تهديدٌ قاتلٌ ومخزٍ
فجأةً في عام ١٧٧٦ صار الأمريكيون وحدَهم، وقبل ذلك كان التجار من العالم الجديد يبحرون عبْر المحيطات في سفنهم وقواربهم ومراكبهم الشراعية ولا يخشون أحدًا؛ فهم على ثقةٍ بأن أقوى بحرية في التاريخ تقوم على حمايتهم. ولكن هذا الشعور بالأمان بُدِّد بين ليلة وضحاها عندما اشتعلت الثورة؛ فالبحرية البريطانية الضخمة التي كانت تحمي التجارةَ الأمريكية ضد أيِّ مخاطرَ أصبحت عدوَّها اللدود. ولأن الولايات المتحدة لم تكن تملك أسطولًا خاصًّا بها يقوم على حمايتها، فقد كانت سفنها تتعرَّض للهجوم بدءًا من اللحظة التي تغادر فيها مراسيها لتبحر في عَرض البِحار بلا حول ولا قوة.
إن غياب القوات البحرية لم يهدِّد البحَّارة الأمريكيِّين فحسب، بل هدَّد بقاء البلاد نفسِها. فقد كانت أمريكا في القرن الثامن عشر دولةً بحرية تعتمد إلى حدٍّ بعيد على التجارة الخارجية؛ لأن معظم المدن الأمريكية كانت تتمركز على الساحل الشرقي، فضلًا عن توفُّر الموانئ الطبيعية وتمتُّعها بوفرة من أفضل أنواع الأخشاب اللازمة لصناعة السفن. وكانت أيُّ ضربة لهذه التجارة تعني ضربةً قوية للولايات المتحدة الناشئة، خاصة في ذلك الوقت الذي كانت تصارع فيه من أجل الحفاظ على استقلالها الهشِّ ضد خطر الإفلاس الذي تواجهه. وفي حين كانت الجيوش الأمريكية تحارب الجيشَ البريطاني الذي يفوقها خبرةً وتدريبًا وعتادًا هو الجيش البريطاني، حافظت المستعمرَات السابقة على طُرُقها البحرية بكلِّ ما أُوتيت من قوة. وكان أحد هذه الطرق البحرية يتَّجه جنوبًا إلى جزر الهند الغربية، ولكنَّ طريقًا آخر لا يقل أهميةً كان يمتد عبْر المحيط الأطلنطي شرقًا إلى موانئ البحر المتوسط.
قبل الثورة، كان الخطر الأوحد الذي يهدِّد تجارة الولايات المتحدة الحيوية في البحر المتوسط يأتي من الشرق الأوسط. فقد كان القراصنة العرب — الذين يُطلقون على أنفسهم اسم «المجاهدين» — يهاجمون السفنَ الغربية ويستولون على حمولاتها ويأسِرون أطقمها. كان هؤلاء «القراصنة» — كما أطلق عليهم الأمريكيون الأوائل — يبحرون من إمبراطورية المغرب المستقلة والمناطق العثمانية شبه المستقلة كطرابلس وتونس والجزائر، وهي منطقةٌ شرق أوسطية معروفة في مجموعها في اللغة العربية باسم «المغرب العربي». أما الغربيون فأطلقوا عليها اسمًا مختلفًا، وهو اسمٌ يشير إلى الجشع والقسوة، فقد أطلقوا عليها اسم «منطقة البربر».
غير أن هجمات القراصنة ضد سفن العالم الجديد شهِدت تراجعًا في القرن الثامن عشر، بعد أن أصبحت السفن الأمريكية تحت حماية الأسطول البريطاني الذي كان يتمدَّد بسرعة، ويتمتَّع بالتفوق التكنولوجي. وكانت مراكب القراصنة ذات الشراع الواحد وسفنهم الصغيرة لا تحمل الواحدةُ منها أكثرَ من عشرين مدفعًا وبضع عشرات من الرجال المسلَّحين. مما جعلهم يفكِّرون مرتين قبل الهجوم على سفينةٍ تحميها سفنُ البحرية الملَكية، التي تحمل الواحدة منها في المتوسط ٨٥٠ رجلًا ومائة مدفع. لم يزِد شمال أفريقيا في نظر البريطانيِّين عن ذبابة لا تكاد تستحق هجومًا بسفينة واحدة، فضلًا عن شن حرب. ولجأت لندن — بدلًا من مقاومة القراصنة — إلى تملُّق الدول البربرية بدفع «رسوم» سنوية، وهو بديلٌ مهذَّب لكلمة «إتاوة». حصل القراصنة على هذه الرشوةِ مقابل عدم المساس بالسفن البريطانية. فتحوَّل اهتمامهم إلى قوًى أقلَّ فتكًا، كالبرتغال والدنمارك وإسبانيا.
