أول عملية سلام في الشرق الأوسط
يمكن أن نعزوَ كثيرًا من الحروب والثورات التي زلزلت الشرق الأوسط المعاصر بالإضافة إلى أحلام وإحباطات سكَّانه إلى مؤتمر باريس للسلام لعام ١٩١٩، وإلى أكثر مشاركيه إلهامًا ثم إحباطًا.
أثَّرت هذه الأفكار على مفهوم ويلسون لنظامِ ما بعد الحرب، خاصة أنه كان ينطبق على الشرق الأوسط. كان يتعاطف مع شعوب المنطقة التي كانت قد عانت بشدة خلال القتال، ويدرك احتياجها إلى الكرامة والاستقلال. ولمساعدتها على تحقيق هذه الأهداف ولضمان السلام العالمي، كانت رؤية ويلسون تتَّجه إلى تكوين عصبة للأمم، وهو تجمُّع دولي تسوده القيم الأنجلو ساكسونية. وحسب هذه الرؤية يظهر الشرق الأوسط من بين رماد المجاعات والإبادة العرقية مجموعةً من الأمم الحرة، عينُها على الغرب، وتسير على نموذج الولايات المتحدة بدعم من رئيسها الثامن والعشرين.
ولكن ويلسون جاء إلى باريس ومعه أكثر من القيم والمُثل: فقد جاء معه بأفكاره المسبقة. كان يحتقر كلَّ أشكال الاستعمار الأوروبي، ومنها الاستعمار البريطاني، وأظهر نفورًا خاصًّا للأتراك. ومنذ عام ١٨٨٩ كان يصف الإمبراطورية العثمانية بأنها «غير طبيعية» و«مثال بالٍ على الأشكال غير المتقنة للسياسة التي تجاوزتها أوروبا». وكان الأتراك من وجهة نظره «شعبًا سهلَ الانقياد» يجب «إخلاء» البلقان وغرب تراقيا منهم. وأكَّد ويلسون للكولونيل هاوس في عام ١٩١٢ أنه إذا دخل العالم الحرب «فلن يكون هناك وجودٌ لتركيا».
كان تشوُّش ويلسون بشأن مستقبل الشرق الأوسط قد أصبح واضحًا لوالتر ليبمان، المحرِّر السابق بجريدة «نيو ريبوبليك» الذي كان يشغل منصبَ مساعد وزير الدفاع قبل انعقاد مؤتمر السلام بباريس بستة أشهر. ففي مذكرة داخلية في مايو ١٩١٨، حذَّر ليبمان من أن أمريكا يمكنها أن «تفوز في الحرب وتخسر السلام»، إلا إذا وجدت «العبقرية البحتة الرائعة» الضرورية للتوفيق بين خطط ويلسون المتناقضة بشأن الشرق الأوسط. وانصياعًا لتحذيره، قامت الحكومة بتأسيس قوة مهام سرية، مقرُّها الرئيسي في مكتبة نيويورك العامة، ولها اسم سري هو «لجنة التحقيق». وأُدرِج اسم أكثر من مائة عالِم في هذه المجموعة، قادة في مجالات متنوِّعة كالهندسة وعلم المصريات وثقافات السكان الأصليِّين لأمريكا. ولكن لا أحد منهم كان متخصصًا في الشرق الأوسط. بل كان «خبراء» لجنة التحقيق يراجعون الموسوعات وكتب الرحلات ومنشورات المبشِّرين — أي كل شيء بخلاف النصوص العربية والتركية — لصياغة خططهم للمنطقة. واتَّبع آخرون خططًا شخصية. فتقدَّم سكرتير المجلس الأمريكي جيمس بارتون مثلًا باقتراح يقضي بأن تُوضَع الإمبراطورية العثمانية بأسرها تحت رعاية أمريكا، تحت القيادة الروحية والأخلاقية للمدارس والكليات التبشيرية.
جُمعت التوصيات الخاصة بالشرق الأوسط من «لجنة التحقيق» في تقرير باسم «الحدود العملية العادلة للإمبراطورية التركية» في نوفمبر ١٩١٨، وهو شهر توقيع وقف إطلاق النار. ولكن ويلسون اختار ألا يُطلِع الحلفاء عليها. وكانت النتيجة هي تكثيف حُجُب عدم الثقة حول سياسات الرئيس. بالنسبة إلى بريطانيا وفرنسا كانت هذه التوصيات تبدو أقلَّ اهتمامًا بمعاقبة الهجوم التركي عن اهتمامها بمنع المنتصرين من الحصول على غنائم الحرب التي استحقوها عن جدارة. كما كان الأمر نفسه بالنسبة إلى لانسينج أيضًا، الذي كان قد اختلف مع الرئيس كثيرًا، وأيضًا بالنسبة إلى الكولونيل هاوس، الذي ابتعد عنه كثيرًا، كان لديهما في أفضل الأحوال فهمٌ مبهم لخطة ويلسون من أجل تطبيق مبدأ حق تقرير المصير. لذلك قال وزير الخارجية متأملًا: «ألن يعتمد مسلمو سوريا وفلسطين، وربما أيضًا مسلمو المغرب وطرابلس عليها؟ فكيف يمكن إيجاد توافق بينها وبين الصهيونية، التي التزم بها الرئيس عمليًّا؟»
غنيمة الحرب الكبرى
وصل ويلسون إلى باريس في ١٢ ديسمبر ١٩١٨، وكان بذلك أولَ رئيس يخرج عن نطاق النصف الغربي للكرة الأرضية خلال فترة رئاسته، وقد حظي باستقبال حافل. ولكن الحشود التي خرجت لاستقباله كانت مجرد تغطية على المخاطر العديدة التي تنتظره خلال المحادثات. ورغم أن فرنسا وبريطانيا كانتا قد ألزمتا نفسيهما علانيةً «بالتحرير التام والأكيد للشعوب التي طالما اضطهدها الأتراك، وبتأسيس حكومات وطنية تستقي سلطتها من الاختيار الحر للشعوب المحلية» فقد كانت القوتان لا تزالان تعقدان خططًا سرية لاستعمار الشرق الأوسط. كان رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج متلهفًا على مد إمبراطورية بلاده من مصر وحتى الخليج العربي، وعلى استخدام الولايات المتحدة كحصن ضد التعديات الفرنسية والروسية. أما نظيره الفرنسي، جورج كليمنصو الماكر الانتقامي الداهية، فقد كان مصممًا على احتفاظ فرنسا بسوريا، وعلى وضع فلسطين تحت حكم نظام دولي. وفضَّل كلا الزعيمين تقسيمَ الأناضول، مع الاحتفاظ بقطاعاتٍ للإيطاليِّين واليونانيِّين، وعدم منح تركيا أيَّ دور. وسأل جان جوسران، الدبلوماسي الفرنسي الكبير، لانسينج: «أليس من الأفضل أن يحدِّد الحلفاء مصيرَ الإمبراطورية العثمانية السابقة دون إعاقة المحادثات معها؟» كما اعترض البريطانيون أيضًا على أي مناقشة حول فارس، البلد الذي كانت الولايات المتحدة تعتبره محايدًا، والذي قرَّرت بريطانيا أن تضمه إلى مناطق مصالحها الحصرية، أو إلى الحماية البريطانية في مصر. أما بالنسبة إلى معظم المشاركين في المؤتمر، فكان الشرق الأوسط — حسب كلمات الأستاذ الجامعي ويسترمان — «الغنيمة الكبرى للحرب».
