متابعون للكارثة
كتب المؤلف الروائي فيليب روث: «التاريخ هو حيث يؤرَّخ كلُّ شيء غير متوقَّع في زمانه في صفحة باعتباره أمرًا حتميًّا.» وقد تنبأ عدد قليل من المراقبين في صيف ١٩١٤ بأن إعلان إمبراطورية النمسا والمجر للحرب على صربيا سيؤدي إلى إشعال سلسلة من ردود الفعل الحتمية التي سارعت فيها روسيا إلى الدفاع عن صربيا، وسارعت ألمانيا إلى نجدة النمسا. ولم يتنبأ أحدٌ بأن فرنسا ستسارع إلى التحالف مع روسيا، وأن تأخذ بريطانيا جانب فرنسا. وكذلك لم يتنبأ أحد بأن تفشل مجهودات تركيا في الابتعاد عن النزاعات والصراعات، وأن تُقاد إلى تحالف مع ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر — اللتين كانتا قوًى مركزية حينئذٍ — ضد التحالف الثلاثي لروسيا وبريطانيا وفرنسا. ولكن حدَثت الصدمة غير المتوقَّعة. فقد اشتعلت الحرب العالمية الأولى، وهو الطوفان الذي استمر أربع سنوات كاملة، وأدَّى إلى انهيار إمبراطوريات، وإلى حدوث تحوُّل جذري في الشرق الأوسط. وخلَص روث إلى أن «الخوف من المجهول هو ما يخفيه علم التاريخ، وهو ما يحوِّل الكارثة إلى ملحمة بطولية».
تابع الأمريكيون هذا الاتجاه الحتمي نحو الحرب باندهاش ممتزج بالتباعد. فهم أيضًا كانوا مندهشين بسبب سلسلة الأحداث غير المتوقَّعة التي أدَّت إلى تلك الكارثة، ولكن على عكس الأوروبيِّين والأتراك، لم يكن الأمريكيون يتحملون أيًّا من العواقب بسبب قِصَر نظرهم. وعملًا بمبدأ التجاهل الأمريكي المعتاد للنزاعات الأجنبية، أقسم الرئيس وودرو ويلسون على الحفاظ على الحياد التام بين المتنازعين، وعلى الاحتفاظ بعلاقات جيدة، إن لم تكن ودودة أو حارة، مع كل الأطراف.
وكاد الغضب حول المذابح الأرمينية أن يؤديَ إلى قطعِ العلاقات الأمريكية التركية، لكن ازدهار التجارة بينهما حال دون ذلك. وكان التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدولة العثمانية قد توسَّع كثيرًا منذ بداية القرن، وبحلول عام ١٩١٤ كان نصيب أمريكا وحدها نحو ٢٣٪ من الصادرات التركية. فبجانب التبغ والتين وعِرق السوس (الذي كانت أمريكا تستورد منه ٥٠٠٠٠ طنٍّ سنويًّا لاستخدامها في صناعة الحلوى واللبان)، كان الأمريكيون يسعون وراء منتَج جديد من منتجات الشرق الأوسط، هو البترول. ومع أن الولايات المتحدة ظلَّت المنتِج الأكبر للبترول، ومصدرة لمشتقاته إلى الشرق الأوسط، فإن الآبار المحلية لم تَعُد كافية لتلبية طلب الصناعة الأمريكية، ومالكي السيارات، والجيش. وقد بدأت شركة ستاندارد أويل للبترول من نيوجيرسي في التنقيب في بلاد الرافدين بدايةً من عام ١٩١٠، وذلك بناءً على أدلةٍ على وجود مخزون بترولي ضخم في الشرق الأوسط. وبعدها بثلاث سنوات، حصل فرع الشركة بنيويورك على حقوق التنقيب والحفر في سوريا وفلسطين وأجزاء من آسيا الصغرى. وكانت البنية الأساسية لمضخات البترول قد تأسَّست، وكان التنقيب قد بدأ عندما نشِبت الحرب العالمية.
