الساحرة تلتقي بأحد المعارف القدامى
عندما كانت زان فتاةً صغيرة، كانت تعيش في قرية في الغابة. كان والدها، بحسب ما تتذكر، نحَّاتًا. كان بالأساس ينحت الملاعق. وكان ينحت الحيوانات أيضًا. كانت أمها تجمع زهور بعض الكروم المتسلقة وتُجففها من الرحيق ثم تخلطها بالعسل الذي جمعته من خلايا النحل البرية الموجودة في أعلى الأشجار. كانت تتسلَّق إلى القِمَم بخفَّة مثل عنكبوت، ثم تُنزِل أقراص العسل في سلالٍ مربوطةٍ بحبال كي تلتقطها زان. لم يكن مسموحًا لزان بالتذوُّق. كان هذا من ناحية المبدأ. لكنها كانت ستفعل على أي حال. وكان من شأن أُمِّها أن تهبط وتُقبل شفتَي ابنتها الصغيرة بما عليهما من عسل.
كان أمرًا جعلها تَذكُّره تشعر بطعنةٍ في قلبها. كان والداها دءوبَين. وجسورين. لم تستطع تذكُّر وجهيهما، لكنها تذكرت الشعور الذي كانت تشعر به حين تكون بجانبهما. تذكرت رائحتهما التي تفوح بالرحيق ونشارة الخشب وحبوب اللقاح. تذكرت انحناءة الأصابع الكبيرة وهي تربت على كتفها الصغيرة وأنفاس أمها وهي تطبع بشفتيها قبلةً على رأس زان. بعد ذلك، ماتا. أو اختفيا. أو أنهما لم يُحباها وغادرا. لم يكن لدى زان أي عِلم بما جرى.
قال الباحثون إنهم وجدوها في الغابة وحيدةً تمامًا.
أو وجدتها إحداهم. وهي امرأة صوتها حاد دقيق. ولها قلب مِثل النمر. كانت هي من أحضرت زان للقلعة، منذ تلك السنوات البعيدة.
أراحت زان جناحَيها في ركن مُقعر من شجرة طويلة. بهذا المعدل، سيستغرق وصولها إلى «المحمية» دهرًا. فيمَ كانت «تفكر»؟ كان القطرس سيصبح خيارًا أفضل بكثير. فكل ما كان سيتعيَّن عليها فعله هو أن تثبت جناحَيها وتترك الباقي للريح.
زقزقت: «لا يهم الآن. سأصل إلى هناك بأسرع ما أستطيع. بعد ذلك سأعود إلى عزيزتي لونا. سأكون هناك عندما يبدأ سحرها. سأريها كيف تستخدِمه. ومن يعلم؟ ربما كنتُ مخطئة. ربما لن يأتي سحرها أبدًا. ربما لن أموت. ربما يحدث العديد من الأشياء.»
أكلت مجموعة من النمل الذي كان يحتشد في اللحاء الخارجي من الشجرة، بحثًا عن شيء حلو. لم يكن كثيرًا لكنه سدَّ رمقها قليلًا. وبعدما نفشت زان ريشها كي تنعم بالدفء، أغمضت عينَيها وراحت في النوم.
بزغ القمر فوق أعالي الأشجار، مُستديرًا وثقيلًا كيقطينة ناضجة. سقط ضوءُه على زان فأيقظها.
همست: «شكرًا لك»، شاعرةً بأن ضوء القمر يغوص مخترقًا عظامها، مُليِّنًا مفاصلها ومُخففًا ألَمها.
قال صوت: «من هناك؟ أحذرك! أنا مسلح!»
لم تستطع زان أن تكبح نفسها. بدا الصوت خائفًا جدًّا. وتائهًا جدًّا. وكان بوسعها أن تساعد. وعندئذٍ أصبح ضوء القمر يُغطيها بالكامل. في الواقع، لو توقفت للحظة فقط، فستتمكن من جمع هذا الضوء بجناحيها وشُربه إلى حد الامتلاء. لن تظل على هذه الحالة من الامتلاء بالطبع. فقد كانت مسامية للغاية كالإسفنج. لكنها كانت ستشعر بشيءٍ رائعٍ في الوقت الراهن. وبالأسفل تحتها، كان شخص يتحرك بسرعةٍ من جهة لأخرى؛ كان يحني كتفَيه، وينظر يمينًا ويسارًا. كان مذعورًا. وزاد ضوء القمر زان انتفاخًا وحجمًا. كما زادها عطفًا. رفرفت خارجةً من مخبئها وحامت فوق الشخص. كان شابًّا. صرخ، وأطلق الحجر الذي كان في يده، فأصاب زان في جناحها الأيسر. سقطت على الأرض دون أدنى صوت.