وجاء ويلسون إلى المؤتمر مصممًا على معارضة أي استيلاء جماعي على الشرق الأوسط. وقالت إحدى توصياته: «تنوي الولايات المتحدة أن تتجاهل تمامًا هذه الاتفاقات الأوروبية، إلا إذا حدَث بمحض المصادفة أن تضمَّنت شروطًا معينة نعتبرها نحن عادلة وملائمة». كما كان الرئيس مصممًا كذلك على الحفاظ على مصالح أمريكا الاقتصادية والثقافية في المنطقة، ولكن دون تحمُّل مسئوليات إضافية سياسية وعسكرية.
وكشفت أمريكا عن يدٍ ضعيفة نسبيًّا في مسائل الشرق الأوسط في ٣٠ يناير ١٩١٩، عندما تناول المؤتمر أخيرًا مسألةَ الإمبراطورية العثمانية. رفض الحلفاء الأوروبيون تطبيقَ مفهوم ويلسون لمبدأ حق تقرير المصير على المنطقة، وأن يتخلوا عن ادعاءاتهم في الحق في قطاعاتٍ عريضة من المناطق. واتَّهم ويلسون تلك القوى بأنها تسعى إلى ضم الشرق الأوسط إليها، ومن ثَم تقويض رؤيته لعصبة الأمم. وقال ويليام ييل، الذي كان يشغَل وقتئذٍ منصبَ أحد مستشاري ويلسون: «بالرغم من … الدعاية بشأن تحرير الأعراق المضطهَدة، فإن البريطانيِّين والفرنسيِّين … يعملون فقط من أجل مصالحهم في الشرق الأدنى». وأكَّد وزير المستعمرات الفرنسية السابق جاستون دومرج هذا الاتهام، صارخًا: «العقبة الوحيدة أمامنا هي أمريكا!»
كُسِرت تلك العقبة بأسلوب مناسب عندما ابتكر جان سموتس، وهو رجل دولة جنوب أفريقي نحيل (وهو أيضًا مبتكِر كلمتي «شمولي» و«تمييز عنصري» باللغة الإنجليزية) مفهومَ «الانتداب». وحسب هذا المفهوم، تقوم عصبةُ الأمم بمنح حق السيطرة على الأقاليم العدوة السابقة لعدة قوًى، بهدف إعداد شعوبها للحكم الذاتي. وترابطت تلك الفكرة بتوصيات «لجنة التحقيق» من أجل مستقبل الشرق الأوسط، ولاقت ترحيبًا من المسئولين الأوروبيِّين المتلهفين على الحصول على مستعمراتٍ تحت ستار مستنير أُقرَّ دوليًّا.
بعد ذلك صوَّت مجلسٌ تمثيلي مكوَّن من عشر دول من الحلفاء، لوضع أرمينيا وسوريا والعراق وفلسطين والجزيرة العربية تحت الانتداب. ولكن لم يُفكَّر تفكيرًا كافيًا في كيفية تقسيم ذلك الانتداب، أو ما إذا كانت شعوبها راغبة فيه. فالبريطانيون مثلًا، كانوا لا يزالون متلهفين على إبعاد الفرنسيِّين عن قناة السويس، وإخراج نظام الحكم السوفييتي الجديد تمامًا من الشرق الأوسط، كما كانوا يريدون أن تصبح الولايات المتحدة هي سلطة الانتداب في سوريا وأرمينيا. فقال لورد كيرزون، وزير الخارجية البريطاني الجديد: «علينا أن نلعب لعبةَ حق تقرير المصير بأي ثمن؛ لأننا نعرف في قرارة أنفسنا أننا سنستفيد من ذلك أكثرَ من أي طرف آخر». وشاركه في سخريته اللاذعة اللواء تاسكر بليس، الذي كان لواءً في الجيش ولغويًّا ودبلوماسيًّا ماهرًا يشغَل منصب المستشار العسكري الرئيسي للرئيس ويلسون، فقال: «أينما كان الانتداب يغطي آبار بترول ومناجم ذهب فإن بريطانيا العظمى ستحصُل عليه. وسنطلب من الولايات المتحدة أن تقوم بالانتداب على كل أكوام الحجارة وتلال الرمال المتبقية».
