من الإنجيل إلى مضخَّات النفط
لم تثمر تسوياتُ ما بعد الحرب في الشرق الأوسط عن جلب الوئام أو الاستقرار إلى المنطقة — حسبما كان مخطَّطًا — بل أثمرت عن صراعات متوطنة بها فقط. حيث كانت عشرينيات القرن العشرين زمنًا تصاعدت فيه المقاومة ضد الحكم الأوروبي في المنطقة، فقد اندلعت الثورات المضادة للبريطانيِّين في مصر والعراق، وماجت سوريا بالعصيان ضد الحكم الفرنسي. كما ستصبح فلسطين أيضًا بؤرة دائمة لسفك الدماء. وبسبب انعزال شبه الجزيرة العربية بعيدًا عن تلك الاضطرابات، نسيتها القوى الاستعمارية، ونسيها أيضًا أصحاب النزعة القومية الذين سعَوا حثيثًا لطرد هؤلاء المستعمرين من بلادهم. بدَت منطقة شبه الجزيرة العربية — بأرضها المقفِرة وبرمالها الصلدة الداكنة وبصخورها وبمسطحاتها الملحية — وكأنها خالية من أهم الموارد الطبيعية الأساسية. كان مصدرها الرئيسي للدخل هو حجَّ المسلمين إلى مدينتي مكة والمدينة المقدَّستين، اللتين تقعان في غرب شبه الجزيرة في منطقة معروفة باسم الحجاز. وقنَع البريطانيون بترك حكم الحجاز لحلفائهم الهاشميِّين وتجاهل بقية شبه الجزيرة، أما الفرنسيون فكانوا غيرَ مبالين بالمرة.
وكما كانت أوروبا غير مهتمة بالجزيرة العربية، لم تكن الولايات المتحدة أكثرَ منها اهتمامًا؛ إذ لم تُبدِ وزارة الخارجية تقريبًا أيَّ ردِّ فعل عام ١٩٢٣، عندما استولى تحالف قبَلي بقيادة عبد العزيز بن سعود (١٨٨٠–١٩٥٣) — تسانده الحركة الوهابية المقاتلة — على المدن المقدسة وطردَ الهاشميِّين منها. وقال أحد الخبراء بقطاع شئون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية آنذاك إن المنطقة «ليس لها أهمية تجارية تُذكر»، في حين شعر آخر في الوزارة أن ولعَ السعوديِّين بالحرب «يظهر أن العرب … لم يتحسَّن حالهم عما كانوا عليه قبل ١٣ قرنًا». وأعلن ابن سعود فيما بعدُ نفسَه ملِكًا على الدولة الجديدة؛ المملكة العربية السعودية، ولكن الولايات المتحدة رفضت الاعتراف الرسمي بها، ورفضت أيضًا إرسال سفير لها هناك.
على أن الأمريكيِّين لم يكونوا جميعهم على نفس القدْر من اللامبالاة التي اتَّبعتها وزارة الخارجية تجاه المملكة العربية السعودية. فقد استمر المبشِّرون في العمل الجهيد بالمنطقة. ويكفينا أن نتذكَّر أنه قبل انتهاء القرن أسَّس المبشِّر الأمريكي صامويل زويمر أولَ مستوصف طبي حديث في شبه الجزيرة، وجاء بطبيب أمريكي هو الدكتور بول هاريسون ليرأسه. كان الطبيب ذا شخصية جذابة أنيقة يشبه الممثل الأمريكي رودولف فالنتينو، يميل إلى ارتداء الملابس البدوية، لكنه في الحقيقة لم يكن يأبه كثيرًا بالثقافة المحلية العربية. فقال: «حتى دينهم لم يتمكَّن من توحيدهم في دولة واحدة مستقرة فترةً طويلة.» وعدَّد تتابُع «الخيانات والاغتيالات والثورات وأحداث الشغب والحروب كبيرها وصغيرها» التي كان تاريخ العرب يمتلئ بها. ولكن مثل هذا القصور لم يكن ليثني هاريسون عن قيامه بواجبه الطبي تجاه السكان المحليِّين، أو عن السعي إلى إنقاذ أرواحهم من الجحيم. فاعترف قائلًا: «نريدهم أن يتحولوا إلى المسيحية، ولكن في شبه الجزيرة العربية تكون تلك عملية بطيئة للغاية.»
