمنها.» وانتقلت إلى الكشك التالي.
لم يعلق أنتين؛ وإنما ترك نظرَهُ ينجرف لأعلى صوب «البرج»، وهو يُمرِّر أصابعه بسرعة فوق الحفر العميقة والندوب التي تُشوه وجهه، مُتتبعًا أخاديد الندوب كمن يتتبع خريطة.
قالت أمُّه، بينما كانت تتفحص قطعًا من القماش جُلِبَت من الطرف الثاني من الطريق: «حسنًا، لا يسعنا سوى أن نأمُل أنه، بعد أن يلقى مشروع النجارة السخيف نهايته الحتمية، أن يُعيدك خالك الموقر، إن لم يكن عضوًا في المجلس، فعلى الأقل فردًا من موظفيه. ثم، يومًا ما، تُصبح فردًا من الموظفين التابعين لأخيك الصغير. على الأقل لدَيه من الفطنة ما يجعله يستمع إلى كلام أُمِّه!»
طأطأ أنتين رأسه ونخر من أنفه ولم يقل شيئًا. وجد نفسه يشرد نحو كشك بيع الورق. لم يَعُد يلمس الورق إلا نادرًا. إلا إذا لم يكن بوسعه أن يتجنَّب ذلك. ومع ذلك لم يكن يكره الورق. كانت أوراق الزيرين هذه جميلة. ترك أصابعه تنساب فوق رُزم الأوراق وترك عقله ينجرف مع صوت حفيف الأجنحة الورقية التي تطير قبالة واجهة الجبل وتختفي عن الأنظار.
•••
غير أن والدة أنتين كانت مُخطئة بشأن فشله القادم. ظلت ورشة النجارة ناجحة، ليس فقط وسط القِلة القليلة من الأثرياء في «المحمية» و«جمعية التجار» المشهورة بالبخل. ليس هذا فحسب، بل تزايد الطلب، على الجانب الآخر من «الطريق» أيضًا، على منحوتاته وأثاثه والإنشاءات الممتازة التي صنعها. كل شهر كان التجار يصلون بقائمة من الطلبات، وكل شهر كان يتعيَّن على أنتين أن يرفض قبول بعضها، معللًا بلُطف بأنه فردٌ واحد له يَدان فقط ووقته بالطبع محدود.
وعندما كان التجار يسمعون تلك الاعتذارات، كان التجار يعرضون على أنتين مزيدًا من المال مقابل أعماله اليدوية.
وكما شحذ أنتين مهاراته وكما أصبحت عيناه تَشِيان بالصفاء والبراعة وكما ازدادت تصميماته إتقانًا، ازدادت أيضًا شُهرته. وفي غضون خمس سنوات، ذاع صيتُه في مدن لم يكن قد سمع بها من قبل، ناهيك عن أن يفكر في زيارتها. طلب رؤساء بلديات الأماكن البعيدة أن يحظوا بشرَف صُحبته. فكر أنتين مليًّا في الأمر؛ بالطبع فعل. فلم يكن قد سبق له أن غادر «المحمية». ولم يعرف أي شخصٍ غادرها مع أن أُسرته كان يمكنها بالتأكيد تحمُّل تكلفة ذلك. ولكن كان مجرد فكرة فعل أي شيءٍ آخر سوى النوم والعمل، كقراءة كتاب من حينٍ لِآخَرَ بجانب المدفأة، كان يفوق مَقدرته. أحيانًا كان يشعر أن العالم من حوله كئيب وأن الهواء المُفعم بالحزن يجثم فوق عقله وجسده ويشوِّش رؤيته كالضباب.
ومع هذا كان راضيًا. إذ كانت معرفة أنتين بأن أعماله اليدوية كانت تنتقِل إلى بيوت جيدة كانت تُرضيه حتى النخاع. كانت إجادته لشيءٍ ما تمنحه شعورًا طيبًا. وعندما ينام، كان غالبًا ما يشعر بالرضا.
