أنتين يقدِّم حلًّا
وقف أنتين خارج مكتب خاله قرابة ساعة قبل أن تواتيه الشجاعة ليدق الباب. تنفس بعمق عدة مرات، وأخذ يُردد فقرات أمام انعكاسه على اللوح الزجاجي، وحاول أن يعرض حجته مستخدمًا كل طاقته. خطا، وتفصَّد عرقًا، وتلفظ بألفاظٍ بذيئة سرًّا. ومسح العرق من فوق جبهته بقطعة قماش طرزتها إيثين، كان اسمُه فيها محاطًا بمجموعة من العُقد الدقيقة. كانت زوجته تتمتَّع بمهارةٍ سحرية في استخدام الخيط والإبرة. أحبها كثيرًا، لدرجة أنه اعتقد أنه سيموت من جراء هذا الحب.
قالت له وهي تتبع الندوب الكثيرة الموجودة على وجهه برفقٍ بأصابعها الصغيرة الماهرة: «الأمل هو ما تُمثله تلك البراعم الصغيرة التي تتكون في نهاية الشتاء. كم تبدو جافة! وكم تبدو ميتة! وكم تكون باردة في أصابعنا! لكن هذا لا يدوم طويلًا. تكبر هذه البراعم، وتُصبح متماسكةً ثم تنتفخ، ثم يخضرُّ العالم بأسره.»
وفي ذهنه هذا التشبيه البليغ الذي ذكرته زوجته — بخدَّيها الوردِيَّين، وشعرها الأحمر الذي يشبه لون الخشخاش، وبطنها المنتفخ الذي يكاد ينفجر أسفل الفستان الذي صنعته بنفسها — طرق الباب أخيرًا.
دوى صوت خاله من الداخل: «أخيرًا! قرر المتثاقل التوقف عن تثاقله وإعلان وجوده.»
تمتم أنتين: «أنا آسف يا خالي …»
بصوت هادر قال جيرلاند كبير الحكماء: «كف عن الاعتذار أيها الصبي» زمجر جيرلاند كبير الحكماء. «افتح الباب وانتهِ من الأمر.»
جرحته كلمة «صبي» قليلًا. لم يعُد أنتين صبيًّا منذ سنوات عديدة. كان حِرَفيًّا ماهرًا، ورجل أعمال شغوفًا ورجلًا متزوجًا، مخلصًا لزوجته. لم تعد كلمة «صبي» تليق به.
سار متعثرًا إلى المكتب وانحنى أمام خاله، كما كان يفعل دائمًا. عندما اعتدل، تمكن من رؤية خاله ينظر إلى وجهه ويجفل. لم يكن هذا بالأمر الجديد. فقد استمرت ندوب أنتين في إفزاع الآخرين. وكان مُعتادًا على هذا.
قال: «شكرًا لك على مقابلتي يا خالي.»
قال جيرلاند، وعيناه تدوران في مِحجريهما كي يتجنَّب النظر في وجه الشاب: «لا أظن أن لديَّ خيارًا آخر يا ابن أختي. تظلُّ العائلة هي أهم شيء في النهاية.»
تشكك أنتين في صحة ما يقوله خاله لكنه لم يفصح عن هذا.
«على أي حال …»
وقف كبير الحكماء. «على أي حالٍ لا يُوجَد مجال لنقول شيئًا يا ابن أختي. لقد مكثتُ دهرًا في هذا المكتب أنتظر مجيئك، أما الآن فقد حان موعدي لمقابلة أعضاء المجلس. أنت تذكر المجلس، أليس كذلك؟»
قال أنتين، وقد أشرق وجهه فجأة: «نعم، بالتأكيد، يا خالي. هذا هو سبب مجيئي إلى هنا. أودُّ التحدُّث إلى المجلس. بصفتي عضوًا سابقًا. أودُّ ذلك الآن، إن سُمِح لي.»
فوجئ جيرلاند كبير الحكماء تمامًا بهذا. تلعثم قائلًا: «أنت … أنت تود «ماذا»؟» لم يكن المواطنون العاديون يُخاطبون المجلس. لم يكن هذا يحدث.