وللإسراع بعملية التحول هذه، توسَّع هاريسون في تقديم خدماته الطبية في سنواتِ ما قبل الحرب العالمية الأولى، فأسَّس فروعًا للمستوصف في الكويت وعمان والبحرين. وأضيف أطباء جدد إلى المستوصف، من بينهم عددٌ من السيدات الأمريكيات. وحكَت إليانور كالفرلي قصةَ وصولها إلى الجزيرة العربية عام ١٩١٢ الذي حدث على نحوٍ غير مخطَّط، قائلة: «إن ما بدا حتى تلك اللحظة تضحيةً مأساوية أصبح فجأة الشيءَ الوحيد في العالم الذي أريد أن أقوم به … لم أشعر قط بمثل تلك الفرحة!» ووجدت طبيبةٌ أخرى، هي ماري أليسون، أن الوصول إلى ميناء جدة كان لها بمنزلة «ميلاد جديد»، وتجربة عميقة روحيًّا وحسيًّا. فقالت: «عرفت مذاق النشوة؛ أن أصل إلى مكان أحلامي.»
لم تكن تجربة أليسون هي الوحيدة في هذا المضمار. فقد انجذب العديد من المبشِّرين إلى الجزيرة العربية بسبب قناعاتهم الدينية، فسحرتهم الصحراء بجَمالها الخالد وبقصص قبائلها الرحَّالة. وكان القليل من سِمات الجزيرة العربية يفتن الأمريكيِّين على نحوٍ يفوق فتنتهم بملِكها ابن سعود. فقد أسَرَ المبشِّرين بقامته التي تزيد على ستة أقدام وأربع بوصات، وعباءاته الفضفاضة، وشَعره المجدول، وأسنانه اللامعة، وعينيه السوداوين المتلألئتين. ويتذكَّر أحد هؤلاء المبشِّرين قائلًا: «كان كلُّ ما فيه يعبِّر عن ذكاء وحيوية وتصميم وقوة دامغة.» أما حقيقة أن ابن سعود كان له ١٢٥ زوجة وأنه كان يرافقه حرسٌ يحملون مدافع رشاشة، وأنه كان متحالفًا مع الوهابيِّين الكارهين للكفار، فلم تفلح في أن تحرِّر المبشِّرين من قيد سحره.
وسرعان ما أثبت هذا العرفان بالجميل أهميتَه في قرار ابن سعود لاختيار حليف غربي. فقد كان ناقمًا على البريطانيِّين الذين وقفوا أمام توسُّعه في إمارة شرق الأردن وفي جنوب العراق، وكان بطبيعته لا يثق بالفرنسيِّين؛ لذلك توجَّه إلى الدولة التي كان مواطنوها قد عملوا بمنتهى الإيثار من أجل صالح شعبه. وعندما ظهر احتمالُ أن بلاده لا تحتوي على صخور ورمال فحسب، بل أيضًا ينابيع من أكثر السوائل التي يسعى العالم وراءها، تذكَّر الملك هاريسون ودام.
البحث عن «الطين السائل»
في حين كان المبشِّرون الأمريكيون يعملون بجِد في الصحراء العربية القاحلة، كان بنو وطنهم هناك في الولايات المتحدة يتعطَّشون بالفعل للنفط. فمع مطلع العشرينيات من القرن الماضي تسبَّبت زيادةُ وتيرة التصنيع والإنتاج المكثف للسيارات وإنارة المنازل في زيادة الطلب على النفط في الولايات المتحدة على نحو يفوق كثيرًا طاقتها الإنتاجية. واضطُرت شركات النفط الأمريكية إلى البحث بلهفة شديدة عن مخزونات نفطية خارج الولايات المتحدة، وعقَدت أكبرَ آمالها على الشرق الأوسط. ولكن بجانب الصعوبات الفنية للتعرف على أماكن الآبار في هذه المنطقة النائية من العالم التي يصعُب الوصول إليها، كانت هناك العديد من المعوِّقات السياسية أمام تنقيب الأمريكيِّين عن النفط. كان لدى إيران أكبرُ احتياطي معروف منه، ولكن شركة النفط البريطانية الوطنية كانت قد حصلت بالفعل على حق احتكار التنقيب في الجزء الجنوبي من البلاد، في حين هيمن الاتحاد السوفييتي المؤسَّس حديثًا على الجزء الشمالي. وفي سوريا والعراق وفلسطين، حيث كان المنقِّبون الأمريكيون يبحثون عن النفط قبل الحرب العالمية الأولى، ادَّعت فرنسا وبريطانيا أن انتدابهما بموجب قرار عصبة الأمم — وهي المنظمة التي قاطعتها الولايات المتحدة — يمنحهما حقوقَ تنقيب حصرية. لذلك اشتكى السفير الأمريكي في باريس، هيو والاس، قائلًا: «التحالف الأنجلوفرنسي مُصِرٌّ على إبعاد الشركات الأمريكية عن حقول النفط الجديدة في الشرق الأدنى.» على أن محاولات والاس — لتذكير حلفاء الولايات المتحدة السابقين أنه لولا تدخُّل الولايات المتحدة في خنادق أوروبا لما كان هناك وجود لعصبة الأمم ولا لفكرة الانتداب أصلًا — اتضح أنها غير مقنِعة بالمرة.