وخوفًا من حدوثِ مذابحَ يقوم بها المسلمون الهائجون، ناشدت الإرساليات واشنطن أن تساعدها. وأوضح رئيس الكلية السورية البروتستانتية دانييل بليس الوضعَ لوزير الخارجية براين، مؤكدًا «ضرورةَ وأهمية حماية حياة الأمريكيِّين وممتلكاتهم»، وحثَّه على إرسال سفن حربية أمريكية إلى بيروت وسميرنا فورًا. وتوالت نداءات مماثلة من يافا والقدس، التي أرسلت تقريرًا باستيلاء قوات الأتراك على كمٍّ كبير من المؤن، و«بسيادة إرهاب حربي وعسكري». وردًّا على ذلك، أرسل وودرو ويلسون السفينتين الحربيتين نورث كارولينا وتينيسي بإمدادات ومؤن وأموال ضرورية للإرساليات. وزادت مخاوفُ أمريكا عندما انطلقت قذائف تركية من سميرنا على مقدمة السفينة «تينيسي». وفي ١٢ ديسمبر وافق ويلسون على إجراءٍ ينصح كلَّ الأمريكيِّين بمغادرة الشرق الأوسط «من أي مكان لا يشعرون فيه بالأمن أو السلامة».
وفي غضون ذلك زادت حدةُ الاختلافات على المستوى الدبلوماسي، عن طريق تبادُل متلاحق للكلمات اللاذعة بين الحكومتين. وحذَّرت واشنطن من أنه «إذا حدثت أيُّ مجازر منظَّمة، فإن الحكومة التركية ستفقد حسنَ سُمعتها ومصداقيتها لدى الولايات المتحدة»، وحذَّرت أيضًا من أن «فقدان حياة أي شخص أو ممتلكات من الإرساليات» سيفجر ردودَ فعل أمريكية عنيفة. وأقسم جمال باشا، الحاكم العسكري الشهير لسوريا بدوره أنه «مقابل كل مسلم يُقتل في الغارات التي تُشَنُّ على المدن سيُقتل ثلاثة من الرعايا الفرنسيِّين أو البريطانيِّين»، وأخلى مسئوليته تمامًا «في حالةِ ما إذا أدَّت الغارات إلى مذابحَ ضد المسيحيِّين». وردَّت الصحافة الأمريكية بهجومٍ غاضب على تركيا، وأصدرت نداءاتٍ بضرورة استيلاء الفرنسيِّين والبريطانيِّين على الشرق الأوسط. وفي رسالةٍ مشحونة بالغضب إلى جريدة «واشنطن ستار»، اتَّهم السفير أحمد رستم بك الولايات المتحدة بالنفاق بسبب إدانتها لتركيا وتغاضيها عن روسيا، «التي منحت العالم عشرين مذبحة، وليس واحدة فقط، ضد الجنس اليهودي البريء»، وأيضًا تغاضيها عن الفرنسيِّين «الذين يقومون بحرق الجزائريِّين المحاربين من أجل الاستقلال»، وأيضًا لتغاضيها عن البريطانيِّين «الذين يعاقبون المتمرِّدين الهنود بنسفهم ببنادقهم نسفًا». وذكَّر رستم الأمريكيِّين أيضًا بالمذابح «اليومية» ضد الزنوج في بلادهم، وبتعذيبهم للمتمردين الفلبينيِّين. وبناءً على ذلك أعلن أن رستم شخصية غير مرغوب فيها، فاضطُر إلى مغادرة البلاد.
ولكن لم يكن بإمكان الأمريكيِّين أن يظلوا منسلخين إلى الأبد. فقد انضمت الولايات المتحدة إلى الصراع في الشرق الأوسط، وفُرض عليها التحرك على عدة مستويات: دبلوماسيًّا وإنسانيًّا، وحتى عسكريًّا. وتصارعت الاعتبارات الدينية والاستراتيجية مرةً أخرى على الهيمنة على إقرار سياسات أمريكا تجاه المنطقة، في حين اختفت تمامًا أيُّ أوهام شعبية حول الشرق الأوسط، بعد أن غطَّت عليها المجاعات والمذابح.
