الساحرة تسحر الطفلة من غير قصد
في منتصف الغابة، يُوجَد مستنقع صغير مليء بالفقاعات الهوائية والكبريت، وهو سام، يعمل على تغذيته وتسخينه بركان تحت الأرض خامد طوال الوقت ومُغطًى بالوحل اللزج الذي يتراوح لونه من الأخضر بلون السم إلى الأزرق بلون البرق إلى الأحمر بلون الدم، حسب الوقت من السنة. في هذا اليوم — القريب جدًّا من «يوم التضحية» في «المحمية» أو «يوم أطفال النجوم» في أي مكان آخر — بدأ لون المستنقع يميل من اللون الأخضر إلى الأزرق.
على حافة المستنقع، تقف على طرف البوص المزهر المترعرع في الوحل امرأةٌ عجوزٌ جدًّا تتكئ على عصا كثيرة العُقَد. كانت قصيرة وبدينة ومنتفخة قليلًا عند بطنها. شعرها الرمادي المجعد مسحوب للخلف في صورة عقدة كثيفة مضفَّرة، وفي الفواصل الرقيقة بين الضفائر الملتوية تبرز أوراق شجر وأزهار وكأنها تنمو من رأسها. وعلى الرغم من سحابة الانزعاج البادية على وجهها، فإنه لا يزال يحتفظ ببريق في عينيها اللتين بدا عليهما أثر الكِبر وابتسامة خفيفة على فمها الواسع الطلق المحيَّا. حتى إنها تبدو من بعض الزوايا المحددة كعلجوم ضخم لطيف.
اسمها زان. وهي ساحرة.
زمجرت عند المستنقع: «هل تظنُّ أنه يمكنك الاختباء مني أيها الوحش السخيف؟ أتحسب أنني لا أعرف أين أنت. اخرج إلى السطح «في الحال» واعتذر.» جمدت ملامحها فيما يُشبه التجهُّم. «وإلا فسأجبرك على أن تخرج.» على الرغم من أنها لم يكن لها أي سلطان فعلي على الوحش نفسه — كان مسنًّا للغاية — فإنها تتمتع بالقدرة على جعل المستنقع يلفظه لأعلى وكأنه مجرد كرة من البلغم في مؤخرة الحلق. يمكنها أن تفعل هذا بمجرد نقرة بإصبعَي يدِها اليسرى واهتزازة من ركبتها اليمنى.
حاولت التجهُّم مرة أخرى.
وصاحت: «أنا جادة فيما أقول».
أصدر الماء الكثيف فقاعات هوائية ودار في دوامة وصدر صوت مسموع لبروز رأس وحش المستنقع الضخمة من الماء الأخضر المزرق. رمش بإحدى عينيه الواسعتَين، ثم رمش بالأخرى، قبل أن يرفع عينَيه نحو السماء.
هدرت الساحرة في غضب: «لا تتصنع الانزعاج أيها السيد الصغير.»
غمغم الوحش بينما لا يزال نصفُ فمه مغمورًا بماء المستنقع الكثيف: «أيتها الساحرة. أنا أكبركِ بقرون.» كانت شفتاه لا تزالان أسفل فقاعة في بقعة من الطحالب. فكَّر قائلًا في نفسه: «آلاف السنوات حقًّا، لكن من الذي يهتم بأن يحسب ذلك؟»
«لا أظن أن نبرتكَ تُعجبني.» زمَّت زان شفتَيها المتجعِّدتين فصارتا كوردةٍ صغيرة في وجهها.
تنحنح الوحش. «حسب القول الشهير للشاعر، يا سيدتي العزيزة: «لا أكترث ...»»
صرخت الساحرة بنبرة مرعبة: «جليرك! انتبه لطريقة كلامك!»
قال جليرك بلطف: «أقدم اعتذاراتي»، على الرغم من أنه لم يكن يقصد الاعتذار حقًّا. أرخى جليرك أذرعه الأربع فوق الوحل الموجود على الشاطئ وضغط على الطين اللامع بكل يدٍ من أياديه المكونة من سبعة أصابع. انطرح على العشب مصدرًا صوت نخير. قال في نفسه: «عادة ما كنت أفعل هذا بسهولة أكبر.» على الرغم من أنه طوال حياته لم يستطع أن يتذكر متى.