الآن كانت أمُّه تُصر على أنها كانت تعلم دائمًا أن ابنها سيحقق نجاحًا عظيمًا، وقالت مرارًا وتكرارًا إنه محظوظ للغاية لأنه هرب من حياة السُّخرة مع هؤلاء العجائز المُملِّين الخَرِفين في المجلس، وأنه من الأفضل بكثير أن يتبع المرء مواهبه والنعم التي حظي بها وما إلى ذلك. وأخبرته أن هذا ما كانت تقوله دائمًا.
قال أنتين وهو يُغالب ابتسامة: «أجل يا أمي. حقًّا كنتِ دائمًا تقولين هذا.»
وعلى هذا الحال، مرت السنوات: ورشة وحيدة؛ وأعمال ممتازة جميلة؛ وزبائن يمدحون عمله ويجْفلون فزعًا حين يلمحون وجهه. في الحقيقة لم تكن حياةً سيئة.
•••
وقفت والدة أنتين في مدخل الورشة في ساعة متأخرة من صباح أحد الأيام، وفتْحَتا أنْفِها تتغضَّنان من أثر نشارة الخشب والرائحة النفَّاذة لزيت ثمرة الزيرين الذي يُعطي الخشب بريقه المميز. كان أنتين قد انتهى لتوِّه من وضع اللمسات المنحوتة الأخيرة على اللوح الأمامي من مهد طفل، نُحِتَت عليه سماء مليئة بنجوم لامعة. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يصنع فيها مهدًا كهذا، ولم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها مصطلح «ابن النجوم»، على الرغم من أنه لم يكن يعرف ما يَعنيه. كان الأشخاص على الجانب الآخر من «الطريق» يتَّسمون بالغرابة. كان الجميع يعرفون هذا، على الرغم من أنه لم يكن أحدٌ قد التقى بهم.
قالت أمُّه وهي تنظر إلى الورشة: «لا بد أن تحضر صبيًّا مساعدًا.» كانت الورشة منظمة جيدًا ومجهزة بالكامل ومريحة. حسنًا، مريحة لبعض الناس. أنتين، على سبيل المثال، كان يشعر براحة تامَّة في ذلك المكان.
قال أنتين وهو يدهن الزيت في منحنى خشبي: «لا أريد مساعدًا.» كانت التعريقات الخشبية تلمع مثل الذهب.
«ستنجز أعمالًا تجاريةً أفضل بوجود أيدٍ عاملة إضافية. إخوتك …»
أجاب أنتين برفق: «… أغبياء فيما يتعلق بالأخشاب.» وكان مُحقًّا في هذا.
زفرت الأم، قائلةً: «حسنًا. فقط فكِّر إذا …»
قال أنتين: «أموري على ما يرام كما هي.» وكان محقًّا في هذا أيضًا.
قالت أمُّه: «حسنًا إذن.» أخذت تنقل ثقلها من جانب لآخر. وعدَّلت من انثناء ذيل عباءتها الفضفاضة. كانت تملك وحدَها عباءات أكثر من العباءات التي تملكها أكبر العائلات عددًا. «ماذا عن حياتك يا بني؟ ها أنت ذا تَصنع المهود لأحفاد نساء أخريات، وليس لأحفادي. كيف يُمكنني أن أتحمَّل الخزي المتواصل بسبب رحيلك عن المجلس من دون أن يكون لي حفيد جميل أُداعبه فوق قدميَّ المباركة.»
تهدَّج صوت أمِّه. كان أنتين يعلم أنه في وقتٍ من الأوقات كان بإمكانه أن يتجول في السوق ومعه فتاة تتأبط ذراعَه. لكنه كان وقتئذٍ خجلًا جدًّا، ولم يجرؤ على ذلك. كان أنتين يعلم أن ذلك في الماضي ما كان سيُصبح صعبًا عليه، لو كان قد حاول. كان قد رأى الصور واللوحات التي كانت أُمُّه في ذلك الوقت قد كلفت أحدًا ما برسمِها، وعرف أنه، يومًا ما، كان وسيمًا.
