لونا تَتَعَلَّمُ كلمةً جديدة
استيقظت لونا في الظلام بصداع مؤلِم. كان الصداع ينبع من نقطة صغيرة لا تتجاوز حجم حبةِ الرمل تقع خلف جبينها. لكنها شعرت وكأن العالم بأسره ينفجر خلف بصرها، جاعلًا ما أمام عينَيها يُضيء تارةً ويظلم تارة، ثم يضيء ثم يظلم. سقطت من فوق سريرها وارتطمت بالأرضية. كانت جدتها تُصدر شخيرًا فوق سريرها المتأرجح على الجانب الآخر من الغرفة، وكانت تستنشق كل نفس وكأنه يُصَفَّى من خلال حفنة من الوحل.
ضغطت لونا بيديها على جبينها، محاولة أن تمنع رأسها من أن ينفلق. شعرت بالحر، ثم شعرت بالبرد، ثم شعرت بالحر مرة أخرى. هل كانت يداها تتوهَّجان حقًّا، أم أنها كانت تتخيل ذلك؟ قدماها أيضًا.
قالت لاهثة: «ما الذي يحدث؟»
كانت «كاو» هي ما ينبغي على الغراب قوله من مكان جلوسه على النافذة. لكنه نعق: «لونا.»
همست: «أنا بخير.» لكنها كانت تعلم أنها ليست بخير. كانت تشعر وكأن كل عظمة من عظامها مصنوعة من الضوء. كانت عيناها ساخنتَين. وكان جلدها زلقًا ورطبًا. حاولت النهوض على قدمَيها وتعثرت أثناء خروجها من الباب، وهي تستنشق جرعات هائلة من هواء المساء أثناء خروجها.
كان القمر المتزايد قد سطع لتوِّه، وتلألأت السماء بالنجوم. دون أي تفكير في الأمر، رفعت لونا يديها إلى السماء، وتركت ضوء النجوم يتجمع على أصابعها. قربت لونا أصابعها، واحدة تلو الأخرى، من فمها، وتركت ضوء النجوم ينزلق في حلقها. هل فعلت هذا من قبل؟ لا يمكنها أن تتذكَّر. على أي حال، خفف هذا من صداعها وهدأ عقلها.
قال الغراب: «كاو.»
قالت لونا: «تعالَ»، وسارت في الدرب.
لم تكن لونا تنوي أن تسير نحو الصخرة القائمة في الحشائش الطويلة. لكنها فعلت ذلك. وسارت في هذا الاتجاه. أخذت تُحدق في هذه الكلمات المضاءة الآن بضوء النجوم.
قالت الصخرة: «لا تنسي.»
قالت جهرًا: «لا أنسى ماذا؟» خَطَت خطوة للأمام ووضعت يدها على الصخرة. على الرغم من تأخر الوقت والرطوبة، كانت الصخرة دافئة بغرابة. كانت تهتز وتُصدر نقرًا. حدقت في الكلمات.
قالت مرة أخرى: «لا أنسى ماذا؟» تأرجحت الصخرة وانفتحت كالباب.
قالت في نفسها، بعدما أدركت: «لا. ليس كالباب. بل كانت بابًا بالفعل.» بابًا مُعلَّقًا في الهواء. بابًا انفتح على ممرٍّ صخري مُضاء بالشموع، له سُلَّم يُفضي إلى ظلامٍ دامس.
شهقت لونا، قائلةً «كيف …»، لكنها لم تتمكن من المتابعة.
قال الغراب: «كاو»، على الرغم من أنه بدا وكأنه يقول: «لا أظن أنه ينبغي عليكِ النزول إلى هناك.»
قالت لونا: «اصمت.» وتحركت إلى مدخل الصخرة وهبطت درجات السُّلَّم.
أفضت الدرجات إلى ورشة، تحتوي على مساحات عملٍ نظيفة ومُجهزة ورزَم كثيرة من الأوراق. وكتب مفتوحة. ودفتر تستقر على صفحاته ريشة كتابة على سنِّها الحاد بقعة من الحبر الأسود، وكأن شخصًا كان قد توقف في منتصف جملةٍ قبل أن يُقرر بعد تدبُّرٍ ألا يكتبها وينصرف على عجل.
نادت لونا: «مرحبًا. هل من أحدٍ هنا؟»
لم يُجب أحدٌ. لم يُجب سوى الغراب.
قال الغراب: «كاو.» لكنه بدا أشبه بقوله: «بحق السماء، يا لونا، دعينا نذهب من هُنا.»
حدقت لونا في الكتب والأوراق. بدت وكأنها كتابات لشخص مجنون؛ مجموعة متشابكة من الحلقات والبقع والكلمات التي لا تعني شيئًا.
