المرأة المجنونة تعثر على بيت الشجرة
الطيران فوق ظهر سرب من الطيور الورقية ليس مريحًا كما قد تظن. ومع أن المرأة المجنونة كانت معتادة على القليل من عدم الراحة، فإن حركة الأجنحة الورقية كان لها أثرها على جلدها. كانت تجرحها حتى تنزف.
قالت: «فقط مسافة قليلة أخرى.» كان بوسعها أن تتخيل المكان في عقلها. مُستنقع. مجموعة فوهات. شجرة ضخمة جدًّا، فيها باب. ومرصد صغير يُمكن للمرء من خلاله رؤية النجوم.
«إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.» طوال كل هذه السنوات. كانت قد رسمت صورتها بقلبها. طفلتها؛ لم تكن محضَ صورةٍ من نسج خيالها، بل طفلتها في العالم. الصورة التي رسمتها بقلبها كانت «حقيقية». وكانت تعلم هذا الآن.
قبل أن تُولَد المرأة المجنونة، كانت أمُّها قد قدَّمت رضيعًا للساحرة. كان ذكرًا. أو هكذا قيل لها. لكنها كانت تعلم أن أمَّها كانت تُعاين رؤًى للطفل وهو يكبر. وظلت هذه الرؤى تراودها حتى ماتت. وكان بوسع المرأة المجنونة هي الأخرى، تمكنت أن ترى طفلتها الحبيبة، التي أصبحت فتاةً كبيرة الآن. الشعر الفاحم والعينين السوداوين والبشرة التي بلون الكهرمان المصقول. إنها جوهرة. ذات أصابع ماهرة. ونظرة متشككة. قالت لها «الأخوات» إن كلامها هذا كان محضَ جنون. ومع هذا، تمكنت من رسم خريطة. خريطة تقودها إلى ابنتها. كانت مؤمنةً بصحة كلامها إلى حدِّ اليقين.
تنهَّدت المرأة المجنونة مشيرةً لأسفل: «هناك.»
رأت مُستنقعًا. بالضبط كما رأته من قبل في مخيلتها. كان حقيقيًّا.
الفوهات السبع، التي كانت بمثابة علامات على الحدود. بالضبط كما رأتها في مخيلتها. كانت هي أيضًا حقيقية.
رأت أيضًا ورشةً مبنيةً من الحجارة، ومرصدًا. كان هذا أيضًا حقيقيًّا.
وهناك، بجوار حديقة صغيرة وإصطبل وكُرسيين خشبِيَّين في سقيفةٍ مزهرة، تستقر شجرة عملاقة. لها باب. ونوافذ.
شعرت المرأة المجنونة بأن قلبَها يكاد يثِب من صدرها.
«إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»
ارتفعت الطيور لأعلى قبل أن تهبط ببطءٍ إلى الأرض، حاملة المرأة المجنونة معها، ووضعتها أرضًا برفق كما تضع الأم طفلها في سريره.
«إنها هُنا.»
تعثرت المرأة المجنونة. وفغرت فاها. شعرت بأن قلبها يكاد يتوقف داخل صدرها. من المؤكد أنها كانت قد منحت الطفلة اسمًا. لا بد أنها فعلت ذلك.
اعتادت «الأخوات» أن تهمسن لها: «أي طفلة؟ لا أحد يعلم عمَّ تتحدثين.»
وأخبرنها: «لم يأخذ أحدٌ رضيعتكِ. أنت فقدتِ رضيعتكِ. أنتِ وضعتِها في الغابة وفقدتِها. أيتها الفتاة السخيفة.
رضيعتكِ ماتت. ألا تتذكَّرين؟
عجيبة هي الأشياء التي تخترعينها. جنونكِ يزداد سوءًا.
رضيعتكِ كانت خطيرة.
وأنت خطيرة.
لم يكن لديك رضيعة قط.
الحياة التي تتذكَّرينها محضُ خيال من عقلك المُعتل.
لقد كنتِ مجنونة دائمًا.
حزنك هو الشيء الحقيقي الوحيد. الحزن ثم الحزن ثم الحزن.»
كانت تعلم أن الرضيعة حقيقية. وكذلك المنزل الذي كانت تعيش فيه وزوجها الذي أحبها. والذي أصبح لدَيه الآن زوجة جديدة وأسرة جديدة. ورضيع جديد.
«لم تُوجَد رضيعة قط.
لا أحد يعرف من أنتِ.
لا أحد يتذكركِ.
لا أحد يفتقدكِ.
أنتِ بلا وجود.»
كانت «الأخوات» يطلقن سمومهن ويتلوين كالثعابين ويطلقن فحيحًا. كانت أصواتهن تزحف لأعلى عمودها الفقري وتلتفُّ حول رقبتها. كانت أكاذيبهن تُحكم قبضتها عليها. لكنهن كنَّ يفعلنَ فقط ما كان يُطلب منهن. لم يكن يُوجَد سوى كاذبة وحيدة في «البرج»، والمرأة المجنونة كانت تعرف من تكون.
هزت المرأة المجنونة رأسها. قالت جهرًا: «كذب. ما قالته لي كذب.» كانت ذات يوم فتاةً وقعت في الحب. ثم زوجة ماهرة. ثم حاملًا. ثم أمًّا غاضبة. ثم أمًّا يعتصرها الألم. وجعلها حزنها تفقد صوابها، أجل. بالطبع فعل ذلك. لكنَّهُ جعلها أيضًا ترى الحقيقة.
