الساحرة تُلقي بتعويذتها الأولى، عن عمدٍ هذه المرة
دوَّامة من الأرجل والأجنحة والمرافق والأظافر والمناقير والورق. دارت الطيور الورقية حولَ الربوة في حلقاتٍ وأخذت الحلقات تَضيق أكثر فأكثر فأكثر.
صرخ الشاب: «عيناي!»
صاحت الفتاة: «خدي!»
أنَّت المرأة: «حذائي!» كانت امرأةً لم تعرفها لونا.
صاح الغراب: «كاو!» وكان يعني: «فتاتي! ابتعدوا عن فتاتي.»
شهقت لونا، قائلةً: «طيور!»
تدحرجت بعيدًا عن التشابك وهَبَّت واقفةً على قدمَيها. كانت الطيور تدور لأعلى في تشكيلٍ على هيئة دوامة كبيرة قبل أن تهبط في دائرة عظيمة على الأرض. لم تهاجم أحدًا؛ ليس بعد. لكن الطريقة التي تدفع بها مناقيرها نحو الأمام وتفتح أجنحتها مهددةً جعلتها تبدو وكأنها قد تُبادر بالهجوم.
غطَّى الرجل وجهه.
أنَّ قائلًا: «أبعديها عني!» انتفض وانكمش، مُغطيًا وجهه بيديه. وأسقط السكين على الأرض. ركلت لونا السكين بعيدًا، فسقطت من فوق حافة القمة الجبلية.
همس: «رجاءً! لقد واجهتُ هذه الطيور من قبل. إنها مُخيفة. وقد سبَّبتْ لي جروحًا لا تندمل.»
جثت لونا بجواره. همست: «لن أدَعْها تؤذيك. أعِدُك. لقد عثرتْ عليَّ هذه الطيور قبلئذٍ، حينما كنتُ تائهةً في الغابة. لكنها لم تَجرحْني عندئذٍ. ولا أتصوَّر أنها ستجرحك الآن. ولكن مهما يكن، لن أدعها تفعل ذلك. هل تفهمني؟»
أومأ الرجل. أبقى وجهه مدسوسًا بين ركبتَيه.
رفعت الطيور الورقية رءوسها. لم تنظر إلى لونا. بل نظرت إلى المرأة التي كانت مُمدَّدة على الأرض.
نظرت لونا، هي الأخرى، إليها.
كانت المرأة ترتدي حذاءً أسودَ طويلَ الرقبة وفستانًا بسيطًا منسدلًا. كانت حليقة الرأس. وكانت لها عينان سوداوان واسعتان وشامة هلالية الشكل على جبينها. ضغطت لونا بأصابعها على جبهتها.
حدَّثَها قلبُها: «إنها هنا. إنها هنا، إنها هنا، إنها هنا.»
همست المرأة: «إنها هنا. إنها هنا، إنها هنا، إنها هنا.»
كانت لدى لونا صورة ذهنية عن امرأةٍ ذات شعرٍ أسود طويلٍ يتلوى من رأسها كالثعابين. نظرت للمرأة الماثلة أمامها. وحاولت أن تتخيلها بشعر.
قالت لونا: «هل أعرفكِ؟»
قالت المرأة: «لا أحد يعرفني. ليس لي اسم.»
عبست لونا. «هل كان لديكِ اسم؟»
جلست المرأة القرفصاء، وأحاطت ركبتَيها بذراعَيها. اختلجت عيناها هنا وهناك. كانت مجروحة، لكن ليس في جسدها. نظرت لونا عن كثب. كانت مجروحةً في عقلها. قالت المرأة: «فيما مضى. فيما مضى كان لي اسم. لكنني لا أتذكَّره. كان رجل يُناديني «زوجتي» وكانت لي طفلة كانت ستقول لي «أمي». لكن هذا كان منذ زمنٍ طويل. لا أستطيع أن أُحدِّد كم مرَّ على ذلك. الآن، لا يدعوني أحد إلا ﺑ «السجينة».»
همست لونا وهي تتقدَّم خطوة مقتربةً منها: «في برج.» ترقرقت عينا المرأة بالدموع. ونظرت إلى لونا ثم أشاحت بناظِرَيها، وعادت تنظر إليها ثم تُشيح بناظريها، وكأنها تخشى من أن تترك نظرَها يستقر على الفتاة طويلًا جدًّا.
رفع الرجل ناظرَيه. وضمَّ ركبتَيه إلى صدره. حدَّق في المرأة المجنونة. وقال: «هذه أنتِ! لقد هربتِ.»