وفي نفس الوقت الذي كان ويلسون فيه يتصارع يتصدَّى لمطالب الحلفاء، كان يتعرَّض من ناحية أخرى لمحاولات مضنية من قِبل مجموعات المصالح والضغط الدينية والعرقية في الولايات المتحدة. وكان أفضل تلك المجموعات تنظيمًا هم الصهاينة، الذين احتفظوا بسيل متدفِّق من المعلومات لمساندةِ ما أسموه ﺑ «الكومنولث اليهودي» في فلسطين — وهو ما كان أقل من دولة، ولكن أكثر من مجرد وطن قومي. وكانت وجهة نظر اليهود هي أن هذا الكومنولث سينمو من خلال هجرة وتدفُّق ٨٠ ألف مهاجر يهودي سنويًّا؛ لذلك سرعان ما سيعتبر تمثيلًا لأغلبية سكان فلسطين، مما يجعله محققًا وملبيًا لمفهوم ويلسون لحق تقرير المصير.
نجح هذا التبرير في إقناع العديد من المشاركين في المؤتمر، ومنهم على غير المتوقَّع فيصل ابن الشريف حسين وقائد الثورة العربية. وعندما زار فيلكس فرانكفورتر الأميرَ في بيته خارج باريس، أكَّد له أن اليهود ليس لديهم رغبة في حرمان العرب من حقوقهم الوطنية، وأن الحركتين يمكنهما التعايش معًا في سلام، بما يحقِّق صالحهما معًا. ويتذكر فرانكفورتر ضئيل الحجم قائلًا: «ها أنا ذا الضئيلُ الحجم أقابل الأمير»، ملاحظًا كيف أن نفس هذا الأمير قدَّم له القهوة بكل لطف. وقد أثَّر كرم الضيافة العربي هذا في فرانكفورتر، وأضاف إلى سعادته أن فيصل ظلَّ يمدح اليهود باعتبارهم «أولاد عمومة في العِرق» وتمنَّى لهم أن يجدوا «ترحيبًا حارًّا بعودتهم» كما عبَّر عن «عميق تعاطفه» مع الطموحات الصهيونية، التي وصفها بأنها «معقولة ومعتدِلة» و«قومية وليست استعمارية». واختتم الأمير بأن سوريا رحْبة بما يكفي لاستيعاب الصهيونية والقومية العربية. وقال: «أعتقد بالفعل أن أيًّا منهما لا يمكن أن يحقِّق نجاحًا دون الآخر».
أنكر فيصل لاحقًا إدلاءه بهذه الإفادات، لكنَّ إسهاماته في القضية الصهيونية كانت باتَّةً. إلا أن فيصل نفسه هذا كان مبجَّلًا لدى الأمريكيين المساندين للموقف العربي في باريس. ومن خلال إنصاته إلى هذا «المستبصِر الجليل نصير المسلمين» الذي كانت سلوكياته تدُل «على هدوء وسكون الصحراء»، تحوَّل لانسينج الصامت عادةً إلى شخص حالمٍ حُلمًا مألوفًا لكل المسافرين الأمريكيِّين إلى الشرق الأوسط. فقال: «يبدو صوته وكأنه يبثُّ عطر اللبان ويوحي بوجود الأرائك الزاهية الألوان، والعمامات الخضراء وبريق الذهب والمجوهرات». زعم فيصل أن ١٠٠ ألف عربي قد اشتركوا في ثورته — ورأى ييل أن الأقرب إلى الواقع أنهم كانوا ٢٠٠٠ — وتنبأ بأن العرب سيشيِّدون يومًا ما تماثيلَ احتفاءً وتكريمًا للولايات المتحدة. ولكن هذه المبالغات زادت من جاذبية الأمير الهاشمي بالنسبة إلى الأمريكيِّين. فتحدَّثت السيدة الأولى إديث ويلسون عن «الشبه القوي بينه … وصور المسيح»، وحتى ويليام ويسترمان، الرجل الشمالي والأكاديمي الرصين في «لجنة التحقيق» كان متأثِّرًا به بشدَّة. إذ قال: «فيصل رجل عظيم. لقد اعتنقت دينًا جديدًا».
وقدَّم لانسينج وويسترمان توازنًا مؤثرًا للتأثير الصهيوني في باريس، ولكن أصواتهما لم تكن الوحيدة. فقد أُغرقت البعثة الأمريكية بخطاباتٍ تطالب بعدم تكوين كومنولث يهودي، ولم تأتِ هذه الخطابات من العرب الأمريكيِّين فقط، ولكن أيضًا من اليهود الأمريكيِّين ومن الأرثوذكس والإصلاحيِّين على السواء. وقدَّم هنري مورجنتاو مذكرةً موقَّعة من ٢٩٩ من «أبرز اليهود الأمريكيِّين» الذين ندَّدوا بالصهيونية في محاولة لتفنيد ولائهم للولايات المتحدة. ولكن أكبر الضربات الموجَّهة للحملة الصهيونية جاءت من قِطاع من الجمهور الأمريكي كان في السابق مغرمًا بفكرة الدولة اليهودية. فقد حذَّر أوتيس جليزبروك، قس القدس والقنصل الذي عبَّر عن تعاطفه مع اليهود في بداية الحرب، والذي أصبحت كلماتُه الآن تردِّد صدى سلفه المعارض للصهيونية سيلا ميريل، حذَّر من أن «معارضة المسلمين والمسيحيِّين لمنح مزايا استثنائية لليهود في فلسطين أمرٌ حقيقي ومكثف وعالمي». وتنبأ جليزبروك بأن اليهود الروس سيأتون بالبلشفية إلى فلسطين، وأن اليهود المتحدِّثين باللغة اليديشية موالون للألمان. «ستلتهب القدس سريعًا — أما نابلس والخليل فهي نقاط الخطر الحقيقية».
