شرخ في حبة الجوز
ظنت لونا أنها عادية. وظنت أنها محبوبة. كانت مُحقة في أحد الأمرين.
كانت طفلة في الخامسة من عمرها، وبعد ذلك، صارت في السابعة. ولاحقًّا صارت في الحادية عشرة.
قالت لونا في نفسها إنه كان أمرًا رائعًا بالتأكيد، أن يكون المرء في الحادية عشرة. أحبت التناظر في العدد، واللاتناظر فيه. فالعدد ١١ يبدو عددًا زوجيًّا عند النظر إليه، لكنه عمليًّا ليس كذلك؛ فشكله يختلف عن مضمونه. وهو في ذلك مثل حال معظم الذين يبلغون ١١ عامًا، أو هكذا افترضت. كان احتكاكها بأطفال آخرين مقصورًا دائمًا على زيارات جدتها إلى «المدن المستقلة»، وتحديدًا الزيارات التي كان يُسمح للونا بالمجيء فيها. أحيانًا كانت جدتها تذهب بدونها. وكل عام، كانت لونا تجد الأمر مثيرًا للغضب أكثر فأكثر.
في نهاية المطاف، كانت في الحادية عشرة من عمرها. كانت، كالعدد ١١، تجمع بين متناقضات. وكانت مستعدة لأن تكون عدة أشياء في آنٍ واحد؛ طفلة وناضجة وشاعرة ومهندسة وعالمة نباتات وتنينة. وكانت القائمة تمتد. كان حرمانها من الذهاب في «بعض» الرحلات دون الأخرى أمرًا مزعجًا جدًّا. كانت تقول هذا. وتُردِّده كثيرًا. وجهرًا.
عندما تذهب جدتها، كانت لونا تقضي جلَّ وقتها في الورشة. كانت تزخر بكتب حول المعادن والصخور والماء، وكتب حول الزهور والطحالب والنباتات الصالحة للأكل، وكتب حول الوظائف الحيوية للحيوانات والسلوك الحيواني، وتربية الحيوانات، وكتب حول مبادئ الميكانيكا. لكن الكتب المفضلة للونا كانت كتب علم الفلك، لا سيما القمر. أحبت القمر كثيرًا، وأرادت أن تضمه بين ذراعَيها وأن تغني له. أرادت أن تجمع فتات القمر في وعاء هائل وتشربه جافًّا. كانت تمتلك عقلًا جائعًا، وفضولًا توَّاقًا للمعرفة وموهبةً في الرسم والبناء والتشكيل.
كان لأصابعها عقلها الخاص. «هل ترى يا جليرك؟»، هكذا قالت، وهي تُريه صرصارًا آليًّا مصنوعًا من خشب مُلمَّع وعينين زجاجيتين وأرجلٍ معدنية صغيرة تتصل بزنبركات. كان الصرصار يقفز ويعدو بسرعة ويمد أطرافه ويلتقط أشياءً. بل إنه كان بوسعه أن يُغني. في هذه اللحظة بالذات كانت لونا تضبطه ليفعل ذلك، وبدأ الصرصار في تقليب صفحات كتاب. زوى جليرك ما بين عينيه وجعد أنفه الرطب.
قالت: «إنه يقلب الصفحات. يقلب صفحات الكتاب. هل رأيت من قبل صرصارًا أمهر منه؟»
قال: «لكنه يقلب الصفحات عشوائيًّا. لا يبدو وكأنه «يقرأ» الكتاب. وحتى إن كان يفعل، لن يقرأ بالتزامن معكِ. كيف سيعرف متى يقترب من الصفحة ويقلبها؟» بالطبع، كان يُضايقها لا أكثر. في الحقيقة كان منبهرًا. لكنه أخبرها آلاف المرات أنه لا يمكن أن ينبهر بكل شيء مُبهر تفعله. فقد يجد أن قلبه انتفخ بما يفوق قدرته وأخرجه من العالم ككل.
دعست لونا الأرض بقدمها. «بالطبع لا يمكنه «القراءة». وهو يقلب الصفحات عندما أطلب منه أن يقلب الصفحات.» عقدت ذراعَيها على صدرها ورمقت وحش المستنقع بنظرة تمنَّت أن تكون نظرةً حادة.
قال فيريان محاولًا التهدئة: «أعتقد أن كليكُما مُحقٌّ. أحب الأشياء السخيفة والأشياء الذكية. أحب كل الأشياء.»
قالت الفتاة ووحش المستنقع في آنٍ واحد: «اصمت يا فيريان.»
