لونا تعرف أكثر مما تمنَّت
كانت الجدران الصخرية قديمة ورطبة بشكلٍ لا يُصدَّق. ارتعشت لونا. مدت أصابعها ثم ثنتْها وقبضَتْها، وأخذت تقبض يدَيها وتبسطهما، محاوِلةً أن تجعل الدم يتدفق فيهما. شعرت بأن أطراف أصابعها كالثلج. وظنَّت أنها لن تشعر بالدفء أبدًا.
دارت الأوراق في حركةٍ دوَّاميةٍ حول قدمَيها. وزحفت دفاتر كاملة لأعلى الجدران المتداعية. تحررت الكلمات المكتوبة بالحبر من الصفحات وزحفت على الأرض مثل البق قبل أن تعود أدراجها إلى الأوراق، وهي تثرثر جميعها في نفس الوقت. اتضح أنه كان لدى كل كتابٍ وكل ورقةٍ ما تقوله. تمتمت الكتب والأوراق وثرثرت؛ كانت تتحدث مقاطعةً الباقِين، وتداخلت أصواتها معًا.
صاحت لونا، وهي تضغط بيدَيها على أُذنيها: «صمتًا.»
تمتمت الأوراق: «نعتذر.» تبعثرت وتجمعت، ودارت في دوَّامات هائلة، وتحركت كالموج في أرجاء الغرفة.
أمرت لونا: «كلٌّ في دوره.»
قال الغراب، موافِقًا: «كاو.» وكانت تعني: «وبدون حماقة.» امتثلت الأوراق.
أكدت الأوراق أن السحر جدير بالدراسة.
وجدير بالمعرفة.
وعلمت لونا أنه من أجل ذلك، أنشأت مجموعة من السحرة والساحرات والباحثين، الذين كرسوا جميعهم حياتهم من أجل الحفاظ على السحر واستمراره وفهمه، مقرًّا للتعلم والدراسة في القلعة القديمة المُحيطة بالبرج الأقدم في وسط الغابة.
علمت لونا أن واحدةً من الباحثات، وهي امرأة طويلة على قدْرٍ لا بأس به من القوة (وأحيانًا كانت الطرق التي تستخدمها مُثيرة للدهشة) كانت قد أحضرت طفلةً من الغابة. كانت الطفلة صغيرة ومريضة ومصابة. تُوفِّي والداها، أو هذا ما قالته المرأة، ولماذا ستكذب؟ كان قلب الطفلة مفطورًا؛ كانت تنتحب دون توقف. كانت مثل نافورة من الأحزان. قرَّر الباحثون ملء تلك الطفلة بالسحر إلى حدِّ الانفجار. دمجوا السحر في جلدها وعظامها ودمها وحتى شعرها. أرادوا معرفة ما إذا كان «بإمكانهم» فعل هذا. أرادوا معرفة إذا كان هذا «ممكنًا». افترضت نظريةٌ أن البالِغ هو فقط من يمكنه استخدام السحر، أما الطفل فيمكن أن «يُصبح» هو نفسه السحر. لكن هذه العملية لم تكن قد اختُبِرَت من قبل أو رُصِدَت، من الناحية العلمية. لم يكتب أحدٌ نتائج أو يستخلص استنتاجات. كل الأدلة المعروفة كانت لا يُعتَمَد عليها في أفضل الأحوال. كان الباحثون مُتعطِّشين للفهم، لكن بعضهم احتجَّ على ذلك، بحجَّةِ أنه قد يقتُل الطفلة. البعض الآخر رأى أنه لو لم يكونوا قد وجدوا الطفلة، لكانت قد ماتت على أي حال. إذن ما الضرر في ذلك؟
لكن الطفلة لم تمُت. وإنما اندمج السحر في كل خليةٍ من خلايا الطفلة، وأخذ ينمو. نما أكثر فأكثر. كانوا يشعرون به عندما يلمسونها. كان يطنطن تحت جلدها. كان يملأ الفجوات بين أنسجتها. وكان يعيش في المساحات الفارغة في ذرَّاتها. وكان يطنُّ في انسجامٍ في كل خيطٍ ضئيل من خيوط المادة. كان سِحرها هو الجُسيم والموجة والحركة. الأرجحية والاحتمال. انثنى السحر وتموَّج وانطوى على نفسه. واندمج فيها بكاملها.
لكن باحثًا واحدًا، وهو ساحر كهل اسمه زوسيموس، عارضَ بشدة سِحر الطفلة وعارض أكثرَ استمرارَ العملِ على هذا. كان هو نفسه قد حُوِّل إلى ساحرٍ وهو ولدٌ صغير، وكان يعرف عواقب هذا الفعل، بما في ذلك حالات هياج غريبة، واضطرابات في التفكير، والامتداد الشنيع لمدى العمر. سمع الطفلة تنشج في الليل، وكان يعرف ما يمكن أن يفعله البعض بذلك الحزن. كان يعلم أنه ليس جميع من كانوا يعيشون في القلعة صالحين.
لذا وضع حدًّا للأمر.
أعلن نفسه وصيًّا على الفتاة وربط مصيره بمصيرها. وكان لهذا تَبِعاته أيضًا.
حذر زوسيموس الباحثين الآخرين من مُخطط زميلتهم، «آكلة الحزن». كل يوم، كانت قوتها تزداد. وكل يوم، كان نفوذها يتَّسِع. كانت تحذيرات زوسيموس المُسن تُصَب في آذانٍ صمَّاء. كتب الرجل المُسنُّ اسمها برعشةٍ نابعة من خوف.
(وكذلك، ارتعشت لونا، التي وقفت في تلك الغرفة تقرأ القصة مُحاطة بتلك الأوراق.)
وكبرت الفتاة. وتزايدت قواها. وكانت مُندفعةً وأحيانًا أنانية، كحالِ الأطفال عادةً. ولم تلاحظ عندما بدأ زوسيموس الذي أحبَّها، زوسيموس العزيز، في الذبول تدريجيًّا. أخذ يشيخ. ويضعف. ولم يلحظ أحد ذلك. إلا بعد فوات الأوان.
همست الأوراق في أذن لونا: «إننا فقط نأمُل في أنه عندما تُقابل الفتاةُ «آكلةَ الحزن» مرةً أخرى، تكون قد أصبحت أكبر وأكثر ثقةً في نفسها. نأمل في أنها، بعد تضحيتنا، ستعرف ما عليها فعله.»
سألت لونا الأوراق: «لكن من هي؟ من كانت هذه الفتاة؟ هل يمكنني تحذيرها؟»
قالت الأوراق وهي تهتز في الهواء: «أوه. ظننا أننا أخبرناكِ بالفعل. اسمها زان.»