ظلَّت السفن الأمريكية تتمتع بالحماية حتى صدور إعلان الاستقلال عام ١٧٧٦. وسرعان ما أصبحت سفن الولايات المتحدة مستهدَفة، ليس فقط من قِبل قراصنة شمال أفريقيا، بل — وهو الأسوأ — وإنما أيضًا من الأسطول البريطاني الذي كان فيما مضى يعمل على حمايتها. ومع ذلك تمكَّنت البحرية الأمريكية الناشئة من مواجهةِ تلك التحديات تحت قيادة القباطنة الشجعان من أمثال جون بول جونز، وأيضًا بمساعدة السفن الحربية الفرنسية. ولكن بانتهاء الحرب عام ١٧٨٣ كانت معظم السفن الحربية الأمريكية قد أُسِرت أو بِيعت أو غرقت. وكانت الولايات المتحدة لا تكاد تستطيع الدفاعَ عن سواحلها، فضلًا عن حماية تجارتها عبْر البِحار. وقال بيرس لونج عضو الكونجرس عن ولاية نيو هامبشير، ومعه كلُّ الحق: «لسنا الآن في حالةٍ تسمح لنا أن نخوض حربًا ضد أي دولة، خاصة ضد دولةٍ [الجزائر] لا نتوقَّع منها سوى ضربات عنيفة.» وكان الأسطول الجزائري الصغير المكوَّن من تسع بوارج حربية كبيرة وخمسين قاربًا مسلَّحًا يتفوَّق على نظيره الأمريكي في التسليح تفوقًا كبيرًا. وأكَّد ذلك اللورد شيفيلد البريطاني، وهو المُعارض الشهير لاستقلال الولايات المتحدة، قائلًا: «لا يستطيع الأمريكيون حمايةَ أنفسهم [من البربر]؛ إذ لا يمكنهم أن يزعموا أن لديهم أسطولًا بحريًّا.»
أمريكا عاجزة عن الرد
كان اللورد شيفيلد يملك أسبابًا وجيهةً للشماتة بالولايات المتحدة. فلم يكن بالإمكان تكوينُ أسطول بحري لأي دولة إلا عن طريق حكومة مركزية قوية، وهو ما كان ينقص الولايات المتحدة. فقد كانت ولاياتها مرتبطة ارتباطًا ضعيفًا بعضها ببعض من خلال بنود اتفاقية الاتحاد الكونفيدرالي، ولم تكن الولايات تستطيع أن تفرض ضرائبَ قومية، فضلًا عن تكوين جيشٍ موحَّد. بل إن بنود الاتفاقية كانت تعارض تمامًا تكوينَ أسطول بحري دائم في أوقات السِّلم. وفي حين كانت الكونفيدرالية تسمح نظريًّا لأية ولاية «تعاني هجمات القراصنة» بامتلاك بعض السفن الحربية للدفاع عن نفسِها، فإن أيًّا من الولايات لم يكن لديها فعليًّا القدرةُ على بناء قوة عسكرية تكفي لصد هجمات البرابرة. هذا بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم تكن تستطيع أن تخوض حربًا ضد شمال أفريقيا إلا بموافقة تسعٍ من بين ثلاث عشرة ولاية تملك كلٌّ منها الحقَّ في ممارسة «سيادتها وحريتها واستقلالها».
•••
أجبر نقصُ البوارج الحربية وعدم وجود تفويض ببنائها الولايات المتحدة على أن تتغلَّب على نفورها من السياسة الأوروبية، وتطلُب عونَ حلفائها الثوريِّين في فرنسا. كان على فرنسا — وفقًا لاتفاقية التحالف التي وقَّعتها مع الولايات المتحدة عام ١٧٧٨ — «أن تبذُل ما في وُسعها … لحماية … سفن الولايات المتحدة ومواطنيها وبضائعها … ضد الهجمات وأعمال العنف والسلب … التي ترتكبها دولُ البربر.» ولكن عندما طالبت الولايات المتحدة فرنسا بتنفيذ ذلك الاتفاقِ كانت الاستجابة سلبية. فقد حرص الزعماء الفرنسيون على ترويج تجارتهم ودعمِها في البحر المتوسط، وخشُوا تأثيرَ المنافسة الأمريكية على الموانئ الفرنسية الجنوبية؛ تولون ونيس ومرسيليا. وانتهى الفرنسيون إلى أنه «لا توجد مصلحةٌ لفرنسا في منحِ الأمريكيِّين إبحارًا هادئًا وآمنًا في البحر المتوسط»، وقوبل الطلبُ الأمريكي بالرفض.
بعد ثلاثة أشهر من الاستيلاء على بيتسي استولت الجزائر على سفينتين أمريكيتين أخريين، هما دوفين وماريا. وأسرَت واحدًا وعشرين فردًا من أفراد الطاقم الأمريكيِّين، الذين قُيدوا بالأغلال ثم سيقوا في موكبٍ تحيط به الحشود الهاتفة في شماتة حتى بلاط الداي حسن، الذي قيل إنه بصقَ في وجوههم، وقال: «الآن ظفرتُ بكم أيها الكلاب المسيحيون، سأجعلكم تأكلون الأحجار.» ويذكر أحدُ البحَّارة واسمه جيمس ليندر كاثكارت، وكان عمره حينئذٍ ١٧ عامًا، أنهم وُضِعوا في قبوٍ «مظلِم تمامًا … حيث ينام العبيد على عمقِ أربعة طوابق تحت الأرض … والكثير منهم عراة تقريبًا، أما الباقون فلم يكن يستُرهم في الشتاء القارس إلا بطانية بالية.» كانت الوجبة اليومية — حسب قوله — مكوَّنة من ١٥ أوقية من الخبز، وكان أقلُّ قدْر من المقاومة يُعاقب بالجلد بالعصا على القدمين أو بقطع الرأس أو بالإعدام بالخازوق.