أبشعُ الجرائم في تاريخ الإنسانية
ولم يكن هذا تهديدًا أجوفَ، حسب شهادات شهود أمريكيِّين. فشهد ليسلي ديفيز، القنصل الأمريكي في خربوط بشرق الأناضول، الذي تلقَّى تعليمه في جامعة كورنيل، في أوائل عام ١٩١٥ أنه يبدو أن «المسلمين في تعصُّبهم مصرون ليس فقط على القضاء على المسيحيِّين، بل أيضًا على إزالة أي أثر لدينهم و… حضارتهم». ووصف جيسي جاكسون، نظير ديفيز في حلب بسوريا، سلسلةً لا نهاية لها من قطارات السكك الحديدية المكدَّسة بالأرمن الذين أُجبروا على الرحيل، وقدَّر أنه لن يُقدَّر البقاء لأكثر من ١٥٪ منهم في هذه الرحلة. وتذكَّرت آنا هارلو بيرج، وهي شاهدةٌ أمريكية أخرى على هذه القطارات، تذكَّرت أنها شاهدت «رجالًا ونساء كبارًا في السن وأمهات شابات وأطفالهن الرُّضع … والصغار، كلهم مكوَّمون معًا مثل الخراف أو الخنازير؛ أي إنهم كانوا بشرًا يتلقون معاملةً أسوأ من الماشية». وفي أورميا، وصف المبشِّر ويليام شيد إعدامَ الحاكم جودت بك ٨٠٠ قروي، معظمهم من كبار السن والشابات، وقد قيل عن هذا الحاكم أنه كان يسعد بدقِّ حُدوة الجياد في أقدام ضحاياه. وكان مبشِّر من الجيل الثالث هو هنري ريجز قد قسَّم التعذيبَ أنواعًا: «الضرب والتجويع، وخلع الأسنان، والكي بالحديد الساخن، وغرز أدوات حادة في الوجه، وحرق الشَّعر والذقن»، وكلها أنواع من التعذيب كان الأرمن في جنوب شرق تركيا يتعرضون لها. وفي تقرير من القوقاز، كتب د. ريتشارد هيل أنه رأى «أطفالًا … يموتون بالمئات، وكانت أمهاتهم المقهورات يرمينهم في الحقول، بحيث لا يرين عذابهم وهم يموتون».
وعلى عكس أعمال وحشية سابقة ارتُكِبَت في بلاد العثمانيين، وظهرت تفاصيلها ببطء، كانت أخبار التطهير العرقي للأرمن تنتقل الآن وبسرعة بالتلغراف والهاتف إلى الغرب. وكان وصف عنف ووحشية الأتراك، وصور الضحايا تُنشر على نطاق واسع. وتحت ضغط هذا الكشف اضطُرت بريطانيا وفرنسا وروسيا إلى إصدار بيان مشترك في ٢٤ من مايو تتعهَّد فيه بتحميل القادة الأتراك ومَن يتعاون معهم «مسئولية شخصية عن هذه المجازر». ولكن لأن جيوشها كانت متورطة في حرب راكدة، ولأن مواطنيها كانوا قد طُردوا من الشرق الأوسط، لم يكن بإمكان الحلفاء التدخل عسكريًّا أو إنسانيًّا. وحتى نداء البابا بنيديكت الخامس عشر الذي أرسله مباشرة إلى السلطان محمد الخامس لم يكن له تأثير يُذكر، من حيث إثارة أي مشاعر عطف وشفقة أو رحمة تجاه الأرمن.