كان جليزبروك ينتمي إلى جيل المبشِّرين التابعين لهنري جيسوب ودانييل بليس، الذين غامروا إلى الشرق الأوسط من أجل تحويل العرب عن ديانتهم، ولكنهم في النهاية تحولوا إلى أنصار للقومية العربية. وبانفصال أهداف القومية العربية عن أهداف الصهيونية بل وتضاربهما، أصبح الصدع بين المبشِّرين والصهاينة غيرَ قابل للرأب. وحدَثت أوضحُ مظاهر ذلك الانشقاق في ١٣ فبراير، عندما مَثُل هوارد بليس أمام مجلس العشرة.
ولكن لم يكن لدى ويلسون الوقت الكافي للتفكير في اقتراح بليس. ففي اليوم التالي، ومن خلال مسوَّدة معاهدة في يده لعصبة الأمم، غادر داعية السلام المستقبلي متجهًا إلى الولايات المتحدة. وكانت تنتظره هناك كتلة قوية من النواب المعارضين لعضوية أمريكا في تلك العصبة. كان هنري كابوت لودج والعديد من النواب الذين كانوا فيما سبق قد أصروا على تدخُّل الولايات المتحدة في الحرب ضد تركيا يريدون الآن أن تتراجع الولايات المتحدة عن أي تدخل في حل ذلك الصراع. فقد كان لودج وزملاؤه يخشون أن تقوم عصبة الأمم بتقليص سيادة أمريكا ورهن أمنِها لكتل مكوَّنة من مقاطعات صغيرة غير ديمقراطية.
كان معارضو ويلسون مهتمين خِصِّيصى بشئون الشرق الأوسط. فقد أدَّت سنوات من التقارير الصحفية عن المذابح الأرمينية وغيرها من أعمال العنف إلى تقوية كراهية الشعب الأمريكي التقليدية لتركيا والدين الإسلامي. فقال هنري مورجنتاو غاضبًا: «طالما أن القرآن يسمح بالقتل في إطار الدين الإسلامي، فيجب ألا يسمح للمسلمين أن يحكموا المسيحيِّين أو اليهود». كما زارت إديث وارتون، الروائية الأرستقراطية المحترمة، الشرق الأوسط خلال الحرب ونشرت تقاريرَ مريرة للغاية. قالت فيها «لا شيء يُحتَمل في الإسلام سوى ما تركه القصور الإنساني». واتهمت الشرق الأوسط برُمَّته «من فارس إلى المغرب» بأنه مبني على «الرِّق وتعدُّد الزوجات والتمييز ضد النساء». وأدَّت أجواء الكراهية تلك إلى زيادة اقتناع مجلس النواب بعدم الموافقة على أجزاء من اتفاقاتِ ما قبل الحرب المتعلقة بالشرق الأوسط، أو قبول أي مسئوليات انتداب هناك. واعترض ويلسون قائلًا: «لا يمكنني أن أتخيَّل كيف يمكن لهؤلاء السادة أن يعيشوا في أجواء هذا العالم. فأمريكا هي الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تقوم بهذا الانتداب، وأن تجعل بقيةَ العالم تؤمن أن ذلك يتم بنيةٍ صافية، وأننا لا ننوي البقاء هناك».
ولتجنُّب هذا «الكسر» كما أسماه، وافق ويلسون على اقتراح بليس بإرسال بعثة تقصي حقائق دولية إلى سوريا للتأكد من رغبات سكانها. ووافقت بريطانيا وفرنسا على ذلك، على شرط ألا يقوم المحقِّقون بتغطية سوريا فقط، بل أيضًا كل المناطق المقترحة للانتداب. وقبِل ويلسون بهذا الشرط، ولكن بعدها رفض كليمنصو المشاركة في هذا المشروع ما دام الجنود البريطانيون يحتلون سوريا، وقال لويد جورج إنه إذا قاطعت فرنسا البعثة، فستقوم بريطانيا بالمثل. واستمرت تلك المكائد بباريس، بحيث تحوَّل ما بدأ مجهوداتٍ متعدِّدةَ الأطراف إلى مجرد خطة أمريكية حصرية.
ولتنفيذ تلك الخطة قام ويلسون بتعيين شخصين، ادَّعى أنهما «لا يعرفان شيئًا» عن الشرق الأوسط، وعلى ذلك يمكنهما تقديمُ رأي محايد موضوعي. ولم يكن من الممكن أن تكون هذه التأكيدات بريئة أو مخلصة. وكان المبعوث الأول، د. هنري تشرشل كينج، رغم أنه رئيس كلية أوبرلين، قد تدرَّب ليكون قسًّا أبرشانيًّا ومن مسئولي جمعية الشبان المسيحيين، وكان قد جاب الأرض المقدسة كثيرًا. أما الثاني فكان مؤيدًا للقومية العربية ومعاديًا للسامية، وهو تشارلز كرين، الذي كان «رجلًا ذا خبرة عريضة ومواطنًا عالميًّا» حسب وصف ويلسون. كما انضم إلى موظفي البعثة ويليام ييل، الذي كانت تحفُّظاته بشأن الصهيونية والخطط الأوروبية معروفة جيدًا، بالإضافة إلى ألبرت ليبير، الأستاذ بكلية روبرت.
كان تعيين بعثة بهذا القدْر من الميل ضد أهداف الأوروبيِّين والصهيونية في الشرق الأوسط يُعدُّ تحركًا غريبًا من ويلسون، الذي كان — رغم العديد من الهواجس والشكوك — قد ساند فيما مضى نظامَ الانتداب وتصريح بلفور ووعده. ولكنَّ المبشِّرين كانوا قد انقلبوا الآن على الصهيونية وأصبحوا يعارضون الاستعمار البريطاني، وكان تأثيرهم على ويلسون كبيرًا، كما أثبتت الأحداث مرةً أخرى. فاعترف قائلًا: «حكوماتنا [المتحالفة] أخذت على عاتقها التزامًا نحو اليهود بتأسيس شيء يشبه دولةً إسرائيلية في فلسطين، يعارضها العرب جدًّا». وهذه العقلية نفسها التي يقودها الإيمان والتي كانت قد منعت ويلسون من شن حرب على تركيا قادته الآن إلى اتخاذ جانب بليس في السعي نحو تأسيس سوريا عربية موحَّدة، تضم فلسطين، ويفضَّل أن تكون تحت الانتداب الأمريكي.