«إن كان لا بأس في ذلك، يا خالي.»
بادر كبير الحكماء، قائلًا: «أنا …»
«أعرف أن هذا مُخالف للتقاليد قليلًا، يا خالي، وأتفهم حقًّا إن كان هذا يضعك في موقفٍ مُحرج. لقد مرت … سنوات عديدة منذ ارتديتُ العباءة. أود، بعد طول انتظار، أن أخاطب المجلس وأشرح موقفي وأشكرهم على إعطائي مكانًا بينهم. لم أفعل ذلك قط، وأشعر بأنني مدين بهذا.»
كانت هذه كذبة. ابتلع أنتين ريقه. وابتسم.
بدت ملامح وجه خالِهِ تلين. قرب كبير الحكماء أصابعه معًا وضغط بها على شفتيه المنتفختَين. نظر إلى عينَي أنتين مباشرةً. وقال: «تبًّا للتقاليد. سيُسر المجلس كثيرًا برؤيتك.»
نهض كبير الحكماء وعانق ابن أخته المشاكس، وبوجهٍ مُشرق، قاده إلى القاعة. وعندما اقتربا من ردهة المنزل الكبيرة، فتح خادمٌ صامت الباب وسار الخال وابن الأخت في الضوء الآخِذ في الخفوت.
شعر أنتين ببرعُمٍ صغيرٍ متماسك من براعم الأمل يزدهر فجأة في صدره.
•••
وكما توقع جيرلاند، بدا أن أعضاء المجلس كانوا يشعرون بسعادة بالغة لرؤية أنتين، واستغلوا وجوده كي يرفعوا كئوسهم احتفالًا بمهارته وحسِّه التجاري الممتاز، وكذلك حظه المدهش الذي جعله يتزوج بأطيب وأمهر فتاة في «المحمية». لم تكن قد وُجِّهَت لهم دعوة لحضور الزفاف — وحتى لو كانت قد وُجِّهَت لهم، ما كانوا سيحضرون — ولكن بالطريقة التي ربَّتوا بها على ظهره وكتفَيه بدَوا كزمرة صغيرة من الأعمام المبتهجين الصالحين. كانوا فخورين به أشد الفخر، وأخبروه بذلك.
هتف أعضاء المجلس وصاحوا وضحكوا، قائلين: «فتًى صالح، فتًى صالح.» ووزعوا فيما بينهم حلوى، لم يُسمَع بها من قبل في «المحمية». وصبُّوا النبيذ والجعة وتناولوا اللحم المُقدَّد والأجبان المُعتقة والكعك المحشو الغني بالزبد والكريمة. حمل أنتين معظم الأطعمة التي حصل عليها كي يُعطيها لزوجته الحبيبة فيما بعد.
وعندما بدأ الخدم في إزالة الأطباق الكبيرة والأباريق والكئوس، تنحنح أنتين. وقال، بينما كان أعضاء المجلس يجلسون في مقاعدهم: «أيها السادة، لقد جئتُ إلى هنا بدافع آخر. سامحوني، من فضلكم. وخاصةً أنت يا خالي. أعترف بأن ما ذكرته بشأن دافع المجيء إلى هُنا خلاف نواياي الحقيقية.»
أصبحت الغرفة أكثر برودة. وبدأ أعضاء المجلس ينظرون إلى ندوب أنتين، التي تظاهروا بتجاهلها حتى هذه اللحظة، نظراتٍ قاسية، تكاد تنمُّ عن التقزُّز. عزَّز أنتين شجاعته، وتحمل. فكَّر في الرضيع الذي ينمو ويتحرك في بطن زوجته المنتفخ. فكَّر في المرأة المجنونة المحتجزة في «البرج». من بمقدوره أن يجزم بأنه، هو الآخر، لن يُصاب بالجنون إن أُجبِر على التخلي عن طفله — «طفله» — لأعضاء المجلس؟ من بمقدوره أن يجزم بأن حبيبته إيثين لن تُصاب بالجنون؟ لم يكن بمقدوره تحمل فكرة أن يفترق عنها ولو لساعةٍ واحدة، في حين أنَّ المرأة المجنونة كانت محتجزة في «البرج» لسنوات. «سنوات». بالتأكيد سيموت.