لكن لا يهم. كان ماهرًا في عمله وأحبَّه. هل حقًّا كان يريد المزيد؟
«أنا متأكد من أن رووك سيتزوَّج في يومٍ من الأيام، يا أمي. وين أيضًا وبقية إخوتي سيتزوجون. لا تقلقي. سأصنع لكل واحد من إخوتي مكتبًا وفراش زوجية ومهدًا للأطفال حينما يحين الوقت المناسب. عما قريب سيكون لديكِ أحفاد يتعلقون بالعوارض الخشبية.»
«الأم متعلقة بالعوارض الخشبية. والطفلة بين ذراعيها. يا ويلي! والصراخ.» أغمض أنتين عينَيه بإحكامٍ وحاول طرد هذه الصورة من مخيلته.
«لقد تحدثتُ مع بعض الأمهات الأخريات. ولقد لاحظن باهتمامٍ الحياة التي أسستَها هنا. وهن مهتمَّات بتقديمك إلى بناتهن. ليس إلى أجمل بناتهن، كما تفهم، لكنهن بناتهن على أي حال.»
تنهد أنتين، ونهض وغسل يدَيه.
«شكرًا لكِ يا أمي، لكن لا.» سار عبر الغرفة ومال ليطبع قبلة على خدِّ أمِّه. لاحظ كم أجفلت عندما اقترب أكثر مما يلزم بوجهه المُشوَّه، وجاهد كي لا يدع الأمر يؤلِمه.
«لكن، يا أنتين …»
«والآن، عليَّ الذهاب.»
«لكن، إلى أين أنت ذاهب؟»
«لديَّ العديد من المهام التي يتعين عليَّ إنجازها.» كانت هذه كذبة. مع كل كذبة يقولها، كانت الكذبة التي تليها تُصبح أسهل. «سأكون في منزِلِكِ في خلال يومين لتناول العشاء. لم أنسَ.» كانت هذه أيضًا كذبة. لم تكن لدَيه أي نية لتناول الطعام في منزل أُسرته، وكان يختلق العديد من الأعذار كي لا يكون في الجوار في آخر لحظة.
قالت: «ربما يتعيَّن عليَّ أن آتي معك. وأن أبقى بصحبتك لأؤنس وحدتك.» كانت تُحبه، بطريقتها. كان أنتين يعلم ذلك.
قال أنتين: «سيكون من الأفضل أن أذهب بمفردي.» ربط عباءته حول كتفَيه وسار مبتعدًا، تاركًا أمَّه خلفه في الظلال.
لزم أنتين الأزقة والدروب الضيقة التي لا يطرقها الكثير من الناس في «المحمية». وعلى الرغم من أن الجو كان صافيًا، شدَّ قلنسوته بإحكام على جبهته كي يواري وجهه. كان أنتين قد لاحظ منذ فترةٍ طويلة مضت أن إخفاءه لنفسه جعل الناس أكثر ارتياحًا وقلَّل من التحديق فيه إلى أدنى درجة. في بعض الأحيان، كان أطفال صغار يطلبون منه في خجل لمسَ ندوبه. لو أن الأهل كانوا في الجوار، حتمًا كانوا سيُبعدون الطفل مُحرَجين، وسينتهي التعامل عند هذا الحد. وفي حالة عدم وجود الأهل، كان من شأن أنتين أن يجلس القرفصاء بِجدِّية وينظر إلى الطفل في عينَيه. وإن لم يُطلق الطفل ساقيه للريح، كان يخلع قلنسوته ويقول: «اذهب.»
قد يسأل أحد الأطفال: «هل تؤلِمك؟»
كان أنتين يقول دائمًا: «ليس اليوم.» وهذه كذبة أخرى. كانت ندوبه تؤلِمه دائمًا. ليس بقدْر ما كانت تؤلِمه يوم حدوثها، أو حتى في الأسبوع الأول من حدوثها. لكنها مع ذلك كانت مؤلمة؛ ألمٌ مُزمن على شيء فُقِد.
