نشوب صراع لا حلَّ له
تمكَّن العرب واليهود في فلسطين — بالرغم من أحداث التوتر المتفرِّقة — من تجنُّب حدوث صِدامات داخلية عنيفة خلال الفترة التي سبقت الحربَ العالمية الأولى. واستمر المجتمع الصهيوني — المعروف باسم يشوف — في التوسع، وبنهاية الحرب وصل عددهم ٧٥٠٠٠ شخص، كان الكثير منهم يقيمون في مزارعَ جماعية تُعرف باسم «الكيبوتز» أو مزارع تعاونية تُعرف باسم «موشاف»، أو في تل أبيب، وهي أول مدينة يهودية في التاريخ الحديث. وأُقيمت مؤسَّسات وطنية حديثة للمساعدة في عمليات الاستيطان وتطوير البنية التحتية ونشرِ الثقافة العبرية الناهضة. وأزالت هزيمةُ العثمانيِّين آخرَ العقبات أمام هجرة اليهود وشرائهم الأراضي. وعليه اشترى اليهود رقعًا كبيرة من الأرض في منطقة الجليل وعلى طول الساحل، واستقروا فيها بسرعة. وعلى الصعيد الدبلوماسي أيضًا بدا وكأن الحركة الصهيونية قد حقَّقت نصرًا واصبًا. فقد أُدمج نصُّ وعد بلفور — الصادر عام ١٩١٧ الذي وعد بمساندة تأسيس وطن قومي لليهود — ضمن تقسيم عصبة الأمم للانتداب، الذي حكَمت بريطانيا فلسطين بموجبه. وبدا أن حُلم هيرتزل بتكوين دولة يهودية مستقلة على أرض إسرائيل يوشك أن يصبح حقيقة.
ولكن نصف المليون عربي في فلسطين لم يكن لهم مكان في رؤية هيرتزل، فلم يحتفلوا بازدهار المجتمع الصهيوني، أو بالتأييد الذي منحه البريطانيون إياه. ومع أنهم انجذبوا إلى المزايا الاقتصادية التي نتجَت عن الاستيطان الصهيوني — إذ سيدخل فلسطين نحو ٣٠٠ ألف عربي البلاد من الدول المجاورة — فإن آلاف الفلاحين الفلسطينيِّين قد تشردوا عندما اشترى اليهود الأراضي، وهُمِّش العمال في المدن وحلَّ محلهم عمالٌ يهود أكثر معرفةً بالتكنولوجيا الحديثة. وراقب العرب، في ظل توتُّر متصاعد، نشوءَ كيان يهودي علماني بدرجة كبيرة على النمط الغربي بينما يضرب بجذوره في قلب بلاد الإسلام. وبدأ عرب فلسطين في الاتحاد ضد المشروع الصهيوني، مستقين إلهامَهم من ذات الأفكار الوطنية التي كانت تشعِل حماسة الثورات المضادة للاستعمار في مصر وسوريا والعراق، وتحت تأثير إعادة إحياء الأفكار الإسلامية التي كانت تزدهر في المنطقة. وبدءًا من عام ١٩١٩ أقيم عددٌ من المؤتمرات الوطنية للمطالبة باستقلال العرب في فلسطين، ولتنسيق أعمال المقاومة ضد الصهيونية.
وتزامنت صحوة الوعي الوطني العربي في فلسطين مع اندلاع موجة جديدة من المذابح في جنوب روسيا وأوكرانيا. واضطُر عشرات الآلاف من اليهود إلى البحث عن ملجأ خارج البلاد. في السابق كان العديد من هؤلاء الضحايا يجدون ملجأهم في الولايات المتحدة، ولكن التطبيق الصارم لقانون الهجرة الأمريكي الذي شرعه الكونجرس والذي حدَّد حصصًا لأعداد المهاجرين من كل دولة أدَّى إلى تقليص الهجرة إليها ووجَّه هؤلاء المشردين وجهتهم نحو فلسطين. ولقيت هذه الموجة الجديدة من اليهود ترحيبَ اليشوف، لكنها لم تلقَ من جانب العرب سوى الاستياء والخشية منها. فهاجم العربُ الأحياءَ والمزارع اليهودية مرتين — الأولى في مارس عام ١٩٢٠ والثانية في مايو عام ١٩٢١ — متسبِّبين في قتل وجَرح العشرات.
وكانت حدةُ ردِّ الفعل العربي قد صدمت بريطانيا. فقد اكتشف البريطانيون فجأة أن الوطن القومي لليهود لا يمكن أن يُبنى دون إثارة غضب عرب الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ملايين المسلمين في أنحاء الإمبراطورية البريطانية. وفي تقريره المعروف باسم الكتاب الأبيض عام ١٩٢٢، أوصى وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل بتقليص الهجرة اليهودية إلى البلاد، وأكَّد للعرب أن بريطانيا ليس لديها أيُّ نية لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية. ولتأكيد صدقِهم، عيَّن البريطانيون أحدَ أبرز الشباب الفلسطينيين — الحاج محمد أمين الحسيني، الذي كان من أشد المعارضين للصهيونية وسُجِن بسبب دوره في المظاهرات — في منصب المفتي الأكبر الذي أقيم لذلك الغرض خاصة.