وبسبب حرص الحكومة الأمريكية على كسر احتكار الدول الأوروبية لنفط الشرق الأوسط، أصبح لها لأول مرة نشاطٌ فعال في مجال تجارة النفط. ففي عام ١٩٢١ جمع وزير التجارة الأمريكي، هربرت هوفر، الذي كان مديرًا محنكًا في مجال مجهودات الإغاثة الدولية، الشركاتِ الأمريكية السبع الأبرزَ في مجال النفط وهم: نيوجيرسي (التي تحوَّلت فيما بعدُ إلى إسو/إكسون)، وتكساس (التي تحوَّلت فيما بعدُ إلى تكساكو)، وسنكلير، ومكسيكان، وأتلانتيك، وجولف ونيويورك (سوكوني وتحوَّلت فيما بعدُ إلى موبيل) وحوَّلها إلى اتحاد فعَّال. وبسبب انزعاجها الشديد من هذه الجبهة المتحدة، خضعت الشركات الأوروبية ودعت الأمريكيِّين إلى مشاركتها في تكوين اتحاد احتكاري جديد أُطلق عليه اسم «شركة نفط العراق». حصل الأمريكيون على ٢٣٫٧٥٪ من مجموع النفط المستخرَج من الشرق الأوسط مقابل التنازل عن حقِّهم في التنقيب عن النفط بما لا يخالف القواعدَ المنظِّمة لعمل شركة نفط العراق (سُمِّي هذا البند بندَ نكران الذات). وكانت هذه الصيغة التي تلبي الاحتياجات المتزايدة للطاقة في أمريكا، دون تكبيلها بمسئوليات سياسية في الشرق الأوسط، تُعَد انتصارًا للدبلوماسية ومنجمَ ثراء للنفط الأمريكي. جرى الكشف عن ضخامة الثروات الكامنة تحت رمال العراق إلى حدٍّ ما في أكتوبر عام ١٩٢٧، عندما اكتشف المنقِّبون في مدينة كركوك الشمالية نبعَ نفط كان من القوة بحيث قتل اثنين منهم.
ومع ذلك استمرَّت التساؤلات بشأن النطاق الجغرافي لعقد شركة نفط العراق، والحدود الدقيقة للشرق الأوسط، فهل كان الاتفاق يشمل مثلًا العراق وسوريا وفلسطين فقط، أم أنه ينطبق أيضًا على شبه الجزيرة العربية؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات، أخذ رؤساء الاتحاد بنصيحة رجل الأعمال الأرمني الأصل المنغمس في اللذات وذي العبقرية المالية كالوست كولبنكيان، الذي نجح في الحصول لنفسه على نسبة ٥٪ كاملة من أسهم شركة نفط العراق. ففي اجتماع مع المديرين التنفيذيِّين للشركة في يوليو عام ١٩٢٨، بسط صاحب نسبة الخمسة بالمائة — كما كان يحلو للأمريكيِّين أن يلقِّبوه — أمام المديرين التنفيذيِّين خريطةً للشرق الأوسط، وبقلم أحمر برَّاق رسم دوائر حول كلٍّ من تركيا وشبه الجزيرة العربية ومناطق الانتداب. وشرح كولبنكيان ذو الجسد القصير الممتلئ قائلًا: «كانت هذه هي الإمبراطورية العثمانية القديمة التي عرفتها عام ١٩١٤. ولي حقُّ المعرفة بها، فقد وُلدت فيها وعشت فيها وخدمت فيها.»