خسوف البعثة الأمريكية
ولكنَّ تفاؤل فيصل كان على غير أساس. فقد أخَّر الخلاف حول الإرشادات رحيلَ البعثة مرة بعد مرة، كما أدَّت نزاعات الحلفاء حول مصير غرب الأناضول إلى نفس النتيجة. وفي محاولةٍ لدعم ادعائهم في الحق في المنطقة، بدأ الإيطاليون في شهر أبريل في إنزال قواتهم قرب أنطاليا، على ساحل البحر المتوسط، مما شجَّع اليونانيِّين على حذو حذوهم. وقام ويلسون — من خلال إحياء تقاليد فيلهيلينية قديمة وإثارة موضوع حقوق اليونانيِّين المقيمين في سميرنا في تقرير المصير — بالانضمام إلى لويد وكليمنصو في دعم مطالب اليونان من أجل الاستيلاء على هذه المدينة. وقام أسطول للحلفاء تضمَّن السفينة «أريزونا» وأربع مدمِّرات للبحرية بمصاحبة قوات الغزو اليونانية التي سرعان ما احتلت سميرنا، لكنها انقلبت بعد ذلك على الأقلية التركية فيها. ويتذكَّر جون ماكدونالد، قبطان السفينة «أريزونا» أن «كبار السن غير المسلَّحين وغيرهم من المدنيِّين الأتراك قُتلوا طعنًا بالسكاكين والخناجر والحِراب. ثم كانوا يُجرَّدون من ممتلكاتهم وملابسهم ويُلقون في البحر». وكان يُعرَض الجنود الأتراك — بعد استسلامهم بعد قتال عنيف — أمامَ الجمهور، ثم يُقتلون. وكان الأمريكيون المقيمون في المدينة يُجبَرون على اتخاذ مأوًى من المدمِّرات، في حين يقوم مشاة البحرية مرة أخرى بالهرولة إلى الشاطئ لتأمين المؤسسات الأمريكية.
وكانت الحرب التي بدأت بمحاولاتٍ من قِبل أفراد أمريكيِّين لمنع ذبح المسيحيِّين على يد المسلمين قد انتهت بمذبحةٍ للمسلمين على يد المسيحيِّين، وهي أعمال عنف سهَّلتها الولايات المتحدة ولو بغير قصد. وكان أعضاء البعثة الأمريكية مشمئزين بالفعل من هذه الجريمة، ولكنَّ رئيسَي الوزارة الفرنسي والبريطاني رحَّبا بفرصة تحويل انتباه الأمريكيِّين بعيدًا عن مسألة البلاد العربية وتركيزها على تركيا. واستغل كليمنصو ولويد هذه اللحظة فأعادا فتح موضوع الانتداب الأمريكي على أرمينيا وأجزاء من آسيا الصغرى. وكان ويلسون لا يزال يتمنَّى «من كل قلبه أن يوافق الشعب على تولينا الانتداب على أرمينيا»، لكنه طلب إرجاءَ المناقشة الأخيرة لهذا الموضوع حتى ٢٧ يونيو، مانحًا مجلس الشيوخ وقتًا كافيًا لاتخاذ قرار.
وخلال الأربعين يومًا التالية، زار أعضاء البعثة نحو ستين مدينة وقرية في سوريا وفلسطين. ولم يتَّبعوا أيَّ أسلوب رسمي لتقصِّي الرأي العام — أي لا استقصاء ولا أي صيغة أخرى لجمع الإحصائيات. وكان كينج عالمًا ضئيل الحجم له سَحنة عسكرية واضحة، وقد حزم عدة كتب «تتماشى مع الأجواء»، منها «رباعيات الخيام»، و«التعويذة»، وهي ملحمة السير والتر سكوت عن الحروب الصليبية، و«ألف ليلة وليلة». هذه وغيرها من الانطباعات المأخوذة من مئات اللقاءات مع السكان كانت بمثابة القاعدة والأساس للخلاصات والنتائج التي أثبتَت أنها واضحة للغاية.
واكتشف كرين وكينج أن «شعوب المنطقة قد أعلنت بالإجماع تأييدَها سوريا متَّحدة، واستقلالها التام». وباستثناء المَوَارِنة وولائهم لفرنسا الممتد قرونًا طويلة فإن كل الطوائف التي استُقصي رأيها، والتي تضمَّنت السُّنة والدروز والمسيحيِّين الأرثوذكس والبروتستانت واليهود، فضَّلت العيش تحت انتداب بريطاني أو أمريكي، وعبَّرت عن نفورها الذي لا يضاهيه نفور من الفرنسيين. وفضَّل فيصل إدارةً أمريكية للجزيرة العربية. وباعتباره «محبًّا كبيرًا للمسيحيِّين» فقد عرض السماح بافتتاح مدرسة للنساء على نمط مدارس الإرساليات في مكة، وترك بذلك انطباعًا لدى أعضاء البعثة بأنه «سياسي مرن لين طيِّع»، إذا «مُنح قدرًا مناسبًا من التعاطف» فإنه «لن يتخذ أيَّ خطوة دون موافقة أنجلو سكسونية».
