تبدُّل في المشاعر
انهارت لونا على ركبتَيها، وضمَّت جدَّتها بين ذراعَيها.
عجبًا! كم كانت خفيفة. مجرد أعواد وورق ورياح باردة. جدتها التي كانت إحدى قوى الطبيعة طوال هذه السنوات؛ التي كانت من دعائم الحياة. شعرت لونا بأنه يُمكنها حمل جدتها بين ذراعَيها والركض بها إلى البيت.
انتحبت، وهي تميل بخدِّها فوق خدِّ جدتها: «جدتي! استيقظي يا جدتي. أرجوكِ استيقظي!»
أطلقت جدتُها نفَسًا مرتعشًا.
قالت المرأة العجوز: «إنه سحرك. لقد بدأ، أليس كذلك؟»
قالت لونا، وفمُها لا يزال مطمورًا في شَعْر جدتها المُخضر: «لا تتكلَّمي عن ذلك. هل أنتِ مريضة؟»
قالت جدتها، وصدرها يُطلق صفيرًا وهي تتنفس: «لستُ مريضة. بل أُحتضَر. وهو ما كان يجب أن يحدُث منذ زمنٍ طويل.» سعلت وارتعشت وسعلت مرة أخرى.
شعرت لونا بشهقةٍ تشقُّ طريقَها من أمعائها إلى حلقها. «أنتِ لستِ تُحتضَرين، يا جدتي. لا يمكن أن تكوني كذلك. يُمكنني الحديث إلى غراب. والطيور الورقية تُحبني. وأظن أنني وجدت … حسنًا. لا أعرف من تكون. لكنني أتذكَّرها. من قبل. وتوجد امرأة في الغابة حاولت … حسنًا، لا أظن أنها طيبة.»
«أنا لا أُحتضَر في هذه اللحظة يا صغيرتي، لكنني سأموت عندما تحين ساعتي. وساعتي قريبة. أما الآن. بشأن سحركِ. يُمكنني أن أقول الكلمة وتظلَّ موجودة، صحيح؟» أومأت لونا إيجابًا. «لقد حبستُهُ في مكانٍ ما بداخلكِ حتى لا تؤذي نفسكِ أو تؤذي مَن حولكِ؛ لأنكِ، صدقيني يا حبيبتي، كنتِ خطيرة، لكن كانت ثمَّة تبعات. دعيني أُخمِّن، إنه يخرج بالكامل في كل الاتجاهات، صحيح؟» أغمضت عينيها وقد تجهمت متألمةً.
«لا أريد أن أتحدَّث عن هذا يا جدتي، إلا إذا كان يمكن أن يجعلكِ تتعافين.» جلست الفتاة فجأة. «هل يُمكنني أن أجعلكِ تتعافين؟»
ارتعشت المرأة العجوز. وقالت: «أشعر بالبرد. أشعر ببردٍ شديد جدًّا. هل بزغ القمر؟»
«أجل، يا جدتي.»
«ارفعي يدكِ. ودعي ضوء القمر يتجمَّع على أصابعكِ وأطعميني منه. هذا ما فعلتُهُ لكِ، منذ زمنٍ طويل، عندما كنتِ رضيعة. عندما كنتِ مُلقاةً في الغابة وحملتكِ إلى الأمان.» توقفت زان ورفعت ناظِرَيها إلى المرأة الحليقة الرأس الجاثمة على الأرض. «ظننتُ أن أُمَّكِ قد تخلت عنكِ.» ضغطتْ بيدِها على فمِها وهزَّت رأسها ذهولًا. «لديكِ نفس الشامة» تلعثمت زان. وأضافت: «ونفس العينَين.»
أومأت المرأة الجاثمة على الأرض. وهمست: «لم أتخلَّ عنها. لقد أُخِذت منِّي بالقوة. رضيعتي أُخِذَت مني.» دفنت المرأة المجنونة وجهها بين ركبتَيها وغطَّت رأسها الحليق بذراعَيها. ولم تُصدِر أيَّ أصوات أخرى.