قصَرت اتفاقية الخط الأحمر أعمالَ التنقيب عن النفط في الشرق الأوسط على الأعضاء في شركة نفط العراق. وكانت هذه أخبارًا في غاية السوء لابن سعود؛ إذ إن الانخفاض المفاجئ في عدد الحجاج المسلمين إلى المدن المقدَّسة كان قد جعل الملك ابن سعود يعاني ضائقةً مالية شديدة، ومع ذلك فقد تردَّد في السماح للمهندسين البريطانيِّين التابعين لشركة نفط العراق بالتنقيب عن النفط وغيره من الموارد المعدنية في المملكة. وقد فضَّل العمل مع دولٍ تحترم سيادة المملكة، ومع محترفين من أمثال هاريسون ودام، الخالين من أي نوايا أوروبية استعمارية.
قدَّم المستشار الرئيسي للملك ابن سعود — هاري سانت جون فيلبي — حلًّا لتلك المعضلة في فبراير عام ١٩٣١. كان فيلبي مستكشفًا بريطانيًّا موهوبًا وغير تقليدي، وقد اعتنق الإسلام وأصبح من أشد المنتقدين لسياسات بريطانيا في الشرق الأوسط، وقد فطِن إلى احتياجات الملك ومخاوفه، بالإضافة إلى وجود احتمالات لتحقيق مكاسب شخصية لنفسه. حصل فيلبي على الحق الحصري لبيع سيارات فورد في المملكة، ليزيد هذا من ثروته ويصله أكثرَ بالصناعة الأمريكية. واقترح فيلبي على ابن سعود حلًّا للأزمة الاقتصادية المتفاقمة، أن يتوجَّه إلى الولايات المتحدة لمساعدته، وإلى واحد من أكثر الأمريكيِّين قربًا من الإسلام والعالم العربي.
لم يكن فشلُ قادة العالم في تطبيق التوصيات التي كان تشارلز كرين — الرجل المحسن الذي طالما دافع عن القومية العربية — قد توصَّل إليها مع السيد هنري كينج لإعادة تنظيم الشرق الأوسط في مرحلةِ ما بعد الحرب، قد ثبَّط من همَّته وعزيمته. فاستمر في عشرينيات القرن العشرين في تمويل برامج الدراسات المعنية بشئون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، وفي العمل مبعوثًا للنوايا الحسنة بين أمريكا وحكام العراق وإمارة شرق الأردن واليمن. وفي أثناء رحلته عبْر الصحراء العربية عام ١٩٢٩، هاجمت جماعاتٌ من الوهابيِّين كرين ورفيقَ سفره القس هنري بيلكرت، الذي قُتل على يدهم. وفي أثناء تعافي كرين من جروحه، تلقَّى رسالة من ابن سعود يعبِّر فيها عن أسفه من أن «يُهاجَم صديقُ العرب في بلاد العرب» ودعاه إلى زيارة الرياض.
واختار كرين لقيادة تلك البعثة مهندسًا كان قد عمِل معه في اليمن من قبل، وهو شخص هادئ الطباع من ولاية فيرمونت اسمه كارل تويتشيل. ومع أن تويتشيل كان مقدَّرًا له أن يكون صاحب البذرة الأولى في العلاقات الأمريكية السعودية، فإن هذا الرجل ذا القد النحيف والقامة الطويلة والعيون التي يبدو عليها الحزن لم يكن من ذلك الصِّنف من البشر الذي يمكن أن يؤسِّس مثل هذه العلاقات. كان يبدو أن أهم مميزاته هي احترامه العميق لابن سعود؛ إذ وصفه بأنه «رجل حكيم ومستقيم … وعادل وسخي ومضياف … ويُعدُّ من أهم شخصيات ذلك العصر»، كما تميَّز تويتشيل بثقته التي لا تتزعزع في القدرة الاقتصادية لشبه الجزيرة العربية. ومن تجربته في اليمن كان يعرف أنه حتى أشد الصحاري قفرًا قد تخفي في باطنها آبارًا ارتوازية ومخزونًا من الموارد المعدنية الثمينة.