وسواء تحت رعاية بريطانيا أو أمريكا، فإن العرب كانوا يتوقَّعون الحصول على حريتهم بنفس القدْر من الجِدية التي وُعِدوا بها من قِبل الحلفاء ومن خلال نقاط ويلسون الأربع عشرة. ولم يكن بإمكان العالَم تجاهُل هذه الرغبة، أو تجاهُل حقيقة وواقع أن سوريا وفلسطين، «مهد الديانات السماوية الثلاث التي تتضمن أماكن مقدسة لها جميعًا» كانت «محطَّ اهتمام العالم المتحضِّر أجمع». وحذَّر أعضاء البعثة من أن أي حل لا يعترف بهذه الحقيقة وهذا الواقع، أو يخاطب احتياجات مجموعة عرقية واحدة فقط، سيواجه بالفشل لا محالة. وأن سياسة «البرنامج الصهيوني المتطرف لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية بوضوح» هي من أكثر السياسات فشلًا، وقد تؤدي إلى أعمال عنف واسعة النطاق.
كان اهتمام البعثة يرتكز على الصهيونية، إن لم يكن هو الموضوع المهيمن. وقد ادعى واضعو التقرير أنهم بدءوا دراستهم «بحسٍّ عميق بالتعاطف نحو قضية اليهود وأذهانهم تميل لصالحها»، لكنهم «أُجبِروا» على معارضتها بفعلِ ما خلَصوا إليه من نتائج. «فالحقوق الدينية والمدنية» للعرب الذين كانوا يمثلون غالبية سكان فلسطين لم يكن بالإمكان — كما نص وعد أو تصريح بلفور — حمايتها من خلال حركة صهيونية تخطِّط لطرد هؤلاء السكان من خلال الهجرة وشراء الأراضي. كما لم يكن بإمكان «حق» اليهود في فلسطين — بناءً على احتلالٍ وقع منذ ألفي عام — «أن يؤخذ في الاعتبار بجِدية». بالإضافة إلى ذلك، عبَّر أعضاء اللجنة عن تشكُّكهم فيما إذا كان بإمكان اليهود أن يكونوا أهلًا للثقة حراسًا ورعاةً للأرض المقدَّسة ومواقعها العديدة المقدسة. «فببساطة من المستحيل بالنسبة إلى المسيحيِّين والمسلمين أن يشعروا بالرضا عندما تكون هذه المواقع في أيدٍ يهودية». وقد وجد أعضاء اللجنة أن رفض العرب للصهيونية كان «عميقًا ومكثفًا». وقد اتفقوا مع العديد من الضباط البريطانيِّين الذين أجروا معهم لقاءات وأحاديثَ على أن «قوةً لا يقل قوامها عن ٥٠ ألف جندي ستكون مطلوبة وضرورية لمجرد المبادرة» بتأسيس وطن قومي لليهود.
ورغم قسوتها، لم يكن ثمة إجماعٌ على النتائج التي توصَّلت إليها اللجنة. فقال ويليام ييل في انقلابٍ مفاجئ لوجهات النظر: «في حين يمكن إلحاقُ الظلم بالأفراد الذين يسكنون فلسطين، فإن الظلم لا يمكن أن يلحق بأمةٍ بأكملها. ولكن رغبات وأمنيات ١٤٠٠٠٠٠٠ يهودي لهم تاريخ قومي وتقاليد قومية ومشاعر قومية قوية يجب أن تؤخذ في الاعتبار». وبسبب اندهاشه وصدمته من عدم اتباع اللجنةِ أيَّ منهج علمي، وبسبب الانطباع الجيد الذي خلَّفته لديه المستعمرات التي زارها، أصرَّ ييل الذي كان في السابق ينظر إلى الصهيونية باعتبارها مصدرَ حمَّامات دم لا نهاية لها، على أن يحفظ الحلفاء وعودهم للصهيونية وينفذوها، «مع الضرب بيدٍ قوية على أي مظاهرات ضد اليهود». وامتدح العميل الخاص الإسهامات التي يمكن «للطاقة اليهودية والعبقرية اليهودية والمالية اليهودية» أن تضيفها إلى الشرق الأوسط، ومزايا تأسيس «نقطة حدودية للثقافة الغربية» في المنطقة. وآمن ييل أنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة خصِّيصَى فإن تأسيس دولة يهودية «مشبَّعة» بالمُثُل الأمريكية والحضارة الأمريكية سيكون له مزايا تعليمية واستراتيجية لا تُحصى.
وتنبَّأت لجنة كرين-كينج بالعديد من الموضوعات المحورية للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الأولى: تعاطف مع القومية العربية، وتباين كبير في الآراء ما بين مؤيِّد ومعارض للصهيونية، ونفور من الاستعمار الأوروبي. ولكن لم يُفِد التعرُّف بتلك الأنماط في التأثير على الموقف الأمريكي خلال مؤتمر السلام. فبعد الاجتماع من أجل «مسألة شرقية حقيقية» في قصر فيصل بدمشق، اكتملت بموسيقى عربية ورقص بالسيوف وأزياء بدوية لكل الضيوف الأمريكيِّين، قام أعضاء اللجنة بإعداد المسوَّدة لتقريرهم النهائي.
وبسبب هذا التوتُّر فقدت نتائجُ لجنة كرين وكينج الكثيرَ من قيمتها، وتفاقم ذلك الوضع من خلال الجدل الدائر حول الانتداب الأمريكي المقترح على آسيا الصغرى وأرمينيا وإسطنبول. وندَّد لانسينج بالخطة، محركًا عنصرًا انعزاليًّا في السياسة الخارجية الأمريكية، وواصفًا تلك الخطة بأنها «اقتراح غير مجدٍ وغير مفيد بالمرة»، سيؤدي فقط إلى توريط الولايات المتحدة في صراعات أوروبا التي لا تنتهي ويجعل منها محتلًّا للشعوب الأصلية لتلك المنطقة. ووافقه فرانك بولك، أول نائب لوزير الخارجية، ونصح ويلسون بالخروج «من هذه الفوضى المقزِّزة» في الشرق الأوسط. وحتى هربرت هوفر، المسئول الأمريكي المنوط بإغاثة الأرمن، والرئيس الأمريكي المستقبلي، رفضا خطة الانتداب على أساس أنها ستكلف دافعي الضرائب الأمريكيِّين على الأقل ١٠٠ مليون دولار للتمويل، بالإضافة إلى ١٠٠ ألف جندي. وعلى العكس من ذلك، في إسطنبول، حيث كانت سفن الإغاثة راسية إلى جانب السفن الحربية لبريطانيا وفرنسا، كان الخبازون الأتراك يزيِّنون الأرغفة برموز العلم الأمريكي من نجوم وخطوط صغيرة، وكان السلطان يناشد الولايات المتحدة توليَّ زمام السيطرة على المدينة. وكانت الكاتبة النسائية الرائدة في تركيا خالدة أديب قد قالت إن «أمريكا وحدها هي التي تعرف … كيف يتم تكوين حكومة شعبية … هي التي يمكنها تكوين تركيا جديدة يحمل فيها كل فرد … استقلالًا حقيقيًّا في رأسه كما في جيبه».
