فيريان يتوصل إلى اكتشاف
غنى فيريان وهو يدور حول نفسه في الهواء: «لونا، لونا، لونا، لونا.»
كانت لونا قد وصلت إلى البيت منذ أسبوعين. ومع ذلك ظل فيريان مسرورًا.
«لونا، لونا، لونا، لونا.» أنهى رقصته بتأنق، إذ هبط على إصبعٍ واحد فوق منتصف راحة يد لونا. وانحنى. فابتسمت لونا رغمًا عنها. كانت جدتها مريضة ملازمة الفراش. وكانت لا تزال على نفس الحال. وكانت هي نفسها مريضة منذ عودتهما للبيت.
عندما حان وقت النوم، قَبَّلَتْ جليرك مُتمنيةً له ليلة طيبة وذهبت إلى المنزل برفقة فيريان، الذي لم يكن من المفترض أن ينام في سرير لونا، لكنه كان سيفعل بالتأكيد.
قالت لونا، وهي تميل على جدتها النائمة، وتُقبِّل خدها الضامر: «تُصبحين على خير يا جدتي.» أضافت، ملاحظةً غصةً في صوتها: «أحلامًا سعيدة.» لم تتحرك زان. استمرت في نومها الذي تفتح فيه فمها. حتى إنه لم يرمش لها جفن.
ونظرًا لأن زان لم تكن في حالة تسمح لها بالاعتراض، أخبرت لونا فيريان أنه يُمكنه أن ينام عند مؤخِّر سريرها، تمامًا مثل الأيام الخوالي.
تنهد فيريان، وهو يمسك قلبه بقائمتَيه الأماميتَين وهو يكاد يسقط مغشيًّا عليه: «يا لها من فرحة مبهجة!»
«لكن، يا فيريان، سأطردك إن أصدرتَ شخيرًا. كدتَ تحرق وسادتي المرة الماضية.»
وعدها فيريان: «لن أُصدر أي شخير. التنانين لا يُصدرون شخيرًا. أنا متأكد من ذلك. أو ربما التنانين الصغيرة فقط لا تصدر شخيرًا. أعطيكِ وعدًا بصفتي تنينًا ينتمي إلى عِرق «التنانين الهائلة»، عِرق عريق وقديم. والكلمة لدينا عقد.»
قالت لونا، وهي تعقص شعرها في ضفيرة كبيرة وتتوارى خلف ستارة كي ترتدي ثوب النوم: «أنت تخترع كل هذا».
قال بغضب: «لست أخترعه.» بعد ذلك تنهد. «حسنًا. ربما أخترعه. أحيانًا أتمنى لو أن أمي كانت هُنا. من الجيد أن يكون لديَّ تنين آخر أتحدث إليه.» اتسعت عيناه. وقال: «هذا لا يعني أنكِ لستِ كافية، يا لونا يا عزيزتي. وجليرك يُعلمني الكثير من الأشياء. والعمة زان تحبني بقدر ما تُحب الأم طفلها. لكن …» تنهد ولم يقل المزيد. وإنما تشقلب داخل ثوب نوم لونا وكوَّر جسده الضئيل الساخن في هيئة كرة صغيرة. شعرت لونا وكأنها تضع صخرةً من الموقد في جيبها. ساخنة بشكل غير مُريح، لكنها مع ذلك مريحة.
تمتمت لونا، وهي تضع يدَها على التنين المتكور، وتثني أصابعها متلقيةً الحرارة: «أنت لغز يا فيريان. أنت لُغزي المفضل.» على الأقل كان فيريان يتذكر والدته. أما لونا، فكان كل ما لديها أحلام. ولم تكن تضمن مدى دقتها. صحيح أن فيريان رأى أمَّه وهي تموت، لكنه على الأقل «عرف» ذلك. وعلاوة على ذلك، استطاع أن يُحب عائلته الجديدة حبًّا تامًّا، دون أي أسئلة.
لونا أيضًا كانت تُحب عائلتها. تُحبها كثيرًا.
لكن كانت لديها تساؤلات.
وبرأس مليءٍ بالأسئلة، تدثرت بأغطيتها وراحت في نوم عميق.
