لونا تعثر على طائر ورقي
عندما عادت لونا إلى وعيها، كانت الشمس قد ارتفعت في كبد السماء. كانت مستلقية على شيء أملس جدًّا لدرجة جعلتها تظن لأول وهلة أنها في سريرها. فتحت عينيها ورأت السماء، تقطعها فروع الأشجار. حدقت وارتجفت، وتحاملت على نفسها ونهضت. وحاولت التعرف على محيطها.
تنهد الغراب، قائلًا: «كاو.» وكان يقصد: «حمدًا للرب.»
في البداية تحسست جسدها. كان لديها خدش في خدها، لكنه لم يبدُ عميقًا جدًّا، كما كان لديها تورم على رأسها يؤلمها عند لمسه. وكان ثمة دم جاف في شعرها. كان فستانها ممزقًا من الأسفل وعند مرفقيها. بخلاف هذا، لم يبدُ أن أيَّ شيءٍ آخر كان «مكسورًا»، وهو ما كان في حد ذاته مدهشًا.
وما كان مدهشًا أكثر، أنها كانت مستلقية فوق مجموعة من فطر عيش الغراب الذي كان قد نما على حافة قاع مجرًى مائي إلى أن أصبح حجمه هائلًا. لم تكن لونا قد رأت فطر عيش غراب ضخمًا لها الحد. ولا مريحًا هكذا. لم يَحُل عيش الغراب دون سقوطها فحسب، بل منعها من التدحرج مباشرة إلى قاع المجرى والغرق المحتمل.
قال الغراب: «كاو.» وكان يقصد: «لنذهب إلى البيت.»
قالت لونا بنزق: «انتظر دقيقة.» مدَّت يدَها داخل حقيبتها وأخرجت منها دفترها، وفتحته على الخريطة. رأت أمامها بيتها مميزًا بعلامة. ورأت جداول وتلالًا صغيرة ومنحدرات صخرية مميزة بعلامات أيضًا. كما رأت الأماكن الخطيرة. والبلدات القديمة التي باتت أطلالًا. ورأت مرتفعات. ومنفسات حرارية. وشلالات. ينابيع حارة. وأماكن لا يمكنها المرور عبرها. وهذا الموضع هنا، في الركن السفلي.
كان مكتوبًا على الخريطة: «عيش الغراب.»
قالت لونا جهرًا: «عيش الغراب؟»
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «عمَّ تتحدثين؟»
كان فطر عيش الغراب على خريطتها بجوار قاع مجرًى مائي. ولم يكن يؤدي إلى الطريق الذي ستسلكه، بل إلى مكان يُمكنها فيه أن تجتاز أرضًا مستقرةً في الأغلب. ربما.
أنَّ الغرابُ: «كاو.» وكان يعني: ««من فضلكِ» هيَّا نذهب إلى البيت.»
هزت لونا رأسها نفيًا. وقالت: «لا. جدتي تحتاج إليَّ. أنا متيقنة من ذلك. ولن نغادر هذه الغابة بدونها.»
نهضت مترنحةً وهي تتألم، وأعادت الدفتر إلى حقيبتها، وبذلت أقصى جهدها كي تسير دون أن تعرج.
مع كل خطوة، كان ألم جروحها يقلُّ تدريجيًّا ويصفو ذهنها أكثر قليلًا. مع كل خطوة، كانت تشعر بأن عظامها أقوى وكدماتها أخف، وشعرت بأنه حتى الدم الجاف في شعرها صار أخف وأقل تيبسًا وأرق سُمكًا. بعد قليل، مرَّرَتْ يدَها في شعرها، وكان الدم قد اختفى. وكان التورُّم قد اختفى أيضًا. وبدا أنه حتى الخدش على وجهها والتمزُّق في فستانها قد شُفِيا من تلقاء نفسيهما.
قالت لونا في نفسها: «غريب.» لم تستدر على عقبَيها، لذا لم تلاحظ آثار الأقدام التي خلفتها وراءها، إذ صارت كل خطوة حينئذٍ حديقة يانعة الأزهار، وكل زهرة تتمايل مع النسيم، والأزهار الضخمة الغريبة تُوَلِّي وجهها شطر الفتاة التي كانت تبتعِد.