وندَّد اليهود بما عدُّوه تراجعَ بريطانيا عن وعد بلفور ونكوصها عن تهدئة العنف العربي ضدهم. فقاموا بمجهودات ضخمة بلا كلل ولا ملل لإزالة قيود الهجرة عن أعدادهم ونظَّموا سرًّا جيشَهم الخاص، المسمَّى بالهاجاناه، وهي كلمة تعني الدفاع. واعترض قطاعٌ آخر من المجتمع الصهيوني أُطلق عليهم «المجدِّدون» بقيادة القائد العنيد الصلب فلاديمير (زائيف) جابوتنسكي، على قرار بريطانيا بفصل إمارة شرق الأردن عن فلسطين، وطالبوا بالتأسيس الفوري لدولة يهودية، «على كلتا ضفتي نهر الأردن». وفي حين أثارت بريطانيا حفيظةَ اليهود فإنها فشلت في ذات الوقت في إرضاء العرب. فقد أصر المفتي على وقف جميع أنواع هجرة اليهود فورًا، وأن يُرفع الانتداب أيضًا، تمهيدًا لإقامة دولة عربية مستقلة.
وبحلول منتصف العشرينيات من القرن العشرين كان الصراع في فلسطين قد اتَّبع نمطًا يصعب السيطرة عليه. فقد شجَّعت معاداة السامية في أوروبا على هجرة اليهود إلى فلسطين، وهو ما حفز بدوره المقاومة العربية. ولم تنجح المحاولات البريطانية المتتالية لتهدئة العرب سوى في إثارة حَنَق اليهود وتشجيع العرب على الضغط لتحقيق مطلبهم في الاستقلال.
لم يكن لدى الولايات المتحدة النيةُ ولا الرغبة في أن تتورَّط في هذا الصراع، بل على العكس كانت مصرَّة على أن تظل على حيادها تجاه جميع الأطراف. ومع أن الكثير من الأمريكيِّين واليهود والمسيحيِّين المؤمنين بفكرة وجوب إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين كانوا لا يزالون يأمُلون في إعادة سيادة اليهود على الأرض المقدَّسة، فإن السياسة الرسمية للحكومة الأمريكية في فترة الحرب كانت إحدى السياسات تجاه فلسطين التي تتصف بحياد لا يتزعزع. وفسَّر القادة الأمريكيون موقفَهم بأن هذه المسألة تقع ضمن صلاحيات عصبة الأمم، التي لم تنضم الولايات المتحدة إليها قط، وأنها تقع داخل سلطة انتداب بريطانيا العظمى أيضًا. ومع مجهودات الولايات المتحدة في محاولة البقاء بعيدًا عن هذا الصراع، فقد وجدت نفسها مجرورة إلى الدوامة المتصاعدة للعداء بين العرب واليهود، وإلى الفراغ الذي تركه الانسحاب البريطاني.
التمسُّك بالحياد
أسدى آلان دالاس، رئيس قطاع شئون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية النصيحة التالية إلى حكومته: «إن التزام حكومتنا بمساندة الصهاينة في هذه اللحظة بالذات سيكون أمرًا غير ملائم على نحوٍ خاص.» كان دالاس قد تلقى تعليمه في جامعة برنستون، وكان جَده لأبيه هو أحدَ المبشِّرين التابعين للكنيسة المشيخية، وابن شقيقة روبرت لانسينج، لكل ذلك كان دالاس مثالًا للدبلوماسي المحترف، الذي بحلول العشرينيات من القرن العشرين قد أحلَّ اليهود الأمريكيِّين وسطاءَ للبلاد في التعامل مع الشرق الأوسط. ورِث دالاس من المبشِّرين نفورَهم من الصهيونية؛ إذ إنهم نظروا إلى الحركة الصهيونية على أنها ضارة ومؤذية وعدوانية وتتخطى كونها جبهةً شيوعية. لذلك خمَّن أحد القناصل الأمريكيِّين قائلًا: «سوف يتحول الصهاينة ليصبحوا أمثال ليون تروتسكي إذا لم يصلوا إلى فلسطين.» وسرعان ما حوَّل هؤلاء المحترفون وزارةَ الخارجية إلى نادٍ خاصٍّ بهم، كان — حتى بمعايير وزارة الخارجية البريطانية — «يحمل مشاعرَ مضادة لليهودية». وفي ظل عدم وجود كيان عربي أمريكي يماثل الرابطة الأمريكية الصهيونية، ظهرت وزارة الخارجية الأمريكية في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الأولى باعتبارها أكثرَ القوى حُنكةً وأعلاها صوتًا في معارضة إقامة وطن قومي لليهود. فعندما قُتل أمريكيان، هما ياكوف تاكر وزئيف شارف — وكلاهما ممن قاتلوا في الحرب العالمية الأولى — أثناء مقاومتهما هجومًا عربيًّا على مستوطنة تل حي اليهودية في مارس ١٩٢٠، صمتَت وزارة الخارجية الأمريكية على نحوٍ لافت للنظر.