يقول ممثِّل ولاية فرجينيا الوطني الغيور ريتشارد هنري لي، أحدُ المشاركين في التوقيع على وثيقة الاستقلال: «اللعنة ألف مرة على القراصنة الجزائريِّين الذين أعلنوا الحربَ على تجارتنا.» أما وزير الشئون الخارجية، جون جاي، فحذَّر من أن «الشر المستطير» للبرابرة لا يهدِّد فقط تجارة الولايات المتحدة، بل يكشف أيضًا ضَعفها التام أمام القوى الأوروبية المتربصة. وأدَّت بعض التقارير التي لا أساسَ لها من الصحة لبعض الصحف عن هجمات القراصنة على سفنٍ أمريكية إلى تصاعدِ المخاوف. فقال جون بول جونز الذي عُرف برباطة الجأش معبِّرًا عن قلقه: «الجزائريون يبحرون في مجموعات متفرقة مكوَّنة من ست أو ثماني سفن، ويصلون إلى الجزر الغربية.» ومع كل هذه الهجمات — الحقيقية والخيالية — فإن الولايات المتحدة لم تفكِّر مرة واحدة في أن تثأر من القراصنة. وفيما عدا طرد ثلاثة من يهود فرجينيا بتهمة التجسس لمصلحة شمال أفريقيا، ظلَّت الولايات المتحدة على سلبيتها.
براءة أم استقلال؟
كان على الأمريكيِّين أولًا قبل أن يتمكَّنوا من إثبات خطأ شيفيلد، أن يخوضوا في مناقشاتٍ مطوَّلة ومضنية حول جوهر دستور بلادهم وشخصيتها. وكان من بين أكثر المشاركين حماسةً في هذا الجدال توماس جيفرسون، الحاكم السابق لفرجينيا وواحد من أهم مَن أسهموا في وضع إعلان الاستقلال. كان جيفرسون أحدَ ملاك الأراضي الذين يعيشون في الأقاليم، ولم يذهب قط أبعدَ من باريس، ولم يشارك في أي حرب، ومع ذلك أصرَّ توماس جيفرسون على أنه يفهم الشرق الأوسط والحاجة إلى مواجهته بالقوة.
كان توماس جيفرسون مزيجًا من المتناقضات، شأنه شأن بلاده التي كانت تناهض السياسة الأوروبية لكنها متعطشة إلى التجارة الخارجية، وتتوق إلى الوحدة القومية إلا أنها تسعى إلى حماية استقلال الولايات، وتلتزم بحقوق الإنسان لكنها تنكر أحقيةَ السود وأهل البلاد الأصليِّين في التمتُّع بهذه الحقوق. كان جيفرسون مسرفًا في التأنُّق أحيانًا ورثَّ المظهرِ أحيانًا أخرى، ثرثارًا تارةً وصموتًا تارة أخرى، وكان يدَّعي أنه رجل من عامة الشعب وهو يعيش في مَعزِل عنهم بضيعة مونتيتشيللو الفخمة. وكان من بين المتناقضات العديدة التي حيَّرت كتَّاب سيرته الصراعُ بين الجانب المتخاذل في شخصيته والجانب المنادي بالمساواة، وبين تمسُّكه بالنظام الجمهوري واعتناقه فلسفةَ أبيقور، وبين حبه للسلام وحماسته الشديدة للثورة الفرنسية الدموية. كان جيفرسون كما كتب المؤرخ جوزيف إليس «يجمع بين العمق الشديد والسطحية المتناهية، بين العلم الغزير والسذاجة غير العادية، بين البصيرة الثاقبة في قراءته للآخرين والقدرة المخيفة على خداع الذات.»
كان تناقض جيفرسون أبرزَ ما يكون في مواقفه تجاه القراصنة البربر. فقد كان هو شخصيًّا يمتلك عبيدًا سودًا من أصول أفريقية، وكان يستغل واحدةً منهم — هي سالي هيمنجز — جنسيًّا، لكنه لم يستطِع قط تقبُّل فكرة امتلاك الأفارقة لعبيدٍ بيض، أو انتهاكهم حرمةَ النساء البيض. وقد قرأ القرآن وعديدًا من الكتب عن الشرق الأوسط، بل إنه حتى حاول تعليمَ نفسه بعض اللغة العربية، لكنه اعتبر كلًّا من المنطقة وديانتها الأساسية شيئين غريبين عن عالمه، بل لا يمتَّان إليه بصلة.