قالت زان بغضب: «فيريان موجود هناك عند الفوهة ومنهمر في البكاء، يا له من مسكين!» تنهد جليرك بقوة. ألقت زان عصاها على الأرض، فأصدرت العصا رذاذًا من الشرر من طرفها العلوي، الأمر الذي أدهش كليهما. حدقت في وحش المستنقع. «وما تقوله ينطوي على فظاظة». هزت رأسها. «فهو في النهاية ليس إلا طفل.»
قالها جليرك، وهو يشعر بصوت يدوِّي عميقًا في صدره، تمنَّى أن يبدو هذا الدوي لأمرٍ جللٍ أو درامي أكثر من كونه دلالةً على الإصابة بالزكام: «عزيزتي زان. هو أيضًا أكبر منكِ. وقد آن الأوان كي …»
«حسنًا، أنت تعلم ماذا أعني. وعلى أي حال لقد وعدت أمه.»
«لمدة خمسمائة عام، قد تزيد أو تنقص عن ذلك بعقد أو اثنين، استمر هذا التنين الصغير في هذه الأوهام؛ تطعمينه وتحافظين عليه دائمًا يا عزيزتي. كيف سيساعده ذلك؟ كل ما في الأمر أنه ليس «التنينة الهائلة». وحتى هذه اللحظة، لا تُوجَد أي أمارة على أنه سيكون كذلك. ليس عيبًا أن يكون «تنينًا صغيرًا». الحجم ليس كل شيء، كما تعرفين. أنتِ تعرفين أنه من نوع قديم ومُبجل، وهو يتَّسِم بصفات فريدة من نوعها. لديه الكثير مما يمكنه أن يفخر به.»
بدأت زان تقول: «لقد كانت أمُّه شديدة الوضوح …» لكن الوحش قاطعَها.
«على أي حال، لقد فات أوان أن يعرف إرثه ومكانته في العالم. لقد سايرتُكِ في هذه المسرحية أطول مما ينبغي. لكن الآن …» ضغط جليرك بأذرعه الأربع على الأرض وأرخى نصفه السفلي الضخم الموجود أسفل انثناء عمودِه الفقري، جاعلًا ذيلَه الثقيل يلتفُّ حول جسده بالكامل مثل صدَفة حلزون ضخمة متلألئة. وترك كرشه يتدلى فوق أقدامه المثنية. «لا أعرف يا عزيزتي. شيء ما تغيَّر.» مرت سحابة كآبة فوق وجهه الرطب، لكن زان هزت رأسها.
قالت باستهزاء: «ها هو الزمان يعيد نفسه مرة أخرى.»
«كما يقول الشاعر: «أيتها الأرض دائمة التغير …»»
«تبًّا للشاعر. هيا اعتذر. افعل ذلك في الحال. فهو يوقرك» نظرت زان إلى السماء. «لا بد أن أنصرف الآن يا عزيزي، أنا متأخرة بالفعل. أرجوك. أنا أعتمد عليك.»
مال برأسه تجاه الساحرة التي وضعت يدها على خده الكبير. على الرغم من أنه يستطيع السير منتصب القامة، فإنه يفضل أن يسير على ستة أطراف، أو على أطرافه السبعة كلها، وذلك عندما يستخدم ذيله باعتباره أحد الأطراف، أو على أطرافه الخمسة كلها، عندما يستخدم إحدى أياديه لقطف زهرة عطرة وتقريبها من أنفه، أو لجمع الصخور أو ليعزف لحنًا مؤثرًا على ناي منحوت باليد. ضغط برأسه الضخم على جبهة زان الدقيقة.
قال بصوت غليظ: «أرجوكِ انتبهي لنفسكِ. مؤخرًا هاجمَتني أحلام مزعجة. أنا أقلق عليكِ عندما تذهبين.» رفعت زان حاجبيها، وانحنى جليرك بوجهه بعيدًا وهو يُغمغم بصوت منخفض. «حسنًا، سأستمر في هذه المسرحية من أجل صديقنا فيريان. يقول الشاعر: «الطريق إلى الحقيقة لا وجود له إلا في قلب حالم».»