ولكن هذا النفور والعداء تجاه الصهيونية لم يُترجَم إلى دعوة لمساندة العرب. فالتقرير البريطاني نفسه الذي اتهم وزارة الخارجية الأمريكية بمعاداة السامية وصفَها أيضًا بأنها «معادية للصهيونية على نحوٍ يفوق مناصرتها للعرب». وفي حين احتفظ الكثيرون من هؤلاء الدبلوماسيِّين المحترفين في قرارة أنفسهم بالتعاطف التبشيري مع القومية العربية، فإنهم جاهروا بالاعتراف بالمخاوف الأمريكية المعتادة من التورط في صراعات خارجية، وكانت هذه المخاوف قد زادت منذ الحرب، مما حدا بإدارة وارن هاردينج وكالفين كوليدج وهيربرت هوفر إلى التوجُّه إلى الداخل، متقوقعين بعيدًا عن أي التزامات خارجية. وعندما استشعرت وزارة الخارجية ذلك، أوصت بأن تحتفظ الولايات المتحدة بحيادها تجاه القضية الفلسطينية، وقال دالاس: «علينا أن نتجنَّب أيَّ خطوة قد تُفسَّر على أنها دعمٌ رسمي سواء للصهاينة أو للعرب أو للمناهضين للصهيونية.»
«اقتحمت مجموعةٌ من العرب المتوحشين الباب، كان الحاخام هو أول القتلى، وبعده جاء دور الشباب غير المسلَّحين والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم فأخذوا يتلون صلوات الموت. ولقد رأيت نفرًا من أعزِّ أصدقائي يُقتلون أمام ناظري. ثم أُصِبت أنا أيضًا، وفقدت الوعي، ووجدت نفسي مدفونةً تحت كومة من الجثث.»
وصلَت إلى وزارة الخارجية تقاريرُ مماثلة، بالإضافة إلى خطاباتٍ كثيرة تطالب بالتدخل الأمريكي في فلسطين، ولم تأتِ هذه الخطابات من اليهود الأمريكيِّين فقط. فقد اتَّحدت الرابطة الأمريكية الموالية لفلسطين والمكوَّنة من رجال دين مسيحيِّين يؤمنون بفكرة وجوب إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مع جماعات صهيونية في طلب المساعدة من أجل يهود فلسطين. ومع أن النائب هاملتون فيش الابن من نيويورك كان من أشدِّ الداعين إلى السياسة الانعزالية، فإنه ضغط على حكومته «لحماية أرواح وحياة وممتلكات المواطنين الأمريكيِّين المهدَّدين من رعاعٍ متعصِّبين متمردين على القانون، عن طريق إصدار أوامرها إلى أقربِ السفن الأمريكية إلى فلسطين بالتوجُّه إلى هناك، وعن طريق عرض إرسال جنود المشاة إلى هناك.» ولكن هذه المطالب المتوسلة المؤيدة لمصالح اليهود لم تحقق تأثيرها الكامل بسبب الأصوات المعادية للصهيونية التي رفعها بعض موظفي وزارة الخارجية، وعلى رأسهم بول نابنشو القنصل العام في القدس.
كان مظهر بول نابنشو الخارجي يتَّصف بالجِدية والصرامة ويشي بالجانب الرياضي فيه — فقد كان ينظِّم مباريات البيسبول في أعياد الاستقلال الأمريكية في الرابع من يوليو في مدينة القدس — لكن هذا المظهر كان يتجهَّم عندما يتعلَّق الأمر بالصهيونية. كان نابنشو نموذجًا لعدد من موظفي وزارة الخارجية الذين عُرفوا إجمالًا فيما بعدُ — وعلى نحوٍ تهكمي — باسم «المستعربين»، وهم دبلوماسيُّون عمِلوا سنواتٍ عدة في الشرق الأوسط، وألمُّوا باللغة العربية، واحتقروا الحركةَ الصهيونية. كان نابنشو لا يأبه بوثيقة وعد بلفور بِعدِّها نتاجَ «التأثير المالي اليهودي» من وجهة نظره، وأنكر أيضًا أن يكون لحائط البراق (الجدار الغربي) أيُّ قيمة بخلاف كونه أثرًا رومانيًّا قديمًا، وزعم أن هذا الحائط لا يمُتُّ لليهود بأيِّ صلة. وادَّعى نابنشو أن اليهود بسبب سلوكياتهم المستفزة قد استثاروا العرب «الملتزمين بالقانون» للقيام بأعمال شغب، تمامًا كما كانوا قد تسبَّبوا في المذابح الروسية لليهود. وقال: «اليهود هم المسئولون دائمًا، وهم يتسبَّبون لأنفسهم في المشاكل دائمًا.»
وكان هذا الخلاف بين الأمريكيِّين المؤيدين للصهيونية وموظفي وزارة الخارجية من أمثال نابنشو يمثِّل صراعًا آخرَ بين تفسيرات متنافسة للعقيدة. فقد كان الفريق الأول يؤمن بأن قيمَ أمريكا المدنية — إن لم يكن تراثها الديني — يفرض عليها المساعدة في إقامة وطن قومي لليهود، في حين استغل الفريق الآخر تلك المبررات نفسها في معارضة المشروع نفسه. وتصاعد ذلك التوتر فيما بعدُ تماشيًا مع تصاعد الخلافات العربية اليهودية. ولكن في معظم فترات العَقد التالي، وقَع الأمريكيون في محنٍ داخلية أخرى. فبعد أربعة أشهر من اضطرابات عام ١٩٢٩ انهارت سوق الأسهم وتعرَّضت الأحوال الاقتصادية لاضطراب هائل. وهكذا أصبح مستقبل فلسطين شأنًا لا أهميةَ له لملايين الأمريكيِّين المنشغلين بتأمين حصولهم على حاجتهم من الطعام.