بذلك انتهت أولُ مبادرة دبلوماسية لأمريكا في الشرق الأوسط بالفشل، ولكن هذا الفشل في الجزائر لم يثبِّط الولايات المتحدة عن السعي وراء عقدِ اتفاقات مع دول البربر الأخرى. بل الواقع أنه حين كان لامب يهين نفسه ويذلها أمام الداي، كان أمريكي آخر يحاول التفاوضَ مع طرابلس، المدينة الرئيسية في ليبيا الحديثة. وحانت الفرصة عندما عرض الممثل الشخصي لباشا طرابلس — وهو واحد من النبلاء يُدعى عبد الرحمن الأجار — أن يستضيف جون آدامز، مبعوثَ الولايات المتحدة لدى بريطانيا، في منزله بلندن. تردَّد آدامز في قبول الدعوة خوفًا من أن تدور المناقشة فقط عن الإتاوة، ولكنَّ الأنباء عن تصاعُد المخاطر التي تهدِّد التجارة الأمريكية في البحر المتوسط أقنعته بالحاجة إلى عقدِ اتفاق سلام على الأقل مع دولة واحدة في شمال أفريقيا.
اعترف جيفرسون الناطق بلسان الشعب بأن لديه وعيًا «بالنزعة» الأمريكية أكبر من آدامز «المنعزل»؛ لذا ظلَّ على ثقته بأن الشعب الأمريكي سيحارب شمال أفريقيا إذا أُتيحت له الوسائل الكافية وتُرك له الخيار. غير أن جيفرسون — بوصفه رجل دولة — لم يستبعد إمكانيةَ الحل الدبلوماسي لمشكلات القرصنة ضد أمريكا، إذا أُتيحت الفرصة لذلك. ومَن ثم انضم جيفرسون في مارس ١٧٨٥ إلى آدامز في لندن في محاولةٍ أخيرة لمنع نشوب «حرب عالمية مروِّعة» وللتوصل إلى اتفاقٍ مع طرابلس.
مكتوب في القرآن أنَّ كل الأمم التي لا تعترف بهيمنة المسلمين تُعدُّ آثمة، وأنه من حق المسلمين وواجبهم أن يقاتلوا مَن تطوله أيديهم منهم، وأن يجعلوا كلَّ أسراهم عبيدًا، وأنَّ مَن يُقتل من المسلمين في تلك الحرب فمصيره الجنة.
ومع أن جيفرسون كان أحدَ المشاركين في إبرام الاتفاقية مع المغرب، فقد كان يخشى أن تظل الاتفاقية بلا مغزًى، ما دامت أمريكا تنقصها «الخزانة العامة والقوة العامة» الضروريتان لضمان الالتزام ببنود الاتفاقية. لذلك أوصى بوقف أيِّ مفاوضات أخرى مع شمال أفريقيا حتى تتخذ الولايات المتحدة «خطوات … قد تصحِّح فكرتَهم … عن عجز الحكومة الفيدرالية». وفي تلك الأثناء أسرعت دول البربر الأخرى في تقليد أسلوب المغرب في انتزاع التنازلات الأمريكية. فما إن أُفرج عن بيتسي إلا وكانت قد استُهدفت مرةً أخرى، هذه المرة من تونس، وجرى تغيير اسمها رسميًّا إلى ماشودا.
هذه المخازي لم تؤرِّق جيفرسون فقط، بل أرَّقت جورج واشنطن أيضًا، وهو أكثرُ أمريكي نال الاحترام عبْر الزمن. كافح واشنطن للتغلُّب على ضَعف بلاده وقلة حيلتها عام ١٧٧٦، وأحسَّ «بأعمقِ مشاعر الخزي» وهو يرى أمريكا وقد «أصبحت تدفع الجزية لتلك العصابات، التي لا يتكلَّف محوها من وجه الأرض أكثرَ من نصف المبلغ الذي تلقَّته إتاوةً». وكان واشنطن يعتقد — على غرارِ جيفرسون — أن الشعب الأمريكي يفضِّل مواجهة البربر على الرضوخ للابتزاز، لكن لا تزال تنقصه سفنٌ حربية للقتال. وقال لرفيق السلاح السابق لافاييت: «إني أتضرَّع إلى السماء أن يكون لنا أسطولٌ بحري لتأديب أعداء الإنسانية هؤلاء، أو سحقهم تمامًا.»