قالت زان: «هذه هي الروح المطلوبة». طقطقت بلسانها وأرسلت للوحش قبلة. وثبت لأعلى وتقدمت إلى نقطة ارتكاز العصا وانطلقت بعيدًا بين النباتات الخضراء.
على الرغم من اعتقادات سكان «المحمية» بأن الغابة ملعونة، فإنها ليست كذلك على الإطلاق، كما أنها غير مسحورة بأي شكل من الأشكال. لكنها فقط خطرة. البركان الموجود في أعماق الغابة، كونه منخفض الانحدار وعريضًا للغاية، شيء مُربك. فهو يُصدر صوت قرقرة عندما يكون خامدًا بينما يعمل على تسخين الينابيع الحارة إلى أن تنفجر وتعمل على تآكل الشقوق دون هوادة حتى تصبح عميقة لدرجة أن لا أحد يستطيع أن يصل للقاع. وهو يجعل الينابيع تغلي ويُسخِّن الطين ويجعل شلالات الماء التي تختفي في الحُفر العميقة تظهر من جديد على بُعد أميال. ثمة فوهات تلفظ روائح كريهة، وفوهات تلفظ الرماد وفوهات أخرى لا تُطلق شيئًا على الإطلاق، حتى إن شفة المرء وأظافره تستحيلان للون الأزرق من جراء الهواء الملوث، ويشعر بأن كل ما حوله يدور.
ومن ثَم، فإن الممر الآمن الوحيد لعبور الشخص العادي للغابة هو «الطريق»، وهو يقع على طبقة من الصخور التي أصبحت ممهدةً وملساء مع مرور الزمن. لم يتغير الطريق قط ولم يصدُر عنه أي دوي. لسوء الحظ، كانت عصابة من المجرمين والمتنمِّرين من «المحمية» تدير هذا الطريق وتتحكم فيه. لم تسلك زان «الطريق» قط. لا يمكنها التساهل مع المجرمين. ولا يمكنها التساهل مع المتنمِّرين. وعلى أي حال، يأخذون إتاوات باهظة. أو هذا ما فعلوه، آخر مرة تحقَّقَت من الأمر. كانت قد مرت سنوات على آخر مرة اقتربَتْ فيها منه؛ ربما منذ قرون. لكنَّها سلكت طريقَها الخاص بها بدلًا من ذلك، مُستخدمة مزيجًا من السحر والبراعة وحُسن التمييز.
لم تكن رحلاتها عبر الغابة سهلةً على الإطلاق. لكن كانت ضرورية. كان طفل ينتظرها. خارج حدود «المحمية» مباشرةً. طفل حياته مُتوقِّفة على وصولها، ولا بد أن تصل هناك في الوقت المناسب.
بقدر ما تتذكر زان، في مثل هذا الوقت تقريبًا كل عام، تترك أمٌّ من «المحمية» طفلَها في الغابة، على الأرجح كي يموت. لم تكن زان تعرف سببًا لذلك. ولا يمكنها أن تحكم على ذلك الفعل. لكنها لم تكن لتترُك الأطفال المساكين يهلكون. لذا، فإنها كلَّ عامٍ تسافر إلى تلك الدائرة من أشجار الجميز وتأخذ الطفل المنبوذ بين ذراعَيها وتحمِلُه إلى الجهة الأخرى من الغابة، إلى إحدى «المدن المستقلة» الكائنة على الجانب الآخر من «الطريق». هذه المدن أماكن سعيدة. وأهلها يُحبون الأطفال.
عند مُنعطف الطريق، كانت أسوار «المحمية» على مرمى البصر. أبطأت زان من خطواتها فأصبحت أكثر تثاقلًا. «المحمية» نفسها عبارة عن مكانٍ كريه؛ فالهواء رديء والماء رديء والحزن يُخيم على أسطح المنازل كغيمة. شعرت بنِيرٍ من الحزن يجثُم فوق عظامها.
