لونا تلتقي بامرأة في الغابة
حطت الطيور الورقية فوق فروع الأشجار والصخور وبقايا المداخن والجدران والمباني القديمة. لم تُصدِر أي صوتٍ أكثر من حفيف الأوراق واحتكاك الطيات. سكنت أجسامها واستدارت نحو الفتاة الواقفة على الأرض. لم تكن لديها أعين. ومع ذلك، كانت تُراقبها. شعرت لونا بهذا.
قالت: «مرحبًا»، لأنها لم تعرف ماذا تقول غير هذا. لم تقل الطيور الورقية شيئًا. أما الغراب فلم يستطع البقاء ساكنًا. وأسرع نحو زمرةٍ تجمعت فوق الفرع المُمتد من شجرة بلوط قديمة، وأخذ ينعق في نفس الوقت.
نعق الغراب: «كاو، كاو، كاو، كاو.»
قالت لونا محذرة: «اصمت». كانت تُراقب الطيور الورقية. مالت الطيور برأسها في آن واحد، وأشارت بمناقيرها أولًا نحو الفتاة الواقفة على الأرض، ثم تابعت الغراب المجنون، ثم عادت تنظر إلى الفتاة.
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «أنا خائف».
قالت لونا وهي تحدق في الطيور: «وأنا أيضًا.» تفرقت الطيور وتجمعت مرة أخرى، مُحلقةً فوقَها كسحابة متموجة عظيمة. وذلك قبل أن تحط من جديد على فروع شجرة البلوط.
قالت لونا في نفسها: «هذه الطيور تعرفني.
كيف تعرفني؟
الطيور، والخريطة، والمرأة التي أراها في أحلامي. إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»
كان الأمر مُعقدًا لدرجة أنها لم تستطع التفكير فيه. العالم مليء بالكثير من الأشياء التي يجب على المرء معرفتها، وكان عقل لونا ممتلئًا تمامًا. كانت تشعر بألَم في رأسها، في منتصف جبهتها تمامًا.
حدقت الطيور الورقية نحوها.
سألت لونا: «ماذا تريدين منِّي أيتها الطيور؟» استقرت الطيور الورقية في الأماكن التي حطَّت فيها. كانت أكثر من أن تُحصى. وكانت تنتظر. لكن ماذا كانت تنتظر؟
قال الغراب: «كاو.» وكان يقصد: «ومن يهتم بما تُريده؟ الطيور الورقية مخيفة.»
كانت مخيفة بالفعل. لكنها كانت أيضًا جميلة وغريبة. كانت تبحث عن شيءٍ ما. أرادت أن تُخبرها شيئًا ما.
جلست لونا على التراب. وظلَّت تُراقب الطيور. تركت الغراب يأوي إلى حِجرها. أغمضت عينَيها وأخرجت كتابها وقلمَ رصاصٍ صغيرًا. ذات مرة، كانت قد تركت عقلَها يَهيم وهي تفكر في المرأة التي تراها في أحلامها. وبعد ذلك، رسمت خريطة. وكانت الخريطة «صحيحة». أو على الأقل كانت كذلك حتى الآن. أشارت الخريطة: «إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا»، ولا يمكن للونا سوى أن تفترض أنها تقول الحقيقة. لكنها الآن كانت بحاجةٍ إلى أن تجعل شيئًا آخر يحدُث. كانت بحاجةٍ إلى أن تعرف أين جدتها.
قال الغراب: «كاو.»
قالت لونا دون أن تفتح عينيها: «اصمت. أحاول التركيز.»
كانت الطيور الورقية تُراقبها. كان يمكنها أن تشعر بها تُراقبها. شعرت لونا بيدها تتحرك على الصفحة. حاولت أن تُبقي تركيزها مُنصبًّا على وجهِ جدَّتها. لمسة يدِها. رائحة بشرتها. شعرت لونا بأن الخوف خلع قلبها من مكانه ووضعه في قبضته، وشعرت بدمعتَين ساخنتَين تنحدران لأسفل، وتسقطان على الورق لتُحدثا صوت ارتطام.