مع ذلك ظلَّت الحقيقة الواقعة هي أن الولايات المتحدة لا تمتلك أسطولًا حربيًّا، ولا حتى وثيقة دستورية لتكوين أسطولٍ حربي، فكتب محرِّر جريدة «سنتينل»، بنجامين راسل، لجون آدامز: «من دون نظام حكم قومي سنصبح عمَّا قريب نهبًا لكل دول الأرض.» وكتب الكابتن أوبراين بمناسبة مرور عامين على سجنه في سجون جزائرية مع واحد وعشرين من طاقم السفينتين دوفين وماريا: «فاقت آلامنا كلَّ ما يمكن أن تتخيَّله.» وساد شعورٌ عام بالغضب والمهانة، وعبَّر ديفيد همفريز، مساعد الجنرال واشنطن أثناء الحرب، والدبلوماسي والشاعر المخضرم، عن ذلك الشعور بأبياتِ شعر قال فيها:
وكانت هناك محاولةٌ أكثر جرأة، وإن نسيَها الكثيرون، لجعل الشرق الأوسط يدافع عن الدستور، وكان صاحبها هو بيتر ماركو. كان يُطلق عليه «بيتر الشاعر»؛ وُلد بيتر في سان كروا وتلقَّى تعليمه في أكسفورد، وكان يشتهر بكونه واحدًا من أبرزِ شعراء فيلادلفيا وكتَّابها الصحفيين. وفي بداية مناقشات إقرار الدستور عام ١٧٨٧ نشر روايةً هزلية عنوانها «الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا»، وفيها يقوم عميلٌ جزائري اسمه محمد بالتجسُّس على الدفاعات الأمريكية، ومن خلال ذلك يمتدح ماركو الحريات الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة، لكنه يسخر من تفكُّك الولايات الأمريكية. فيقول: «البلاد ينخر فيها التفكُّك والانشقاق، ويمكن نهبُها بلا أدنى مشقة، وأسرُ شبابها وفتياتها.» وللإسراع بتدمير أمريكا، جعل ماركو محمدًا يوصي بالاستيلاء على رود أيلاند — الولاية الوحيدة التي قاطعت مؤتمرَ الدستور — وتحويلها إلى قاعدةٍ لعمليات القرصنة الجزائرية.
العجز والغضب
كان توماس جيفرسون يذرَع غرفةَ مكتبه في برودواي بنيويورك جيئةً وذهابًا، محاولًا أن يجد حلًّا لرفض أمريكا استخدام قوَّتها. فبعد مغادرته باريس في نهاية عام ١٧٨٩، قَبِل جيفرسون منصبَ وزير الخارجية، وهو منصب منحه راتبًا سنويًّا يقدَّر بثلاثة آلاف وخمسمائة دولار، وخمسة من المساعدين، وجعله المسئول الأول عن حل أزمة البربر. لم تؤثِّر هذه الترقية تأثيرًا يُذكر في رأي جيفرسون بشأن القراصنة، أو «كلاب البحر» كما كان يسمِّيهم، أو «عصابة وضيعة من اللصوص». كان جيفرسون مثالًا للأمريكيِّين الذين كانوا ينظرون إلى المنطقة فيما بعدُ باعتبارها مرتعًا للطغيان والفساد والتخلف، أي صورة النقيض لما يعيشون فيه من ديمقراطية وثقافة وطهارة. وكانت عصابة من المجاهدين المسلمين المصرِّين على استرقاق البحَّارة الأمريكيِّين الأبرياء تستحق في نظره طلقاتِ المدافع لا أجولةَ الذهب، ولكن بسبب معارضة الرأي العام الأمريكي لاستخدام القوة، لم يكن أمام جيفرسون خيارٌ سوى الاستمرار في المفاوضات مع شمال أفريقيا من أجل إطلاق سراح الأسرى.
وعن طريق وساطة بعض الرهبان الفرنسيِّين الأعضاء في جماعة دينية هدفُها افتداء العبيد المسيحيين، عرض جيفرسون على الجزائريِّين فديةً مخفَّضة للغاية، بالإضافة إلى هدايا متنوِّعة. ولكن الداي رفض هذه المبادرات، وعندما حظرت سلطات الثورة الفرنسية أنشطةَ جماعة الرهبان المسيحيين، فقدَ جيفرسون وساطتهم. ومرَّت شهورٌ تلقَّى فيها خطاباتٍ مفعمة بالألم من السجناء الأمريكيِّين الذين كان العديد منهم مرضى يوشكون على الموت بالطاعون. وبسبب معاناته من «القلق المستمر على أسرانا» شعر الوزير أن السياسة الأمريكية قد وصلت إلى طريق مسدود؛ فهي تملك وسائلَ دستورية لمحاربة البربر، لكنها لا تزال غير راغبة في استخدامها، وبذلك كانت «معلَّقة بين العجز والغضب».
وقع اختيار جيفرسون التالي على توماس باركلي مبعوثًا له، وكان أحدَ مَن شاركوا في المفاوضات مع المغرب، وقد وصل حتى لشبونة قبل أن يقع هو الآخر فريسةً للمرض. أما المبعوث الثالث ديفيد همفريز، فكان هو نفس الشاعر المحارب الذي قال: «يا إلهي، العصابات التي تعجُّ بها بِحارك، قد استولت على سفننا … وجعلت أحرارنا عبيدًا!» وصل همفريز إلى جبل طارق، ليفاجأ بأن الجزائريِّين قد استولوا على ١١ سفينة أمريكية، وأسروا ١١٩ بحَّارًا. فلم يبدُ منطقيًّا أن يطالب بحرية طاقم بحَّارة دوفين وماريا والجزائرُ مستمرة في أسرِ آخرين؛ لذلك عاد همفريز أدراجه إلى الوطن.