كانت لمسة تلك الأصابع الصغيرة، متتبعةً تجعيدات وبروزات الندوب، تجعل صدر أنتين يضيق قليلًا. كان من شأن أنتين أن يقول: «شكرًا لك.» وكان بالفعل يعني ما يقول. في كل مرة.
كان الطفل يُجيب دائمًا: «شكرًا لك.» ويفترق الاثنان؛ يمضي الصغير إلى أهله ويمضي أنتين وحيدًا.
كان تجواله يأخذه دائمًا، سواء كان يودُّ هذا أم لا، إلى قاعدة «البرج». بيته، الذي عاش فيه لفترة قصيرة عجيبة في شبابه. وهو المكان الذي تغيَّرت فيه حياته للأبد. أدخل يدَيه في جيوبه واتَّجه بوجههِ إلى السماء.
قال صوتٌ ما: «عجبًا. ها هو أنتين. عاد لزيارتنا أخيرًا!» كان الصوت لطيفًا جدًّا، ومع ذلك، كما لاحظ أنتين، كان قليلٌ من التذمُّر مدفونًا عميقًا جدًّا في نبرة الصوت حتى إنه كان من الصعب سماعه.
قال مُنحنيًا: «مرحبًا، أيتها الأخت إجنيشا. أنا مندهش من رؤيتكِ بعيدًا عن مكتبكِ. ألم يعُد لفضولكِ سلطان عليكِ أخيرًا؟»
كانت المرة الأولى التي تجاذبا فيها أطراف الحديث وجهًا لوجه منذ أن أُصيب، منذ سنوات مضت. كان التواصل بينهما قد تألَّف من ملاحظات مُقتضبة، ومن المرجح أن إحدى الأخوات كانت تكتب الملاحظات وتُوقِّعها باسم الأخت إجنيشا. لم تكلف نفسها عناء الاطمئنان عليه ولو مرةً واحدة منذ أُصيب. شعر بمرارة في حلقه. وتجرعها كي يمنع نفسه عن التجهُّم.
قالت بطريقةٍ غير متكلفة: «أوه، لا. الفضول لعنة المهرة. أو لعلها المهارة هي لعنة الفضولي. على أي حال، مع الأسف، لستُ أفتقر إلى أي الأمرَين، وهو ما يجعلني مشغولة. لكنني وجدت أن الاهتمام بحديقة الأعشاب الخاصة بي يمنحني قدرًا من الراحة» ورفعت يدَها. «أستمحيك عُذرًا ألا تلمس أيًّا من الأوراق. أو الزهور. وربما ينبغي ألا تلمس التراب أيضًا. ليس بدون قفازات. فكثيرٌ من هذه الأعشاب سامٌّ بدرجةٍ مُميتة. أليست جميلة؟»
قال أنتين: «للغاية.» لكنه لم يكن يُفكر في الأعشاب كثيرًا.
قالت الأخت إجنيشا، وهي تُضيق عينَيها بينما عاد أنتين يُحدِّق لأعلى نحو نافذة الزنزانة التي تعيش فيها المرأة المجنونة: «وما الذي جاء بك إلى هُنا؟»
تنهَّد أنتين. ونظر مرةً أخرى إلى الأخت إجنيشا. تراكَمَ تراب الحديقة فوق قفازَيها. جعل العرقُ وأشعةُ الشمس وجهَها زَلِقًا. نظرت حولَها نظرةً تنمُّ عن التخمة، وكأنها تناولت أروع وجبةٍ في العالم وأصبحت مُمتلئة. ولكن لم يكن من الممكن أن تكون كذلك. فقد كانت تعمل بالخارج. تنحنح أنتين.
قال أنتين: «أردت أن أُخبركِ شخصيًّا أنني لن أتمكن من صُنع المكتب الذي طلبتِه إلا بعد ستة أشهُرٍ أخرى، وربما سنة.» كانت هذه كذبة. فالتصميم كان بسيطًا، والخشب المطلوب كان يمكن جلبُهُ بسهولة من الغابة الموجودة في الجانب الغربي من «المحمية».