أدَّت أزمة الكساد الكبير أيضًا إلى تقليل قدرة الصهاينة الأمريكيِّين على التأثير في السياسة الحكومية تجاه فلسطين. وتسبَّب الانهيار الاقتصادي في إصابة اليهود بصورةٍ خاصة بالدمار — الذين كان عددٌ كبير منهم مستثمرين ورجال أعمال — ولم يَعُد باستطاعتهم المشاركة في السياسة والأعمال الخيرية. وسرعان ما أصبحوا هدفًا لأعداء السامية، من أمثال هنري فورد والأب تشارلز كافلين، اللذين اتَّهما «اليهودية الدولية» بالتخطيط لحدوث الكساد الكبير من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة، ودَعَوَا المسيحيِّين الأمريكيِّين إلى التضامن ضد التأثير اليهودي الخبيث. وقالت مجلة «فورتشن» في هذا الصدد: «الأمريكيون يتفوَّقون على النازيِّين في كراهيتهم لليهود»، إشارةً إلى استقصاء للرأي أظهر أن أكثرَ من نصف الشعب الأمريكي يؤمن بمعتقدات معادية للسامية عميقة الجذور. وإلى جانب خشية الأمريكيِّين الصهاينة من هذا التحامل عليهم، ازدادت القيودُ عليهم بعد انتخاب فرانكلين ديلانو روزفلت لمنصب الرئاسة عام ١٩٣٣. وبصرف النظر عن مواقف روزفلت حول فلسطين، كان بإمكانه الاعتماد على دعم ومساندة الجالية اليهودية الأمريكية الليبرالية والديموقراطية، وظل صامدًا أمام جماعات الضغط الصهيونية.
وفي أبريل عام ١٩٣٦، اجتمعت هذه العوامل الثلاثة — الحياد الأمريكي فيما يخص فلسطين، ومعارضة وزارة الخارجية للصهيونية، واستضعاف اليهود الأمريكيِّين — عندما نشِبت أعمالُ العنف مرة أخرى في الأرض المقدسة. فقد ثارت ثائرةُ العرب في فلسطين بوصول ١٦٤٠٠٠ لاجئ يهودي فِرارًا من ألمانيا النازية، وطالبوا مرة أخرى بوضع حد للهجرة اليهودية ولشراء الأراضي. ودعا المفتي — الذي كان آنذاك يرأس ما يسمَّى «اللجنة العربية العليا» التي ضمَّت قوًى سياسية مختلفة — إلى تنظيم إضراب واحتجاج عام، ولكن هذه الإجراءات السلبية سرعان ما أفسحت المجالَ أمام هجمات مسلَّحة ضد أهداف بريطانية ويهودية معًا. واصطفت في كثير من شوارع فلسطين سيارات ومركبات متفحِّمة ومليئة بثقوب الرصاصات بعد وقوعها ضحيةً لأكمنة العرب، واتَّشحت الحقول بالسواد بعد احتراقها وتبعثرت في أرجاء الريف خطوطُ أنابيب نقل النفط المدمَّرة. وكتب جورج وادزورث، القنصل الأمريكي في القدس، وهو من المستعربين الذين لم يتعاطفوا قط مع الصهاينة: «يهود فلسطين الذين عاشوا شهورًا طويلة في ظل الإرهاب شاهدوا أفرادًا من جاليتهم مطعونين في شوارع المدينة، أو مقتولين في الحقول، أو حتى وجدوهم قتلى في منازلهم». وقد قُتِل في هذه الأحداث ٤١٥ يهوديًّا.
وتمثَّل ردُّ بريطانيا على هذه الثورة العربية — وهو الاسم الذي أُطلق عليها — في القيام بإجراء تحقيق آخر، وإعداد تقرير آخر. وأوصت لجنةٌ ملكية ترأَّسها اللورد بيل بتأسيس دولة عربية في معظم أراضي فلسطين بما في ذلك غزة والضفة الغربية، وتأسيس دولة يهودية في السهول الساحلية ومنطقة الجليل. على أن تحتفظ بريطانيا بمنطقةٍ حول القدس وبمنفذ إلى ميناء يافا. واقترحت اللجنة أيضًا أن تقتصر الهجرة اليهودية على ١٢ ألف مهاجر في السنة، وكتب طالبٌ بارع يدرُس في السنة النهائية بجامعة هارفارد يُدعى جون فيتزجيرالد كينيدي مؤيدًا تلك الخطة قائلًا: «يبدو لي أن الشيء الوحيد الذي سيؤتي أُكله هو تقسيم البلد إلى مقاطعتين مستقلتين بذاتهما.» وبعد جولات كينيدي في فلسطين ومشاهدته أعمالَ العنف على الطبيعة أصبح مقتنعًا بأن التقسيم هو السبيل الوحيد لإيجاد التوافق بين «الموقف المتعجرف لليهود» الرامي إلى «الهيمنة الكاملة» على البلاد والمخاوف العربية من كل من «تفوق» اليهود والوعود البريطانية المتضاربة لكلا الطرفين. فعلَّق قائلًا: «من الصعب للغاية التعامل مع الموقف برُمَّته.»