ذَكَّرَت نفسها كما تفعل كل عام: «خُذي الرضيع واذهبي في الحال.»
بمرور الزمن، كانت زان قد بدأت تتَّخِذ تحضيرات مُعينة؛ تتضمن هذه التحضيرات بطانية منسوجة من أنعم صوف شاه كي تلفَّ بها الطفل وتُبقيه دافئًا، ومجموعة من الأقمشة لتنظيف مؤخرة الطفل المبللة، وزجاجة أو زجاجتين من حليب الماعز لإشباع بطنه الفارغ. وعندما ينفد حليب الماعز (كما يحدث دائمًا، فالرحلة طويلة والحليب ثقيل في حمله)، كانت زان تفعل ما كانت أي ساحرة عاقلة ستفعله؛ ما إن يسود الظلام بما يكفي لرؤية النجوم، ترفع يدَها إلى النجوم وتجمع ضوء النجوم في أصابعها، مثل خيوط شبكة عنكبوت حريرية الملمس، وتطعمها للطفل. فجميع الساحرات يعرفن أن ضوء النجوم طعام مدهش للصغار في طور النمو. يتطلَّب جمع ضوء النجوم موهبةً ومهارةً مُعينتَين (بدايةً، السحر)، لكن الأطفال يأكلونه باستمتاع. ويسمنون ويشبعون و«يتألقون».
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى اتخذت المدن المستقلة يوم وصول الساحرة كل عام عطلةً رسمية. كان الأطفال الذين تجلبهم، وتتلألأ بشرتهم بضوء النجوم، يُعتبرون نعمة مباركة. كانت زان تتأنى في اختيار الأسرة المناسبة لكل طفل، كي تتأكد من أن سمات الأسرة وميولها وحسَّ الدعابة لديها يتناسَب مع الروح الصغيرة التي اعتنت بها على مدى رحلة طويلة. وهكذا، يتطور «أطفال النجوم»، كما يُطلق عليهم، من أطفال سعداء إلى مراهقين طيبين ثم بالغين كرماء الخُلق. كانوا مُتفوقين وسُمَحَاء وناجحين. وبعدما يتقدم بهم العمر ويموتون من الشيخوخة، يموتون أثرياء.
عندما وَصَلَتْ إلى بستان الأشجار، لم يكن يُوجَد رضيع بعد، لكن الوقت كان لا يزال مبكرًا. وكانت مرهقة. فمضت إلى إحدى الأشجار المتغضنة وجلست وأسندت ظهرها إليها، واستنشقت الرائحة الطينية للحائها عبر طرف أنفها.
قالت جهرًا: «القليل من النوم سيجعلُني أفضل حالًا.» وقد كان ذلك صحيحًا، أيضًا. فقد قطعت رحلة طويلة ومرهِقة، وستقطع بعدها رحلة أطول. وستكون أكثر إرهاقًا. الأفضل أن تصنع حفرة وترتاح قليلًا. وهكذا، كما كانت تفعل عادةً عندما كانت ترغب في الحصول على قسط من الهدوء والراحة بعيدًا عن البيت، حولت الساحرة زان نفسها إلى شجرة، شجرة متغضنة ذات أوراق وأشنات وجذع يحتوي على تجاعيد وأخاديد عميقة، تشبه في شكلها وملمسها أشجار الجميز العتيقة الأخرى التي تحيط بالأخدود الصغير. ونامت في هيئة شجرة.
لم تسمع الموكب.
ولم تنتبِه لاحتجاجات أنتين أو صمت المجلس النابع من الإحراج أو المواعظ التي ألقاها جيرلاند كبير الحكماء.
لم تسمع حتى هديل الطفلة. أو نشيجها. أو بكائها.
لكن عندما فتحت الطفلة حلقها وبدأت في عويل تام، أفاقت زان مذعورة.
«بحق النجوم الغالية!» بدا وكأن لحاءها وأغصانها وأوراقها هي التي تتحدث، إذا لم تكن قد أبطلت تحولها بعد. «لم أراكِ توضعين هنا!»