وتغلَّبت المُثُل والمبادئ مرةً أخرى على الاعتبارات الاستراتيجية في تحديد سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط لآخر مرة خلال فترة ولاية ويلسون. ووصل تقرير هاربورد إلى باريس، ولكن ويلسون كان قد غادر المدينة مرة أخرى، بادئًا جولة أمريكية قزَّم نطاقها — الذي يصل إلى ثمانية آلاف ميل و٢٩ مدينة خلال ثلاثة أسابيع — ما قامت به لجنتا كينج كرين وهاربورد. وكان هدفه الأساسي هو جمع الدعم والتأييد الشعبي لعضوية أمريكا في عصبة الأمم. وفي حين طالب ويلسون كليفلاند دودج وقادة بروتستانت آخرين بدعم مجهوداته، لم يذكر ويلسون الشرق الأوسط إلا فيما ندر. ولكنَّ معارضيه استغلوا الجدل حول الانتداب وسيلةً لمهاجمة دعوةِ ويلسون للانضمام إلى عصبة الأمم. وعلى ذلك ندَّد المؤتمر القومي الجمهوري لعام ١٩٢٠ بويلسون لسعيه لانتداب أمريكي على أرمينيا. كما هاجم هنري كابوت لودج فكرةَ أن على الأمريكيِّين «واجب الحفاظ على الاستقلال السياسي أو تكامل مناطق أي دولة». وتنبأ لانسينج بأنه «سيتعيَّن على الرئيس أن يتخلى عن أي خطة … لتحمُّل الوصاية أو الانتداب على أرمينيا أو القسطنطينية»، مضيفًا أنه ليس الجمهوريون فقط، بل «الكثير من الديموقراطيِّين … لديهم نفس الشعور».
تشريحُ جثةِ ما بعد الحرب
ولكنَّ مهمةَ إعادة تجميع المنطقة استمرت أولًا في باريس، ثم في أبريل ١٩٢٠ في سان ريمو، على شاطئ الريفييرا الإيطالي. وبعد أن جلس مندوبو الدول يتناقشون ويتحاورون ويفكِّرون على الشاطئ توصَّلوا إلى صيغة نهائية للانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، والانتداب الفرنسي على سوريا، التي سرعان ما طُرِدت قوات فيصل منها بعد ذلك بقليل، كما فُصل لبنان عنها. ووُضِع مضيق الدردنيل تحت سيطرة لجنة دولية، ومُنحت اليونان حق السيطرة على سميرنا وشرق تراقيا، وتسلَّمت كلٌّ من فرنسا وإيطاليا مناطق في جنوب الأناضول لإدارتها. أما في الشرق فقرَّر الحلفاء استقلال الدولة الأرمينية والمناطق الكردية. وبذلك مُحيت الإمبراطورية العثمانية، التي ظلت قرونًا طويلة كيانًا سياسيًّا له هيبة وسطوة، والتي سيطرت على التقاء الطرق وتقاطعها في العالم، باثَّة الرعب في الغربيِّين — ومنهم الأمريكيِّون — أحيانًا، وملهمةً إياهم في أحيان أخرى.
ولكن ذلك لم ينطبق على تركيا. فقد رفض جنرال في الأربعين من عمره اسمه مصطفى كمال، وهو بطل من أبطال موقعة جاليبولي، قبولَ ما جاء في وثيقة سان ريمو وجمع الجيش كله ضدها. وبعدها بثلاث سنوات نجح كمال — الذي حصل على لقب أتاتورك (أي أبو الأتراك) فيما بعدُ — في طرد القوات الأجنبية من الأناضول. وبتعاونه مع السوفييت، سحق كمال حركةَ الاستقلال الأرمينية وأخمد الأكراد الانفصاليِّين. وفي منطقة سميرنا قُتل عشرات الآلاف من الأرمن واليونانيِّين، وشُرِّد ٢٥٠٠٠٠ شخص عندما هاجمت القوات التركية المدينةَ وأحرقتها. ومرةً أخرى جاء جنود مشاة البحرية الأمريكية لحماية المؤسسات الأمريكية، التي أصبحت تضم الآن مكاتبَ شركة ستاندارد أويل، كما ساعدوا في نقل مئات من اللاجئين. ولكنَّ عددًا أكبر منهم تناثروا في أحواض السفن في الموانئ، معرَّضين للهيب نيران الحرائق المنتشرة. وقد شهِد ميلفين جونسون، البحَّار على متن إحدى المدمِّرتين الأمريكيتين اللتين ساعدتا في عمليات الإخلاء قائلًا: «لن أنسى ما حييتُ أصوات الصراخ. كان الكثيرون منهم يقفزون إلينا، مقدِمين على الانتحار». أما بالنسبة إلى جورج هورتون، الروائي صاحب أنجح المبيعات والناقد الأدبي ومراسل جريدة شيكاجو هيرالد الذي كان أيضًا قنصل أمريكا في سميرنا، فكانت المذبحة تمثِّل قمة سنوات من أعمال العنف التي لا توصف، واصفًا إياها بأنها «نهاية شيطانية وبشِعة لهذه المأساة الفظيعة».
