التنين الهائل يتخذ قرارًا هائلًا
«جليرك!»
قال جليرك: «اصمت يا فيريان! أنا أسترق السمع!»
كانا قد شاهدا «آكلة الحزن» تشقُّ طريقها صاعدةً على جانب الربوة، وشعر جليرك وكأن دمَهُ تجمَّد من الذعر.
قال في نفسه: ««آكلة الحزن»! بعد كل هذه السنوات!»
بدت كما كانت تمامًا. ما الحِيَل التي أقدمت عليها؟
«لكن يا جليرك!»
«لا يُوجَد ولكن! هي لا تعرف أننا هنا. علينا أن نفاجئها!»
كان قد مضى زمنٌ طويل جدًّا على آخِر مرة واجَهَ فيها جليرك عدوًّا. أو فاجأ وغدًا شريرًا. فيما مضى، كان جليرك بارعًا في هذا. كان يمكنه أن يستخدم خمسة سيوف في آنٍ واحد ببراعة، بأياديه الأربعة وطرف ذيلِه، وكان قويًّا وضخمًا ورشيقَ الحركة لدرجة أن أعداءه كانوا يُلقون بأسلحتهم ويَطلبون هُدنة. كان جليرك يُفضل هذا؛ فقد كان مؤمنًا بأن العنف، على الرغم من كونه ضروريًّا في بعض الأحيان، شيءٌ فظٌّ وغير مُتحضر. كان المنطق والجمال والشعر والنقاش الحسَن أدواته المُفضلة لحلِّ النزاعات. كانت روح جليرك، في جوهرها، رائقةً وساكنة مثل أيِّ مُستنقع؛ يهَبُ الحياة ويدعمها. وفجأة افتقد المستنقع بشدة حتى كادت عزيمته تضعف.
قال في نفسه: «لقد كنتُ خامدًا. لقد حوَّلني حُبي لزان إلى بركان خامد. كان من المفترض بي أن ألعب دورًا في الحياة، لكنني لم أفعل. على الأقل منذ أزمنةٍ طويلة. يا للخِزي.»
«جليرك!»
رفع وحش المستنقع نظره. كان فيريان يطير. كان فيريان قد ظلَّ يزداد حجمًا وصار مُجددًا أكبر من آخِر مرة لمَحَهُ فيها جليرك. لكن المذهل في الأمر، أنه مع زيادة حجم فيريان أكثر فأكثر، تمكَّن من استعادة قُدرته على استخدام جناحَيه وظل يحوم بالأعلى مُطلًّا من فوق قِمَم الأشجار.
صاح: «لونا هُنا. وهي مع ذلك الغراب المُمل. أنا أمقتُ ذلك الغراب. لونا تُحبني أكثر.»
اعترض جليرك، قائلًا: «أنتَ لا تكره أحدًا يا فيريان. هذا ليس من طبعك.»
«وزان هُناك. العمَّة زان! إنها مريضة!»
أومأ جليرك برأسه. ذلك ما كان يخشاه. لكنها على الأقل كانت في هيئتها البشرية. كان الأمر سيُصبح أسوأ لو أنها ظلت عالقة في الهيئة التي تحولت إليها، غير قادرة على توديعهم. «وماذا ترى أيضًا، يا صديقي؟»
«سيدةً. بل سيدتَين. ثمة سيدة تتحرك مثل النمر، وواحدة مختلفة. ليس لدَيها أي شعر. وهي تُحب لونا. يمكنني أن أرى ذلك من هنا. لماذا تُحب لونا؟ نحن الذين نحب لونا!»
«هذا سؤال جيد. كما تعلم، لونا بمثابة لغز غامض. وكذلك كانت زان، منذ وقتٍ طويل.»
«ويُوجَد رجل. والعديد من الطيور المُتجمِّعة على الأرض. أظن أنها، هي الأخرى، تحب لونا. جميعهم يُحدقون فيها. وعلى وجه لونا تعبير مفاده «هيا نثير مشاكل».»
أومأ جليرك برأسه الضخم. أغمض إحدى عينَيه ثم أغمض الأخرى وعانق نفسه بأذرعه الأربعة السميكة. قال: «حسنًا يا فيريان. أقترح أن علينا نحن أيضًا أن نُثير بعض المشاكل. أنا سأتولى الأرض، وأنت تتولى الجو.»