لم يكد الجزء الهلالي من القمر يتجاوز حافة النافذة ويسطع في الغرفة، حتى كان فيريان يصدر شخيرًا. ولم يكد بريق القمر يدخل بكامله من النافذة، حتى بدأ فيريان يلسع ثوب نوم لونا. ولم يكد منحنى القمر يلامس إطار النافذة المقابلة حتى تركت أنفاس فيريان علامةً حمراء فاتحة على جانب خاصرة لونا، تاركة بثرةً مكانها.
سحبته من جيبها وأجلسته على طرف السرير.
بصوتٍ غير واضح وصياح أثناء نومها، قالت: «فيريان. اخرج من هُنا.»
وخرج فيريان.
نظرت لونا حولها.
همست: «حسنًا. هل طار من النافذة؟» لم تستطع أن تجزم. «كان هذا سريعًا.»
ضغطت براحة يدِها على الجرح، محاولةً أن تتخيل قطعة من الثلج تذوب فوق الحرق، وتُنهي الألم. بعد قليل، ذهب الألم بالفعل، ونامت لونا.
•••
لم يستيقظ فيريان على صوت صراخ لونا. بل رأى ذلك الحلم مرةً أخرى. كانت أُمُّه في الحلم تحاول أن تُخبره شيئًا، لكنها كانت بعيدة جدًّا وكان صوت الهواء عاليًا جدًّا كما كان معبأً بالدخان، لذا لم يستطع سماعها. لكنه كان سيتمكن من رؤيتها، إذا حدَّق فيها، تقف مع السحرة الآخرين من القلعة بينما كانت الجدران تتداعى من حولهم.
نادى فيريان في الحلم: «ماما!» لكن الدخان كان يبتلع كلماته. سمحت أُمُّه لرجل طاعن في السن جدًّا أن يتسلق مُمتطيًا ظهرها اللامع، وطارا إلى داخل البركان. أصدر البركان، الذي كان ثائرًا وعنيفًا، خوارًا وقرقرة ولفظَ نيرانَه، محاولًا أن يلفظهما.
نادى فيريان مرة أخرى: «ماما!» وأخذ ينتحب حتى استيقظ.
لم يكن متكورًا على نفسه بجوار لونا، حيث كان قد راح في النوم، ولم يكن نائمًا في كيسه المُعلق فوق المستنقع، حيث يهمس لجليرك مُتمنيًا له ليلة سعيدة مرارًا وتكرارًا. لم تكن لدى فيريان أي فكرة عن مكانه. كل ما كان يعرفه هو أنه شعر بشعورٍ غريب في جسده، وكأنه أصبح كتلةً منتفخة من عجين الخبز قبل أن تُضغط مرة أخرى لحجمها الطبيعي. شعر أنه حتى عينه كانت منتفخة.
سأل فيريان جهرًا: «ما الذي يحدث؟ أين جليرك؟ جليرك! لونا! عمتي زان!» لم يُجبْه أحد. كان وحده في الغابة.
قال في نفسه إنه لا بدَّ أنه طار إلى هناك وهو نائم، مع أنه لم يطِر وهو نائم من قبل. لسببٍ ما، شعر بأنه كان عاجزًا عن الطيران «في الوقت الحالي». حرك جناحيه لكن لم يحدث شيء. ضرب بجناحيه بشدة لدرجة أن الأشجار على الجانبين انثنت وفقدت أوراقها (قال في نفسه: «هل كان ذلك يحدث دائمًا؟ لا بد من ذلك»)، وتصاعدت الأوساخ الموجودة على الأرض في شكل دوَّامات عاتية عندما رفع جناحيه. شعر أن جناحَيه ثقيلان وأن جسمه ثقيل ولم يستطع الطيران.
قال فيريان لنفسه بثبات: «هذا يحدث دائمًا عندما أكون متعبًا»، لكن هذا أيضًا لم يكن صحيحًا. كان جناحاه يعملان دومًا، كما كانت عيناه تعملان دومًا وكما كانت مخالبه تعمل دومًا، وكان دومًا يستطيع السير أو الزحف أو تقشير ثمار جوجا ناضجة وتسلُّق الأشجار. كل ما تَقَدَّم كان يعمل بكفاءة. لذا لماذا لم يعمل جناحاه «الآن»؟
ترك حلمه ألمًا في قلبه. كانت أمُّه تنينة جميلة. جمالًا لا يُوصَف. كانت جفونها محددة بجواهر صغيرة، وكل جوهرة بلون مختلف. كان بطنها بنفس لون بيضة وُضِعَت للتو. عندما أغمض فيريان عينيه، شعر وكأنه يستطيع لمس الحراشف الناعمة كالزبد على جلدها، وكل شوكة حادة الشفرة. شعر وكأنه يستطيع استنشاق الكبريت الحلو في أنفاسها.