بدا أن الطفلة لم تتأثر بالصوت. فظلت تركل بقدمَيها ويدَيها وتعوي وتنتحب. كان وجهها محتقنًا وقد ضمت أصابع يديها الصغيرتَين وكوَّرت قبضتَيها الصغيرتَين. وصارت الشامة في جبهتها داكنة بشكلٍ خطير.
«فقط أمهليني ثانية يا حبيبتي. عمتكِ زان ستأتي بأقصى سرعة ممكنة.»
وقد فعلت. كان التحوُّل أمرًا صعبًا حتى على شخص في مهارة زان. بدأت الأغصان تلتف وتتجمع الواحد تلو الآخر متشكلة في هيئة عمودها الفقري. وبدأت تجاعيد الجذع تختفي الواحدة تلو الأخرى لتحل محلها تجاعيد وجهها.
اتكأت زان على عصاها وأرجعت كتفَيها وذراعَيها للخلف بضع مرات لتخفيف التشنجات في رقبتها؛ في أحد الجانبين يليه الجانب الآخر. نظرت لأسفل إلى الطفلة، التي كانت قد هدأت بعض الشيء، وكانت في هذه اللحظة ترمق الساحرة بنفس الطريقة التي نظرت بها لكبير الحكماء؛ بنظرة هادئة مُتحققة مشوشة. هذا النوع من النظرات ينفذ إلى أوتار الروح وينقر عليها كما ينقر العازف على أوتار قيثارته. كادت تلك النظرات أن تخطف أنفاس الساحرة.
قالت زان وهي تحاول تجاهل أصوات طقطقة عظامها المتناغمة: «زجاجة. أنتِ بحاجة إلى زجاجة.» فتشت جيوبها الكثيرة بحثًا عن زجاجة من لبن الماعز، جاهزة في انتظار البطن الجائع.
بنقرة من كاحلها، جعلت زان فطر عيش الغراب يتضخم بما يكفي كي تجعل منه مقعدًا تجلس عليه. جعلت الساحرة جسد الطفلة الدافئ يستقر فوق الانتفاخ الموجود في منتصف جسمها وانتظرت. خفت لون الهلال على جبهة الطفلة واستحال إلى درجةٍ مُحببة من اللون الوردي، وأبرزت خصلات شعرها المجعدة الداكنة عينَيها الداكنتَين. كان وجهها يتلألأ كالجوهرة. بدت هادئة وسعيدة بالحليب، لكن نظرتها كانت لا تزال مصوَّبةً نحو زان ومُثبتة عليها كما تُثبت جذور الشجرة في التربة. همهمت زان.
قالت زان: «حسنًا. لا فائدة من النظر إليَّ بهذه الطريقة. لا يمكنني إعادتكِ إلى حيثما كنتِ. لقد انقضى هذا كله في الوقت الحالي، لذا من الأفضل أن تنسَيه أنتِ أيضًا، حسنًا اهدئي الآن»، إذ بدأت الطفلة تنتحب. «لا تبكي، ستُحبين المكان الذي سنذهب إليه. وذلك بعدما أقرر أي مدينة سآخُذكِ إليها. جميع المدن رائعة للغاية. ستُحبين عائلتكِ الجديدة أيضًا. سأتكفل بهذا».
لكن مجرد قول هذا آلمَ قلبَ زان العجوز. وفي الحال أصابها حزن غير مُبرر. تركت الطفلة الزجاجة ونظرت إلى زان نظرة تنمُّ عن الفضول. هزت زان كتفيها.
قالت: «حسنًا، لا تسأليني. لا أعرف لماذا تركوكِ وحدكِ وسط الغابة. لا أعرف سببًا لنصف تصرفات الناس، وأستهجن وأستغرب النصف الآخر. لكن المؤكد أنني لن أترككِ هنا على الأرض لتكوني طعامًا لأحد حيوانات ابن عرس القصير الذيل. ينتظركِ الكثير من الأشياء الجيدة، أيتها الطفلة الغالية».