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «طائر.»
فتحت لونا عينَيها. كان الغراب مُحقًّا. لم ترسم جدتها على الإطلاق. بل رسمت طائرًا غبيًّا. طائرًا جالسًا على يد رجل.
تمتمت لونا، وقد سيطر عليها الهلع: «حسنًا، ما هذا بحق السماء؟» كيف يُمكنها أن تجد جدتها؟ حقًّا كيف؟
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «نمر.»
نهضت لونا مسرعة، وهي تُبقي ركبتيها مُثنيتَين محافظةً على انخفاض قامتها.
همست للغراب: «ابقَ قريبًا.» تمنَّت لو أن الطيور كانت مصنوعةً من مادة أقوى من الورق. صخور، مثلًا. أو فولاذ حاد.
قال صوت: «حسنًا. ماذا لدَينا هُنا؟»
قال الغراب: «كاو.» وكان يقصد أن يقول: «نمر.»
لكنه لم يكن نمرًا على الإطلاق. كان امرأة.
«إذن لماذا أشعر بخوفٍ شديد.»
•••
وقفت إيثين عندما وصل كبير الحكماء، تُحيط به جنديتَين مدجَّجتَين بالسلاح من «أخوات النجمة». لم يبدُ عليها الخوف على الإطلاق. كان هذا مزعجًا حقًّا. قطَّب كبير الحكماء حاجبَيه بطريقةٍ حسِب أنها آمِرة. لكنها لم تؤثر. الأدهى من ذلك أنه بدا أنها كانت تعرف الجنديتَين، بل كانت صديقةً لهما أيضًا. تهلَّل وجهها عند وصول الجنديتَين الصارمتَين، وبادَلَتها الجنديتان الابتسام.
قالت، وهي تبتسم في وجه الجندية التي على اليسار: «ليلينز! وصديقتي الغالية جدًّا ماي» وبعثت قبلةً في الهواء للجندية التي على اليمين.
لم تكن هذه هي البداية التي كان كبير الحكماء يأمُلها. تنحنح. لم يبدُ أن النساء في الغرفة لاحظن وجودَه. كان هذا مثيرًا للسخط.
قالت إيثين بانحناءة مُهذبة: «مرحبًا، أيها العم جيرلاند. لقد غليتُ لتوي بعض الماء في الغلاية ولديَّ نعناع طازج من الحديقة. هل يُمكنني أن أُحَضِّرَ لك بعض الشاي؟»
جعَّد كبير الحكماء أنفَهُ مُبديًا تأفُّفه. وقال بنبرة لاذعة: «معظم ربات البيوت، يا سيدتي، لا يشغلن أنفسهن بزراعة أعشابٍ تافهة في حديقتهنَّ بينما لديهنَّ أفواه يُطعمنها وجيران يعتنين بهم. لماذا لم تزرعي شيئًا أكثر فائدة؟»
كانت إيثين رزينةً وهي تتحرك نحو المطبخ. كان الرضيع مربوطًا في جسدها بقطعة قماش جميلة، طرَّزتها بنفسها، بدون شك. كان كلُّ شيء في المنزل جميلًا ومنسقًا. وينمُّ عن الكَدِّ والإبداع والبراعة. كان جيرلاند قد رأى ذلك المزيج من قبل ولم يُعجبه. صبَّت الماء المغلي في كوبَين مصنوعَين يدويًّا يمتلآن بالنعناع، وجرَتْ تحليتهما بالعسل الذي حصلت عليه من خلية النحل الخاصة بها الموجودة بالخارج. كان النحل والزهور وحتى الطيور المغردة تُحيط بالمنزل. تحرك جيرلاند مُتململًا. أخذ كوب الشاي وشكر مضيفته، مع أنه كان واثقًا من أنه سيكرهه. تناول رشفة. وأدرك بِغيظٍ أن هذا الشاي هو ألذُّ شيء شربه في حياته.