«إن جعل الصرصار يقلب الصفحة يستغرق وقتًا أطول من الوقت الذي يستغرقه تقليبكِ للصفحة بنفسك. لماذا لا تقلبين الصفحة بنفسكِ ببساطة.» شعر جليرك بالقلق من أن يكون قد تمادى في مزاحه. فحمل لونا بين أذرُعه الأربع ووضعها على كتفه اليمنى. أدارت لونا عينيها في محجريها كناية عن الضيق ونزلت من فوق كتفه.
«لأنه عندئذٍ لن يوجد «صرصار».» شعرت لونا بوخز في صدرها. وشعرت بالوخز في سائر جسدها. وشعرت بالوخز طوال اليوم. سألت: «أين جدتي؟»
قال جليرك: «تعلمين أين هي. ستعود في الأسبوع القادم.»
«أكره الأسبوع القادم. أريدها أن تعود «اليوم».»
«يخبرنا الشاعر أن التبرُّم من الانتظار من صفات الكائنات الدقيقة كالبراغيث وفراخ الضفادع وذباب الفاكهة. أنتِ يا حبيبتي أكبر بكثير من ذبابة فاكهة.»
«وأكره الشاعر أيضًا. فليذهب إلى الجحيم.»
آلمت هذه الكلمات جليرك حتى النخاع. ضغط بأياديه الأربعة على قلبه وتهاوى بقوة على مؤخرته الهائلة، وهو يلفُّ ذيله حول جسده كحركة وقائية. «ما الذي قلتِه للتو؟»
قالت لونا: «أنا أقصد ما أقول.»
رفرف فيريان من الفتاة إلى الوحش ومن الوحش إلى الفتاة. لم يعرف أين يهبط.
قالت لونا وهي تفتح أحد جيوبها الجانبية: «تعالَ يا فيريان. يمكنك أخذ قيلولة، وسأصعد إلى القمة الجبلية لمعرفة ما إذا كان يمكننا رؤية جدتي في رحلتها. يمكننا أن نرى على مسافة بعيدة جدًّا من هُناك.»
«لن يمكنكِ رؤيتها بَعد. ولا حتى بعد أيام.» نظر جليرك إلى الفتاة عن كثب. كان يعتريها شيء ما … شيء غريب اليوم. لكنه لم يستطع تحديده.
قالت لونا، وهي تدور على عقبيها وتسير في الطريق صاعدةً: «لا يمكنك أبدًا أن تعرف.»
أنشد جليرك بينما كانت تسير: ««ليس للصبر جناح».
قالت لونا، دون أن تلتفت: «لستُ مصغيةً إليك». لكنها كانت تسمعه. كان بوسع جليرك أن يستنتج هذا.
بحلول الوقت الذي وصلت فيه لونا لأسفل المنحدر، كان فيريان قد نام. كان بمقدور ذلك التنين النوم في أي مكان وفي أي وقت. كان خبيرًا في النوم. مدت لونا يدها في جيبها وأعطته ضربة خفيفة. لكنه لم يستيقظ.
تمتمت لونا: «يا للتنانين!» كانت هذه الإجابة للعديد من أسئلتها على الرغم من أن هذا لم يكن منطقيًّا جدًّا. عندما كانت لونا صغيرة، كان فيريان أكبر منها؛ كان ذلك واضحًا. عَلَّمَها العدَّ والجمع والطرح والضرب والقسمة. وعَلَّمَها أن تستخدم الأعداد على نطاق أوسع من الأعداد نفسها، بتطبيقها على مفاهيم أوسع حول الحركة والقوة والمكان والزمان والمنحنيات والدوائر والزنبركات المحكمة.
أما الآن، فكان الأمر مختلفًا. أخذ فيريان يبدو أصغر وأصغر بمرور الأيام. أحيانًا كان يبدو للونا أنه يعود في الزمان إلى الوراء بينما كانت هي ثابتة، ولكن في أحيان أخرى كان يبدو أن العكس هو الصحيح؛ فكان فيريان هو الذي يكون ثابتًا في حين كانت لونا منطلقةً في الزمن إلى الأمام. تساءلت عن سبب هذا.
وكان من شأن جليرك أن يوضح: «إنها طبيعة التنانين!»
وكان من شأن زان أن تتفق معه: «إنها طبيعة التنانين!» وكان كلاهما يهز كتفيه. تَقَرَّر إنها طبيعة التنانين. ما الذي يمكن للمرء أن يفعله؟
لم تفسِّر هذه الإجابة أي شيء. على الأقل لم يحاول فيريان مطلقًا أن ينحرف بالإجابة بعيدًا عن أسئلة لونا الكثيرة أو أن يجيب بإجابات محيرة. أولًا لأنه لم يكن يعرف معنى «إجابات محيرة». وثانيًا لأنه نادرًا ما كان يعرف أي إجابات. إلا إذا كانت هذه متعلقة بالرياضيات. عندئذٍ كان يصير نافورةً من الإجابات. أما في أي أمر آخر، فكان فيريان فحسب، وكان ذلك كافيًا.