وكان هذا الاكتشاف فألًا حسنًا لتويتشيل. فقد كانت البحرين لا تبعُد عن الأراضي السعودية سوى ١٢ ميلًا، وكانت مرتبطة جغرافيًّا بشبه الجزيرة العربية؛ لذلك كان من الممكن افتراضُ أنه إذا احتوت جزيرة البحرين على النفط فإن الساحل المتاخم لها سيحتوي عليه أيضًا. وبناءً على هذا الافتراض عاد تويتشيل إلى الولايات المتحدة، وقابل ممثِّلي شركة نفط العراق. ولكن الشركات الأمريكية كانت ملتزمةً بموجب اتفاقية الخط الأحمر بالعمل جماعيًّا في شبه الجزيرة العربية وليس منفردين؛ لذا رفضت أن تعمل في أي مشروعات على نحوٍ منفرد. واشتكى تويتشيل قائلًا: «تعتقد بعض تلك الشركات أن الحجاز هو اسم مشروب جديد.» وكانت شركة سوكول، التي لم تكن عضوًا في شركة نفط العراق، هي الوحيدة المستعدة لقبول المجازفة. عاد تويتشيل وبصحبته محامي شركة سوكول — لويد هاملتون — إلى جدة في فبراير عام ١٩٣٣، وطلب فور وصوله الحصولَ على امتياز ملكي بالتنقيب في منطقة الأحساء، على حافة الساحل المواجه للبحرين.
لم يكن الأمريكيون قد اشتركوا في مباحثاتٍ بهذه الدرجة من القوة والعلاقات المباشرة مع حكومةٍ شرق أوسطية منذ تلك المباحثات السرية التي أجرَتها إدارة الرئيس جاكسون مع العثمانيِّين عام ١٨٣٠، وقد اتضح من جديد أن تلك المحادثات غايةً في التعقيد. فما إن فتح هاملتون وتويتشيل بابَ المناقشات مع وزير مالية ابن سعود عبد ﷲ سليمان — الذي يتميز بالنظر الثاقب وثبات الجَنَان — إلا وبدأ سليمان في التفاوض مع محامين من شركة نفط العراق. وبدأت حرب المزايدة في الأسعار، تبارى فيها الطرفان في عرضِ دفعِ مبالغ خرافية رفضها السعوديون في استحياء مصطَنع. انتصر الأمريكيون في النهاية بفضل استعدادهم لدفع القيمة ذهبًا (في حين عرضت شركة نفط العراق الدفع بالروبية) ولمنحهم فيلبي، الذي عمِل مستشارًا لشركة سوكول، راتبًا سنويًّا قدره ألف جنيه. وحتى عند ذلك أوشكت الصفقة كلُّها على الانهيار، عندما منعت الحكومة الأمريكية أيَّ تصدير للذهب استجابةً لأزمة العملة التي فجَّرتها أحداث أزمة الكساد الكبير.
كان الاتفاق مع ابن سعود يمثِّل نقطةَ تحوُّل في علاقات أمريكا بشبه الجزيرة العربية، بل بالشرق الأوسط بأكمله. فباقتحام منطقةٍ كان يُنظر إليها من قبلُ على أنها منطقة يستأثر بها البريطانيون، يكون الأمريكيون قد ارتبطوا بعلاقة ثنائية ملزِمة مع ملك عربي محترَم، ووضعوا حجرَ الأساس لروابط اقتصادية دائمة. ولكن القيمة الاستراتيجية والمالية لتلك الاتفاقية كانت لا تزال في مهب الريح. إذ إنه في ظل عدم وجود طرق ممهَّدة أو استطلاع جوي أو حتى توافر أبسط الاحتياجات الأساسية كان يجب على المهندسين الأمريكيِّين أن يمسحوا منطقةً مساحتها ٣٢٠٠٠٠ ميل مربع في صحراء مجهولة تمامًا.