تنهَّدت إيثين بسعادة، وهي تنحني إلى حمَّالتها لتطبع قبلةً على جبين رضيعها: «أوه يا عمي جيرلاند. أنت تعلم بالتأكيد أن الحديقة المُنتجة هي الحديقة التي تتَّسِم بالتوازن. تُوجد نباتات تتغذَّى من التربة ونباتات تُغذِّي التربة. نحن نزرع أكثر مما يُمكننا أن نأكل، بالطبع، ومعظم ما نزرعه نُعطيه للآخرين. أنت تعلم أن ابن أختك على أتم استعداد لأن يهب روحَه لمساعدة الآخرين.»
إن كان ذِكر زوجها قد آلَمَها، فإنها لم تُظهِر ذلك. بدت الفتاةُ غير قادرة على الحزن، يا لها من مخلوقةٍ حمقاء. في الواقع، بدت وكأنها تتوهَّج بالكبرياء. ارتبك جيرلاند. وبذل قصارى جهده كي يتمالك نفسه.
«كما تعلمين يا صغيرتي، «يوم التضحية» يقترب بسرعة.» توقع أن يشحب وجهها مما قاله. لكنه كان مُخطئًا.
قالت، وهي تُقبل رضيعها مرةً أخرى: «أعلم هذا يا عمي.» رفعت ناظِرَيها والتقت نظراتهما، وكانت نظرتُها تدلُّ على أنها واثقة من أنها لا تقِلُّ قدرًا عن كبير الحكماء لدرجة أنه وجد نفسَهُ عاجزًا عن الكلام في ظلِّ هذه الوقاحة.
تابعت إيثين برفق: «عمي العزيز. لِمَ أتيت إلى هُنا؟ بالطبع أنت مُرحَّب بك في بيتي في أي وقتٍ تختار فيه المرور علينا، وبالطبع أنا وزوجي تسرُّنا دومًا رؤيتك. عادةً ما تكون «كبيرة الأخوات» هي التي تأتي لتخويف أسرةِ الأطفال المنكوبين. لقد كنتُ أنتظر مجيئها طوال اليوم.»
قال جيرلاند: «حسنًا. «كبيرة الأخوات» ليست موجودة. لذا أتيتُ بدلًا منها.»
رمقت إيثين الرجلَ المسنَّ بنظرة ثاقبة. «ماذا تقصد بغير موجودة؟ أين الأخت إجنيشا؟»
تنحنح كبير الحكماء. لم يكن معتادًا على أن يستفسِر منه الناس. في الواقع، لم يكن الناس يستفسرون «كثيرًا» في «المحمية»؛ فقد كانوا أناسًا راضين بنصيبهم في الحياة، كما كان ينبغي أن يكونوا. لكن هذه الشابَّة الصغيرة لم تكن كذلك، وقال في نفسه: «هذه الطفلة … حسنًا لا بأس. لا يسعني إلا أن آمُل أن تُصاب بالجنون كما حدث للمرأة الأخرى منذ زمنٍ بعيد.» كان مُتيقنًا من أن تجربة الحبس في «البرج» أهون بكثير من الأسئلة الوقِحة التي تُطرَح في تجمُّعات الغداء العائلية. تنحنح مرةً أخرى. وقال ببطء: «الأخت إجنيشا غادرت في شأنٍ ما.»
سألت الفتاة، وهي تُضيِّق عينيها مُتفحصةً إيَّاه: «أي شأن؟»
أجاب جيرلاند: «شأن خاص بها، على ما أظن.»
وقفت إيثين واقتربت من الجنديتَين. كانتا مُدربتَين، بالطبع، على ألا تتواصلا بالأعين مع المواطنين، وأن تنظرا أمامهما مباشرةً بلا مبالاة. كان من المُفترَض بهما أن يكون مظهرهما جامدًا كالصخر وأن تكون مشاعرهما جامدة كالصخر أيضًا. كانت هذه هي العلامة التي تدلُّ على الجندي الماهر، وكان «جميع» الأخوات جنديات ماهرات. لكن وجهَي «هاتين» الجنديتَين كانا على وشك الاحمرار عندما اقتربت منهما الفتاة. فحوَّلتا نظرتَيهما للأرض.