بلغت لونا أعلى القمة الجبلية قبل الظهيرة. ثنت أصابعها ووضعتها فوق عينيها وحاولت أن تنظر لأبعد نقطة ممكنة. لم يكن قد سبق لها أن كانت على ارتفاع كهذا من قبل. كانت مندهشة من أن جليرك سمح لها بالذهاب.
كانت «المدن» تقع على الجانب الآخر من الغابة، أسفل المنحدر الجنوبي قليل الانحدار، حيث الأرض مستقرة ومسطحة. حيث لا تعود الأرض تحاول قتلك. وكانت لونا تعرف أنه فيما وراء ذلك توجد مزارع ومزيد من الغابات ومزيد من الجبال وأخيرًا محيط. لكن لونا لم تبعد من قبل إلى ذلك الحد. على الطرف الآخر من الجبل، باتجاه الشمال، لم يكن يوجد سوى غابة، وفيما وراء ذلك كان يُوجَد مُستنقع يُغطي نصف العالم.
قال لها جليرك إن العالم ولِد من ذلك المستنقع.
سألت لونا آلاف المرات: «كيف؟»
قال جليرك في بعض الأحيان: «قصيدة.»
قال في أحيان أخرى: «أغنية.» وبدلًا من أن يفسر لها أكثر، أخبرها أنها ستفهم في يوم من الأيام.
قررت لونا أن جليرك مريع. الجميع مريعون. وأكثر شيء كان مريعًا هو الألم في رأسها الذي يزداد سوءًا كل يوم. جلست على الأرض وأغمضت عينيها. في الظلام خلف أجفانها، كان يمكنها رؤية اللون الأزرق والوميض الفضي عند الحواف، إلى جانب شيء مختلف تمامًا. شيء صلب وكثيف، مثل حبة جوز.
الأدهى من ذلك، أن الشيء بدأ ينبض، وكأنه يحوي عقارب معقدة. «كليك، كليك، كليك.»
قالت لونا في نفسها: «كل دقة تجعلني أقرب إلى التَّتِمَّة.» هزت رأسها. لماذا تظن ذلك؟ لم يكن لديها أي فكرة.
تساءلت «تَتِمَّة ماذا؟» ولكن لم تكن توجد إجابة.
وفجأة، تخيلت منزلًا به ألحفة مخيطة يدويًّا تغطي الكراسي. ورسوم على الحوائط، وبرطمانات بألوان زاهية مرتبة فوق الأرفف في صفوف متناسقة ومغرية. وامرأة بشعر أسود وشامة على شكل هلال على جبهتها. وصوت رجل يدندن. «هل ترين ماما؟ هل ترين ماما، يا عزيزتي؟» أخذ صدى تلك الكلمة يتردَّد في عقلها من أحد جانبَي رأسها إلى الجانب الآخر — «ماما، ماما، ماما» — مرارًا وتكرارًا كبكاء طائر بعيد.
قال فيريان: «لونا؟ لماذا تبكين؟»
قالت لونا، وهي تمسح دموعها: «أنا لا أبكي. وعلى أي حال، أفتقد جدتي فحسب، هذا كل شيء.»
وكان ذلك صحيحًا. كانت بالفعل تفتقدها. مهما وقفت وحدقت من أعلى، فلن يغير هذا من الزمن المُستغرَق للسير من «المدن المستقلة» إلى بيتهم عند قمة البركان الخامد. كان ذلك مؤكدًا. أما عن ذلك المنزل والألحفة والمرأة ذات الشعر الأسود، فقد رأتهم لونا من قبل. لكنها لم تكن تعرف أين.
نظرت لأسفل في اتجاه المستنقع والحظيرة والورشة وبيت الشجرة بنوافذه المستديرة التي تبرز من جانبي جذع الشجرة كعينين مذهولتين لا يرف لهما جفن. وقالت في نفسها: «كان يوجد منزل آخر. وكانت توجد عائلة أخرى. قبل هذا المنزل. وهذه العائلة.» كانت تعرف هذا في قرارة نفسها.
سأل فيريان، بلمحة ألم في صوته: «لونا، ماذا حدث؟»
قالت لونا، وهي تلف يديها حول خصره وتقربه منها: «لا شيء يا فيريان». وقبلت أعلى رأسه. «لا شيء على الإطلاق. أنا أفكر فقط في حبي الجم لعائلتي.»
كانت أول كذبة قالتها في حياتها. على الرغم من أن كلماتها كانت صادقة.