وكان الأمريكيون من بين الغربيِّين القلائل الذين استجابوا لتلك الكارثة، وذلك بسبب اهتمامهم بشئون الأرمن منذ زمن طويل. ففي خربوط، قام الزوجان المبشِّران تاك وهنري أكنسن بتقليد الدعاة الأمريكيِّين الأوائل إلى إلغاء الرِّق وتحرير العبيد، وذلك عن طريق تسيير قطار أنفاق لتهريب الأرمن إلى كردستان. وفي نفس الوقت في مدينة وان، كان د. كلارنس وإليزابيت أشر والممرضتان جريزل ماكلارين وميرتل أو شاين يعملون بلا هوادة لرعاية المئات من المصابين والمرضى الذين امتلأت بهم عياداتهم، وكذلك في العناية بالأرمن الهاربين إلى روسيا، وهم «متعبون وجوعى ويصرخون ويولولون كالأطفال الجوعى التائهين». وقد توفيت إليزابيت أشر متأثرةً بمرض التيفود، وكاد زوجها يموت بنفس المرض. لكنه تمكَّن من إرسال رسالة استغاثة إلى وزارة الخارجية يحذِّر فيها من أن «حياة الأمريكيِّين في خطر» ويناشد حكومة الولايات المتحدة سرعة التحرك.
الآن كانت مخاطر الانجراف في الحرب بصورة غير مباشرة — عن طريق الباب الخلفي للشرق الأوسط — تُوزَن مقابل المخاطر المعنوية لمراقبة عمليات الإبادة العرقية بكل سلبية. تعيَّن مقارنة قيمة المدارس والمستشفيات التبشيرية الأمريكية بقيمة حياة الناس الذين كانت تلك المؤسسات تهدُف إلى خدمتهم.
داعٍ إلى الأمركة
كان أحد الأمريكيِّين، وهو هنري مورجنتاو، مصرًّا على محاولة إيجاد تصالح بين تلك المصالح المتضاربة، وعلى حل الصراعات في سياسات بلاده تجاه الشرق الأوسط. ولكن مؤهلاته للقيام بذلك لم تكن مبشِّرة. إذ لم يكن يملك أيَّ خبرات دبلوماسية، ولم يكن قد عمل في المنطقة من قبل. وبالإضافة إلى ذلك، كان دِينه يضعه في موقف حرج، ليس فقط عند التعامل مع الحكام المسلمين، بل مع العديد من المسئولين في الولايات المتحدة أيضًا. ولكن مورجنتاو كان قد اعتاد ألا تقف أمامه أيُّ عقبة، وهو الألمانيُّ اليهوديُّ الذي هاجر إلى نيويورك مع والديه وإخوته الأحد عشر عام ١٨٧٠، عندما كان في الثانية عشرة من عمره، ولم يكن عندها يعرف كلمةً واحدة من اللغة الإنجليزية.
ولكن بعد ذلك بعامين دخل مورجنتاو مدرسةَ مدينة نيويورك، ثم تخرَّج بعدها في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا. وحقَّق نجاحًا مذهلًا في عمله محاميًا ورجل أعمال، وأصبح زعيمًا للجالية اليهودية الإصلاحية بنيويورك، ومتبرعًا سخيًّا للحزب الديمقراطي. وعندما وصل إلى مرحلة منتصف العمر، وأصبح له لحية بيضاء مشذَّبة ويرتدي نظارة فضية لا إطار لها، كان مورجنتاو قد أصبح له شكل أَبويٌّ، كما كان محبًّا للاقتباس من الإنجيل. وكان مغرمًا بصورة خاصة بالرسل، وبتركيزهم على العدل الاجتماعي والأعمال الخيرية، وكان معجبًا بمبادئ جمعية الأصدقاء القائمة على الوسطية والعدل والعمل الجاد. وادَّعى مورجنتاو أن «الضمير» وليس «الكرامة» هو الدافع والمحرِّك وراء تصرفاته، وأن «عقيدته الحقيقية هي خدمة الديمقراطية».