كم سنة مرت على حدوث هذا؟ بالطبع ليس كثيرًا. فهو لا يزال تنينًا صغيرًا. (كلما فكر في الزمن، شعر أن رأسه يؤلمه.)
نادى: «مرحبًا؟ هل من أحدٍ هُنا؟»
هزَّ رأسه. بالطبع لم يكن يُوجَد أحدٌ هُنا. لم يكن أحدٌ يعيش في هذا المكان. كان وسط غابةٍ مُظلمة عميقة لم يكن مسموحًا له بالبقاء فيها، وعلى أغلب الظن سيموت فيها، وكل هذا كان بسبب خطأ غبي منه، مع أنه لم يكن متأكدًا تمامًا مما «فعله» كي يحدث هذا. يبدو أن خطأه كان الطيران نائمًا. على الرغم من أنه كان يظن أنه من اخترع ذلك المصطلح.
قالت له أمُّه، قبل سنوات طويلة: «عندما تشعر بالخوف، تخلص من مخاوفك بالغناء. التنانين تُصدر أجمل موسيقى في العالم. الجميع يقولون هذا.» ومع أن جليرك أكد له أن هذا ليس صحيحًا، وأن التنانين، كانوا، عوضًا عن ذلك، ماهرون في خداع النفس، انتهز فيريان كل فرصة يُمكنه أن يستغلها كي ينخرط في الغناء. وبالفعل كان هذا يجعله يشعر بأنه في حالة أفضل.
غنى بصوتٍ مرتفع: «ها أنا ذا، وسط الغابة المرعبة. ترا لا لا!»
أحدث بقدمَيه الثقيلتَين طرقات متتالية على الأرض. هل كانت قدماه بهذا الثقل دومًا؟ لا بد أنهما كانتا كذلك.
وتابع: «ولست خائفًا. ولا حتى بأدنى قدر. ترا لا لا!»
لم يكن هذا صحيحًا. كان مرعوبًا.
سأل جهرًا: «أين أنا؟» خرج جسم من الضباب، وكأنه ظهر كي يُجيب عن سؤاله. قال فيريان في نفسه: «إنه وحش.» لم يكن ذلك يعني أنه كان يرى الوحوش مُخيفين. كان فيريان يُحب جليرك، وجليرك كان وحشًا. لكن، هذا الوحش كان أطول بكثيرٍ من جليرك. وكان متواريًا في الظل. تقدم فيريان خطوة للأمام. غاصت قوائمه أكثر في الطين. حاول أن يُرفرف بجناحَيه، لكنهما لم يرفعاه عن الأرض. لم يتحرك الوحش. اقترب فيريان أكثر. أصدرت الأشجار حفيفًا وأنينًا، وفروعها الضخمة تتحرك تحت وطأة الريح. حدَّق في ذهول.
«يا للهول، أنت لستَ وحشًا على الإطلاق. أنت مدخنة. مدخنة بلا منزل.»
كان هذا صحيحًا. كان مدخنةً منتصبةً على جانب أرض خالية من الشجر. يبدو أن المنزل احترق منذ سنواتٍ مضت. تفحَّص فيريان البناء. كانت النجوم المنحوتة تزين الأحجار الموجودة بالأعلى والسناج يسوِّد المدفأة. أطلَّ فيريان داخل قمَّة المدخنة ورأى أنثى طائر باز غاضبة ترقُد فوق أفراخها الخائفة.
صرخ، قائلًا: «أعتذر»، بينما كانت أنثى الباز تقرص أنفه وتجعله ينزف. ابتعد عن المدخنة. وقال بتأمُّل: «يا له من باز صغير.» ولكن خطر له أنه كان بعيدًا عن أرض العمالقة، وأن كل شيء كان بحجمه الطبيعي هنا. وبالفعل لم يكن عليه إلا أن يقف على قائمتَيه الخلفيتَين ويشرئب بعنقه كي ينظر إلى داخل المدخنة.