ولكن هذا الموقف ازداد سوءًا بازدياد الهجمات على اليهود في شرق ووسط أوروبا، وانتهى إلى مذبحة نوفمبر عام ١٩٣٨ الشهيرة التي عُرفت باسم مذبحة «ليلة الكريستال». فقد قامت أعمال شغب بإيعاز ودعم حكومي في كلٍّ من ألمانيا والنمسا وإقليم السوديت، مخلفةً وراءها نحو مائة قتيل يهودي وآلاف الجرحى. ودُمِّر أكثر من ألف معبد يهودي و٧٥٠٠ منشأة تجارية يهودية، وأُلقي القبض على ٣٠٠٠٠ يهودي ثم رُحِّلوا إلى معسكرات الاعتقال. وندَّدت الولايات المتحدة بشدة بهذه الإجراءات التعسفية، لكنها أحجمت عن مدِّ يد العون لضحاياها. وفي مؤتمر إفيان بفرنسا، اجتمع ممثلو الولايات المتحدة بالإضافة إلى ممثلي ٣٢ بلدًا آخرَ ليدرُسوا البدائلَ المختلفة للتخفيف من معاناة العدد المتزايد من المهاجرين إلى أوروبا، ولكنهم في النهاية لم يتوصَّلوا إلى حلٍّ. ولمَّا كانت أبواب فلسطين موصدةً في وجه اليهود من الناحية الفعلية، شعروا بأنهم آلوا إلى الضياع.
وخوفًا من احتمال تعرُّض شعبٍ بأكمله للتدمير، تخلَّى العديد من اليهود الأمريكيِّين — صهاينة كانوا أو غير صهاينة — عن القيود التي فرضتها عليهم فترة الكساد الكبير، واستنفروا معترضين على توصيات اللورد بيل. فأُرسلت الرسائل إلى مئات النواب في الكونجرس، تحثُّهم على الاحتجاج على «هذا التخلي الجذري — إن لم يكن تراجعًا تامًّا — عن سياسة الانتداب على فلسطين»، ودعوهم إلى «الحفاظ على الوطن القومي لليهود باعتباره خيطَ الأمل الأساسي» للضحايا اليهود المعذبين في أوروبا. كانت نتيجة هذه الحملة تبدو مبشِّرة في البداية. وأكَّد النائب دونالد أوتول للزعيم الصهيوني ستيفن وايز، أنه «كونه من نسل الأيرلنديِّين الذين حاربوا مئات السنين لتأسيس دولة لأنفسهم، فإنه سيحارب بكل [ما أُوتي من] شجاعة وذكاء وقدرة ضد موافقة الولايات المتحدة بأي صورة من الصور على هذا التقسيم». وقدَّم ١٢ نائبًا مذكرة للرئيس روزفلت ليثني بريطانيا عن فكرة تعديل الانتداب من جانب واحد.
وفي حقيقة الأمر فإنِّ اتخاذ قرار بالتوسُّط في هذا الصراع الذي يبدو بلا حل والانحياز إلى أيِّ طرَف فيه لم يكن في يد الكونجرس أو وزارة الخارجية أو حتى الشركات الكبرى. وإنما ظل في يد الرئيس وحدَه، الذي كان يقود شئون دولته الخارجية متمتعًا بسلطة قوية مع أنه كان يفعل ذلك من كرسي متحرك.
وعلى الرغم من إعاقة فرانكلين ديلانو روزفلت، فقد كان أخَّاذًا بسِحره الذي يبعث على الطمأنينة، وبسلوكه الأرستقراطي، وقد اعتاد أن يدخن السجائر من حاملٍ معدني كان يبرز من فمه عندما يبتسم ابتسامته العريضة، لكنه كان أيضًا سياسيًّا ماكرًا للغاية، ورجل دولة يفهم حدودَ السلطة وإمكانياتها. تأرجح روزفلت خلال مسار عمله العام بين الاتجاه الدولي للرئيس الأمريكي ويلسون والانشغال بالشئون الداخلية، وبين السعي لاتباع سياسة قائمة على القيم والمُثل الأمريكية، واتباع سياسة قائمة على الاعتبارات السياسية الواقعية. وقال عنه سلفُه هربرت هوفر: «إنه متلوِّن كالحرباء»، أما بشأن القضية الفلسطينية بصورة خاصة فكان روزفلت مترددًا للغاية.
كان الصهاينة الأمريكيون مقتنعين بأن الرئيس يساندهم بقوة، وحتى كبار المسئولين آمنوا بأنه يؤيد سرًّا إقامةَ دولة يهودية، وقد عبَّر الرئيس روزفلت لوزير خارجيته كورديل هال عن إحباطه من محاولات بريطانيا تقليلَ الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقال متحدِّيًا: «إنه أمر يستحيل أن توافق عليه الولايات المتحدة.» ولكن روزفلت كان أيضًا متخوفًا من أن ذلك قد يفتح الباب لانطلاقِ ما أسماه «الجهاد المقدس» من جانب العالم العربي تجاه فلسطين، مفضلًا أن يستوطن اليهود اللاجئون أيَّ مكان آخر؛ باراجواي مثلًا أو إثيوبيا. واعترف لوزير خزانته هنري مورجنتاو الابن، الأمريكي اليهودي وابن السفير الأمريكي السابق لدى تركيا: «لو كان الأمر بيدي لوضعت سورًا ذا سلك شائك حول فلسطين. ولتركت القدس على حالها، ولجعلت إدارتها في يد لجنة مشتركة تضم الكنيسةَ الكاثوليكية اليونانية الأرثوذكسية والبروتستانت واليهود.» وحيث كان مقتنعًا بأن «حق العرب الفلسطينيِّين في القدس أقلُّ من حق اليهود»، اقترح أنه يمكن «بقليل من البقشيش» إغراءُ مئات الآلاف منهم بالرحيل والاستيطان في العراق.