وفي تكرارٍ لتجارب العديد من المبعوثين الأمريكيِّين إلى الشرق الأوسط، وجد مورجنتاو في البداية عاصمةَ الدولة العثمانية «فاسدة ومتدهورة للغاية»، وكأنها مشهدٌ من مشاهد كتاب «ألف ليلة وليلة». فكتب يقول: «من المؤكَّد أن هذه ستكون تجربة مثيرة للغاية لي.» ولكنَّ عامًا واحدًا آخر بعدها كان كافيًا لإصابته بخيبة أمل وإحباط، بسبب الآليات السياسية للأتراك وإدمانهم على «الغش والخداع والإرهاب والاغتيال». ولكن كما تغيَّرت صورة تركيا في ذهنه، كذلك تغيَّرت فكرته عن المبشِّرين البروتستانت الأمريكيِّين العاملين في الشرق الأوسط. وتذكَّر قائلًا: «كانت لدي حتى الآن فكرة مبهمة عن أن المبشِّرين دعاة متحمسون لدِين طائفي. ولكني اكتشفت أنهم في الحقيقة دعاةُ حضارة، ويمثلون نماذج للروح الأمريكية في أفضل حالاتها.» وسرعان ما اندهش السفير عندما وجد نفسه يتصرف باعتباره ممثلًا للمبشِّرين لدى الباب العالي، ويساعدهم على نشر «بشارة الأمركة». وتغيَّرت صورة الأرمن في عينَي مورجنتاو، من «تجار سجَّاد» كما عرفهم في نيويورك إلى شعبٍ يشبه اليهود كثيرًا، متمسكًا بدينه بصورةٍ لا تتزعزع ومملوءًا بالفخر بثقافته.
وكان رد فعل أمريكا على برقية مورجنتاو مليئًا بالقلق، لكنه لم يتعدَّ ذلك. ومع أنه يقال إن ويلسون أخبر صديقًا مبشِّرًا له بأنه «يمكنك أن تتأكد من أننا نقوم بكلِّ ما في وسعنا دبلوماسيًّا لوقف هذه العمليات البشعة»، فإن سياسة أمريكا ظلَّت سياسةَ حياد وعدم تدخل. وعبَّر لانسنج، بشكلٍّ متزمت لا يمكن تصوره، عن تعاطفه مع قلق الأتراك في فترة الحرب وعن استيائهم من «عدم ولاء الأرمن المعلوم للحكومة العثمانية». وعلى أقصى حد، كانت الإدارة الأمريكية على استعداد لإبلاغ الباب العالي بأن أعمال العنف «أثارت مشاعر قوية لدى الشعب الأمريكي» وأن استمرارها سيؤدي إلى «تهديد للمشاعر الطيبة التي تكنها الولايات المتحدة لتركيا». وفشل ذلك التصريح في كشف مدى جدية وحرج الوضع، وهو ما كان مورجنتاو يحتاج إليه بشدة. وقد انتهى إلى أنه لا شيء «أقل من استخدام القوة هو ما يناسب هذا الوضع»، وصمَّم على التصرف اعتمادًا على نفسه.
أوصلت هذه الغلظة مورجنتاو إلى حالة من الغليان، فكان على شفا الانفجار. وكتب يقول: «من الصعب أن أتحكَّم في نفسي!» ومع ذلك، وباعتباره ممثلًا لدولة صديقة، وممنوعًا من التدخل في شئون دولة ذات سيادة، فإن القنوات المتاحة له للتعبير عن ذلك الغضب كانت قليلة ومحدودة للغاية. وفي أفضل الحالات كان بإمكانه أن يحاول رفع معاناة الأرمن أو التخفيف منها عن طريق طلب المساعدة من جيمس بارتون، سكرتير المجلس الأمريكي للبعثات الخارجية، وكذلك مساعدة رجل الخير كليفلاند دودج. اقترح مورجنتاو إنشاء صندوق ضخم لشراء الغذاء والملابس ومأوى مؤقت للناجين من المذابح. وتجاوب كلٌّ من دودج وبارتون بحماسة وجنَّدا معارفهما من ذوي النفوذ لتكوين لجنة حول أعمال العنف ضد الأرمن. وتأسَّس مجلس إدارة هذه اللجنة، بالتعاون مع الأسقف الكنسي ديفيد جرير والقادة اليهود أوسكار ستراوس وأيزاك (إسحاق) سيليجمان. وجرى ضم القائد الصهيوني الأمريكي الحاخام ستيفن فايتس جنبًا إلى جنب مع تشارلز كرين، وهو أحد دعاة ومناصري القومية العربية. وفي ردِّ فعل للعجز السياسي لبلادهم، اتَّحد الأمريكيون بصورة غير مسبوقة. وتمكَّنت هذه المؤسسة — التي ضُمَّت فيما بعد لمجلس النواب تحت اسم «لجنة إغاثة الشرق الأدنى» — من جمع ١٠٠ مليون دولار، وهو ما يوازي مليار دولار اليوم.