قالت المرأة المجنونة: «هذه أنا!» زحفَتْ عبر السطح الصخري وجثَتْ بجواره. وضعت يدَيها على وجهه. قالت، وهي تُمرِّر أصابعها على ندوبه: «هذا خطئي. آسفة. لكن حياتك. حياتك أسعد الآن. أليس كذلك؟»
اغرورقت عينا الرجل بالدموع. وقال: «لا. أعني بلى. إنها كذلك. لكن لا. أنجبت زوجتي طفلًا. ابننا طفل جميل. لكنه الأصغر في «المحمية». ومثلكِ، علينا أن نُعطي رضيعنا للساحرة.»
نظر إلى الشامة الموجودة على جبهة المرأة المجنونة.
ثم نقل بصره إلى لونا. ونظر إلى شامتها المطابقة. وحدَّق في عينَيها السوداوين الواسعتَين المُطابقتَين لعيني المرأة. كان انتفاخٌ في سترته يركل وينقر. وتسلل منقار أسود من طرف ياقته. ونقر مرة أخرى.
قال الرجل، متألمًا: «آخ.»
قالت لونا وهي ترفع ذقنها: «لستُ ساحرةً. أو، على الأقل، لم أكن كذلك. ولم آخُذ مُطلقًا أيَّ أطفال.»
حجل الغراب فوق الصخرة العارية وقفز لأعلى، مُتجهًا نحو كتف الفتاة.
قالت المرأة المجنونة: «بالطبع أنتِ لستِ ساحرة.» كانت بعدُ لا تستطيع تثبيت عينيها على لونا. اضطرت لأن تُشيح بناظِرَيها، وكأن لونا كانت ضوءًا ساطعًا. «أنتِ هي الرضيعة.»
«أي رضيعة؟»
حاول طائرٌ، جاهدًا، الخروجَ من سترة الشاب. ذلك الوهج الأخضر الداكن. أخذ الطائر ينعق ويضطرب وينقُر.
قال الرجل: «أرجوك يا صديقي الصغير! اهدأ! هَدِّئ من روعِك. لا يُوجَد ما تخشاه.»
همست لونا: «جدتي!»
قال الرجل: «أنتِ لا تفهمين. لقد كسرتُ جناح هذا السنونو دون قصد.»
لم تكن لونا مُصغية. قالت: «جدتي!» تجمَّد السنونو. وحدق في الفتاة بعينٍ لامعة. عين جدتها. عرفته.
داخل رأسها، ثُبِّتَ ترسٌ أخيرٌ في مكانه. أصدر جلدُها صوتَ طنين. وكذلك عظامها. أضاءت الذكريات عقلَها؛ كانت كلُّ ذكرى تسقط مثل كويكب، يُومِض في الظلام.
المرأة التي تصرخ على السقف.
المرأة العجوز جدًّا ذات الأنف الضخم جدًّا.
دائرة أشجار الجميز.
شجرة الجميز التي صارت امرأةً عجوزًا.
المرأة التي تحمِل ضوء النجوم على أصابعها. ثم شيء ألذُّ طعمًا من ضوء النجوم.
وبطريقةٍ ما، تحول جليرك إلى أرنبٍ صغير.
وجدَّتُها التي حاولت أن تعلمها التعاويذ. بِنِيَّة التعاويذ. وتركيبها. والأشعار التي تُلقى في التعاويذ والمهارة الفنية المرتبطة بالتعاويذ والبِنية المعمارية للتعاويذ. كانت هذه دروسًا سمِعَتْها لونا ونَسِيَتها، لكنها الآن تذكَّرتْها وفهمتها.
نظرت إلى الطائر. نظر الطائر إليها. هدَّأت الطيور من حركة أجنحتها وانتظرت.
قالت لونا وهي ترفع يديها لأعلى: «جدتي!» ركزت كل حُبِّها وأسئلتها وعنايتها وقلقها وإحباطاتها وكل حزنها على الطائر الموجود على الأرض. المرأة التي أرضعتها. المرأة التي علمتها أن تُشَيِّد وتحلم وتصنع. المرأة التي لم تُجِب على أسئلتها؛ أو لم تستطع الإجابة عنها. تلك هي المرأة التي أرادت أن تراها. شعرت بأن عظام أصابع أقدامها بدأت تطن. سحرُها وتفكيرها ونواياها وأملها. كانت كلها الآن شيئًا واحدًا. سَرَت هذه القوة عبر عظام قصبتي ساقيها، ثم فخذَيها، ثم ذراعَيها. ثم أصابعها.
قالت لونا، آمرةً: «أظهِري نفسكِ.»
وفي تشابكٍ من الأجنحة والمخالب والأذرع والسيقان، ظهرت جدَّتها. ونظرت إلى لونا. اغرورقت عيناها بالدموع. وسال منهما الدمع.
همست: «حبيبتي.»
ثم ارتعشت زان، وتَلَوَّت، وسقطت على الأرض.