•••
ورغم أنهم صُدموا مرةً أخرى من أعمال العنف التركية، فإن البريطانيِّين والفرنسيِّين خشُوا أيضًا شراسةَ الأتراك واقتراب السوفييت من المضائق، وسعَوا أيضًا إلى السلام. ووقِّعت الاتفاقية في ٢٤ يوليو ١٩٢٣، في مدينة لوزان السويسرية. ونتيجةً لذلك نهضت الجمهورية التركية من قلب الدولة العثمانية المتهالكة، ونشأت مدينة حديثة هي إزمير على أطلال مدينة سميرنا. وهدأت العواصف التي أثارتها الحرب العالمية الأولى، ولكن ليس قبل رسم حدود جديدة في المنطقة، وصنع هويات جديدة، وكشف مكامن الخطأ في عددٍ لا يُحصى من التقلبات المستقبلية.
•••
تباينَ تقييم عملية السلام الأولى في الشرق الأوسط ما بين سيئ ومروِّع. فقد خرج منها كليمنصو شاعرًا بأن لويد جورج خدعه، وأنكر لويد جورج على ويلسون خذلانه إياه في شأن الانتداب على أرمينيا. أما داخل المنطقة، فتساءل الكثيرون عن أسباب عدم تضمينهم في وعد ويلسون في حق تقرير المصير، وأسباب ترك شعوب الشرق الأوسط من المغرب وحتى مصر تعاني تحت وطأة الحكم الاستعماري. وكان الأمريكيون أيضًا يشعرون بالمرارة. فندب وناح الأستاذ الجامعي ويسترمان قائلًا: «في حين كان بإمكان الشجاعة والثقة في قوة نزاهتنا السياسية والمساندة الجادة لمثالٍ سياسي جديد أن تنقذ أرمينيا ومعها الشرق الأدنى كله، تراجعنا وتردَّدنا. وحين كان بإمكاننا أن نقود في ساعة الصفر منتهزين تلك الفرص السياسية، تداعينا ورفضنا أن نعبر إلى هناك». وحتى لانسينج القاسي تنبأ بأنه «تم نثر بذور عدم الرضا والكراهية في تربة خصبة» وأنه بمرور الوقت «ستزهر تلك البذور وتحمل الثمرة المرة للصراع». أما أكثرهم صرامةً فكان الجنرال بليس الذي تمنَّى «عدم وجود حرب من البداية — أو أنها استمرت وقتًا أطول؛ لأن السلام يبدو أسوأ من الحرب».
ويتَّفق الكثيرون من مؤرخي تلك الفترة على أن جهود بناء شرق أوسط جديد من رُكام الحرب العالمية الأولى قد واجهت فشلًا ذريعًا — وأنها تسبَّبت في الكثير من حمَّامات الدم فيما بعد. وقد لاحظوا أن النتائج التي توصَّلت إليها لجنة هاربورد لم تخرج إلى حيز التنفيذ قط، وأن نتائج لجنة كرين كينج لم تُنشر حتى عام ١٩٢٢. أما فكرة منْح جميع شعوب الشرق الأوسط حقًّا غير قابل للانتهاك لتقرير المصير فلم تُفَّذ ولو جزئيًّا. ونفس المؤسسات التي كان ويلسون يأمُل في حمايتها — الكنائس والمدارس والمستشفيات — والتي من أجلها امتنع عن دخول حرب ضد تركيا، كان معظمها قد أغلق بنهاية الحرب. وكانت نسبة كبيرة من المبشِّرين قد طُردت أو قُتلت.
ولكنَّ الحكم القاسي على أداء أمريكا في دبلوماسية الحرب العالمية الأولى يتجاهل عددًا من الإنجازات المبهرة الطويلة الأمد. فحسب توصيات «لجنة التحقيق» فُكِّكت الإمبراطورية العثمانية، ولكن حوفِظ على سيادة تركيا. وكانت أُسس الدولة اليهودية المستقبلية قد وُضعت في فلسطين التي كانت تحت الإدارة البريطانية، وفي مناطق الانتداب في سوريا والعراق. وفي ذلك الوقت كانت بريطانيا قد كوَّنت إمارة عربية منفصلة شرقي نهر الأردن، أما الفرنسيون ففصلوا لبنان ذا الغالبية المارونية عن سوريا، ومنحوا كلًّا منهما حقَّ تقرير المصير. (انظر خريطة ٢) ورغم عدم تطبيق حق الأرمن في الاستقلال إلا بعد سبعين عامًا أخرى، إلا أنه اعتُرِف به عالميًّا لأول مرة.
ورغم القيود الكبيرة خلال الحرب، فإن الأنشطة التبشيرية في وقت السلم استُؤنفت، بل وازدهرت أيضًا. وفي عام ١٩١٩، أسَّس المبشِّرون البروتستانت الجامعة الأمريكية في القاهرة، بهدف تحقيق الإثراء الثقافي وتحديث مصر. وخلال العام التالي غيَّرت الكلية السورية البروتستانتية اسمَها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وأصبحت أولَ جامعة في الشرق الأوسط تسمح للنساء بالانضمام إليها. وكتب زائرٌ لسوريا خلال فترةِ ما بعد الحرب: «ليس من الممكن أن يحقِّق الأمريكي الاحترامَ والإيمان والعاطفة التي يُنظَر بها إلى بلادنا في هذه المنطقة. فالتبشير المحايد الموضوعي والأثر التعليمي الذي بُثَّ خلال قرن كامل هو العقيدة الوحيدة التي يتمسك بها المسلم والمسيحي واليهودي على السواء، سواء كان أميرًا أو فلاحًا في الشرق الأدنى».