بدا وكأن وجه زان يتشقَّق. «نعم. أُدرك هذا الآن.» التفتت للونا. «كل عام، يُترَك رضيع في الغابة كي يلقى حتفه في البقعة نفسها. كل عام كنتُ أحمل ذلك الرضيع عبر الغابة إلى عائلةٍ جديدة ستُحبُّه وتُبقيه آمنًا. كان خطئي أنني لم أكن فضولية. كان خطئي الأكبر أنني لم أتساءل. لكن الحزن كان يُخيم على ذلك المكان كالغيمة. لذا كنتُ أرحل بأسرع ما بوسعي.»
ارتعشت زان وزحفت على يَدَيها وركبتَيها مقتربةً من المرأة الجاثمة على الأرض. لم ترفع المرأة رأسها. بحذرٍ شديدٍ وضعت زان يدَها على كتِفِ المرأة. «هل يُمكنكِ أن تُسامحيني؟»
لم تنطق المرأةُ المجنونة ببنت شفة.
همست لونا: «والأطفال في الغابة. هل هم «أبناء النجوم»؟»
«أبناء النجوم.» سعلت جدَّتها. «كانوا جميعًا مثلك. لكنك سُحِرْتِ. لم أقصد ذلك يا عزيزتي؛ كانت واقعة غيرَ مقصودة، لكن لم يكن من المُمكن إبطال ذلك. وقد أحببتكِ. أحببتكِ حبًّا جمًّا. ولم يكن من الممكن إبطال ذلك. لذا دعوتكِ حفيدتي الغالية. وبعد ذلك بدأتُ أموت. ولا يمكن إبطال ذلك أيضًا، مهما كان الثمن. التبعات. الأمر كله يتعلق بالتبعات. لقد ارتكبتُ العديد من الأخطاء.» ارتعشت. «أشعر بالبرد. القليل من ضوء القمر يا عزيزتي لونا، إن كنتِ لا تُمانِعين.»
رفعت لونا يدَها عاليًا. تجمَّع ضوء القمر، الكثيف واللذيذ، على أنامِلِها. وانسكب من يدها إلى فمِ جدتها وتدفق عبر جسدها. بدأ خدَّا المرأة العجوز يتورَّدان. كان ضوء القمر يشعُّ من جلد لونا أيضًا، جاعلًا عظامها تتوهَّج.
قالت جدتها: «مساعدة ضوء القمر مؤقَّتة فقط. يَسري السحر ويتسرب خلالي مثل سلة بها ثقوب. وينجذب إليكِ. كل ما لديَّ، وكل ما أنا عليه، يتدفق إليكِ يا عزيزتي. هذا ما ينبغي أن يحدث.» التفتت ووضعت يدَها على وجه لونا. شبَّكَت لونا أصابعها بأصابع جدتها وتمسكت بها باستماتة. «خمسمائة سنة مدَّة طويلة جدًّا. هذا أكثر من اللازم. وأنتِ لديكِ أُمٌّ تُحبكِ. أمٌّ أحبَّتكِ طوال هذا الوقت.»
قال الرجل: «يا صديقتي.» كان ينتحِب ويذرف دموعًا كبيرةً قبيحة على وجهه المليء بالندوب. بدا غير مؤذٍ بما يكفي بعدما لم يعُد يحمل تلك السكين. لكن لونا ظلَّت تنظُر إليه بحذَر. زحف قُدُمًا وهو يمدُّ يده اليسرى.
قالت ببرود: «هذه مسافة كافية.»
أومأ موافقًا. قال مرةً أخرى: «يا صديقتي. يا من كنتِ سابقًا صديقي الطائر. أنا …» ابتلع ريقَه، ومسح دموعه ومُخاطه بطرف كمِّه. «أعتذر إن بدا هذا وقحًا، لكن، أوه …» خمد صوته. كان بوسع لونا أن تُوقِفه بصخرة، لكنها سرعان ما طردت هذه الفكرة عندما تدحرجت صخرة مُقتربةً وبدأت تحوم بطريقةٍ منذرة بالسوء.
حدقت في الصخرة بنظرةٍ ساخطة، قائلة في نفسها: «لا ضرب!» سقطت الصخرة على الأرض بصوتٍ مكتوم مَحزون وتدحرجت بعيدًا، وكأنها معاقَبة.