«لكن ماذا علينا أن نفعل؟»
«فيريان، لقد كنتَ مجرد تنينٍ صغير عندما حدث ذلك، لكن هذه المرأة الموجودة هُناك، والتي يُعرف عنها الشراهة والتجول خلسة، هي السبب في أن أُمَّك دخلت في البركان. إنها «آكلة الحزن». وهي تنشُر البؤس وتتغذَّى على الحزن؛ إنه أسوأ أنواع السحر. إنها السبب في أنكَ نشأت يتيمَ الأُم، والسبب في أن الكثير من الأمهات فقدنَ أطفالهن. أقترح أن نمنَعَها من التسبُّب في مزيدٍ من الحزن، ما رأيك؟»
كان فيريان قد حلق بالفعل، وأخذ يصرخ ويطلق ألسنة اللهب في سماء الليل المظلمة.
«الأخت إجنيشا؟» ارتبك أنتين. «ماذا تفعلين هنا؟»
همست المرأة صاحبة الطيور الورقية: «لقد عثرت علينا». قالت لونا في نفسها: «لا، هذه ليست مجرد امرأة. إنها أُمي. هذه المرأة أمي.» لم تكن تستوعب هذا. لكن في قرارة نفسها كانت تعرف أن هذا صحيح.»
التفتت زان إلى الشاب. «ألم تكن تُريد العثور على «الساحرة»؟ ها هي «الساحرة» التي كنتَ تبحث عنها، يا صديقي. أتدعوها الأخت إجنيشا؟» نظرت إلى الغريبة بنظرة مُتشكِّكة. «يا له من اسمٍ رائع! لقد عرفتُها باسمٍ آخر على الرغم من أنني كنتُ أدعوها الوحش عندما كنتُ طفلة. إنها تعيش على التغذِّي على أحزان «المحمية» منذ … كَم من الزمن؟ خمسمائة عام. يا إلهي. هذا شيء يستحقُّ أن يُسجَّل في كتب التاريخ، أليس كذلك؟ عليكِ أن تفتخري كثيرًا بنفسكِ.»
عاينت الغريبة المشهد، وانطبعت ابتسامةٌ خفيفة على شفتَيها. قالت لونا في نفسها: ««آكلة الحزن»! يا له من اسمٍ بغيض لامرأةٍ بغيضة.»
قالت «آكلة الحزن»: «حسنًا، حسنًا، حسنًا. أيتها الصغيرة زان. لقد مرَّ زمن طويل جدًّا. ويؤسفني أن أقول إن السنوات لم تكن رحيمةً معكِ. وأنا مُمتنةٌ جدًّا من اندهاشكِ من مزرعة الحزن الصغيرة الخاصَّة بي. ثمة قوة هائلة في الحزن. من المؤسف أن زوسيموس العزيز عليكِ لم يتمكن مُطلقًا من ملاحظة ذلك. يا له من رجلٍ أحمق. أحمق صار في عداد الأموات الآن، هذا الرجل البائس. مثلما سيكون مصيركِ قريبًا يا عزيزتي زان. كما كان ينبغي أن تكوني منذ سنوات.»
كان سحر المرأة يُحيط بها مثل الدوَّامة، لكن كان بوسعِ لونا أن ترى حتى من هذه المسافة البعيدة أنَّ مركز تلك الدوامة كان فارغًا. كانت آخِذةً في النضوب، مثل زان. ومع عدم وجود مصدرٍ جاهز للحُزن في الجوار، لم تكن تملك ما تُعيد به حالتها إلى ما كانت عليه.
فكَّت لونا ذراعها من جدتها وخطت نحو الأمام. انفرطت خيوطٌ من السحر من المرأة الغريبة وانطلقت نحو لونا وسِحرها القوي. لم يبدُ أن المرأة قد لاحظت ذلك.
«والآن ما كل هذه السخافة بشأن إنقاذ ذلك الطفل؟»
جاهد أنتين للنهوض على قدمَيه، لكن المرأة المجنونة وضعت يدَها على كتفِهِ ومنعته.
تمتمت المرأة المجنونة، وهي تغمض عينيها: «إنها تُحاول اجتذاب حُزنك. لا تدعها تفعل ذلك. فلتشعُر بالأمل بدلًا من ذلك. فلتشعر بالأمل دون توقف.»