كانت تلك المشاهد الكابوسية كثيرًا ما تصبح أكبرَ من احتمال مشاهديها. فقد كان والتر جيديس مثلًا، وهو وكيل لاستيراد عِرق السوس من نيويورك، في زيارة عمل لحلب، فشاهد آلاف الأرمن الذين رُحِّلوا، وقد ماتوا من أثر التعرُّض للأوضاع غير الصحية وبسبب الجوع. وعاد إلى سميرنا فقدَّم تقريرًا عن هذه المشاهد، وأطلق النار على رأسه. وكذلك أصيب مبشِّر أمريكي اسمه إف إتش ليسلي، والذي كان يحل محلَّ القنصل الأمريكي في مدينة أورفا في الجنوب الشرقي لتركيا، بمرض عقلي واعتل جسده، بسب مجهوداته التي لم تؤتِ ثمارًا لإنقاذ الأطفال والنساء الأرمن. وقد قُبِض عليه وعُذِّب بتهمة مساعدة اللاجئين؛ فانتحر في السجن.
واستمرَّت المذابح دون هوادة. وحلَّ إبرام إلكوس، وهو محامٍ يهودي آخر من نيويورك، محلَّ مورجنتاو سفيرًا لأمريكا في تركيا، وأبلغ وزارة الخارجية الأمريكية أن الأتراك يتبعون «سياسةَ إبادة بلا رادع عن طريق أساليب التجويع والإرهاق والتعذيب والمعاملة العنيفة السيئة التي ليس لها مثيل حتى في التاريخ التركي». وفي المجمل قُتِل نحو مليون ونصف مليون أرميني عن طريق حملة الإبادة العرقية التي لم تعترف الحكومة التركية بها قط، ولم تعلن ندمَها عليها قط. ولكن إلكوس كان عليه معالجة كوارث أخرى، منها الهجمات التركية المتصاعدة ضد الجالية اليونانية في سميرنا وغرب الأناضول، بالإضافة إلى نقل وترحيل العرب من المدن الحدودية. وأكَّدت مذكرة لوزارة الخارجية الأمريكية أنه يبدو أن «السلطات التركية تتبع سياسة أتركة سوريا والبلدان العربية المجاورة»، وقدَّرت أن النية تتجه إلى ترحيل ونقل ٢٥٠٠٠٠ أسرة عربية وإحلال أسر تركية محلها.
رغم كل محاولات فصل الأمريكيِّين أنفسَهم عن هذا الصراع وتبعاته، فقد وجدوا أنهم وسط واحدة من أسوأ المجازر في تاريخ الشرق الأوسط، شاهدين على تصرُّفات غير إنسانية، كانت رهيبة ومقزِّزة حتى بمعايير الحرب العالمية. وقد خفَّف من حجم تلك الأفعال الشنيعة المجهودات الحثيثة التي قام بها عمال الإغاثة والمبشِّرون. ولكن قدرة الأمريكيِّين على تخفيف المعاناة في الشرق الأوسط ظلَّت محدودة باستمرار طالما نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الحرب وعن التدخُّل وتمسَّكت بسياسة الحياد.