هَمَسَت: «كم مضى من الوقت على ذلك؟» التوى عمودها الفقري وأحاطت بطنَها بذراعَيها، وكأنها تُخبئ الحزن بداخلها. وهي حيلة غير فعالة، للأسف. استغرقت سنوات لتتعلم طرقًا أفضل كي تُحبط عمل «آكلة الحزن».
حامت الطيور الورقية فوق رأسها، مُصدرةً حفيفًا هادئًا. كانت الطيور تنتظر الأوامر. وستنتظر طوال اليوم. كانت تعرف ذلك. لكنها لم تكن تدري كيف عرفت.
«هل …» تهدج صوتها. كان صوتها غليظًا ومتهدجًا من قلة الكلام. تنحنحت مرة أخرى. «هل يُوجد أحدٌ هُنا.»
لم يُجب أحد.
حاولت مرة أخرى.
«لا أتذكر اسمي.» كانت هذه حقيقة. وقد جزمت أن الحقيقة هي الشيء الوحيد الذي تمتلكه. «لكن كان لديَّ اسم فيما مضى. وأنا أبحث عن طفلتي. لا أتذكر اسمها أيضًا. لكنها موجودة. واسمي موجود أيضًا. كنتُ أعيش مع ابنتي وزوجي قبل أن يتَّخِذ كل شيءٍ منحًى خاطئًا. أخذوا ابنتي. أخذها رجال أشرار. ونساء شريرات. وربما أيضًا أخذتها ساحرة. لكنني لستُ متأكدة بشأن «الساحرة».»
لم يجب أحد أيضًا.
تلفتت المرأة المجنونة حولها. كانت الأصوات الوحيدة آتية من فقاعات المستنقع أو حفيف الأجنحة الورقية. كان الباب الواقع في بطن الشجرة الهائلة مواربًا. عبرت الفناء. آلمتها قدماها. كانتا حافيتَين وكانتا لا تزالان ناعمتَين غضتَين. متى كانت آخر مرة لامستا فيها الأرض؟ لم تستطع أن تتذكَّر. كانت زنزانتها ضيقة. وكانت الحجارة ناعمة. كان بوسعها أن تنتقل من جانبٍ إلى جانب في ستِّ خطوات قصيرة. عندما كانت فتاة صغيرة، كانت تركض حافية القدمَين كلما استطاعت. لكن ذلك كان منذ زمنٍ طويل جدًّا. ربما حدث هذا لشخص آخر غيرها.
بدأت عنزة في الثغاء. ثم تبِعَتها أخرى. كانت إحداهما بلون الخبز المحمص والأخرى بلون الفحم. نظرتا إلى المرأة المجنونة بأعين كبيرة رطبة. كانتا جائعتَين. وكان ضرعاهما مُنتفخَين. كانتا بحاجة إلى الحلب.
سبق أن حلبت ماعزًا، أدركت ذلك فجأة. كان ذلك منذ زمن طويل.
قاقت الدجاجات في قنِّها، وضغطت بمناقيرها على جدران الصفصاف التي تُبقيها في الداخل. ورفرفت بأجنحتها رفرفةً يائسة.
كانت جائعة أيضًا.
سألت المرأة المجنونة: «من يهتم بكم؟ وأين هو الآن؟»
تجاهلت الصيحات المُثيرة للشفقة التي كانت تُصدرها الحيوانات ودخلت من الباب.
في الداخل، كان يُوجَد بيت؛ مُرتَّب ومنظم وجميل. سجاجيد على الأرضية. وألحفة على الكراسي. كان يُوجَد سريران معلقان في السقف باستخدام تركيب مُمتاز من الأحبال والبكرات. كانت تُوجَد فساتين معلقة على شماعات، وعباءات مُعلقة على حاملات. وكان لواحدٍ من السريرين مجموعة من العصوات تتكئ على الجدار أسفله. كانت تُوجَد مُربى وحِزم من الأعشاب ولحوم مُجففة مُغطاة بتوابل وملح مطحون. كما كان يُوجَد قرص من الجبن المُعتق على المنضدة. على الجدران، عُلِّقَت صور مرسومة باليد على خشب أو ورق أو لحاء غير مُستوٍ. تضمنت هذه الصور تنينًا جالسًا على رأس امرأة عجوز. ووحشًا غريب الشكل. وجبلًا فوقه قمر، كقلادة تتدلى من عنق. وبرجًا به امرأة فاحمة الشعر تنحني للخارج، وهي تمد يدَها إلى طائر. وكان مكتوبًا على أسفل الصورة: «إنها هُنا.»
كانت كل صورة موقعة بخط طفولي. كان التوقيع هو «لونا».
همست المرأة المجنونة: «لونا. لونا، لونا، لونا.»
وفي كل مرة كانت تنطق فيها بالاسم، كانت تشعر بداخلها بأن الأمور تتَّضح. شعرت بأن قلبها يخفق. ويخفق. ويخفق. وشهقت.
همست: «ابنتي اسمُها لونا.» كانت تعرف في صميم قلبها بأن هذا صحيح.
كانت الأسرَّة باردة. والمدفأة باردة. لم تكن تُوجَد أحذية على السجادة بجوار الباب. لم يكن أحدٌ هنا. وهو ما يعني أن لونا وأيًّا من كانوا يعيشون معها في هذا البيت ليسوا هنا. كانوا في الغابة. وكانت ثمة ساحرة في الغابة.