•••
عندما أدرك أنتين أن ما حام فوق رأسه لم يكن ساحرةً مُخيفةً تنقض عليه (تمتطي تنينًا وتحمل عصا مشتعلة)، كما ظن، بل طائر بُني صغير ربما كان في حاجة إلى القليل من الطعام، شعر في الحال بالخزي. بمجرد أن انطلق الحجر من يدَيه، تمنَّى لو كان بإمكانه استرداده مرةً أخرى. فمع كل الجرأة التي كان عليها أمام المجلس، لم يسبق له مطلقًا أن لوى حتى عنق دجاجة للحصول على عشاءٍ لذيذ. لم يكن واثقًا تمامًا مما إذا كان بوسعه أن يقتل «الساحرة».
(قال لنفسه محذرًا: «ستختطف «الساحرة» ابني.» لكنه بدأ يتردد. لم يكن إزهاق روح بالأمر السهل. مع كل دقيقة كانت تمر، كان يشعر بأن عزيمته بدأت تضعف.)
حطَّ الطائر أمام قدمَيه مباشرةً. لم يصدر صوتًا. ولم يكن يتنفس. اعتقد أنتين متيقنًا أنه مات. كتم صرخةً بداخله.
ثم … حدثت معجزة! علا صدر الطائر ثم هبط، ثم علا ثم هبط. انحرف جناحه بزاوية نحو الخارج بشكلٍ مقزز. لقد كُسر. كان ذلك مؤكدًا.
جثا أنتين على ركبتَيه. تنهَّد قائلًا: «أنا آسف. آسف جدًّا.» رفع الطائرَ وحمله في يدَيه. لم يبدُ بصحةٍ جيدة. وكيف يمكن أن يكون كذلك، في هذه الغابة الملعونة؟ نصف الماء مسمم. إنها «الساحرة». كل هذا بسبب «الساحرة». اللعنة عليها إلى الأبد! قرَّب الطائر من صدره، محاولًا أن يُدفئه بحرارة جسده. قال مُجددًا: «أنا آسِف جدًّا جدًّا.»
فتح الطائر عينَيه. إنه سنونو، أمكنه أن يرى هذا. إيثين تحب طيور السنونو. مجرد التفكير فيها جعل قلبه ينفطر. كم كان يشتاق إليها! كم كان يشتاق إلى ابنهما! وكان مستعدًّا لفعل أي شيءٍ من أجل أن يراهما مرةً أخرى!
رمقه الطائر بنظرة حادة. وعطس. لا يُمكنه أن يلومه.
«استمع إليَّ، أنا آسف بشأن جناحك. وللأسف، لا أملك المهارات اللازمة لعلاجه. لكن زوجتي. إيثين …» تهدج صوته وهو ينطق باسمها. «إنها ماهرة وحنونة. يُحضر لها الناسُ حيواناتِهم المصابة طوال الوقت. يمكنها مساعدتك. أعرف هذا.»
ربط الجزء العلوي من سُترته الضيقة وصنع كيسًا صغيرًا ووضع الطائر بأمان بداخله. أطلق الطائر تغريدة. قال أنتين لنفسه: «ليس سعيدًا معي.» ولكي يؤكد الطائر هذه النقطة، عض سبابته عندما قرَّبها منه. فظهر الدم في طرف إصبعه.
طارت عثة ليلية نحو وجه أنتين، ربما انجذبت لضوء القمر الذي يلمع فوق جلده. بعد تفكير سريع، أمسك أنتين بالعثة، وقدَّمها للطائر.
قال: «خذ. لكي أريك أنني لا أقصد أي ضرر.»
رمقه الطائر بنظرة حادَّة أخرى. ثم انتزع الفراشة على مضض من أصابعه وابتلعها بعدما مضغها ثلاث مرات.
«هناك. هل ترى؟» رفع ناظرَيه إلى القمر، ثم نظر إلى الخريطة. «تعالَ. أريد فقط أن أصل لأعلى هذا المرتفع، وبعد ذلك يمكننا الحصول على قسطٍ من الراحة.»
وتوغل أنتين و«الساحرة» في الغابة.
•••
شعرت الأخت إجنيشا بأن قواها تضعف بسرعة كبيرة. كانت قد بذلت أقصى ما في وسعها كي تمتص كل الحزن الذي يُمكنها امتصاصه، لم تصدق كمَّ الحزن الذي رأته يُخيم على المدينة! سُحب عظيمة ولذيذة منه، مستمرة كالضباب. كانت حقًّا قد تفوقت على نفسها، وأدركت حينئذٍ أنها كانت قد حرمت نفسها من هذا التقدير الذي كانت تستحقه. تحولت مدينة كاملة إلى بئر حقيقية من الحزن. كانت بمثابة كأس لا يفرغ أبدًا. كله من أجلها. لم يكن أحد في تاريخ «الأزمنة السبعة» قد تمكن من تحقيق مثل هذا الإنجاز. لا بد أن تُكتب عنها أغنيات. أو على الأقل كُتُب.
