الساحرة تعرف شيئًا صادمًا
قالت زان لنفسها مرارًا وتكرارًا: «هذه ليست لونا. حبيبتي لونا آمنة في البيت.» قالت هذا لنفسها إلى أن شعرت أن هذا صحيح. حشر الرجل عنكبوتًا آخَرَ في فمِها. على الرغم من أنها شعرت بأن الطعام بغيض، كان عليها الاعتراف بأن حلق الطائر وجده لذيذًا. كانت أول مرة على الإطلاق تتناول الطعام أثناء تحوُّلها. وستكون آخِر مرة أيضًا. لم يُحزنها الشعور بالانتهاء البطيء لحياتها أمام عينَيها في حد ذاته. لكن التفكير في أنها ستترك لونا …
ارتعشت زان. الطيور لا تجهش بالبكاء. لو كانت في هيئتها الأصلية المتمثلة في امرأة عجوز، لكانت أجهشت بالبكاء. بل لكانت أجهشت بالبكاء طوال الليل.
قال الرجل بصوت خافت ومتأثر: «هل أنت على ما يرام يا صديقي؟» لم تَدُر عينا زان السوداوان الصغيرتان البراقتان وهي في هيئة طائر بالقدْر الذي تدور به عيناها البشريتان، ومع الأسف لم ينتبِه الرجلُ إلى هذه الإشارة.
لكن زان لم تكن عادلة. لقد كان شابًّا مهذبًا، ربما كان انفعاليًّا قليلًا. وتواقًا بإفراط. رأت أناسًا مثله من قبل.
«حسنًا، أنا أعرف أنك مجرد طائر ولن تتمكن من فهمي، لكنني لم أؤذِ أي كائن حي من قبل.» تهدج صوته. وظهرت دمعتان كبيرتان في عينيه.
قالت زان في نفسها: «يا إلهي! أنت تتألم.» وأوت إلى الداخل مقتربةً منه قليلًا، وأخذت تُصدر قوقًا وهديلًا وفعلت ما يستطيع الطائر فعله كي تجعله يشعر بتحسُّن. كانت زان بارعةً في جعل الآخرين يشعرون بالتحسن؛ فقد حصلت على خمسمائة عام من التدريب. وقد شمل هذا تخفيف الحزن. وتسكين الألم. وحُسن الإنصات.
أوقد الشاب نارًا محدودةً وأخذ يطبخ قطعةً من النقانق أخرجها من عبوة. لو كانت زان تمتلك أنفها البشريَّ ومستقبلات التذوق البشرية، لبدت لها النقانق لذيذة. أما في هيئة الطائر التي كانت عليها، فتمكنت من تمييز ما لا يقلُّ عن تسعة أنواع مختلفة من التوابل ومقدارًا ضئيلًا من التفاح المُجفَّف وبتلات الزيرين المطحونة. والحب، أيضًا. قدر وفير من الحب. تمكَّنت من اشتمامه حتى قبل أن يفتح عبوة الطعام. قالت زان في نفسها: «أحدهم أعدَّها له. أحدهم يُحب هذا الفتى كثيرًا. يا له من فتًى محظوظ.»
طقطقت النقانق وهَسَّت على النار.
«لا أظنك تريد أيًّا منها، أليس كذلك؟»
زقزقت زان وتمنَّت أن يفهم. أولًا، ما كانت لتحلم بأن تأخذ طعام الفتى، لا سيما وهو تائِهٌ في الغابة. وثانيًا، كان يستحيل على حلق الطائر أن يحتمل اللحم. الحشرات لا بأس بها. أي شيء آخَر سيجعلها تتقيأ.
تناول الشاب قضمة، وعلى الرغم من أنه ابتسم، انهمر المزيد من الدموع على وجهه. أطرق بنظرِه إلى الطائر واحمرَّ خدَّاه من الخجل.
«المعذرة يا صديقي المجنَّح. كما ترى، هذه النقانق أعدتها زوجتي الحبيبة.» اختنق صوته. «إيثين. اسمُها إيثين.»
زقزقت زان، مُتمنيةً أن تشجعه على الاستمرار. بدا أن هذا الفتى يحمل الكثير من المشاعر الحبيسة بداخله. كان ككومةٍ من الحطب في انتظار الشرارة الأولى كي تشتعل.
تناول قضمة أخرى. كانت الشمس قد توارت تمامًا وبدأت النجوم تظهر في السماء حالكة السواد. أغمض عينَيه وأخذ نفَسًا عميقًا. شعرت زان بحشرجة بسيطة داخل صدر الشاب؛ مُنذرة بالضياع. غردت وزقزقت ونقرت على ذراعِه مُشجعة. نظر لأسفل وابتسم.
«ماذا عنك يا صديقي؟ أشعر أنني يُمكنني أن أُخبرك بأي شيء.» مدَّ يدَه ووضع كومة حطبٍ أخرى في النار. قال: «لن أضع الكثير جدًّا. هذا القدر فقط كي يُدفئنا حتى يبزُغ القمر. وعندئذٍ، يجب أن ننطلِق في طريقنا. ﻓ «يوم التضحية» لا ينتظر أحدًا، في نهاية المطاف. أو على الأقل، لم يسبق أن انتظر أحدًا حتى الآن. لكن سنرى يا صديقي الصغير. لعلِّي أجعله ينتظر للأبد.»