واستجابت الولايات المتحدة للأزمة الفلسطينية عن طريق الالتزام مرةً أخرى بالحياد. وكتب هال إلى وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن يقول: «طوال سنواتٍ اهتمَّت قطاعاتٌ عريضة من الشعب الأمريكي بإنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين.» وأشار إلى القلق العميق الذي تستشعره «الدوائر اليهودية ذات النفوذ في الولايات المتحدة» تجاه موضوع الهجرة، ولكن بدلًا من تأكيد الحاجةِ إلى السماح لعدد أكبر من اليهود بدخول فلسطين، طلب هال ضمانَ أمن وسلامة المواطنين الأمريكيِّين المقيمين هناك فقط. واختتم هال خطابه بطمأنة إيدن بأنه «بالطبع لن يحاول التدخُّل بأي طريقة في السياسة التي ستنتهجها بريطانيا العظمى»، وهو ما أكَّد تحفُّظ أمريكا.
شعر المسئولون البريطانيون بالارتياح بسبب افتقاد الموقف الأمريكي للقوة والتشدُّد. «إذ لم يكن الأمر يستحق أن يؤخذ بجِدية» كما علَّق أحد موظفي وزارة الخارجية البريطانية على مراسلات هال، مع إيضاح أن «العِرق القديم» — أي اليهود — «ليست لهم شعبيةٌ كبيرة في أمريكا» وأنهم يعجزون عن التأثير في السياسة. على أن رضا البريطانيِّين عن الحياد الأمريكي لم يمنعهم من سحق ثورة العرب، وهو ما أدى إلى وقوع ضحايا بلغ عددُهم عشرين ألف شخص، ونُفِيَ المفتي من فلسطين إلى جزيرة سيشيل. وبعد قهرِ آمال العرب في فلسطين وإخمادها، سعى البريطانيون إلى هدم آمال اليهود. ففي ١٧ من مايو عام ١٩٣٩ أصدرت حكومة جلالة ملك بريطانيا وثيقةً بيضاء أُلغي بموجبها عمليًّا شراء اليهود للأراضي في فلسطين، وحُدِّد عدد اليهود القادمين إلى فلسطين بنحو خمسة وسبعين ألف شخص في السنوات الخمس التالية، ومُنح العرب حقَّ الاعتراض على أي عدد آخر من المهاجرين. ونُزِع سلاح الهاجاناه التي كانت قد ساعدت الجيش البريطاني في إخماد ثورة العرب، وجُرِّمت بسبب محاولاتها تهريبَ لاجئين يهود إلى داخل فلسطين. ومن العراق، علَّق القنصل الأمريكي بول نابنشو مثنيًا على تلك الخطوة: «الوثيقة البيضاء انتصار مؤكَّد للعرب. والسياسة البريطانية الجديدة … تجعل من المستحيل إنشاء دولة يهودية.»
كان أكثر الأجنحة جاذبيةً في معرض نيويورك العالمي الذي كان يقدِّم عروضًا شرق أوسطية أخرى، هو جناح فلسطين. وقد أهداه عالِم الفيزياء ألبرت أينشتاين في الشهر نفسه الذي صدرت فيه الوثيقة البيضاء، وكان الجناح يضم مقهًى على شاكلة مقاهي تل أبيب، «المتخصِّصة في تقديم الأطباق الفلسطينية الشهية»، بالإضافة إلى نموذجٍ لهيكل سليمان، وجداريات تصوِّر إنجازات الصهيونية في مجالات الزراعة والعلوم والفنون. تولَّت مهمة الترحيب بزوار الجناح فتاةٌ شابة كانت جندية في الهاجاناه وتعمل في إحدى المزارع التعاونية، ووُصفت بأنها «أجمل فتاة في فلسطين». وبجانب الملذات البصرية وتذوُّق الأطعمة، كان الزوار يتلقَّون أيضًا رسالة سياسية تقول: «في الوقت الذي يُستخدم وطننا لعبةً لتحقيق مآربَ بعينها في خِضم الدسائس الدولية، يكشف التنوير الذي يقدمه هذا الجناح أن أهداف اليهود وآمالهم في أرض إسرائيل له أهمية قصوى.»
وبحلول عام ١٩٤٠ كان أكثر من ثلاثة ملايين أمريكي قد زاروا الجناح الفلسطيني؛ أي أكثر من مجموع زائري العروض «الشرقية» في المعرض الكولومبي عام ١٨٩٣. وقدَّم سول بلوم — العقل المفكر للعروض المبهرة التي قُدمت في معرض كولومبيا الذي أصبح آنذاك نائبًا في الكونجرس عن نيويورك — يدَ المساعدة للحصول على التصاريح اللازمة لإقامة المعرض. زعم بلوم أن اليشوف في إسرائيل هو إعادة إحياء للغرب الأمريكي القديم، وتجسيدًا لروح الريادة. وقد نُبِّه زائرٌ آخر للمعرض — هو عمدة مدينة نيويورك فيوريللو لا جوارديا — لأمر «المجهودات الضخمة وروح التضحية التي يجب أن يمتلكها الرواد لكي يحقِّقوا النجاح». ولم تتضمَّن هذه التصريحات أيَّ إشارة إلى العرب — الذين كان غيابهم واضحًا؛ إذ لم يشاركوا في أيٍّ من هذه العروض المقامة في الجناح — أو إلى تصميمهم على معارضة المزاعم البريطانية واليهودية في فلسطين.
