عالم من الورق
لم تستطع المرأة المجنونة في «البرج» تذكُّر اسمها.
ولم تستطع تذكر اسم أي أحد.
ما هو الاسم على أي حال؟ لا يمكنك الإمساك به. ولا يمكنك شمه. لا يمكن أن تهدهده حتى ينام. لا يمكنك أن تهمس له بحبك مرارًا وتكرارًا. يومًا ما كان ثمة اسم تحبه أكثر من كل الأسماء الأخرى. لكنه حلَّق بعيدًا كالطائر. ولا يمكنها إقناعه بالعودة من جديد.
كانت أشياء كثيرة قد طارت بعيدًا. الأسماء. الذكريات. معرفتها لنفسها. كانت تعلم أنها في وقت مضى كانت ذكية. وقوية. وطيبة. ومحبة للآخرين ومحبوبة. في وقت مضى كانت قدماها تلامسان الأرض وكانت أفكارها مرتبة بعناية، واحدة فوق أخرى، في خزانة عقلها. لكن قدميها لم تلامسا الأرض منذ مدة طويلة جدًّا، وحلت محل أفكارها عواصف وزوابع تاركةً خزانات عقلها فارغة. ربما للأبد.
الشيء الوحيد الذي كان يمكنها تذكره هو ملمس الورق. كانت متعطشة للورق. في المساء، كانت تحلم بالملمس الأملس الجاف لرِزم الورق واللسعة المؤلمة للحواف. حلمت بانسكاب الحبر على الأوراق ناصعة البياض. حلمت بطيور من الورق ونجوم من الورق وسماوات من الورق. حلمت بقمر من الورق يخيم على مدن من الورق وغابات من الورق وأشخاص من الورق. عالم من الورق. كون من الورق. حلمت بمحيطات من الحبر وغابات من الريشات ومستنقع لا نهائي من الكلمات. حلمت بكل هذا بوفرة.
لم تحلم بالورق فحسب؛ بل كان لديها أيضًا. لم يكن أحد يعرف كيف. كل يوم، كانت «أخوات النجمة» يدخلن إلى الغرفة ويُزلن الخرائط المرسومة والكلمات المكتوبة دون أن يكلفن أنفسهن عناء القراءة. كانت الأخوات يمزقن كل الأوراق ويكنسنها بعيدًا. ولكن، كل يوم، كانت تجد نفسها غارقة في الأوراق والريشات والحبر. كانت تحصل على كل ما تريد.
أرادت رسم خريطة. فرسمت خريطة. كانت تراها باهتة كضوء النهار. كتبت: «إنها هُنا. إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»
سأل الشاب، مرارًا وتكرارًا: «من هي التي هُنا؟» في البداية كانت ملامحه شابة ووجهه جميلًا وصافيًا. بعد ذلك، كان محمرًّا وغاضبًا، وينزف. في النهاية، التأمت الجروح التي سببتها الطيور الورقية وصارت ندوبًا؛ في البداية قرمزية، ثم وردية، ثم بيضاء. شَكَّلَت خريطة. تساءلت المرأة المجنونة عما إذا كان يُمكنه رؤيتها. أو ما إذا فهم ما تعنيه. تساءلت عما إذا كان يمكن لأي شخص أن يفهمها، أم أن تلك الأشياء واضحة لها هي وحدها. هل كانت هي وحدها مجنونة، أم أن العالم أصيب بالجنون معها؟ لم تكن في وضع يسمح لها بأن تجزم. أرادت أن تَسِمَ الشاب بعلامة وتكتب «إنها هُنا» عند نقطة التقاء عظمة الوجنة بشحمة الأذن. أرادت أن تجعله يفهم.
«من التي هُنا؟» كان بوسعها أن تشعر به يسأل هذا السؤال وهو يحدق في «البرج» من الأرض.
أرادت أن تصرخ، قائلةً له: «ألا تفهم؟» لكنها لم تفعل. كانت كلماتها مشوشة. لم تكن تعرف إن كان أي شيء يخرج من فمها له أي معنًى.
كل يوم، كانت تُطلق طيورًا ورقيةً من النافذة. أحيانًا واحدًا. وأحيانًا عشرة. كل طائر به خريطة في قلبه.
«إنها هُنا»، في قلب أبي الحناء.
«إنها هُنا»، في قلب الكركي.
«إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا»، في قلب الصقر وطائر الرفراف والبجعة.