علقت كلمة «غالية» فجأة في حلق زان بغرابة. لم تتمكن من فَهم السبب. حاولت طرد جسيمات الأتربة من رئتيها المسنَّتَين وابتسمت للطفلة. مالت على وجه الطفلة وطبعت قبلة بشفتيها على جبهتها. كانت تقبِّل الأطفال دائمًا. على الأقل كانت متأكدة جدًّا من أنها كانت تفعل. بدت رائحة رأس الطفلة كعجينة الخبز واللبن المخفوق. أغمضت زان عينيها للحظة فقط، وهزت رأسها. وقالت بصوت أجش: «تعالي الآن، نذهب لرؤية العالم، ما رأيكِ؟»
وبعد أن لفَّتها بالوشاح بعناية وربطتها جيدًا، انطلقت زان في الغابة، وهي تصفر أثناء سيرها.
كانت ستذهب مباشرة إلى «المدن المستقلة». كانت بالفعل تنوي ذلك.
لكن كان يُوجَد شلال ستُحبه الطفلة. كما كان يُوجَد بروز صخري له مظهر جميل للغاية. ولاحظت أنها ترغب في أن تروي للطفلة حكايات. وأن تُغني لها أغنيات. وبينما كانت تحكي وتغني، كانت زان تبطئ أكثر فأكثر في سيرها. وكانت تعزو ذلك إلى الشيخوخة والتشنُّجات التي تُعاني منها في ظهرها وغضب الطفلة وتهيُّجها، لكن كل هذا لم يكن صحيحًا.
وجدت زان نفسها تتوقف كثيرًا لتحظى بفرصةٍ أخرى لفك الطفلة من وشاحها والنظر إلى عينَيها السوداوين العميقتَين.
كل يوم، كانت زان تهيم إلى أماكن أبعد. وتسير في حلقاتٍ وتعود أدراجها مرة أخرى، وتنتقل جيئةً وذهابًا. كان الطريق الذي سلكته عبر الغابة ملتويًا ومتعرجًا، على الرغم من أنه كان من الطبيعي أن يكون مستقيمًا كالطريق الذي تسيطر عليه «المحمية» ذاته. في الليل، ما إن نفد حليب الماعز، حتى جمعت زان خيوطًا رقيقة من ضوء النجوم على أصابعها، فأكلت الصغيرة بامتنان. ومع كل لقمة من ضوء النجوم، كان سواد حدقتَي الطفلة يزداد. كان العالم بأكمله يضطرم في هاتَين العينين، مجرات فوق مجرات.
بعد مرور الليلة العاشرة، كانت زان قد قطعت أقل من ربع الرحلة التي كانت عادةً لا تستغرق سوى ثلاثة أيام ونصف. بدأ القمر الآخِذ في الاكتمال يبزُغ أبكر كل ليلة، لكن زان لم تُعره كثيرَ انتباه. مدت يدها وجمعت ضوء النجوم ولم تلتفت للقمر.
ثمة قوة سحرية في ضوء النجوم بالتأكيد. هذا أمر معروف. لكن نظرًا لأن الضوء يقطع مسافة طويلة إلى أن يصل، فإن السحر يكون ضعيفًا ومتفرقًا ويمتد على طول الخيوط الرقيقة للغاية. القوة السحرية في ضوء النجوم تكفي لإسعاد الطفل وملء بطنه، وعندما يحصل الطفل على كمياتٍ كبيرة بما يكفي من ضوء النجوم، يمكن لضوء النجوم أن يوقظ أفضل ما في قلب الطفل وروحه وعقله. إنه كافٍ ليُبارك الطفل لا أن يمنحه قدرات سحرية.
أما ضوء القمر، فهو مختلف. إنه قصة أخرى.
ضوء القمر به قوًى سحرية. سَل من تشاء عن ذلك.
لم تستطع زان أن ترفع عينَيها عن عينَي الطفلة. فيها شموس ونجوم ونيازك. وغبار السُّدم. انفجارات عظيمة وثقوب سوداء وفضاء يمتد إلى ما لا نهاية. بزغ القمر، كبيرًا ومكتملًا ولامعًا.