تقدمت لونا خطوةً أخرى. شعرت أن المزيد من سحر المرأة الطويلة يتركها ويتجه نحوها.
قالت «آكلة الحزن»: «يا لكِ من مخلوقةٍ فضولية. كنتُ أعرف مخلوقةً فضوليةً أخرى. منذ زمن طويل. كانت تسأل العديد من «الأسئلة» اللَّعينة. لم أحزن عندما ابتلَعَها البركان.»
قالت زان، وصفيرٌ يَصدُر من صدرها وهي تتنفَّس: «لكنه لم يبتلِعها.»
قالت الغريبة بتهكم: «كان ينبغي أن يبتلِعها. انظري إلى حالكِ. عجوز. هَرِمة. ماذا فعلتِ بحياتكِ؟ لا شيء! والقصص التي يحكونها عنكِ! ستصدمكِ» — ضيقت عينيها — «لكن لا أظنُّ أنكِ ستتحمَّلين تلك الصدمة.»
تركت المرأة المجنونة أنتين وتحركت نحو لونا. كانت خطواتها مُتعثرة وبطيئة، وكأنها تتحرك في حلم.
قال أنتين: «أخت إجنيشا! كيف جَرُؤْتِ؟ «المحمية» تنظر إليكِ باعتبارك صوت العقل والتعليم.» تلعثم. ثم أردف: «رضيعي يواجِهُ الحكماء. ابني. وإيثين، التي اعتنيتِ بها مثل ابنتك! هذا سيُصيبها بصدمةٍ تدمرها.»
استشاطت الأخت إجنيشا غضبًا. وقالت: «لا تذكر اسم ناكرة الجميل هذه أمامي. بعد كل ما فعلتُه من أجلها.»
همست المرأة المجنونة في أذن لونا: «لا يزال يُوجَد بداخلها جانب إنساني.» ووضعت يدَها على كتف لونا. فجاش شيء ما بداخل لونا. كان ذلك كل ما يُمكنها فعله كي تجعلها تتصرف بعقلانية. «لقد سمعتُها، في «البرج». كانت تسير أثناء نومها، ترثي شيئًا فقدَتْه. دائمًا ما كانت تنتحِب وتذرف الدموع وتشتكي. وعندما تستيقظ، لا تتذكر شيئًا من ذلك. إن هذا محجوب بحواجز بداخلها.»
كانت لونا تعرف القليل عن هذا. حولت انتباهها إلى الذكريات المحتجزة بداخل «آكلة الحزن».
سارت زان للأمام وهي تعرج.
قالت المرأة العجوز، وقد انفرج فمها الواسع عن ابتسامةٍ خبيثة: «لعلمكِ، لم يمت الأطفال الرضع.»
ضحكت الغريبة بسخرية. وقالت: «لا تكوني سخيفة. بالطبع ماتوا. قد يكونون ماتوا جوعًا أو عطشًا. وفي الحالتَين ستأكلهم الحيوانات المفترسة. كان هذا هو مربط الفرس.»
تقدمت زان خطوةً أخرى للأمام. حدَّقت في عيني المرأة الطويلة، وكأنها تنظر بداخل نفق طويل مظلم أمامه صخرة. نظرت إليها شزرًا. «أنتِ مخطئة. لا يمكنكِ رؤية ما يجري خارج غيمة الحزن التي صنعتِها. ومثلما وجدتُ صعوبةً في النظر إلى ما بداخل تلك الغيمة، لم تتمكني من رؤية ما يجرى خارجها. طوال كل هذه السنوات كنتُ أتسكع أمام عتبتكِ، وأنتِ لا تدرين شيئًا عن هذا. أليس هذا مضحكًا؟»
قالت الغريبة، وهي تزمجر بعمق: «لا يُوجَد شيء من هذا القبيل. هذا محض هراء. لو كنتِ اقتربتِ من «المحمية»، كنت سأعرف.»