لقي الاقتراح معارضةً من بعض النواب الذين كانوا لا يزالون على رأيهم بأن بناء السفن الحربية مكلِّف للغاية، وأنها — بعد البناء — تشكِّل تهديدًا للسلام والحرية، وقال إبراهام بولدوين، نائب جورجيا، في هذا الشأن: «الرشوة وحدَها هي القادرة على شراء الأمان من الجزائريين.» في حين اعترف جون نيكولاس، نائب فرجينيا، قائلًا: «إننا لا نقوى على مواجهةِ الجزائريِّين في البحار.» وحذَّر إبراهام كلارك نائب نيوجيرسي وهو يستعرض الحاجة إلى وزيرٍ للبحرية وعدد كبير من الموظفين بالوزارة من أن «القوى الأوروبية مجتمعة ستجد في الأسطول الأمريكي ذريعةً للحرب». ولتقليل المخاطر والنفقات الأمريكية، اقترح كلارك أن «تُستأجر البحرية البرتغالية لمحاربة القراصنة».
أثارت هذه «الخطوات الجبانة» اشمئزازَ جون سميث، نائب ميريلاند، كما أنها لم تكن تتَّفق مع «معايير الجمهوريات السابقة في جميع العصور السابقة». وذكر شخص آخرُ من ميريلاند هو ويليام فانس موراي أن القراصنة «في صراعٍ مع الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال»، وأنهم لم يتركوا للأمريكيِّين خيارًا سوى الحرب. أما فيشر آيمز من ماساتشوستس، وكان من أشدِّ أنصار التجارة الحرة، فقد بدا متشائمًا للغاية عندما قال: «إن تجارتنا على وشْك أن تنمحي تمامًا، وإن لم نجهِّز جيشًا فيمكننا أن نتوقَّع قريبًا جدًّا وجودَ الجزائريِّين على أعتاب السواحل الأمريكية.»
وبالإضافة إلى الاعتبارات الاستراتيجية والمالية اتخذ الجدال حول الأسطول البحري بعدًا دستوريًّا، مما وضع أنصارَ تكوين حكومة مركزية قوية على المحك في مواجهة معارضيها الكثيرين. وفي تغييرٍ مفاجئ للسياسة سمح جيفرسون لمخاوفه من السلطة الفيدرالية أن تتغلَّب على رغبته الطويلة الأمد في مواجهة البربر عسكريًّا، وعارض بناء الأسطول. أما زميله وأشد المعجبين به جيمس ماديسون فتساءل عما إذا كانت البلاد تمتلِك ما يكفي من الأخشاب للقيام بهذا المشروع. وفي المقابل أيَّد الزعيم الفيدرالي جون آدامز الخطة، على غيرِ المتوقَّع؛ فلطالما شكَّك آدامز في مدى استعداد الشعب الأمريكي لمحاربة القراصنة. ولم يكن العنصر الحاسم في النهاية اقتصاديًّا ولا سياسيًّا، بل نفسيًّا. فأغلبيةُ أعضاء الكونجرس — بصرف النظر عن مشاعرهم نحو الفيدرالية — لم يعودوا يتحمَّلون الخضوعَ للبربر. وجرى إقرار القانون بأغلبية بسيطة؛ خمسون صوتًا ضد تسعة وثلاثين، وبشرط أن يتوقَّف بناءُ السفن فور تحقيق السلام مع الجزائريين.
غير أن إنشاء الأسطول كان يسير ببطء شديد. فقد تأجَّل مشروع بناء البوارج بسبب نزاعات على العقود بين الولايات، وسرعان ما تجاوز حدودَ ميزانيته. وبدا أن القادة الأمريكيِّين الصائحين «الملايين من أجل الدفاع ولا سنت واحد من أجل الإتاوة» ردًّا على المطالبات الفرنسية لدفع إتاوة حماية، بدا كأنهم لا يزالون على استعداد للتفكير في طريقةٍ ما لدفعِ إتاوات لشمال أفريقيا. وفي تلك الأثناء كانت رسائل المساجين والأسرى تتوالى على الولايات المتحدة، وبدأت في الظهور في الصحف. فكتب صامويل كالدر، قبطان السفينة «جاي» أنه «جيء به إلى الجزائر مكبَّلًا وعاريًا وجائعًا»، وكتب صارخًا: «الموت سيكون راحةً لي ومرحبًا به أكثرَ بكثير من استمرار الوضع الحالي.» وتساءل قبطان آخرٌ هو ويليام بنروز: «ماذا ينتظر رجالنا بحق السماء؟» وحذَّر من أن الموت الوشيك لرجال طاقمه سيبقى على الدوام «وصمةَ عارٍ في جبين الولايات المتحدة ونقطة سوداء في تاريخها».
واضطُرت الحكومة — بوازع من ضميرها المتألم — أن تفتِّش عن أموالٍ للتعويض. فوعد الهولنديون ببعض القروض، ثم نكثوا بوعدهم. ثم بدأت الكنيسة والجمعيات الخيرية في جمع تبرُّعات بالمبالغ المطلوبة. وأخيرًا في صيف عام ۱۷۹٥ أُصدر أمرٌ لديفيد همفريز بمعاودةِ محاولةِ «استرضاء الداي ودفع الإتاوة» وعقدِ اتفاق سلام مع الجزائر.