همست إحداهما: «إيثين. لا.»
قالت إيثين: «ماي. انظري إلى وجهي. وأنتِ أيضًا يا ليلينز.» فغر جيرلاند فاهُ ذهولًا. فلم يكن قد رأى شيئًا كهذا طوال حياته. كانت إيثين أصغر حجمًا من كلتا الجنديتَين. ومع ذلك لم تبدُ كذلك. بدت تفُوقهما طولًا وهي واقفة أمامهما.
قال بارتباك: «حسنًا. لا بد أن أعترض على …»
تجاهلته إيثين. «هل يجوس النمر؟»
ظلت الجنديتان صامتتَين.
قال جيرلاند: «أظن أننا نحيد عن موضوع المحادثة …»
رفعت إيثين يدَها كي تُسكِت خال زوجها. ومن المدهش أنه صمت. لم يستطع أن يُصدِّق هذا. تابعت الشابة: «في الليل، يا ماي. أجيبيني. هل يجوس النمر؟»
زمَّت الجندية شفتَيها، وكأنها تحاول حبس الكلمات بداخلها. وأجفلت.
قال جيرلاند بارتباك: «ماذا تقصدين بحق السماء؟ نمور؟ أنتِ أكبر من هذه الألعاب الصبيانية!»
قالت إيثين بلهجةٍ آمرة: «صمتًا.» ومرة أخرى، لسببٍ مُبهم، صمت جيرلاند. كان مذهولًا.
عضت الجندية على شفتِها وتردَّدت للحظة. مالت ناحية إيثين. «في الواقع، لم أفكر مطلقًا في هذا مثلما فكرتِ، لكن نعم. لم تطُف أي مخالب مُبطنة في ممرات «البرج». لم تصدُر أي زمجرة. لم يحدُث هذا لأيام. نحن جميعًا …» — أغمضت الجندية عينَيها — «ننام عميقًا. لأول مرة منذ سنوات.»
لفَّت إيثين ذراعَيها حول الرضيع في حمَّالته. تنهَّد الطفل في أحلامه. تمتمت إيثين: «إذن، الأخت إجنيشا ليست في «البرج». إنها ليست في «المحمية»، وإلا كنتُ سمعتُ بذلك. لا بدَّ أنها في الغابة. وبلا شك تنوي قتلَه.»
سارت إلى جيرلاند. الذي أغضى الطرف. كان كل شيءٍ في هذا المنزل براقًا. وعلى الرغم من أن باقي المدينة كان غارقًا في الضباب، كان هذا المنزل يغمُرُه الضوء. كان ضوء الشمس يتدفَّق من النوافذ. وكانت الأسطح تلمع. حتى إيثين، بدت لامعةً كنجم غاضب.
«عزيزتي …»
«أنت.» كان صوت إيثين يتراوح بين الخوار والهسيس.
قال جيرلاند شاعرًا بأنه يتجعَّد ويحترق كورقة: «ما أقصد قوله …»
«أنت أرسلت زوجي إلى الغابة كي يموت.» كانت عيناها مُستعرتَين. وكان شعرها ملتهبًا. حتى جلدها بدا مشتعلًا. شعر جيرلاند بأن أهدابه بدأت تُسفَع.
«ماذا؟ يا لسُخف ما تقولينه. أعني …»
«ابن أختك.» بصقَتْ على الأرض؛ وهي إيماءة فظَّة لكن الغريب أنها بدت مقبولة حين فعلتها. ولأول مرةٍ في حياته، شعر جيرلاند بالخجل. «أنتَ أرسلتَ قاتلةً خلفَه. ابن أختك الأكبر وصديقك المُفضل. كيف أمكنك هذا؟»
«الأمر ليس ما تحسبين يا عزيزتي. أرجوكِ. اجلسي. نحن عائلة واحدة. دعينا نناقش …» لكن جيرلاند شعر بأنه مُحطم من الداخل. أصاب روحه ألف شرخ.