أما الآن، فقد مرَّ يومان دون أن تحصل على أي حزن، وكانت بالفعل ضعيفة ومنهكة. ومرتعشة. كانت ينابيع السحر لديها تُستنزَف بسرعة هائلة. سيتعين عليها إيجاد ذلك الصبي. وبسرعة.
توقفت وركعت بجوار جدول صغير، وهي تمسح بعينَيها الغابة المجاورة بحثًا على أي علامات على وجود حياة. كانت تُوجد أسماك في الجدول، لكن الأسماك مُعتادة على نصيبها في الحياة وكقاعدة عامة لا تشعر بالحزن. كان يُوجَد عش من طيور الزرزور بالأعلى، وكان عمر الفراخ الصغيرة لا يتجاوز يومَين. يُمكنها سحق الطيور الصغيرة الواحد تلو الآخر، والتغذِّي على حزن الأم، بالطبع يُمكنها فعل ذلك. لكن حزن الطيور ليس بكفاءة حزن الثدييات. لم تكن تُوجَد أي ثدييات على مدى أميال. تنهدت الأخت إجنيشا. جمعت ما احتاجت إليه من أجل صُنع جهاز رصد مؤقت؛ قطعةً من زجاج بركاني من جيبها، وعظام أرنب مقتول حديثًا، ورباط حذاء إضافي؛ لأنه كان من المفيد استخدام أكثر شيءٍ نافع في متناول اليد. ولم يكن يُوجَد ما هو أهم من رباط الحذاء. صحيح أنه لا يُمكنها صنعه بنفس الدرجة من التفصيل التي تتميز بها أجهزة الرصد الكبيرة الموجودة في «البرج»، لكنها لم تكن تتطلَّع للكثير.
لم يكن يمكنها رؤية أنتين. كانت لديها فكرة عن المكان الذي يمكن أن يكون فيه. كانت شبه متأكدةٍ من أنها ستجد غشاوةً في المكان الذي تظن أنه قد يكون موجودًا فيه. لكن شيئًا ما كان يحجب عنها الرؤية.
تمتمت: «سِحر؟ بالتأكيد لا.» فجميع السحرة على الأرض — على الأقل الذين كانوا يعرفون ما يفعلون — كانوا قد هلكوا منذ خمسمائة سنة مضت عندما ثار البركان. أو تقريبًا ثار. يا لهم من حمقى! أرسلوها ﺑ «الحذاء الذي يقطع سبعة فراسخ في الخطوة الواحدة» كي تُنقذ الناس في قرى الغابة. وقد فعلت بالطبع. كانت قد جمعتهم جميعًا سالمين في «المحمية». واحتشدت جميع أحزانهم غير المُنتهية معًا على مكانٍ واحد. كان كل ذلك وفقًا لخطة.
لعقت شفتَيها. كانت «جائعةً» جدًّا. كانت بحاجة إلى أن تمسح محيطها بعينيها.
رفعت «كبيرة الأخوات» جهاز الرصد الخاص بها إلى عينها اليُمنى ومسحت بقية الغابة. غشاوة أخرى. تساءلت: «ما خطب هذا الجهاز؟» ضيَّقت العُقَد. لا تزال تُوجَد غشاوة. جزمت أن هذا بسبب الجوع. حتى التعويذات البدائية تكون صعبةً عندما لا يعمل المرء بكامل قوته.
رمقت كبيرة الأخوات عش الزرزور.
مسحت الجبل بعينَيها. ثم شهقت.
صرخت: «لا!» نظرت مرةً أخرى. «كيف لا تزال على قيد الحياة، أيها المخلوق القبيح؟»
فركت عينَيها ونظرت للمرة الثالثة. همست: «ظننتُ أنني قتلتك، يا جليرك. حسنًا، أظن أن عليَّ المحاولة مرةً أخرى. كائن مُزعج. لقد كدتَ تُحبط عملي ذات مرة، لكنك فشلت. ولا بد أن تفشل مرةً أخرى.»
قالت في نفسها: «أولًا، عليَّ أن أحصل على وجبة خفيفة.» وضعت الأخت إجنيشا جهاز الرصد في جيبها، وتسلقت إلى الفرع الذي به عش الزرزور. مدَّت يدَها وجذبت فرخًا صغيرًا يتلوى. سحقته بقبضةٍ واحدة بينما كانت الأم المذعورة تنظر دون أن تتدخل. كان حزن العصفورة الأم ضئيلًا. ومع ذلك كان كافيًا. لعقت الأخت إجنيشا شفتَيها وسحقت فرخًا آخر.
قالت في نفسها: «والآن، عليَّ أن أتذكر أين أخفيتُ «الحذاء الذي يقطع سبعة فراسخ في الخطوة الواحدة».»