تلفت حوله. كان واقفًا في قرية مدمَّرة، وسط أطلال منازل وبرج مركزي وجدار ربما كان مكانًا للعبادة. رأى صورًا لتنانين وبركان، وفتاةً صغيرةً بشعرٍ مثل ضوء النجوم.
ذات مرة قالت له أمُّه: «هذه زان. ستعتني بك عندما أرحل.» لقد أحب زان من اللحظة الأولى. كان لدَيها نمش على أنفها وسِن مكسورة وشعرها اللامع كضوء النجوم كان معقوصًا في ضفائر طويلة تنتهي بشرائط. لكن، لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا. كانت زان عجوزًا، وكان هو تنينًا صغيرًا، ولا يمكن أن يكون قد عرفها عندما كانت صغيرة، أليس كذلك؟
كانت زان قد ضمَّته إلى ذراعَيها. وكان خدها ملطخًا بالأوساخ. وكانا قد أخذا يهرِّبان الحلوى من مخزن المؤن في القلعة. قالت: «لكنني لا أعرف كيف.» ثم بكت. انتحبت مثل طفلة صغيرة.
لكن، يستحيل أنها كانت فتاةً صغيرة. أيُعقل هذا؟
قالت أمُّه بصوت التنانين الرقيق: «ستفعل. ستتعلم. أنا مؤمنة بك.»
شعر فيريان بغصَّةٍ في حلقه. واغرورقت عيناه بدمعتَين هائلتَين وسقطتا على الأرض وهو ما أدى إلى قتل رقعتَين من الطحالب. كم مرَّ على هذا؟ من يدري؟ الزمن مخادع؛ زلق كالطين.
وكانت زان قد حذَّرتْه من أن يضع الحزن نصب عينَيه. قالت له مرارًا وتكرارًا: «الحزن خطير»، لكنه لم يستطع أن يتذكر إن كانت أخبرته يومًا بالسبب.
مال البرج المركزي متزعزعًا على أحد جانبَيه. وانهار العديد من أحجار الأساس في الجانب المحجوب عن الريح، الأمر الذي أتاح لفيريان أن ينحني ويُمعن النظر في الداخل. كان ثمة شيء، شيئان في الواقع؛ تمكن من رؤيتهما من خلال بصيص الضوء عند الحواف. مد قائمتَيه الأماميتَين وجذبهما للخارج. وأمسك بهما في كفَّيه. كانا شيئين صغيرَين، بحيث كانا مُستقرَّين معًا في راحته.
قال: «حذاء عالي الرقبة». حذاء أسود عالي الرقبة بإبزيم فضي. كان قديمًا، لا بد أنه كان قديمًا. ومع ذلك، كان يلمع وكأنه كان قد لُمِّع للتو. قال: «يبدو هذا الحذاء مثل أحذية القلعة القديمة. لا يمكن أن يكون هو نفسه بالطبع. فهو أصغر بكثير. الأحذية الأخرى كانت عملاقة. وكان يرتديها عمالقة.»
منذ زمنٍ بعيد كان السحرة يفحصون أحذيةً مثل هذا تمامًا. كانوا يضعون الحذاء على الطاولة ويفحصونه بأدوات ونظارات مُخصصة ومساحيق وأقمشة وغيرها من الأدوات. في كل يوم كانوا يُجرون تجارب ويرصدون ويدوِّنون ملاحظات. كان هذا الحذاء يُعرف باسم «الحذاء الذي يقطع سبعة فراسخ في الخطوة الواحدة». ولم يكن يُسمح لفيريان ولا لزان بلمسها.
قال السحرة الآخرون لزان عندما حاولت لمسها: «أنتِ صغيرة جدًّا على أن تلمسيها.»
هزَّ فيريان رأسه. لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا. لم تكن زان صغيرة حينذاك، صحيح؟ لا يمكن أن يكون هذا قد حدث منذ تلك الفترة الطويلة.
تعالى صوت زمجرةٍ في الغابة. هَبَّ فيريان واقفًا. غنَّى وركبتاه تصطكَّان معًا وأنفاسه تخرج مضطربةً لاهثة: «لست خائفًا.» اقتربت خطواتُ أقدام ناعمة خفيفة. كان يعرف أنه تُوجَد نمور في الغابة. أو ربما كانت موجودة قبل زمنٍ طويل.