قالت لونا في نفسها: «سيتوجَّب عليَّ أن أكون حذرة.»
تابع الرجل وعيناه مُثبَّتتان على زان: «لكن، هل أنتِ «الساحرة»؟ «ساحرة» الغابة؟ تلك التي تُجبرنا على التضحية برضيعٍ كل عام وإلا فستُدمِّرنا جميعًا؟»
رمقته لونا بنظرةٍ باردة. «جدتي لم تُدمِّر أيَّ شيء قط. إنها طيبة ولطيفة وعطوفة. اسأل سُكَّان «المدن المستقلة» عنها. إنهم يعرفونها.»
قال الرجل: ««أحدٌ ما» يطلب تضحيةً. ليست هي.» وأشار للمرأة حليقة الرأس التي تجثم الطيور الورقية فوق كتفَيها. «أعرف ذلك جيدًا. كنتُ معها عندما أخذوا منها رضيعتها.»
تمتمت المرأة: «حسبما أتذكر، كنتَ أنت الشخص الذي نفَّذ الأمر بأخذ رضيعتي.»
أطرق الرجل في خِزي.
همست لونا: «لقد كنتَ أنت من فعل ذلك. أنا أتذكَّر. كنتَ مجرد طفل. وكانت تفوح منك رائحة نشارة الخشب. ولم تكن تُريد …» صمتت. وعبست. «لقد أغضبتَ الرجال كبار السن.»
لهث الرجل قائلًا: «أجل.»
بدأت جدَّتُها في التحامُل على نفسها للنهوض، واحتضنتها لونا، مُحاوِلةً مُساعدتها. لكن زان أوقفتها بحركةٍ من يدِها .
«كفى، يا صغيرتي. ما زال بإمكاني النهوض بمفردي. لستُ عجوزًا لهذه الدرجة.»
لكنها كانت بالفعل عجوزًا جدًّا. بدا للونا أن جدَّتها هَرِمَت. لقد كانت زان عجوزًا دائمًا، بالطبع كانت كذلك. لكن الآن … الآن كان الأمر مختلفًا. الآن بدا أنها تتيبَّس بسرعة هائلة. كانت عيناها غائرتَين ومظلمتَين. وكانت بشرتها بلون الغبار. جمعت لونا المزيد من ضوء القمر على أصابعها وشجَّعت جدتها على شربه.
نظرت زان إلى الشاب.
«ينبغي أن نتحرك بسرعة. لقد كنتُ في طريقي لإنقاذ طفلٍ منبوذ آخر. لقد اعتدتُ فعل ذلك لفترة طويلة جدًّا.» ارتعشتْ وحاولت أن تخطوَ خطوةً مهتزة. ظنت لونا أنها قد تسقط. «لا يُوجَد وقت للتدليل يا صغيرتي.»
لفَّت لونا ذراعها حول خصر جدتها. كان غرابها يجثم فوق كتفها. التفتت إلى المرأة الجاثمة على الأرض. ومدَّت لها يدَها.
قالت: «هل ستأتين معنا؟» وحبست أنفاسها ترقُّبًا. وشعرت بقلبِها يخفق بقوة في صدرها.
«المرأة على السقف
الطيور الورقية في نافذة البرج.
إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»
رفعت المرأة الجاثية على الأرض ناظِرَيها والتقت عيناها بعيني لونا. أمسكت بيد لونا ونهضت واقفة. شعرت لونا بقلبِها يطير فرحًا. بدأت الطيور الورقية تطير وترفرف وترتفع في الهواء.
سمعت لونا وقع أقدام تقترب من الجهة البعيدة من الربوة قبل أن ترى عينَين مُتَّقدتَين. صوت خطوات نمِر. لكن لم يكن ثمة نمِر على الإطلاق. بل امرأة، طويلة وقوية، وكان جليًّا أنها تملك قوًى سحرية. وكانت قواها السحرية حادَّةً وقوية وعديمة الرحمة. مثل نصل سلاح مقوس. المرأة التي كانت قد طلبت الحذاء الطويل الرقبة. لقد عادت.
قالت زان: «مرحبًا يا «آكلة الحزن».»