قالت في نفسها: ««يوم التضحية»! عم يتحدَّث؟»
نقرته مرةً أخرى. قالت في نفسها: «واصل الحديث.»
ضحك. وقال: «يا إلهي، يا لك من مشاكس. إذا لم تتمكَّن إيثين من إصلاح جناحك، فتأكد من أننا سوف نُجهز لك بيتًا مريحًا وحياةً رغدةً لبقية حياتك. إيثين …» تنهد. «إنها مذهلة. تجعل كل شيءٍ جميلًا. حتى أنا، وأنا بهذا القبح الشديد. أحببتُها عندما كنا أطفالًا. لكنني كنتُ خجولًا، وهي انضمَّت للأخوات، وبعد ذلك شُوِّهتُ هكذا. وكنت قد تأقلمتُ مع وحدتي.»
مال للوراء. والتمع وجهه المليء بالندوب في ضوء النار. لم يكن قبيحًا. لكنه كان مُحطمًا. ولم يكن ذلك بسبب الندوب. كان شيءٌ آخر قد حطَّمه. ثبَّتت زان عينيها على قلبه ونظرت عن كثب. رأت امرأةً بشعر يتلوَّى كالثعابين، تتشبَّث بالعوالق الخشبية لمنزلٍ وتحمل رضيعةً تتمسَّك بصدرها.
كانت للرضيعة شامة هلالية الشكل على جبينها.
شعرت زان بقلبها ينقبض.
«ربما لا تعرف هذا يا صديقي، لكن تُوجَد ساحرة في الغابة.»
قالت زان في نفسها: «لا!»
«وهي تأخذ أطفالنا. واحدًا كل عام. علينا أن نترك أصغر رضيعٍ في دائرة من أشجار الجميز ولا ننظر وراءنا. وإن لم نفعل هذا، فستقضي الساحرة علينا جميعًا.»
قالت زان في نفسها: «لا. لا، لا، لا.
أولئك الأطفال الرضع!»
يا لأمهاتهم المساكين. ويا لآبائهم المساكين.
ولقد أحبَّتهم جميعًا، بالتأكيد أحبَّتهم، وقد عاشوا حياة سعيدة … لكن يا للأسف! كان الحزن يُخيم على «المحمية» كغيمة. قالت في نفسها: «لماذا لم أتمكن من رؤيتها؟»
«أنا هنا بسببها. بسبب جميلتي إيثين. لأنها أحبَّتني وأرادت أن تُكوِّن أسرةً معي. لكن رضيعنا هو الأصغر في «المحمية». ولا يُمكنني أن أسمح بأن يؤخَذ طفلي، طفل إيثين، منا. معظم الناس يواصلون حياتهم فحسب — هل لديهم خيار آخر؟ — لكن توجد أرواح رقيقة كحبيبتي إيثين، التي جُنَّ جنونها من شدة الحزن. ومثل هؤلاء يُحبسون» توقَّف. وارتعش جسده. أو ربما كانت زان هي التي ترتعش. «طفلنا. إنه جميل. وإذا أخذَتْه «الساحرة»؟ سيقضي هذا على إيثين. وسيقضي عليَّ.»
لو كان بوسع زان إبطال السحر، لكانت تحوَّلت في التو واللحظة. ولكانت ضمَّت الفتى المسكين بين ذراعَيها. ولكانت أخبرتْهُ عن خطئها. ولكانت حكت له عن عددٍ لا يُحصى من الأطفال الذين حملتهم عبر الغابة. وعن مدى سعادة هؤلاء الأطفال. وسعادة عائلاتهم.
لكن يا للأسف! الحزن يُخيم على «المحمية»!
وللأسف! يسيطر عليها طغيان الحزن!
ويا للأسف! رأت عويل امرأةٍ جنَّ جنونها من الحزن. والأسى والألم على أنه لم يفعل شيئًا لإيقاف الأمر، حتى ولو لم يكن يعرف كيف. تمكنت زان من رؤية هذه الذكرى مستقرة في قلب الشاب. يُمكنها أن ترى كيف تجذَّرت وتكلَّست، وأشعلها شعوره بالجُرم والخجل.
سألت زان نفسها: «كيف بدأ هذا. كيف؟»
وكأنه جواب على سؤالها، سمِعت وهي عالقة في كهوف ذكرياتها صوتَ خطوات حركة مخالب لشيءٍ هادئ ومُفترس ومُرعب يقترب أكثر فأكثر فأكثر.
قالت في نفسها: «لا. لا يمكن.» في الوقت نفسه، كانت حريصةً على أن تُبقي حزنها بداخلها. إذ كانت تعرف، أكثر من أي أحد، ما يُسبِّبه الحزن من دمار عندما يقع في يد الشخص الخطأ.
«على أي حال يا صديقي، أنا لم أقتُل أي شخصٍ من قبل. ولم أؤذِ أيَّ مخلوق. لكنني أُحب إيثين. وأحب لوكين ابني. وسأفعل ما يلزم كي أحمي أسرتي. أقول لك هذا، يا صديقي السنونو، لأنني لا أريدك أن تخاف عندما تراني أفعل الشيء الذي يجب عليَّ فعله. أنا لست شريرًا. أنا رجل يُحب أُسرته. ولأنني أُحبها، سأقتل «الساحرة». سأفعل. إما أن أقتل الساحرة أو أهلك دون ذلك.»