•••
طائر السنونو في طيرانه رشيق وخفيف الحركة ودقيق. فهو ينطلق بسرعةٍ خاطفة ويهبط منقضًّا ويتمايل ويدور ويتحرك جيئةً وذهابًا. فهو في حركته أشبه براقص وموسيقيٍّ وسهم مُنطلق.
عادةً ما يكون كذلك.
أما هذا السنونو، فكان يترنح من شجرة لأخرى. بلا حركات بهلوانية. ولا سرعة متزايدة. فقدَ صدرُه المنقط ريشًا بحجم قبضة اليد. كانت عيناه باهتتين. اصطدم بجذع شجرة «جار الماء» وتعثَّر فوق أغصان شجرة صنوبر. ورقد هناك للحظات، كي يلتقط أنفاسه، وفتح جناحَيه وبسطهما نحو السماء.
ثمة شيءٌ كان يجب عليه فعله. «ماذا كان؟»
تحامل السنونو على نفسه ونهض على قدمَيه وتشبَّث بأغصان الصنوبر. نفش ريشه فصار ككرةٍ وفعل ما بوسعه لتفحُّص الغابة.
كان العالم ضبابيًّا. «هل كان ضبابيًّا دائمًا؟» نظر السنونو بتمعُّن إلى مخالبه المتجعدة.
قال السنونو في نفسه: «هل كانت هذه قدميَّ دومًا؟» لا بد أنهما كانتا كذلك. لكن السنونو لم يتمكن من التخلُّص من الشعور الغامض الذي راوده بأن قدميه ربما لم تكونا كذلك دومًا. وشعر بأنهما في مرحلة ما كان عليهما أن تصبحا بهذا الشكل لأجل شيء معين. شيء عليه فعله. شيء مُهم. كان بوسعه أن يشعر بقلبه يخفق بسرعة، ثم يتباطأ على نحو خطير، ثم يتسارع مرة أخرى كالزلزال.
قال السنونو في نفسه: «أنا أُحتضَر»، وهو يعلم يقينًا أن هذا صحيح. «ليس في هذه اللحظة بالطبع، لكن يبدو بالفعل أنني أُحتضَر.» كان بوسعه أن يشعر بمخزون طاقة الحياة الموجود عميقًا بداخله. وشعر بأن هذا المخزون بدأ يتضاءل. «حسنًا. لا يُهم. أنا واثق من أنني عشت حياةً جميلة. كل ما أتمنَّاه أن أتذكرها.»
أغلق منقاره بإحكامٍ وحكَّ رأسه بجناحَيه، محاولًا استعادة ذكرى. قال في نفسه: «لا ينبغي أن يكون من الصعب على المرء تذكُّر من يكون.» حتى الأحمق يُمكنه فعل هذا. وبينما كان السنونو يعتصر ذهنه، سمع صوتًا يأتي من الطريق بالأسفل.
قال الصوت: «عزيزي فيريان. حسب آخِر إحصاء أجريتُه، قضيتَ أكثر من ساعة تتكلم دون توقف. أنا مصدوم بالفعل من أنك لم تشعر حتى بالحاجة إلى التقاط أنفاسك.»
قال الصوت الآخر: «يمكنني حبس أنفاسي لمدة طويلة، كما تعلم. هذا جزء من كوني «تنينًا هائلًا».»
صمت الصوت الأول للحظة. وقال: «هل أنت متأكد؟» حل الصمت من جديد. «لأن هذه المهارات لم تُذكر في أي نصٍّ من النصوص التي تتناول فِسْيُولُوجِيَّة التنانين. ولهذا من المُحتمَل أن أحدهم أخبرك بهذا كي يخدعك.»
قال الصوت الثاني متسائلًا بعينَين واسعتَين وأنفاس لاهثة: «من ذا الذي يجرؤ على خداعي؟ لم يسبق أن أخبرني أي شخصٍ إلا بالحقيقة. طوال حياتي، أليس هذا صحيحًا؟»
أطلق صاحب الصوت الأول زمجرةً قصيرة، وخيم الصمتُ من جديد.