وصل أولُ فريقِ عمل لتويتشيل — الذي تكوَّن من شايلر هنري وبيرت ميلر — في سبتمبر عام ١٩٣٣، وكان كلاهما من المحنَّكين الذين شاركوا في عمليات التنقيب في البحرين العام الماضي. وتبِعهما العشرات، ليس من المهندسين فقط، بل أيضًا من الحفَّارين والمنقِّبين والميكانيكيِّين والموظفين الإداريين والطباخين. كانوا يعيشون في البداية في خيامٍ مصنوعة من وبر الجِمال قُرب ميناء الجُبَيْل، ثم قاموا ببناء منازل واستيراد رفاهيات أمريكية، مثل أجهزة التكييف والمذياع وحتى حمَّامات السباحة. وقام عدد من العاملين باستقدام زوجاتهم أيضًا. وبمزيج من الانبهار والاحتقار كتب فيلبي عن الأمريكيِّين «الذين هبطوا من السماء على بساطهم الطائر ومعهم أجهزةٌ غريبة يحاولون بها اكتشافَ باطن الأرض بحثًا عن الطين السائل الذي يتهافت عليه العالَم للإبقاء على حياة آلاته التي لا تشبع». ومع ذلك فقد كانت الحياة في الصحراء العربية — المليئة بعواصفها الرملية ومائها المالح ومسئوليها المحليِّين الفاسدين، ودرجة حرارتها التي تصل إلى ١٢٠ درجة — نادرًا ما نظر إليها هؤلاء الأمريكيون على أنها حياة شاعرية. فقد كانت هناك اختلافاتٌ ثقافية عميقة تفصلهم تمامًا عن السكان المحليِّين الذين وصل بهم الأمر إلى حد الامتعاض من بعض عادات الأمريكيِّين الفظَّة مثل السِّباب. على أن الامتعاض لم يكن من جانب واحد وإنما كان متبادَلًا في كثير من الأحيان. فقد رفض المهندس توماس بارجر — القادم من نورث داكوتا الذي سيصبح بعد ذلك رئيسًا لإحدى شركات النفط — ممارسةَ إحدى عادات البدو الموغلة في القِدم في أكل الجراد. فقال: «إنهم يقومون بغليه، ثم تجفيفه في الشمس، ودقِّه في مهراس، وصُنع ضرب من ضروب عصيدة الجراد. أما أنا فأعتقد أنني سأكتفي بالشوفان الذي أتناوله كلَّ يوم.»
لم ينزعج الأمريكيون من أيٍّ من تلك التحديات البيئية أو الثقافية قدْر انزعاجهم من مسألة اختيار موقعٍ بعينه في الصحراء الشاسعة المقفرة، ثم الحفر والتنقيب بعمق آلاف الأقدام في الرمال والصخور الصلبة بحثًا عن بحيرة نفطية. وتعلَّم المهندسون من تجاربهم في البحرين أن يبحثوا عن التلال — أو الجبال بالعربية — التي تتجمَّع تحتها الهيدروكربونات في بعض الأحيان. ووُجِدت أكثرُ الدلائل المبشِّرة في مكان ناتئ على شكل قبة يوجد في الدَّمام بالقرب من الجُبَيل. وبدءًا من عام ١٩٣٥ حُفِرَت ستُّ آبار في تلك القبة، وفي حين ظهر النفط في بعضها، لم ينتِج أيٌّ منها العددَ المطلوب من مئات البراميل يوميًّا والضروري لتحقيق ربح. على أن المخاوف بدأت تنتاب بشدة المديرين التنفيذيِّين في شركة سوكول الذين في غمرة تفاؤلهم قد غيَّروا اسم الشركة إلى شركة ستاندارد العربية الكاليفورنية للنفط (كاسوك) التي عُرفت فيما بعدُ باسم شيفرون. إذ إن الشركة أنفقت أموالًا ضخمة — في ذروة أزمة الكساد الكبير — على مشروعٍ بدا وكأنه مات فور ولادته. وكانت نهاية الشركة الجديدة وانهيار العلاقات الوليدة بين المملكة السعودية والولايات المتحدة تبدو وشيكة.
ومع ذلك، وتحديًا لتلك المخاطر، فقد حُفِرَت آخر بئر وهي رقم ٧. بدأ الحفر في نهاية ديسمبر عام ١٩٣٧، وبعدها بثلاثة أشهر، على عمقٍ يزيد على نصف ميل، لامست آلة الحفر نفطًا. وضُخَّ ٣٦٩٠ برميلًا في يوم واحد، هو الرابع من مارس. ووُجِدت كميات مشابهة على أعماقٍ متقاربة في البئرين رقمي ٢ و٤. وبنهاية العام كانت الآبار السعودية تنتِج نصفَ مليون طن من النفط، وهي كمية هائلة وجب معها مدُّ خط أنابيب جديد متجه إلى الواحة الساحلية في الخُبَر حتى يمكن ضخُّ النفط الخام إلى ناقلات النفط الأمريكية الراسية بالقرب من الشاطئ.