تخطَّتْه وعادت للجنديتَين.
قالت: «أيتها السيدتان. إن كانت أيٌّ منكما تُكِن لي مثقالَ ذرةٍ من حبٍّ أو احترام، فيتعين عليَّ أن أسألكما المساعدة. لديَّ أشياء أودُّ إنجازها قبل «يوم التضحية»، وكما نعلم جميعًا» — رمقت جيرلاند بنظرة كراهية — ««يوم التضحية» لا ينتظر أحدًا» صمتت للحظة. «أظن أن عليَّ زيارة أخواتي القدامى. فالقطة غير موجودة. وإن غابت القطط، تلعب الجرذان. وثمَّة الكثير مما يمكن للجرذان فعله في النهاية.»
قالت الأخت ماي، وهي تُشبك ذراعها بذراع الأم الشابة: «أوه يا إيثين. كم اشتقتُ إليكِ.» وغادرت المرأتان، وإحداهما تتأبَّط ذراع الأخرى، بينما ألقت الجندية الأخرى بتردُّدٍ نظرةً سريعةً على كبير الحكماء، ثم أسرعت خلفهما.
قال كبير الحكماء: «لا بدَّ أن أقول، هذا تجاوز …» تلفَّت حوله. «أعني. ثمة قوانين، كما تعلمن.» شدَّ قامته ونظر بغطرسة إلى الفراغ حوله. «قوانين.»
•••
لم تتحرك الطيور الورقية. ولم يتحرك الغراب. وأيضًا لم تتحرك لونا.
لكن المرأة اقتربت منها في سكون. لم تستطع لونا تحديد عمرها. ففي لحظة، بدت صغيرة جدًّا. وفي أخرى بدت عجوزًا للغاية.
لم تقُل لونا شيئًا. تحولت نظرة المرأة للطيور على الأغصان. ودققت النظر.
قالت: «لقد رأيتُ هذه الخدعة من قبل. هل صنعتِ تلك الطيور؟»
عادت ببصرها إلى لونا، التي بدورها شعرت بأن نظرات المرأة تخترِقها من المنتصف. صرخت متألِّمة.
ابتسمت المرأة ابتسامةً عريضة. وقالت: «لا. هذا ليس سحركِ.»
قيلت الكلمة بصوتٍ جهوري جعل لونا تشعر بأن رأسها يكاد ينفلق نصفَين. اعتصرت جبينها بيدَيها.
قالت المرأة: «أتشعُرين بالألم؟ هذا أمر مؤسِف، ألا تظنِّين ذلك؟» كانت ثمة نبرة غريبة، تنمُّ عن التفاؤل في صوتها. ظلَّت لونا جاثمة على الأرض.
قالت بصوتٍ مضغوط ومُتوتر، كزنبرك على وشك الانفلات: «لا. ليس حزنًا. مجرد غضب.»
تحوَّلت ابتسامة المرأة إلى تجهُّم. وعادت ترفع بصرَها للطيور الورقية. ابتسمت لها ابتسامة جانبية. قالت: «إنها رائعة. هل تلك الطيور ملككِ؟ هل كانت هدية؟»
هزَّت لونا كتفَيها باستهجان.
مالت المرأة برأسها جانبًا. «انظري كيف تحطُّ فوقك، تنتظِر أن تتحدَّثي. ولكنها ليست من صُنعكِ. هذا ليس سحركِ.»