قال كبير الحكماء، وهو يُضيِّق عينيه كالثعبان: «من فضلك، أكمل أيها الصبي.»
مرة أخرى، تابع أنتين محاولًا ألا تجرحه كلمة «صبي».
استهل حديثه قائلًا: «كما تعلمون»، وبذل أقصى جهدٍ كي يتحلى بالشجاعة ويتغلب على مخاوفه. فلم يكن بحاجة للتدمير. بل جاء إلى هنا من أجل الإصلاح. «كما تعلمون، محبوبتي إيثين حامل …»
قال الحكماء، وقد تهللت وجوههم في آنٍ واحد: «رائع. يا له من خبر رائع جدًّا.»
تابع أنتين، محاولًا ألا يهتز صوته: «ومن المتوقع أن يولد طفلنا بعد انتهاء السنة، وليس من المتوقع أن يولد أطفال بين هذا الوقت و«يوم التضحية». ومن ثَم، فإن طفلنا العزيز سيكون أصغر طفلٍ في «المحمية».»
توقفت الضحكات المرحة فجأة، كشعلة أُخمِدَت. وتنحنح حكيمان.
قال الحكيم جينوت بصوته الرفيع الخافت: «يا للحظ العاثر.»
وافقه أنتين، قائلًا: «بالفعل. لكن ليس من اللازم أن يكون كذلك. أعتقد أنني وجدت طريقة لإيقاف هذا الهول. أعتقد أنني أعرف طريقة إيقاف طغيان الساحرة للأبد.»
اكْفَهَرَّ وجه جيرلاند كبير الحكماء. ودمدم قائلًا: «لا تشغل نفسك بالخيالات أيها الصبي. بالتأكيد أنت لا تظن …»
قال أنتين: «لقد رأيت الساحرة.» كان قد احتفظ بهذه المعلومة زمنًا طويلًا جدًّا. وها هي الآن تنفجر بداخله.
قال جيرلاند، والرذاذ يتطاير من فمه: «مستحيل!» حدَّق بقية الحكماء في الشاب الصغير بأفواهٍ مفتوحة، وكأنه مجلس من الثعابين.
«ليس مستحيلًا على الإطلاق. رأيتها. تبِعْتُ الموكب. أعلم أن هذا ممنوع، وأنا آسف على هذا. لكنني فعلته على أي حال. تبعتُ الموكب وانتظرتُ مع الطفل المُضحَّى به و«رأيت الساحرة».»
صرخ جيرلاند، وهو يهبُّ واقفًا: «لم ترَ شيئًا من هذا القبيل!» لا تُوجَد ساحرة، ولم يكن ثمة وجود لساحرة مطلقًا. وجميع الحكماء كانوا يعلمون بهذا. نهضوا جميعًا، وعلى وجوههم أمارات الاتهام.
«رأيتها تنتظر في الظلال. رأيتها تحوم حول الرضيع، وتُقرقر جائعة. رأيتُ تألق عينيها الشريرتين. رأتني وحولت نفسها لطائر. صَرَخَتْ بألَمٍ بينما كانت تفعل ذلك. ««صَرَخَتْ بألم»، أيها السادة.»
قال أحد الحكماء: «جنون. هذا جنون.»
«ليس كذلك. الساحرة موجودة. بالطبع موجودة. لقد كنا جميعنا نعرف ذلك. لكن ما لم نعرفه أنها «مسنة». وأنها تشعر بالألم. وليس هذا فحسب، بل نعرف أين هي.»
جذب أنتين خريطة المرأة المجنونة من طرف حقيبته. ووضعها على الطاولة، متتبعًا الطريق بأصابعه.
«الغابة خطيرة بالطبع.» حدق الحكماء في الخريطة، وأخذ الشحوب يعلو وجوههم. لمح أنتين نظرة خاله وركز عليها.
بدا أن نظرات جيرلاند تقول لأنتين: «أدرك ما تُحاول فعله أيها الصبي.»
بادله أنتين النظرات. وكأنه يقول: «هكذا أُغير العالم يا خالي. فلتراقبني.»