«لا يا سيدتي العزيزة. لم تعرفي. بالضبط مثلما لا تعرفين ما حدث للأطفال الرضع. كل عام، كنت آتي إلى حافة هذا المكان المُوغِل في الحزن. كل عام، كنتُ أحمل طفلًا معي عبر الغابة إلى «المدن المستقلة»، وهناك، كنتُ أترك الطفل مع أُسرة مُحبة. ومن المخزي، أن الأسرة الأصلية كانت تحزن دون داعٍ. وكنتِ أنتِ تتغذَّين على هذا الحزن. لن تتغذي على حزن أنتين. أو حزن إيثين. سيعيش الرضيع مع والدَيه، وسيكبر ويترعرع. وفي واقع الأمر، عندما كنتِ تطوفين الغابة، كانت غيمة الحزن التي صنعتِها قد انقشعت بالفعل. «المحمية» الآن تعرف معنى الحرية.»
شحب وجه الأخت إجنيشا. وقالت: «أكاذيب»، لكنها تعثرت وجاهدت لتقف منتصبة. «ما الذي يحدث؟» شهقت.
نظرت لونا بتركيز. كانت الغريبة قد استنزفت معظم قواها السحرية باستثناء البقايا الأخيرة. نظرت لونا بتعمُّق أكبر. وهناك، في الموضع الذي كان من المفترض أن يكون فيه قلب «آكلة الحزن»، كانت تُوجَد كرة صغيرة؛ كرة صلبة ولامعة وباردة. لؤلؤة. على مدى السنوات، كانت قد عزلت قلبها، مرةً تلوَ أخرى، جاعلةً إياه أملسَ ولامعًا وعديم الشعور. ومن المُحتمل أنها أخفت أشياء أخرى هناك أيضًا؛ كالذكريات والأمل والحب، وهي المشاعر الإنسانية الأساسية. ركزت لونا، فمكَّنَتْها مهارتها في الملاحظة من النظر للداخل واختراق بريق اللؤلؤة.
ضغطت «آكلة الحزن» بيدِها على رأسها. «أحدهم يأخُذ سحري. أهو أنتِ أيتها العجوز؟»
قالت المرأة المجنونة، وهي تخطو لتقف بجوار زان، وتحيط المرأة العجوز بذراعها كي تُبقِيَها واقفةً، وترمق الأخت إجنيشا بنظرةٍ حادة: «أي سحر؟ لا أرى أي سحر.» ثم التفتت إلى زان، قائلة: «إنها تختلق أشياء، كما تعلمين.»
«اصمتي أيتها الحمقاء! أنت لا تعرفين ما تتحدثين عنه.» ترنحت الغريبة، وكأن قدمَيها تحولتا فجأة إلى عجين.
قالت زان: «عندما كنتُ فتاةً صغيرة في القلعة، كنتِ تأتين كل ليلة لتتغذَّي على الحزن الذي كان يتسرب من تحت بابي.»
قالت المرأة المجنونة: «كل ليلة في «البرج»، كنتِ تمضين من زنزانة إلى أخرى، بحثًا عن الحزن. وعندما تعلمتُ أن أكبتَ حُزني، وأن أقمعه بداخلي، كنتِ تزمجرين وتعوين.»
قالت «آكلة الحزن» بصوتٍ كالنعيق: «أنتما تكذبان.» لكنهما لم تكونا كذلك؛ فقد تمكنت لونا من رؤية الجوع الرهيب بداخل «آكلة الحزن». تمكنت من رؤية أن «آكلة الحزن»، حتى في اللحظة الراهنة، كانت تُفتِّش باستماتة عن أصغر مقدارٍ من الحزن. أي شيء تملأ به الفراغ المظلم بداخلها. «أنتم لا تعرفون أي شيء عني.»
لكن لونا كانت تعرف. بعين عقلها، تمكنت لونا من رؤية القلب، الذي تحوَّل إلى لؤلؤة، طافيًا في الهواء بينهما. كان مُخَبَّأً منذ زمنٍ طويل لدرجة أن لونا شكَّت في أن آكلة الحزن قد نسِيَت وجوده من الأساس. قلبته يمينًا ويسارًا، باحثةً عن شقوقٍ أو فتحات. كانت توجد فيه ذكرى. حبيب. فراق. سيل من الأمل. وهاوية سحيقة من اليأس. كم من المشاعر يمكن للقلب الواحد أن يحمل؟ نظرت إلى جدتها. ونظرت إلى أُمِّها. وإلى الرجل الذي يحمي أسرته. قالت لونا في نفسها: «عدد لا نهائي. مثلما الكون لا نهائي.» إنه نور وظلمة وحركة لا نهاية لها؛ إنه زمان ومكان، ومكان داخل مكان، وزمان داخل زمان. وقد علمت أنه «لا حدَّ لما يمكن للقلب أن يحمل.»