كان همفريز — على الرغم من مظهره الرقيق — مفاوضًا بارعًا؛ فقد تمكَّن من تخفيض طلبات الداي حسن، وتمكَّن في ٥ سبتمبر ١٧٩٥ من الحصول على توقيعه على اتفاقية صداقة، لكن الاتفاقية لم تكن بحالٍ من الأحوال نصرًا لأمريكا. فحسب شروطها كانت الولايات المتحدة لا تزال مطالَبة بمنح الجزائر سفينة، بالإضافة إلى مجموعةٍ من الهدايا «٢٥ صندوقًا من أربعة أنواع مختلفة من الشاي … وستة قناطير من السُّكر المكرَّر … وبعض الخناجر الأنيقة، بالإضافة إلى صندوقٍ من المقصات … وبعض الشيلان المطرَّزة بالزهور»، وكانت قيمتها الإجمالية أكثرَ من ٦٥٠ ألف دولار.
مع ذلك رفض الداي حسن الإفراجَ عن المختطفين المسجونين حتى يتلقَّى ما طلبه مقدَّمًا. وللحصول على المال لجأت الحكومة الأمريكية إلى جويل بارلو، وهو شاعرٌ من أصدقاء همفريز كان يعيش في باريس، استخدم بارلو اتصالاته الأوروبية، لكنه فشل في جمعِ المبلغ المطلوب لإرضاء الداي. وثار الداي على بارلو ذي الأنف العريض والحاجبين الكثيفَين عندما عاد إليه خاويَ الوِّفاض. قال: «أنت كاذب وحكومتك كاذبة. سأكبِّلك بالأغلال، وأعلنُ الحرب.» وفي آخر لحظة وجد بارلو رجلَ أعمال يهوديًّا في الجزائر وافق على إقراض الولايات المتحدة المبلغَ المطلوب وسفينةً لنقل الأسرى المختطَفين.
وشهِد بارلو في فبراير ١٧٩٧ بعد تسليم الأسرى الثمانية والثمانين في فيلادلفيا أن «رجالنا قد تصرَّفوا عامةً بدرجة من الصبر والتهذيب جعلت حالتَهم أفضلَ من حالة العبيد». ونزل كثيرٌ من أهالي المدينة إلى الميناء لتحية البحَّارة المحرَّرين، غامرين إيَّاهم بالورود ومقدِّمين لهم الكعك والمشروبات. وقال جون فوس، أحدُ هؤلاء الأسرى، معبِّرًا عن شكره: «لم تقُم أيُّ دولة مسيحية بشيء كهذا لمواطنيها الذين يجدون أنفسهم في موقف مثل موقفنا. فقد قدَّمت الولايات المتحدة مثالًا للإنسانية لكل حكومات العالم.» وكان الداي سعيدًا أيضًا، وتبرَّع بالمساعدة في الوصول إلى اتفاقاتٍ مماثلة بين الولايات المتحدة وكلٍّ من تونس وطرابلس.
كانت المدينتان على استعدادٍ للاتفاق، وسرعان ما حذتا حذوَ الجزائر في مهاجمة الأمريكيِّين أولًا، ثم التفاوض معهم من منطلق قوة. ولم يُضِع حاكم طرابلس مراد رئيس — وهو مرتدٌّ من أصلٍ اسكتلندي كان يُعرف في السابق باسم بيتر ليسلي — وقتًا فنهب ثلاث سفن أمريكية، في حين هاجم القراصنة التونسيون السفينةَ «إليزا» الآتية من بوسطن. ولأن الولايات المتحدة لم تكن تملِك سفنًا حربية، فإنها لم تتمكَّن من الرد بالقوة على تلك الهجمات، وإنما تمكَّنت فقط من إرسال بارلو إلى شمال أفريقيا من أجل جولةٍ أخرى من المفاوضات، وتمكَّن بارلو في النهاية من عقدِ اتفاقات مع كلٍّ من تونس وطرابلس، بتكلفة إجمالية ١٦٠٠٠٠ دولار.
ولكن خارج المجلس التشريعي كان العديد من الأمريكيِّين قد سئموا سياسةَ بلادهم القائمة على ذم القراصنة بالكلمات واسترضائهم بالرشاوى. وظهر تصاعُد حدة النقد بشكل أساسي على الفنون. ففي عام ١٧٩٧ نشرَ رويال تايلر — وهو محامٍ محترم من نيو إنجلاند يهوى كتابةَ القصص الروائية — روايةَ «الأسير الجزائري»، وهي مذكِّرات خيالية لجرَّاح على متن سفينةٍ اسمه أبدايك أندرهيل، أسرَه القراصنة واستعبدوه. يتحمَّل أندرهيل «الجوع والمرض والتعب والإهانة والجَلد، والجروح وغيرها من ألوان التعذيب الوحشي»، لكن كل هذا لم يثنِه عن ذمِّ أولئك الذين يعقدون «اتفاقات مهينة مع القراصنة»، وأولئك الذين يمدونهم بالأسلحة لانتزاع مزيد من التنازلات المهينة، وأنهى تايلر روايتَه بصرخةِ تحذير — جديرة بضمِّها إلى «الأوراق الفيدرالية» — مذكرًا الأمريكيِّين «بضرورة توحيد قوانا الفيدرالية لفرضِ احترامنا المستحَق على الأمم الأخرى» وأن يكون «هدفنا الأول هو الاتحاد فيما بيننا».