جهرًا، قال أنتين: ««الطريق» الواقع تحت سيطرة الحكماء هو أكثر دربٍ مباشر عبر الغابة، وهو بالتأكيد الأكثر أمانًا، نظرًا لعرضه واتساعه ووضوحه. ومع ذلك، يوجد العديد من الطرق الأخرى التي يمكن المرور منها بأمان أيضًا، على الرغم من أنها ملتوية ومعقدة نوعًا ما.»
تتبع أنتين بأصابعه العديد من المُنفِّسات الحرارية، مُتجنبًا الحيود العميقة التي تُلقي بشظايا من الصخور الحادة كلما تنهَّد الجبل، ووجد طرقًا بديلة مرورًا بالمنحدرات الصخرية أو الينابيع الحارة أو المسطحات الطينية الرخوة. كانت الغابة تغطي سفوح جبل ضخم وعريض جدًّا، تلتف طياته العميقة ومُنحدراته القليلة الانحدار حول قمة ذات فوهة مركزية، ويُحيط بهذه القمة مرجٌ مسطحٌ ومستنقعٌ صغير. ورُسِمت في المستنقع شجرةٌ مُغضَّنة. وعلى الشجرة، نقش محفور هلالي الشكل.
كانت الخريطة تقول: «إنها هُنا. إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»
قال الحكيم جينوت بصوت لاهث: «لكن من أين حصلت على هذه؟»
قال أنتين: «لا يهم. أنا مؤمن بأنها دقيقة. وأنا على أتم استعدادٍ لأن أُخاطر بحياتي بناءً على هذا الإيمان.» طوى أنتين الخريطة ووضعها في الحقيبة. «لهذا أنا هُنا، أيها الآباء الصالحون.»
شعر جيرلاند بأنفاسه تتلاحق لاهثة. وقال في نفسه: «ماذا لو كان هذا صحيحًا؟ ماذا بعد؟»
قال، وهو يستجمع ذاته الجشعة الوحشية وهو ينهض منتصبًا: «لا أعرف لماذا نزعج أنفسنا بهذا …»
لم يتركه أنتين ينتهي من كلامه.
«أعرف، يا خالي، أن ما أطلبه خارج عن المألوف قليلًا. وربما تكون محقًّا. قد تكون هذه مهمة حمقاء. لكنني حقًّا لا أطلب الكثير على الإطلاق. لا أطلب سوى مباركتكم. لا أحتاج إلى أدوات ولا معدات ولا مؤن. زوجتي تعلم نواياي وتُساندني. في «يوم التضحية»، سيصل الحكماء إلى منزلنا، وستتخلى عن طفلنا الغالي طواعية. ستحزن «المحمية» كلها أثناء مروركم؛ بحر هائل من الأحزان. وستذهبون إلى تلك الأشجار الكريهة؛ التي تُعتبر خادمات الساحرة. وستضعون ذلك الرضيع فوق العشب وستظنون أنكم لن ترَوا هذا الوجه مرة أخرى.» شعر أنتين بصوته يتهدج. أغمض عينَيه بقوة وحاول تمالك نفسه. «وربما يكون هذا صحيحًا. ربما أستسلم لمخاطر الغابة، وتكون الساحرة هي من يأتي لأخذ طفلي.»
كانت الغرفة هادئة وباردة. لم يجرؤ الحكماء على التحدُّث. بدا أنتين أطول منهم جميعًا. وكان وجهه منيرًا من الداخل، مثل مشكاة.
تابع أنتين: «أو ربما لا أستسلم. ربما أكون أنا من ينتظر عند تلك الأشجار. ربما أكون أنا من يأخذ الطفل من حلقة أشجار الجميز. ربما أكون أنا من يُحضر الطفل سالمًا إلى البيت.»
استطاع جينوت أخيرًا أن يستجمع صوته اللاهث. وقال: «ولكن … ولكن، كيف أيها الصبي؟»
«إنها خطة بسيطة، أيها الأب الطيب. سوف أتبع الخريطة. وسأعثر على الساحرة.» كانت عينا أنتين سوداوين كقطعتي فحم. «وسأقتلها.»