مدت زان يدَها للحصول على ضوء النجوم. لكنها لم تنظر إلى السماء. ولم تلحظ القمر.
(هل لاحَظَتْ ثقل الضوء الذي سقط على أصابعها؟ هل لاحظت كم هو لزج؟ كم هو حلو؟)
لوَّحت بأصابعها فوق رأسها ثم سحبت يدَيها لأسفل عندما لم تتمكن من إبقائهما مرفوعتين أكثر من ذلك.
(هل لاحَظَتْ مدى قوة السحر الذي ينزلق من رسغِها. قالت لنفسها إنها لم تلاحظ. كررت هذا مرارًا وتكرارًا إلى أن صدقت أن هذا صحيح.)
وأكلت الطفلةُ. وأكلت المزيد. والمزيد. وفجأة انتفضت وتلوَّت في ذراعَي زان. وصرخت فجأة. صرخت بأعلى صوتها. ثم أطلقت تنهيدة رضا. وغلبها النعاس في الحال، ملتصقةً ببطن الساحرة المترهِّل الطري.
رفعت زان ناظرَيها إلى السماء، فشعرت بضوء القمر ينساب على وجهها. همست: «ويحي.» صار القمر بدرًا دون أن تلحظ ذلك. وبه قوًى سحرية شديدة. رشفة واحدة سيكون لها مفعول السحر، والطفلة كانت قد رشفت … حسنًا. أكثر من رشفة واحدة.
يا للطفلة الصغيرة الطماعة.
على أي حال، كانت الحقيقة واضحة كهذا القمر الساطع المتربع فوق الأشجار. لقد أصبحت الطفلة «مسحورة». لا شك في ذلك. وأصبحت الأمور أكثر تعقيدًا من ذي قبل.
جلست زان متربعةً على الأرض ووضعت الطفلة النائمة على ركبتها المثنية. لن يوقظها شيء. ليس قبل ساعات. مرَّرت زان أصابعها بين خصلات شعرها المتموِّجة السوداء. حتى في اللحظة الحالية، يمكنها أن تشعر بالقوة السحرية تنبض تحت جلدها، كل خيط يندسُّ بين الخلايا عبر الأنسجة، فيملأ عظامها. في الوقت المناسب، ستُصبح غير مستقرة، ليس للأبد بالطبع. لكن زان تتذكَّر جيدًا مِن السَّحرة الذين تعهَّدوها بالتنشئة منذ زمنٍ بعيد أن تربية طفلٍ يتمتع بقوًى سحرية ليست بالأمر الهيِّن. سارع مُعلموها بقول هذا مرارًا وتكرارًا. كما أن مربيها زوسيموس لم يَكفَّ عن ذكر هذا. قال لها مرارًا وتكرارًا: «إدخال قوة سحرية إلى جسد الطفل أشبه بوضع سيفٍ في يد طفلٍ صغير يتعلَّم المشي؛ كثير من القوة والقليل من التفكير والتدبُّر. ألا ترَين أنكِ جعلتِني أتقدم في العُمر يا فتاة؟»
وكان قوله صادقًا. فالأطفال الذين يملكون قدراتٍ سحريةً خطرون. لذا بالتأكيد لا يمكنها ترك الطفلة مع أي شخص.
قالت زان: «حسنًا يا حبيبتي. ألستِ مثيرةً للمتاعب بدرجةٍ مزعجة؟»
تنفَّست الطفلة بعُمق من أنفها وارتسمت ابتسامة مرتعشة على ثغرها الذي يُشبه بُرعم الوردة. شعرت زان بقلبها يثِب بين أضلُعها واحتضنت الطفلة بشدة.
قالت: «لونا، سيكون اسمكِ لونا. سأكون جدتكِ. وسنكون عائلة.»
وبمجرد قولها هذا، شعرت زان أن هذا الكلام حقيقي. تردَّد صدى الكلمات، أقوى من أي سحر.
وقفت زان، ووضعت الطفلة في الحمَّالة وبدأت رحلتها الطويلة إلى البيت، وهي تتساءل كيف يمكنها أن تشرح الأمر لجليرك.