جوانب الحياة في فلسطين
كانت فلسطين لمعظم الأمريكيِّين في فترةِ ما بين الحربين العالميتين — سواء كانوا من الصهاينة أو من المستعربين بوزارة الخارجية — مجرَّد شيء نظري ومجرد موضوع يُطرح للنقاش في المناظرات المحلية أو ملاذًا بعيدًا يلوذ إليه اللاجئون. ولكن التساؤلات بشأن مستقبل فلسطين تجاوزت بكثير أمورَ السياسة والأعمال الخيرية للأمريكيِّين المقيمين بصورة مؤقتة أو دائمة في فلسطين الذين بلغ عددهم نحو ألف وتسعمائة مواطن أمريكي، وهو عددٌ يتجاوز عددَ الأمريكيِّين الموجودين في جميع مناطق الشرق الأوسط مجتمعة. مثَّلت فلسطين لهؤلاء الأمريكيِّين التزامًا عاطفيًّا وأحيانًا ماديًّا كبيرًا، كما مثَّلت لهم التضحيةَ والنضال على المستوى الفردي أو القومي. ومع ضآلة هذا العدد بالمقارنة بإجمالي عدد السكان، فقد كان لهؤلاء الأمريكيِّين تأثيرٌ كبير على تطور فلسطين تعليميًّا وتكنولوجيًّا وزراعيًّا، وكانت لهم أهمية كبيرة في النضال الذي حدَّد وضعها النهائي.
كان أكثر من ثلثي الأمريكيِّين المقيمين في فلسطين من اليهود، وكان لدى معظمهم دافع شخصي كبير للوجود هناك، فكانوا مستعدين — مثلهم مثل المسيحيِّين المستوطنين في القرن التاسع عشر — للتخلي عن المباهج ووسائل الراحة في «عالمهم الجديد» لكي يعملوا ويستقروا في الأرض. كان بعضهم قد خدم في الفيلق اليهودي وظلوا في فلسطين حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، في حين كان البعض الآخر قد فرَّ من مساكن اليهود البائسة في أمريكا بحثًا عن حياةٍ تمنحهم قدرًا أكبرَ من الرضا والصحة. وكان عدد مذهل من هؤلاء المهاجرين من النساء سواء كن متزوجات أوغير متزوجات، اللاتي كن متلهفات على التحرر من قيود التقاليد وعلى التمسُّك بوعدٍ — لم يكن يُنفَّذ على الدوام — يضمن لهم الهروب من التمييز والحصول على المساواة الصهيونية. كان من المقدَّر لواحدة من هؤلاء النساء أن تشتهر بين قريناتها، وهي خياطةٌ سابقة وتعمل في سلك التعليم المدرسي اسمها جولدا مابوفيتز.
تذكَّرت جولدا وصولَها من مدينة كييف الأوكرانية وهي طفلة عام ١٩٠٦، إلى مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن الأمريكية، فقالت: «طعام جديد، وأصوات محيِّرة للغة غير مألوفة لي تمامًا. لا أزال أتذكَّر وقوفي في الشارع وتساؤلي: مَن أنا وأين أنا.» ولمَّا كانت جولدا تخفي خلف مظهرها الحزين بديهةً سريعة وحماسة متقدة سابقة لأوانها، فقد تواءمت بسرعة مع الحياة الأمريكية، وشاركت في أنشطة نوادي المدارس الثانوية في الوقت الذي كانت تعمل فيه من أجل تخفيف حدة فقر عائلتها. كانت مدينة ميلووكي مثل كثير من المجتمعات اليهودية في ذلك الوقت بمنزلة الإناء الذي تغلي فيه حركات أيديولوجية متنافسة هي الحركة اليهودية الاشتراكية وحركة حزب البوند اليهودي والحركة الصهيونية. وقد جذبتها الحركة الصهيونية بشدة، فأصبحت ناشطةً في الجناح الصهيوني الاشتراكي. وعام ١٩٢١، بعد زواجها من موريس مايرسون، غادرت ولايةَ ويسكونسن متجهة إلى فلسطين.