قالت الأخت إجنيشا: «هذا هراء. بالطبع يمكنك أن تُجري بعض الترتيبات. «الأخوات» بمثابة عائلة لك.»
هزَّ أنتين رأسه، وعاد بنظَرِه إلى النافذة. لم يكن قد رأى المرأة المجنونة — عن قرب على أي حال — منذ هجوم الطيور. لكنه كان يراها كل ليلةٍ في أحلامه. أحيانًا تكون متعلقة بالعوارض الخشبية. وأحيانًا تكون في زنزانتها. وأحيانًا تمتطي ظهور قطيع من الطيور الورقية وتختفي في جوف الليل.
ابتسم للأخت إجنيشا ابتسامة خفيفة. قال: «عائلة؟ سيدتي، أظن أنكِ قابلتِ عائلتي.»
تظاهرت الأخت إجنيشا بتجاهل التعليق، لكنها زمَّت شفتَيها كي تكبح تجهُّمها.
حدق أنتين مرة أخرى في النافذة. كانت المرأة المجنونة تقِفُ في النافذة الضيقة. كان جسدها أكبر قليلًا من شبَح. رأى يدَيها تمتدُّ إلى القضبان، ورفرف طائر عن كثب، وعشَّش في راحة يدِها. كان الطائر مصنوعًا من الورق. كان بوسعه سماع حفيف الجناحَين من المكان الذي كان واقفًا فيه.
ارتعش أنتين.
قالت الأخت إجنيشا: «إلامَ تنظر؟»
كذب أنتين، قائلًا: «لا شيء. لا أرى شيئًا.»
«أيها الفتى العزيز، هل ثمَّة مشكلة؟»
أطرق إلى الأرض. وقال: «حظًّا موفقًا مع الحديقة.»
«قبل أن تغادر، يا أنتين. لماذا لا تصنع لنا معروفًا، بما أننا لا نستطيع أن نستميلك لنجعلك تستخدِم يديك الماهرتَين لصنع أشياء جميلة، مهما طلبنا مرارًا؟»
«سيدتي، أنا …»
نادت الأخت إجنيشا: «أنتِ هناك!» وعلى الفور أصبح لصوتِها نبرة أكثر صرامة بكثير. «هل انتهيتِ من التعبئة يا فتاة؟»
«أجل، أيتها الأخت»، جاء الصوت من داخل سقيفة الحديقة — واضحًا ورنانًا مثل الجرس. شعَرَ أنتين بقلبه يدق. قال في نفسه: «ذلك الصوت. أتذكر ذلك الصوت.» لم يكن قد سمع هذا الصوت مُذ أن كانا في المدرسة، منذ سنوات عديدة مضت.
«ممتاز.» التفتت إلى أنتين مرةً أخرى، وقد لانت كلماتها مرةً أخرى. «لدينا مبتدئة اختارت ألا تُجهِد نفسها بحياة الدراسة والتأمُّل السامية، وقررت الرجوع إلى العالم الأكبر. فتاة غبية.»
صُدم أنتين. وتلعثم، قائلًا: «ولكن. ذلك لا يحدث أبدًا!»
«بالفعل. لا يحدث أبدًا. ولن يحدث مرةً أخرى أبدًا. لا بد أنني خُدعت عندما جاءت إلينا أول مرة، تريد أن تنضمَّ إلى أخَوِيَّتنا. لا بد أن أتمتع بمزيد من حُسن التمييز المرة القادمة.»
خرجت شابة صغيرة من سقيفة الحديقة. كانت ترتدي فستانًا بسيطًا مُربع الشكل، من المرجَّح أنه كان يناسبها عندما دخلت «البرج» لأول مرة، بعد عيد ميلادها الثالث عشر بقليل، لكنها كانت قد صارت أطول وأصبح الفستان بالكاد يُغطي ركبتَيها. وكانت ترتدي حذاءً رجاليًّا عالي الرقبة باليًا ومُرقَّعًا وغير متوازن، لا بد أنها حصلت عليه من أحد البستانيين. ابتسمت، وبدا أن النمش على خدَّيها يلمع.