مدٌّ وجَزر
بثَّ النفط السعودي والعقود السعودية الحياةَ في صناعة أمريكية طال إجهادها نتيجةَ معدَّل هائل للبطالة وكساد اقتصادي. ولكنَّ ردَّ فعل الحكومة الأمريكية ظل متبلدًا. وانتهت وزارة الخارجية في مايو عام ١٩٣٧، إلى رفض مبادرة جديدة لإقامة علاقات دبلوماسية مع المملكة، قائلة: «علينا أن نبقيَ الأمور على ما هي عليه، حتى يأتي يوم تكون المصالح الأمريكية في المملكة السعودية قد حقَّقت تطورات أخرى.» وكان الأمريكيون لا يزالون يستثمرون في مدارس الإرساليات والكنائس (نحو ٤,٥ ملايين دولار سنويًّا) استثماراتٍ تفوق استثماراتهم في التنقيب عن النفط في الشرق الأوسط. واستمرت وزارة الخارجية في رفضها فكرةَ التنقيب في منطقةٍ لا تزال تُعدُّ منطقةَ نفوذ بريطانية، ورفضت كذلك فتح قنصلية أمريكية هناك لمجرد خدمة موظفي شركة أمريكية وحيدة.
ومع ذلك فلم يستطِع حتى عناد وزارة الخارجية أن يخفيَ حقيقةَ أن إنتاج آبار الخليج العربي قد ارتفع بنسبة ٩٠٠٪ منذ ١٩٢٠، وأن الولايات المتحدة أصبحت تحصُل على ١٤٪ من نفطها من الشرق الأوسط. وكان النفط قد اكتُشف أيضًا بكميات اقتصادية في الكويت، عن طريق مشروع أنجلوأمريكي، وأشارت الدلائل إلى وجود مخزون وفير في إمارة خليجية أخرى هي قطر. وثابر موظفو شركة النفط على تذكير واضعي السياسات الأمريكيِّين بالقوة الاقتصادية الهائلة لشبه الجزيرة العربية والخليج العربي، مؤكِّدين الصلاتِ العديدةَ الثقافية والسياسية بين شعوب الخليج وشعب الولايات المتحدة.
وقال كارل تويتشيل: «مع أن الحكومة السعودية تبدو في الظاهر استبداديةً من عدة وجوه، فإنها تظهِر جوانبَ ديمقراطية عديدة.» وكان تويتشيل واحدًا فقط من الأمريكيِّين الذين عادوا إلى الولايات المتحدة بعد انقضاء مهامِّ عملهم في المملكة السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين وهم يفيضون بالمديح لملكها ورعاياه المتسامحين المحبِّين للحرية المناصرين للأمريكيِّين. أما تشارلز كرين فكان من أكثرِ الأمريكيِّين إعجابًا بتلك السِّمات السعودية المفترضة. كانت تلك هي السنوات الأخيرة في حياته؛ فقد توفي عام ١٩٣٩، وكان في غاية الإعجاب بالزعيم الألماني أدولف هتلر، وأسماه «الحصن الحقيقي للثقافة المسيحية»، وظل كرين أيضًا داعيةً متحمسًا لإقامة علاقات وثيقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية التي كان يُظهِر قدرًا هائلًا من التأييد لملكها. وأكَّد للرئيس روزفلت أن «ابن سعود هو أهم رجل ظهر في شبه الجزيرة العربية منذ عصر النبي محمد»، قبل ذلك بثلاثة عشر قرنًا.
يمكن وصف كل أو بعض الآراء العديدة التي أثَّرت بشدة على ابن سعود ومملكته أنها آراء بُنيت على مبالغات. فلم تكن هناك ديمقراطية في المملكة العربية السعودية، وإنما تسامح مشروط مع غير المسلمين، فقال ابن سعود لدبلوماسي أمريكي بكل وضوح وبما لا يدَع مجالًا للشك: «نحن المسلمين لدينا العقيدة الواحدة الصادقة. نعم سنستخدم حديدكم، ولكن لا تمسوا عقيدتنا.» وفي حين كان ابن سعود يميل إلى الولايات المتحدة، فإنه لم يمانع في التفاوض مع بريطانيا وفرنسا حتى ينتزع من الأمريكيِّين مبالغَ أكبر. وبالفعل، فعندما سأله المفاوضون الأمريكيون عن أسباب تفضيله للولايات المتحدة على الأوروبيِّين، أجاب ابن سعود بكل صراحة: «أنتم بعيدون للغاية!»