قالت لونا: «لم أصنع شيئًا بسحري.» كانت الطيور خلفَها تحفُّ بأجنحتها. كان بإمكان لونا أن تتلفَّت كي تنظر، لكنها لم ترغب في أن تقطع تبادُل النظرات مع الغريبة، وقد أخبرَها شيء ما بأنها لم تكن ترغب في أن تفعل ذلك. «ليس لديَّ أي سحر. لماذا يكون لديَّ من الأساس؟»
ضحكت المرأة بطريقةٍ غير لطيفة. «حسنًا، لو كنتُ مكانكِ، ما كنت سأقول ذلك، أيتها السخيفة.» قرَّرت لونا أن تكرَه هذه المرأة. «كنتُ سأقول إن أشياء عديدة من سحركِ. والبقية تأتي، إن لم أكن مخطئة. وذلك على الرغم من أنه يبدو أن شخصًا ما حاول إخفاء قدراتكِ السحرية عنكِ.» مالت نحو الأمام ودقَّقت النظر. «هذا مُثير للاهتمام. هذه التعويذة. أعرفها. لكن ما يدعو للدهشة أن سنواتٍ عديدةً مرَّت.»
ارتفعت الطيور الورقية مُرفرفةً في آنٍ واحد، وكأنها تلقَّت إشارة مُعينة، وحطَّت بجوار الفتاة. ووجَّهت مناقيرها نحو الغريبة، وقد تيقَّنت لونا أن هذه الطيور أصبحت أشدَّ حدة وأكثر خطورة من ذي قبل. أجفلت المرأة قليلًا وتراجعت خطوةً أو خطوتَين.
قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «استمرِّي في المشي.»
بدأت الصخور أسفل يدَي لونا تهتزُّ وتختلج. بدا وكأنها تهزُّ الهواء نفسه. حتى الأرض كانت تهتز.
قالت المرأة: «ما كنتُ سأثِق فيها لو كنتُ مكانكِ. إنها معروفة بالهجوم.»
رمقتها لونا بنظرة شك.
«أوه، ألا تُصدقينني؟ حسنًا. المرأة التي صنعت هذه الطيور لئيمة. كما أنها مُحطَّمة. وقد حزِنت إلى أن أصبحت غير قادرةٍ على الحزن، وهي الآن معتوهة تمامًا.» وهزَّت كتفَيها بلا مبالاة. «وبلا فائدة.»
لم تعرف لونا لماذا أغضبَتْها المرأة كثيرًا هكذا. لكن تعين عليها أن تقاوم كل شيء بداخلها يُخبرها بأن تنهض بسرعةٍ وتركل المرأة في قصبتَي ساقَيها بكل قوتها.
«آه.» ابتسمت الغريبة لها ابتسامةً عريضة. «الغضب. رائع جدًّا. ليس مفيدًا لي للأسف، ولكن نظرًا لأنه كثيرًا ما يُمهد الطريق إلى الحزن، فإنني أعترف أنني أُحبه حقًّا.» لعقت شفتَيها. «أُحبُّه كثيرًا.»
تذمرت لونا قائلةً: «لا أظن أننا سنُصبح صديقتَين.» وقالت في نفسها: «سلاح. أظنُّ أنني في حاجة إلى سلاح.»
قالت المرأة: «أتفق معك. لا أظننا سنُصبح صديقتَين. أنا هُنا لآخُذ ما هو ملكي فحسب، وبعدها سأمضي في طريقي. أنا …» صمتت برهة. ثم رفعت إحدى يدَيها. «انتظري قليلًا.» استدارت المرأة وسارت نحو القرية الخربة. كان برج يرتفع في منتصف الأطلال، وإن لم يبدُ عليه أنه سيظلُّ قائمًا لفترة أطول. إذ كان ثمة شرخ كبير في أساسه على أحد الجانبَين، وبدا كفمٍ فاغر مدهوش. قالت المرأة، لنفسها على الأغلب: «لقد كان في البرج. وضعته هنا بنفسي. أتذكَّر الآن.» ركضت نحو الفتحة وجثت على رُكبتَيها على الأرض. ودققت النظر في الظلام.
همست المرأة: «أين حذائي الطويل الرقبة؟ تعالَ إليَّ يا عزيزي.»