قال بصوت منخفض أشبه بالصرصرة: «أنا تنين شرس جدًّا!» أتى الصوت المزمجر من الظلام مرة أخرى. قال التنين الصغير بتوسُّل: «أرجوك لا تؤذِني.»
وعندئذٍ تذكَّر شيئًا. بُعَيد اختفاء أمِّه في البركان، قالت له زان: «سأعتني بك، يا فيريان. سأعتني بك دائمًا. أنت عائلتي، وأنا عائلتك. سأضع لك تعويذة تُبقيك آمنًا. عليك ألَّا تتجوَّل بعيدًا أبدًا. لكن إن فعلت، وإن خِفت، فقط قل: «عمتي زان» ثلاث مرات بسرعة، وستجذبك هذه التعويذة إليَّ في سرعة البرق.»
سأل فيريان: «كيف؟»
«حبل سحري.»
«لكنني لا أراه.»
«عدم رؤيتك للشيء لا يعني عدم وجوده. بعض الأشياء الأروع في العالَم غير مرئية. الوثوق في الأشياء غير المرئية يجعلها أقوى وأروع. سترى بنفسك.»
لم يكن فيريان قد جرَّب هذا من قبل.
اقترب الصوت المزمجر أكثر.
صاح فيريان: «عمتي زان عمتي زان عمتي زان.» وأغمض عينَيه. ثم فتحهما. لم يحدُث شيء. تسرَّب ذعرُه إلى حلقه.
«عمتي زان عمتي زان عمتي زان!»
أيضًا لم يحدُث شيء. اقترب الصوت المزمجِر أكثر. التمعت عينان صفراوان في الظلام. انحنى جسد ضخم في الظلام.
صرخ فيريان. وحاول الطيران. كان جسده كبيرًا جدًّا وجناحاه صغيرَين. كان كل شيء في غير محلِّه. لماذا كان كلُّ شيءٍ في غير محله؟ افتقد العمالقة الذين يعرفهم: عمته زان، وجليرك ولونا.
صاح: «لونا!» عندما بدأ الوحش بوخزِه. «لونا لونا لونا!»
وشعر بقوة تسحبُه.
صرخ فيريان: «لونا يا عزيزتي، لونا.»
سألت لونا: «لماذا تصرخ؟» فتحت جيبها وحملت فيريان، الذي كان يكوِّر جسمه الصغير.
ارتعش فيريان رغمًا عنه. كان في أمان. كاد يبكي في ارتياح. قال، وأسنانه تقبض على ثوب النوم: «كنتُ خائفًا.»
نفخت الفتاة قائلةً: «أوف. كنت تُصدر شخيرًا، ولسعتني.»
سأل فيريان، وهو مصدوم حقًّا: «أفعلتُ هذا؟ أين؟»
قالت: «هُنا. انتظر دقيقة.» اعتدلت في جلستها ونظرت عن كثب. اختفت علامة الحرق، كما اختفى الثقب في عباءة النوم، والحرق على خاصرتها. قالت ببطء: «كانت هُنا.»
فيريان: «كنتُ في مكان مُضحك. وكان يُوجَد وحش. وكان ثمة خطب في جسدي ولم أتمكن من الطيران. ووجدتُ حذاءً طويل الرقبة. ثم وجدت نفسي هُنا. أظن أنكِ أنقذتِني.» وقطَّب حاجبَيه. وأردف: «لكنني لا أعرف كيف.»
هزت لونا رأسها. «كيف يمكن أن أكون قد فعلت هذا؟ أظن أن كلينا رأى أحلامًا مزعجة. فأنا لم أحترق وأنت كنت في أمانٍ دومًا، لذا دعنا نعود للنوم.»
والتحفت الفتاة والتنين بالغطاء وراحا في النوم في الحال. لم يحلم فيريان ولم يصدر شخيرًا، كما أن لونا لم تتحرك مطلقًا.
عندما استيقظت لونا مرة أخرى، كان فيريان لا يزال نائمًا في ثنية ذراعها. خرج شريطان رقيقان من الدخان يتموجان من أنفه، وكانت شفتاه الشبيهتان بشفاه السحالي منحنيتين في ابتسامةٍ ناعسة. قالت لونا في نفسها: «لم يوجد، ولا يوجد، مطلقًا تنين أسعد من هذا.» سحبت يدَها من تحت رأس التنين ونهضت. لم يتحرك فيريان بعد.