ومع واقع شبه الجزيرة العربية غير المغري، فقد استمرت في إثارة إعجاب الكثيرين من الأمريكيِّين العاملين هناك. وكان من بين هؤلاء ممثِّلون عن نموذج جديد يضم مزيجًا من المبشِّرين ورجال الأعمال والدبلوماسيِّين. وبسبب حاجة شركات النفط إلى تنفيذيِّين على علم ودراية بالشرق الأوسط ومتحدثين بلغاته، فإنها كانت متلهفة على توظيف المبشِّرين وأحفادهم. فنجد على سبيل المثال لويس دام يترك مستوصف الإرسالية ليصبح طبيب شركة كاسوك، وأدَّى ذلك إلى وجود علاقة تعايشية تكافلية بين صناعة النفط والتبشير بالمسيحية. فكتب تويتشيل، الذي كان يساعد في مدِّ مدارس الإرساليات بكرات القدم والكراسات حينما كان لا يقوم بالتنقيب: «قد تكون المملكة السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي دخلت وتطوَّرت في مجال النفط والتعدين نتيجةَ مشاعر خيرية محضة». كما سعَت وزارة الخارجية أيضًا إلى تحويل المبشِّرين إلى دبلوماسيِّين في الشرق الأوسط. وبدورها وظَّفت شركاتُ النفط تنفيذيِّين دبلوماسيِّين للعمل فيها. فعمل ويليام إيدي، سليلُ عائلة مبشِّرة في لبنان سفيرًا لأمريكا في الرياض، وعمل فيما بعدُ مستشارًا لإحدى شركات النفط.
ومع ذلك لم تسفر إشاعةُ تملُّق الألمان لابن سعود ولا حماسة تقرير فيش عن أي تغيير في السياسة الأمريكية الرسمية تجاه المملكة السعودية. وكانت المملكة السعودية تترنح بسبب النكسات الاقتصادية نتيجةً للحرب؛ لذلك طلب ابن سعود من واشنطن قرضًا لمواجهة الطوارئ قدره ١٠ ملايين دولار وفقًا لقانون الإعارة والتأجير الأمريكي. وحذَّر التنفيذيون القائمون على شركات النفط من أن المملكة السعودية وربما العالَم العربي كله سيسقط في فوضى شاملة، ومن ثَم سيلقي بنفسه في أحضان دول المحور، إن لم يُقدم لها هذا النوع من الدعم. ولكنَّ حكومة الرئيس روزفلت أجابت بأن المساعدات وفقًا لقانون الإعارة والتأجير تستهدف على نحوٍ محدَّد دعمَ التحرُّر من الطغيان وأن «منْحَ مساعدات مالية لمجتمع متخلِّف وفاسد وغير ديمقراطي» يتعارض مع المصالح القومية الأمريكية. واستمرَّت وزارة الخارجية في النظر إلى المملكة السعودية باعتبارها مسئولية بريطانيا وليس أمريكا، وأنَّ تمويل ملِكها بما يحتاج إليه يقع ضمن واجبات بريطانيا وحدَها.
وفي الأعوام العشرين السابقة على ذلك، ومنذ نهاية مؤتمر باريس للسلام، كانت العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين، وبين كلا الفريقين والسلطات الحاكمة البريطانية، تتدهور على نحوٍ منتظِم. وقد حدث هذا التدهور نتيجةَ النمط المتزايد للهجرة اليهودية إلى فلسطين الذي أشعل شرارة عداء العرب، وأدَّت المقاومة العربية إلى تخلي بريطانيا عن التزاماتها نحو اليهود. وكان الحياد التام هو سِمة موقف أمريكا تجاه هذا الصراع المتأجِّج. ولكن عندما تخلَّت بريطانيا عن التزاماتها في فلسطين، وجدت أمريكا نفسها منجذبة — رغمًا عنها وبالمخالفة لسياساتها المعلنة — نحو العلاقات العربية اليهودية الشائكة.