قالت لونا في نفسها: «من المُريع أن ينفصل المرء عن ذكرياته. ما أعرفه هو اللحظة الحالية. هُنا. دعيني أساعدكِ.»
ركزت لونا. انشرخت اللؤلؤة. اتسعت عينا «آكلة الحزن» بشكلٍ مُرعب.
قالت زان: «بعضنا يُفَضِّل الحبَّ على القوة. مُعظمنا بالفعل يُفَضِّل هذا الاختيار.»
ركزت لونا انتباهها على الشرخ. وبحركةٍ خفيفة من رسغها الأيسر، فتحته عنوة. واندفع الحزن للخارج.
قالت «آكلة الحزن»، وهي تضغط بيدَيها على صدرها: «آه!»
أتى صوت من الأعلى: «أنتِ!»
نظرت لونا لأعلى وشعرت بصرخةٍ تندفع في حلقها. رأت تنينًا ضخمًا يُحلق فوق رأسها مباشرةً. حَلَّق في حركة دوَّامية، وأخذ يقترب أكثر فأكثر من المنتصف. وأطلق ألسنة اللهب في السماء. بدا مألوفًا، بطريقةٍ أو بأخرى.
«فيريان؟»
شقت الأخت إجنيشا صدرها. تسرَّب الحزن إلى الأرض.
«يا ويلي. لا، لا، لا.» امتلأت عيناها بالدموع. وغصَّت بالبكاء في حلقها.
صاح «التنين شبيه فيريان»: «أُمِّي … أُمي ماتت وهذا خطؤكِ.» هبط التنين لأسفل منزلقًا إلى أن توقف، مثيرًا بذلك وابلًا من الحصى في جميع الاتجاهات.
تمتمت آكلة الحزن، وهي بالكاد ترى التنين الهائل وهو ينقضُّ عليها: «أُمي. أُمِّي وأبي وأخواتي وإخوتي. قريتي وأصدقائي. جميعهم ماتوا. ولم يبقَ إلا الحزن. الحزن والذكرى، الذكرى والحزن.»
جذب التنين، الذي ربما كان فيريان، «آكِلَة الحزن» من خصرها، وحملها عاليًا. تيبَّست المرأة كالدمية.
قال التنين: «لا بدَّ أن أحرقكِ!»
«فيريان!» كان جليرك يركض صاعدًا الجبل، بسرعةٍ أكبر من السرعة التي كانت لونا تتخيل أن بإمكانه أن يتحرك بها. «فيريان، أنزِلْها في الحال. أنت لا تعي ما تفعله.»
قال: «بلى، أعيه. إنها شريرة.»
صرخت لونا، وهي تتعلق بقدَمِ التنين: «فيريان، توقف!»
بكى فيريان: «اشتقتُ إليها. أمي. اشتقت إليها كثيرًا. لا بدَّ أن تدفع هذه الساحرة ثمن ما اقترفته يداها.»
كانت قامة جليرك عاليةً كالجبل. وكان هادئًا كالمستنقع. نظر إلى فيريان بكل الحب الذي يحويه العالم. وقال: «لا، يا فيريان. رد الفعل هذا سهلٌ للغاية يا صديقي. فكر من منظور أعمق.»
أغمض فيريان عينَيه. لم يُنزِل آكلة الحزن. سالت دموع هائلة من أسفل جفنيه المشدودَين وتساقطت في هيئة كُتَل ينبعث منها البخار على الأرض.
نظرت لونا بتعمُّق أكبر، مُتخطيةً طبقات الذكرى التي أحاطت بالقلب الذي تحول إلى لؤلؤة. ما رأته أذهلها. همست لونا: «لقد حجبت حزنها. أخفته وضغطته في حيزٍ أضيق أكثر فأكثر. وكان صلبًا وثقيلًا وكثيفًا لدرجة أنه جعل النور ينحني من حوله. وابتلع كل شيء بداخله. حُزن يبتلع حزنًا. باتت شرهة للحزن. وكلما تغذَّت عليه، ازداد احتياجها إليه. وبعد ذلك اكتشفت أنها يمكنها تحويله إلى قوةٍ سحرية. وتعلمت كيفية زيادة الحزن حولها. كانت تزرَعُ الحزن كما يزرع المزارع القمح ويربي الماشية من أجل اللحم والحليب. وكانت تلتهم البؤس التهامًا.»