كان السنونو يعرف هذَين الصوتَين. رفرف مقتربًا كي يرى بشكلٍ أفضل.
طار صاحب الصوت الثاني بعيدًا ثم عاد منزلقًا على ظهر صاحب الصوت الأول. كان جسد صاحب الصوت الأول يضمُّ العديد من الأذرع وذيلًا طويلًا، ورأسًا ضخمًا. كان يتحرك ببطء بجسده، مثل شجرة جميز عملاقة. شجرة تتحرك. اقترب السنونو أكثر. توقف الكائن الضخم الشبيه بالشجرة ذو الأذرع العديدة والذيل. تلفت حوله. قطَّب حاجبيه.
قال: «زان؟»
تسمَّر السنونو في مكانه. كان يعرف هذا الاسم. كان يعرف الصوت. «لكن كيف؟» لم يستطع أن يتذكر.
عاود الصوت الثاني.
«توجد أشياء في الغابة يا جليرك. وجدتُ مدخنةً. وحائطًا. ومنزلًا صغيرًا. أو كان منزلًا صغيرًا، لكنه الآن يحتوي على شجرة بداخله.»
لم يرد الصوت الأول على الفور. حرَّك رأسه ببطءٍ شديد من جهةٍ لأخرى. كان السنونو خلف أجمة كثيفة. وكاد يتوقف عن التنفُّس تمامًا.
أخيرًا تنهد صاحب الصوت الأول. «ربما كنت ترى واحدة من القرى المهجورة. يوجد كثير منها على هذا الطرف من الغابة. بعد الثوران الأخير للبركان، هرب الناس، ولاقوا الترحيب في «المحمية». هذا هو المكان الذي جمعهم فيه السحرة. من تبقى منهم، على أي حال. لا أعرف ما حدث لهم بعد ذلك. لم يتمكنوا من العودة إلى الغابات بالتأكيد. كان ذلك في غاية الخطورة.»
حرَّك المخلوق رأسه الضخم من جهة لأخرى.
قال: «كانت زان هنا. منذ وقتٍ قريب جدًّا.»
قال الصوت الثاني: «هل لونا معها؟ هذا سيكون أكثر أمانًا. لونا لا تستطع الطيران كما تعلم. وهي غير محصنة ضد ألسنة اللهب مثل «الديناصورات الهائلة». هذا أمر معروف.»
زمجر الصوت الأول.
وفجأة، عرفت زان نفسها.
قالت في نفسها: «جليرك. في الغابة. بعيدًا عن المستنقع.
لونا. وحيدةً تمامًا.
وكان ثمة طفل. على وشك أن يُترك في الغابة. ويجب عليَّ إنقاذه، وبحق السماء ما الذي أفعله هُنا مضيَّعةً الوقت؟
بحق السماء، ما الذي فعلته؟»
وابتعدت زان عن الأجمة الكثيفة وارتفعت فوق الأشجار وهي تضرب بجناحَيها العتيقَين بأقصى ما في وسعها.
•••
كان القلق يسيطر على الغراب. بدا هذا واضحًا للونا.
قال الغراب: «كاو»، وكان يعني: «أظن أن علينا العودة.»
قال مرة أخرى: «كاو»، وفهِمَت لونا من هذا أنه يقول: «احترسي. أيضًا، هل أنتِ على دراية بأن الصخور مشتعلة؟» وقد كان هذا صحيحًا. بالفعل، كانت تُوجَد طبقة من الصخور، تشكل انحناءً في المستنقع والغابة الشديدة الخضرة، وكانت هذه الصخور تتوهج مثل نهر من الجمرات. أو ربما كانت «بالفعل» نهرًا من الجمرات. راجعت لونا خريطتها. كان مكتوبًا على الخريطة: «نهر الجمرات».
قالت لونا «أوه.» وحاولَت أن تجد مهربًا.
كان هذا الجانب من الغابة ثائرًا أكثر بكثيرٍ من الجانب الذي كانت ترتحِل فيه عادةً.
قال الغراب: «كاو.» لكن لونا لم تفهم مقصده.
قالت: «تحدث بطريقة أوضح.»