همست: «بسسست. أيها النعسان. استيقظ أيها النعسان.»
لم يتحرك فيريان بعد. تثاءبت لونا وتمطَّت وقبلت فيريان قبلةً خفيفة على أرنبة أنفه الصغير الدافئ. جعل الدخان لونا تسعل. ومع هذا لم يتحرك فيريان. أدارت لونا عينيها في محجريهما.
قالت موبِّخة، وهي تنهض من فوق السرير على الأرضية الباردة وتلتقط نعلها وشالها: «أيها الكسول.» كان اليوم باردًا لكنه سيكون لطيفًا قريبًا. القليل من المشي سيكون مفيدًا للونا. مدَّت يديها وأمسكت بحبال توجيه الحركة كي ترفع سريرها لأعلى السقف. لن يُعارض فيريان الاستيقاظ والسرير مطروح بعيدًا، بل من الأفضل له أن يبدأ اليوم والأَسرَّة معلقة لأعلى. ذلك ما كانت جدتها قد علمتها.
ولكن ما إن رُفع السرير، حتى لاحظت لونا شيئًا على الأرض.
حذاءً كبيرًا طويل الرقبة.
كان حذاءً جلديًّا أسود، وكان حتى أثقل مما كان يبدو عليه. تمكنت لونا من رفعه بمشقة بالغة. وكان للحذاء رائحة غريبة، رائحة بدت بطريقةٍ ما مألوفة للونا، لكنها لم تتمكن من تحديدها. كان النعل سميكًا، ومصنوعًا من مادةٍ لا يمكنها التعرف عليها في الحال. والأغرب من ذلك، أن كل كعبٍ كان مكتوبًا عليه كلمات.
كان مكتوبًا على الكعب الأيسر: «لا ترتديني.»
وكان مكتوبًا على الكعب الأيمن: «إلا إذا كنت تقصد ذلك.»
قالت لونا جهرًا: «بحق السماء ما هذا؟» رفعت إحدى فردتي الحذاء لأعلى وحاولت أن تتفحصها بتمعُّن أكثر. لكن قبل أن تتمكن من هذا، شعرت بصداعٍ حادٍّ مفاجئ، في منتصف جبهتها. أسقطها على ركبتَيها. ضغطت براحتَيها على جمجمتها ودفعت للداخل، وكأنها تمنع رأسها من أن تتطاير متبعثرة.
ظل فيريان بلا حراك.
جثمت على الأرض لبعض الوقت إلى أن خَفَّت حدة الصداع.
حملقت لونا في الجانب السفلي من السرير. قالت بسخرية: «كم أنتِ يقظة.» بعد أن نهضت على قدمَيها مرة أخرى، مضت إلى الصندوق الخشبي الصغير الموجود أسفل النافذة، وفتحته بقدمها. كانت تحتفظ فيه بتذكاراتها؛ ألعاب كانت فيما مضى تلعب بها، وأغطية كانت تحبها، وصخور غريبة الشكل، وزهور مجففة، ودفاتر يوميات مغلفة بالجلد تعجُّ بأفكارها وأسئلتها ورسوم ومخططات.
والآن وضعت فيه حذاءً طويل الرقبة. حذاءً ضخمًا أسود. عليه عبارات غريبة وله رائحة غريبة أصابتها بصداع. أقفلت لونا الغطاء وتنهدت بارتياح. ومع إغلاق غطاء الصندوق، لم يعد رأسها يؤلمها. بل في الواقع، لم تعُد تتذكر الألم. والآن لتخبر جليرك.
استمر فيريان في إصدار الشخير.
شعرت لونا بالعطش. وشعرت بالجوع. وكانت قلقة على جدتها. وأرادت أن ترى جليرك. وكان لديها العديد من المهام التي يتعيَّن عليها إنجازها. كان عليها أن تحلب الماعز. وكان يلزم أن تجمع البيض. وكان ثمة أمر آخر.
توقفت أثناء سيرها نحو الرقعة التي ينبت فيها التوت.
كانت ستسأل عن شيءٍ ما. ماذا كان؟
ومع أنها بذلت قصارى جهدها، لم تستطع لونا أن تتذكَّر.