تساءلت متعجبةً: «لِماذا يُزعِج شخصٌ نفسه بعمل كتاب مليء بالهراء؟»
سارت لونا عبر مُحيط الحجرة، وهي تُمرِّر يدَها فوق المنضدة الواسعة والطاولات الضيقة الملساء. لم تكن تُوجَد أتربة في أي مكان. ولا حتى بصمات أصابع. لم يكن الهواء فاسدًا، لكنها لم تستطع أن ترصد أي دليل على وجود حياة.
نادت مرة أخرى: «مرحبًا!» لم يتردَّد صدًى لصوتها، ولم ينتقل. بدا وكأنه سقط من فمها ببساطة واصطدم بالأرض بطرقةٍ خفيفة. كانت تُوجَد نافذة، وهو ما كان غريبًا، لأنها بالتأكيد كانت تحت الأرض، أليس كذلك؟ كانت قد نزلت درجات سُلَّم. ولكن الأغرب من ذلك، أن المشهد في الخارج كان لمنتصف النهار. والأغرب من هذا كله، أنه كان مشهدًا طبيعيًّا لم تتعرف عليه لونا. في الموضع الذي كان ينبغي أن توجد فيه فوهة بركان، كانت تُوجَد قمة جبلية. قمة جبلية يخرج الدخان من أعلاها، كمرجلٍ وُضِع ليغلي فترةً أطول من اللازم.
قال الغراب مرة أخرى: «كاو.»
همست لونا: «ثمَّة خطبٌ ما في هذا المكان.» انتصبت الشعرات في ذراعها، وبدأ أسفل ظهرها بالتعرُّق. وطارت ورقةٌ من رزمة الأوراق وحطَّت على يدها.
تمكنت من قراءة ما كان مكتوبًا عليها. كان مكتوبًا: «لا تنسَي.»
تساءلت: «كيف أنسى ما لا أعرفه من الأساس؟» لكن من الذي كان يسأل.
قال الطائر: «كاو.»
صرخت لونا: «لم يُخبرني أحدٌ بأي شيء!» لكن ذلك لم يكن صحيحًا. كانت تعرف أنه لم يكن صحيحًا. أحيانًا كانت جدَّتُها تُخبرها بأشياء، وأحيانًا كان جليرك يخبرها بأشياء، لكن كلماتهما كانت تطير من عقلها بمجرد أن تُنطَق. حتى في هذه اللحظة، كان بوسع لونا أن تتذكر أنها رأت كلماتٍ تُشبِهُ قصاصات الورق إذ ترتفع من قلبها وتحلق أمام عينَيها ثم تتبعثر بعيدًا، وكأنها عالقة في مهبِّ الريح. نادى قلبها بيأس: «عودي.»
هزَّت رأسها. وقالت جهرًا: «أنا أتصرف بسخافة. هذا لم يحدث قط.»
آلَمَها رأسها. كانت حبة الرمل الخفية تلك، التي كانت ضئيلة وغير محدودة، تنكمش وتتمدَّد في نفس الوقت. شعرت بأن رأسها يكاد ينفجر.
سقطت ورقة أخرى من رزمة الأوراق وحطت على يديها.
لم تكن أول كلمة في الجملة واضحة، أو لم تبدُ واضحة لها. وإنما بدت كبقعة ملطخة. بعد هذه الكلمة، كانت الجملة واضحة: «… الأكثر جوهرية، وعلى الرغم من ذلك، أقل مُكوِّن مفهوم في الكون المعلوم.»
حدقت فيها.
تساءلت: «ما هو الأكثر جوهرية؟» قربت لونا الورقة من وجهها. «أظهري نفسكِ!»
وفجأة، بدأت حبة الرمل الموجودة خلف جبينها تلين وتهدأ، قليلًا فقط. حدقت في الكلمة، وشاهدت الحروف تخرج من التشابك، وأخذت تقرأ كلَّ حرفٍ أثناء ظهوره.
نطقت: «سين. - حاء - راء.» هزت رأسها. «ما هذا بحق السماء؟»
هدر صوت في أُذنَيها. التمعت دفقات ضوء خاطفة من مؤخرة عينيها. سين، حاء، راء. هذه الكلمة تعني شيئًا. كانت متأكدة من أنها تعني شيئًا. والأكثر من هذا، أنها كانت متأكدة من أنها سمِعَتها من قبل؛ مع أنها، رغم جهودها الحثيثة، لم تتذكَّر أين. في الواقع، استطاعت بصعوبةٍ شديدة أن تعرف كيف تنطقها.
بدأت تنطقها، ولسانها يُصبح ثقيلًا جدًّا: «سسسسس».
قال الغراب مشجعًا: «كاو.»
قالت مرة أخرى: «سسسسس.»
نعق الغراب بسعادة غامرة: «كاو، كاو، كاو.» أي: «لونا، لونا، لونا.»
لفظت لونا: «سسسسسِحر.»