كانت طيورها لا تذهب بعيدًا جدًّا. ليس في البداية. كانت تشاهد من نافذتها أناسًا يَصِلون في الأسفل ويلتقطون هذه الطيور من فوق الأرض في الجوار. وكانت تشاهد هؤلاء الأشخاص يحدقون لأعلى نحو «البرج». وكانت تشاهدهم وهم يهزون رءوسهم. وكانت تسمعهم يتنهدون: «يا للمرأة المسكينة، يا للمرأة المسكينة»، ويتشبثون بأحبائهم بقوة أكبر قليلًا، وكأن الجنون مرضٌ معدٍ. وربما كانوا على حق. ربما كان كذلك.
لم ينظر أحد إلى الكلمات أو الخرائط. كانوا فقط يسحقون الأوراق؛ ربما ليصنعوا منها عجينة ويحولوها إلى ورق جديد. لم يكن بوسع المرأة المجنونة أن تلومهم. فالورق كان غاليًا. أو كان غاليًا على معظم الناس. كانت تحصل عليه بسهولة كبيرة. كل ما كان عليها فعله هو أن تمد يديها خلال شقوق العالم، فتسحب ورقةً تلو الأخرى. كل ورقة كانت خريطة. وكل ورقة كانت طائرًا. وكل ورقة كانت تُطلق إلى السماء.
كانت تجلس على أرضية زنزانتها. كانت أصابعها تجد الأوراق. وكانت أصابعها تجد الريشات والحبر. لم تسأل كيف. كل ما كانت تفعله هو أن ترسم خريطة. أحيانًا كانت ترسم الخريطة وهي نائمة. كان الشاب يقترب. كانت تشعر بخطوات أقدامه. بعد قليل سيتوقف على مبعدة وسيحدق بالأعلى، وعلامة استفهام تلتف حول قلبه. رأته يكبر من شاب صغير لحرفي لصاحب عملٍ لرجل يقع في الحب. وما زال لديه السؤال نفسه.
ثَنَت الورقة على شكل باز. وجعلتها تستقر في راحة يديها للحظة. وشاهدتها تبدأ في الارتعاش والرفرفة. وتركتها تنطلق في السماء.
أطلت تحدق من النافذة. كان الطائر الورقي أعرج. فقد كانت في عجلة من أمرها ولم تنجز طيَّه جيدًا. هذا الطائر المسكين لن يصمد. هبط على الأرض يكافح بقوة أمام الشاب ذي الندوب في وجهه. توقف الشاب. ودعس عنق الطائر بقدمه. تعاطفًا أم انتقامًا؟ أحيانًا يكون الأمران وجهين لعملة واحدة.
ضغطت المرأة المجنونة بيدها على فمها. كان ملمس أصابعها خفيفًا كالورق. حاولت أن ترى وجهه، لكنه كان محتجبًا في الظل. لم يكن ذلك مهمًّا. كانت تعرف وجهه بقدر ما كانت تعرف وجهها. يمكنها أن تتبع انحناء كل ندبة بأصابعها في الظلام. رأته يتوقف ويفك ثنيات الطائر الورقي ويحدق في الرسوم التي كانت قد رسمتها. رأته يرفع ناظريه نحو «البرج» ثم ببطءٍ يمضيان عبر السماء ثم يستقران على الغابة. ثم عاد ينظر إلى الخريطة.
ضغطت بيدِها على صدرها وشعرت بحزنها؛ كان كثيفًا لا رحمة فيه، مثل ثقب أسود في قلبها يبتلع الضوء. ربما كان كذلك دائمًا. شعرت بأن حياتها في «البرج» لا نهائية. أحيانًا كانت تشعر بأنها أُلقِيَت في السجن منذ بداية العالم.
وفي لمحة شديدة خاطفة كلمح البصر، شعرت بحزنها يتبدَّل.
قال قلبها: «الأمل.»
قالت السماء: «الأمل.»
قال الطائر في يد الشاب وقالت نظرة عينيه: «الأمل.»
همست روحها: «الأمل والنور والحركة. الأمل والتشكل والانصهار. الأمل والحرارة والتنامي. معجزة الجاذبية. معجزة التحوُّل. كل شيء ثمين دُمر وكل شيء ثمين أُنقِذ. الأمل، الأمل، الأمل.»
تبدد حزنها. لم يبقَ إلا الأمل. شعرت وكأنها تشعُّ إلى الخارج، وتملأ «البرج»، بل البلدة، بل العالم بأسره.
وفي تلك اللحظة، سمعت «رئيسة الأخوات» تبكي بتألُّمٍ وحرقة.