لكن الغراب لم يفعل. رفرف لأعلى، وجثم لفترة قصيرة على أعلى فروع شجرة صنوبر. ثم نعق. وطار لولبيًّا لأسفل. ظلَّ يطير من أعلى لأسفل ومن أسفل لأعلى. شعرت لونا بالدوار.
قالت: «ماذا ترى؟» لكن الغراب لم يقُل شيئًا.
قال الغراب: «كاو»، وهو يحطُّ عائدًا إلى أعالي الأشجار.
سألت لونا: «ماذا أصابك؟» لكن الغراب لم يقل.
أشارت الخريطة إلى «قرية» كان من المُفترَض أن تكون واضحةً للعيان أعلى الحافة التالية. كيف يمكن لأي شخصٍ أن يعيش في هذه الغابة.
عبرت لونا المنحدر، وهي تُحاذر وتنظر إلى موطئ قدَمِها قبل أن تضعها، كما نصحتها الغابة.
«خريطتها.
هي من رسمتها.
كيف رسمتها؟
ليست لديها أي فكرة.»
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «شيء ما يقترب». قالت لونا وهي تطلُّ على المساحات الخضراء: «ما الذي يمكن أن يكون آتيًا؟»
كان بوسعها أن ترى القرية القابعة في حضن الوادي. كانت حطامًا. لم يعُد يُوجَد سوى أطلال مبنًى مركزي وبئر والأساسات البارزة من الأرض للعديد من المنازل، مثل أسنان محطمة، في صورة مربعات منظمة ومرتبة. نمت أشجار حيثما كان يعيش البشر فيما مضى، وكذلك نباتات منخفضة.
انعطفت لونا حول الينبوع الحمضي الحار وتتبعت الصخور إلى المكان الذي كانت القرية تُوجَد فيه. كان المبنى المركزي عبارة عن برج قصير دائري يحتوي على نوافذ مقوسة تطلُّ نحو الخارج كالأعين. كان الجزء الخلفي قد تداعى وانهار السقف. ولكن كانت تُوجَد نقوش في الصخور. اقتربت لونا منها ووضعت يدَها على أقرب لوح.
تنانين. كانت تُوجَد تنانين منقوشة في الصخور. تنانين عملاقة وتنانين صغيرة وتنانين متوسطة الحجم. وكان أشخاص يحملون ريشات في أيديهم وأشخاص يحملون نجومًا في أيديهم، وأشخاص لديهم شامات على جبينهم على شكل أَهِلَّة. ضغطت لونا على جبينها بأصابعها. كانت لديها الشامة نفسها.
كان يُوجَد نقش لجبل، ونقش آخر لجبل أزيلت قمَّتُه وهبَّت منها للخارج سحابةٌ من الدخان، ونقش لجبل يسد تنينٌ فوهته.
ماذا يعني هذا؟
قال الغراب: «كاو.» وكان يقصد: «كاد أن يصل.»
قالت لونا: «أعطني دقيقة.»
سمعت صوتًا يُشبه حفيف ورقة.
وعويلًا عاليًا ورفيعًا.
رفعت ناظريها. اندفع الغراب نحوها بسرعة، يطير بالتفافة محكمة وسريعة بريشه الأسود ومنقاره الأسود ونعيقه المضطرب. تراجع للخلف، مرفرفًا بجناحَيه للوراء، ثم رفرف وحَطَّ على ذراعَيها وأراح رأسه عند ثنية مرفقها.
فجأة أصبحت السماء مليئة بطيور من كل الأحجام والأوصاف. وقد احتشدت جميعًا مرددة همهماتٍ عظيمة، وتفرقت الطيور ثم تجمعت منكمشة على نفسها وانعطفت في العديد من الاتجاهات. صرخت ونعقت ودارت في دوامات عظيمة قبل أن تحط على أطلال القرية وتغرد وتُحدث جلبةً وتطير بالقُرب في دوائر.
لكنها لم تكن طيورًا على الإطلاق. كانت مصنوعةً من الورق. وكانت تتَّجِه بوجوهها الخالية من الأعين نحو الفتاة الواقفة على الأرض. همست لونا: «إنه السحر. هذا ما يفعله السحر.»
ولأول مرة فهمت.