نشجت «آكلة الحزن». تسرَّب حزنها من عينَيها وفمها وأُذنَيها. كان سحرها قد انتهى. كان الحزن الذي جمعته ينفد. وعما قريب لن يتبقَّى منه أيُّ شيء على الإطلاق.
اهتزت الأرض. وتصاعدت أعمدة دخان هائلة من فوهة البركان. انتفض فيريان. قال فيريان، بصوتٍ يتشنج في حلقه: «ينبغي أن أُلقيكِ في البركان جزاءً لما فعلتِ. ينبغي أن ألتهمكِ بقضمةٍ واحدة ولا أفكر فيكِ مُجددًا. تمامًا كما لم تفكري في أُمِّي مجددًا.»
قالت زان، وهي تمدُّ ذراعَيها: «فيريان. عزيزي الغالي فيريان. تنيني الهائل.»
بدأ فيريان يبكي من جديد. وأطلق سراح «آكلة الحزن»، التي سقطت متكومةً فوق الصخور. نشج: «عمتي زان! تموج في قلبي مشاعر كثيرة جدًّا.»
«بالطبع، يا عزيزي.» أشارت زان للتنين بالاقتراب أكثر. وضعت يدَيها على خدَّيه المتضخِّمين وقبَّلَت أنفَهُ الهائل. «أنت تملك قلبَ تنين هائل. ودائمًا ما كنتَ تملكه. ثمة أشياء يتعيَّن فعلها مع «آكلة الحزن»، لكن البركان ليس واحدًا منها. وإذا أكلتَها فستُصاب بألمٍ في معدتك. لذا لا تفعل.»
أمالت لونا رأسها جانبًا. كان قلب «آكلة الحزن» مُمزقًا إربًا. لن تتمكن من إصلاحه بدون السحر، والآن سحرها قد اختفى. وفي الحال تقريبًا، بدأت «آكلة الحزن» تشيخ.
اهتزت الأرض مرةً أخرى. تلفَّت فيريان حوله. «الأمر لا يقتصر على القمة فحسب. المنفسات الحرارية مفتوحة. وسيكون الهواء مُضرًّا بصحة لونا. وبالجميع أيضًا، على الأرجح.»
نظرت المرأة الحليقة الرأس، أي المرأة المجنونة (قالت لونا في نفسها: «لا. ليست «المرأة المجنونة». إنها أمي. إنها أمي.» وقْعُ الكلمة على نفسها جعلها ترتعش) إلى الحذاء طويل الرقبة وابتسمت. قالت: «يُمكن لحذائي أن يأخذنا إلى المكان الذي نريد الذهاب إليه في لمح البصر. لنُرسِل الأخت إجنيشا والوحش مع التنين. سأضع بقيتكم على ظهري، وسأركض إلى «المحمية». علينا أن نُحذِّرهم من البركان.»
توارى القمر. واختفت النجوم. وغطى دخانٌ كثيفٌ السماء.
قالت لونا في نفسها: «أُمِّي! هذه أمي. المرأة على السقف. اليدان في نافذة «البرج». إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.» كان قلب لونا يحمِل حبًّا لا حدَّ له. صعدت لونا على ظهر أُمِّها ووضعت خدَّها على رقبتها وأغمضت عينَيها جيدًا. رفعت أمُّ لونا زان برفقٍ قدْر الإمكان، وأمرت أنتين ولونا أن يتشبَّثا بكتِفَيها، بينما تشبَّث الغراب بلونا.
صاحت لونا في فيريان: «تعامل مع جليرك بحرص.» أمسك التنين «آكلة الحزن» في يدَيه، وهو يَمُدهما بعيدًا عن جسمه قدر الإمكان، وكأنه يراها مقززة. تشبث الوحش بظهره، تمامًا كما كان فيريان يتشبث بظهر جليرك لسنوات.
قال فيريان بتكلف: «دائمًا ما أتعامل مع جليرك بحرص. إنه رقيق جدًّا.»
اهتزت الأرض. حان وقت الرحيل.