حدقت لونا. كان قد راودها حلم ذات مرة، ليس من زمنٍ بعيد جدًّا. بالتأكيد كان حلمًا، ألم يكن كذلك؟ وكان فيريان قد مدَّ يدَه إلى حفرةٍ في برجٍ مُتداعٍ وأخرج حذاءً طويل الرقبة. لا بدَّ أنه كان حلمًا، لأن فيريان كان ضخمًا جدًّا. ثم أحضر لها الحذاء. ووضعته في صندوق.
صندوقها!
لم تفكر فيه مُجددًا حتى هذه اللحظة.
هزت رأسها كي تطرد هذه الفكرة.
صرخت المرأة: «أين حذائي؟» تراجعت لونا للخلف.
نهضت الغريبة، وثوبها الفضفاض ينتفخ حولها. رفعت يدَيها عاليًا فوق رأسها وبحركة كاسحة قوية، دفعت الهواء من أمام جسدها. وفي لحظة سقط «البرج». وقعت لونا على الصخور وهي تصرخ. أما الغراب، الذي أرعبَتْه الضوضاء والأتربة والفوضى، فطار نحو السماء. طار في دوائر في الهواء، وهو يلعن في نفس الوقت.
همست لونا، مُحاولةً أن تستوعِب ما كانت تراه: «كان على وشك السقوط.» حدقت في سحابة الأتربة والعفن والحصى عند كومة الركام وفي الجسد المنحني للمرأة ذات العباءة الفضفاضة التي كانت ترفع ذراعَيها لأعلى وكأنها على وشك الإمساك بالسماء. وقالت في نفسها: «لا يمكن أن يكون لأحدٍ مثل هذه القوة. أليس كذلك؟»
صرخت المرأة: «اختفى! لقد اختفى!»
استدارت وسارت نحو الفتاة. وبحركةٍ من رسغها الأيسر، جعلت الهواء ينحني أمامها، وبذلك أجبرت لونا على النهوض. أبقت المرأة يدَها اليُسرى ممدودة، قابضةً على الهواء بأصابع مطوية كالمخالب، ومُثبتةً لونا في مكانها على بُعد ياردات عديدة.
«لم آخُذه!» أنَّت لونا. كانت قبضة المرأة مؤلِمة. شعرت لونا بخوفها يتمدَّد بداخلها كسحابةٍ مُنذرة بعاصفة. ومع تزايد خوفها، اتسعت ابتسامة المرأة. بذلت لونا أقصى ما في وسعها كي تظلَّ هادئة. «لقد وصلتُ إلى هُنا لتوي.»
همست المرأة: «لكنك لمستِه. يُمكنني أن أرى الآثار على يديكِ.»
قالت لونا، وهي تُدخل يدَيها في جيبيها: «لا لم أفعل!» حاولت طرد أي ذِكرى للحلم.
«ستُخبرينني بمكانه.» رفعت المرأة يدَها اليمنى، ورغم بُعد المسافة بينهما شعرت لونا بأصابع المرأة تقبض على حلقِها. بدأت تختنق. قالت المرأة: «ستُخبرينني الآن.»
«ابتعدي!» شهقت لونا.
وفجأة، تحرك كل شيء. ارتفعت الطيور من أماكنها وتجمَّعت خلف الفتاة.
«يا لكِ من فتاة سخيفة.» ضحكت المرأة. «هل تظنين أن حِيَلكِ السخيفة يمكن أن …» وشنَّت الطيور هجومًا، وهي تدور كالإعصار. جعلت الهواء يهتز. وجعلت الصخور تنتفض. وأحنت جذوع الأشجار.
صرخت المرأة، وهي تلوِّح بيدَيها: «أبعِديها عنِّي.» أصابتها الطيور بجروحٍ في يدَيها. وأصابتها بجروح في جبهتها. كانت تهجم دون رحمة.
احتضنت لونا الغراب وركضت بأقصى ما أمكنَها من سرعة.