قالت إيثين بلطف: «مرحبًا يا أنتين. لقد مضى وقتٌ طويل.»
شعر أنتين أن الأرض تَميد من تحت قدمَيه.
التفتت إيثين إلى الأخت إجنيشا. «كان يعرف أحدنا الآخر في المدرسة.»
همس أنتين بصوت مبحوح، وهو يُحني رأسه لأسفل: «لم تتحدَّث إليَّ قط.» آلمته ندوبه. «ولا أي فتاة.»
التمعت عيناها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة. «هل كان الأمر كذلك؟ أتذكر شيئًا مختلفًا.» نظرت إليه. نظرت إلى ندوبه. نظرت إليه «مباشرةً». لم تَحِد بنظرها بعيدًا. ولم تجفل. حتى أمُّه أجفلت. أمُّه نفسها أجفلت منه.
قال: «حسنًا. كي أكون منصفًا. لم أكن أتحدث إلى أي فتيات. ما زلت لا أتحدث إلى أي فتيات. لا بد أن تسمعي أُمي وهي تتحدث عن ذلك.»
ضحكت إيثين. شعر أنتين بأنه قد يفقد وعيَه.
«هل يمكنكَ مساعدة هذه الصغيرة التعِسة في حمل مُتعلقاتها؟ فقد مرض إخوتها وتوفي والداها. أودُّ إزالة أي أثر لهذا الإخفاق المهين بأسرع ما يمكن.»
إن كان أي من هذا الكلام قد ضايق إيثين، فإنها لم تُبدِ ذلك. قالت، بصوتها العذب والحلو مثل القشدة: «شكرًا لكِ يا أخت إجنيشا على كل شيء. لقد أصبحتُ أفضل بكثير مما كنت عليه عندما دخلتُ من ذلك الباب.»
انفجرت الأخت إجنيشا، قائلةً: «و«أقل» بكثير مما كان يمكن أن تكوني عليه. يا للشباب!» ورفعت يدَيها إلى أعلى بحركة غاضبة. «إذا كنا لا نستطيع تحمُّلهم، فكيف سيتحملون أنفسهم؟» التفتت إلى أنتين. «ستُساعدني، أليس كذلك؟ لا تتمتع الفتاة بأي تهذيب يجعلها تُظهِر أدنى قدْر ممكن من الأسى إزاء أفعالها.» للحظة صارت عينا «رئيسة الأخوات» قاتمتَين، وكأنها كانت جائعة جدًّا. حدقت وعبست، ثم تلاشت القتامة. ربما كان أنتين يتخيل ذلك. وأردفت: «لا يُمكنني أن أحتمل ثانية أخرى بصحبتها.»
همس أنتين: «حسنًا أيتها الأخت.» وازدرد أنتين لعابه. شعر وكأن رملًا في فمه. وبذل ما في وسعه كي يتمالك نفسه. «أنا في خدمتكِ. دائمًا.»
استدارت الأخت إجنيشا وغادرت وهي تغمغم أثناء سيرها.
تمتمت إيثين قائلةً لأنتين: «لو كنتُ مكانك، كنتُ سأعيد التفكير في موقفي.» فالتفتَ، وابتسمت له ابتسامةً عريضةً أخرى. وقالت: «شكرًا لك على مساعدتي. لقد كنت دائمًا أطيب صبيٍّ عرفتُه في حياتي. هيا. دعنا نخرج من هنا بأسرع ما يمكن. بعد كل هذه السنوات، ما زلت أرتجف من «الأخوات».»
وضعت يدها على ذراع أنتين وقادته لأمتعتها في سقيفة الحديقة. كانت أصابعها غليظة الجلد ويداها قويتين. وشعر أنتين بشيء يرفرف في صدره؛ رعشة في البداية ثم ارتفاع قوي ثم رفرفة، مثل جناحَي طائر يطير عاليًا فوق الغابة، ويقطع صفحة السماء بسرعة.