انضم كتَّاب آخرون إلى تايلر في عدمِ فهْم الأسباب التي تدعو الولايات المتحدة إلى الرضوخ لما تمليه عليها شمال أفريقيا، وهي القوية الآن بدستورها وبأسطولها البحري الذي يفترض أنها تقوم ببنائه، واعترضت سوزانا روسون، أشهرُ كاتبة مسرحية في الولايات المتحدة ومؤلِّفة مسرحية «عبيد في الجزائر، أو الصراع من أجل الحرية»، قائلة: «ماذا؟ نستسلم مذعنين؟ ونقدِّم أنفسنا عبيدًا لعصابةٍ من الأوغاد القراصنة الكفرة الأفظاظ؟» ووجَّه شاعرٌ مجهول سؤالًا مشابهًا، وهو أحدُ المشاركين في معركة بنكر هيل وأحد الأسرى في الجزائر، مقدِّمًا الإجابةَ أيضًا، فقال:
وكاد الإحباط يصيب تايلر وروسون والمؤلِّف المجهول. فقد استمر الرئيس جون آدامز — الذي كان لا يزال متشككًا في استعداد الشعب الأمريكي لمقاومة البربر — في دفعِ الإتاوة لدول شمال أفريقيا، بل عيَّن بها ممثلين دائمين للولايات المتحدة. وكما لو كان يريد أن يؤكد المكانةَ المتدنية للولايات المتحدة أصبح الأسيرُ المحرَّر ريتشارد أوبراين قنصلًا في الجزائر، وأُرسل جيمس كاثكارت إلى طرابلس. وعلى العكس من ذلك لم يُعط هذا المنصب في تونس لسجينٍ سابق، بل لموظف حكومي لم تطأ قدماه من قبلُ أرضَ الشرق الأوسط، ولم يتَّخذ قط موقفًا من القراصنة. إنه ويليام إيتون، ذلك الشابُّ الذي يتَّسم بالصراحة والشجاعة، لكنه مع ذلك أصبح من ألدِّ أعداء البربر.
تسلَّم القناصل مناصبَهم في مارس ١٧٩٩ عقب تدشين أمريكا أخيرًا ثلاثًا من البوارج الست التي وافق الكونجرس على بنائها. كانت تلك السفن تحمل في المجمل ١٢٤ مدفعًا، وتحميها كتائب من سلاح البحرية الذي أُنشئ حديثًا، وبذلك كانت السفن «يونيتد ستيتس» و«كونستيتيوشن» و«كونستيليشن» تمثِّل قوةً صغيرة لكنها فعَّالة. بدأت البحرية الشابة في إثبات ذاتها بجدارة من خلالِ ما يشبه حربًا غير معلنة مع فرنسا في البحر الكاريبي، حيث حاولت البوارج الحربية لنابليون أن تسدَّ الطريق على تجارة أمريكا مع بريطانيا. اكتسبت أمريكا الثقةَ بعد الانتصارات التي حقَّقتها قرب سواحلها، وأصبحت مهيَّأة لمواجهة تحدياتٍ أكبرَ وأكثر تعقيدًا في الخارج.
كان انشغال أمريكا بالشرق الأوسط حتى الآن يدور بصورةٍ أساسية حول تساؤلات عن القوة الاقتصادية والعسكرية. ولكن الشرق الأوسط لم يجذب كلَّ الأمريكيِّين لأسبابٍ تجارية أو استراتيجية؛ فقد انجذب آخرون بسبب رؤيتهم الرومانسية للمنطقة، ومن أجل رغبتهم في المغامرة والبحث عن حدودٍ جديدة. كان أول هؤلاء الأمريكيِّين هو جون ليديارد، الرحَّالة العالمي والمغامر الذي قدَّمنا له في التمهيد. فلمدة خمسة أشهر كاملة من عام ١٧٨٨ كتب ليديارد تقاريرَ مملوءةً بالحيوية عن تجاربه في مصر؛ قلبِ العالم العربي. كان وصفُه يملأ أذهان الكثيرين من الأمريكيِّين بصورٍ غريبة وواضحة عن الشرق الأوسط، ومنهم صديقُ ليديارد الحميم — ورئيسه فيما بعدُ — توماس جيفرسون. ففي السابق كان جيفرسون، مثل الغالبية العظمى من أبناء جِلدته، يرى في المنطقة معقلًا للقراصنة الكفرة البغيضين، بالإضافة إلى كونها معقلًا للعجائب. فقد كان الشرق الأوسط بالنسبة إلى جيفرسون ومعاصريه ليس مجرَّد معقلٍ للقوة فحسب، بل مسرح للخرافات والأساطير الجذابة للغاية.