تسترجع جولدا فيما بعدُ ذكرياتها السعيدة قائلة: «أدين لأمريكا بالكثير. وأنا لم أتركها هاربةً من الاضطهاد أو عدم الإحساس بالأمان وإنما تركتها من أجل المشاركة في الإعداد لاستقلال وأمان شعبي.» وعلى متن سفينة غير لائقة وغير صالحة للإبحار اسمها بوكاهونتاس، كانت رحلتها إلى فلسطين التي استغرقت شهرًا كاملًا من المشقة لتصل في النهاية إلى ميناء الإسكندرية بمصر. شعرت جولدا بالصدمة عند وصولها؛ إذ شعرت في أول احتكاك لها بالشرق الأوسط بما ردَّدته أجيال من المسافرين الأمريكيِّين عنه: «جموع من الشحاذين، رجال ونساء وأطفال يرتدون الأسمال البالية والذباب يغطيهم»، فسارعت إلى اللحاق بالقطار المتجه إلى يافا. لكنها عندما وصلت هناك والتقت بالرواد الصهاينة من شرق أوروبا، شعرت بخيبة أمل من نوع آخر. وقالت: «لقد نظروا إلينا — نحن المهاجرين من الولايات المتحدة — على أننا «ناعمون» ومدلَّلون، ورأوا أننا لن نحتمل البقاءَ في فلسطين وسنهرب منها بعد بضعة أسابيع.» وفيما بعد، وفي مرج ابن عامر، عندما أصبحت عضوة في المزرعة التعاونية مرحافيا، المكوَّنة من مجموعة من الأكواخ المتاخمة للمستنقعات، قاست جولدا من فقرٍ أسوأ بكثير مما قاسته في ميلووكي. فقالت: «لم يكن هناك سوى أقل القليل لنأكله، وما كان متاحًا من الطعام كان مذاقه فظيعًا.» ومع ذلك، فإن العمل عشر ساعات في الحقول وفي أقفاص تربية الدواجن أسهم في خلق مشاعر الرضا الشديد داخل نفس هذه السيدة القوية الشكيمة العريضة العظام التي تميل نحو المثالية، وأمدَّتها بشعور بالانتماء وبالهدف، فقالت: «كنت في غاية السعادة.»
لم تكن جولدا مائير هي المرأة الأمريكية اليهودية الوحيدة التي تركت أثرًا ملموسًا في أرض إسرائيل. إذ كانت هناك أيضًا هنريتا سولد، الراقية البرجوازية ذات التعليم المتميز، التي لم تكن تمتلك أي كفاءة سياسية ولا أي حظ في الحب، لكن الأثر الذي تركته لم يكن ليختلف كثيرًا عن أثر جولدا مائير. وُلدت هنريتا في بالتيمور ابنة لحاخام شهير، ونشأت في بيئة يهودية متحررة وعلى مبادئ جمعية الأصدقاء الدينية التي تُعرف باسم كويكرز. وأثناء عملها معلِّمةً للتاريخ وعلم النبات واللغات الأوروبية، بدأت في كتابة عمود صحفي واسع الانتشار هاجمت فيه الاستعمار ودعت إلى حفظ حقوق الأقليات. وبعد ذلك، عندما أصبحت رئيسة الجمعية اليهودية للنشر، ألقَت محاضرة في معرض شيكاجو الدولي عام ١٨٩٣. لم يكن النشاط السياسي هو ما فتن هنريتا بالصهيونية — مثلما كانت الحال مع جولدا مائير — وإنما جاء افتتانها على النحو الذي حدث مع الشاعرة الأمريكية اليهودية إيما لازاروس؛ إذ جاء وهي تقدِّم مساعدات الإغاثة للاجئين اليهود القادمين من روسيا. كتبت هنريتا تقول: «أنا آكل وأنام وأشرب مع الروس» وقد تشرَّبت أيضًا أفكارهم غير التقليدية ولا سيما فيما يتعلَّق بالصهيونية. وتباهت قائلة: «أصبحت صهيونية عام ١٨٩١، أي قبل هرتزل بخمس سنوات»، ولكن ستمر عشرون سنة كاملة قبل أن تقوم بأول زيارة لها لفلسطين.
كانت التجربة صادمة لهنريتا وملهمة لها في آنٍ واحد. فقد انبهرت بالالتزام والعمل الجاد للمستوطنين اليهود في الجليل، لكن وبنفس قدْر انبهارها كان تأفُّفها من الأحوال المتردية للمدن الفلسطينية سواء بين العرب أو بين اليهود كما تأفَّفت بوجه خاص من الظروف المؤسفة التي تعانيها النساء. واعترفت قائلة: «أعتقد أن الصهيونية هدف صعب التحقيق أكثر بكثير مما كنت أعتقد قبل ذلك»، لكنها أصرَّت على أنها «مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بأنه إن لم تكن الصهيونية، فلا شيء آخر غيرها». وعادت مصمَّمة على التخفيف من المعاناة التي شهدتها، ومن أجل تحقيق هذا الهدف عقدت اجتماعًا في ٢٤ من فبراير عام ١٩١٢ في نيويورك لأول مؤسسة نسائية صهيونية. وكان الهدف الأساسي لها هو تمويل إرسال ممرضتين مدرَّبتين إلى القدس، لكن هذه المؤسسة كبُر حجمها بسرعة، وبحلول الحرب العالمية الأولى كانت تمدُّ فلسطين بفريق مكوَّن من ٤٥ فردًا ما بين طبيب وممرض و٤٠٠ طن من المؤن. كانت هنريتا — شأنها شأن كلارا بارتون — تنظر إلى تقديم الرعاية الصحية الحديثة على أنه بمنزلة هدية أمريكية فريدة للشرق الأوسط، وأشار الاسم الذي منحته لهذه المؤسسة — بنات صهيون الأمريكيات — إلى هذه النظرة الوطنية. وفيما بعد استخدمت هنريتا سولد اسمًا تقليديًّا أكثر لهذه المؤسسة مأخوذًا من الاسم العبري الأصلي للملكة إستير، هو «هاداسا».
ازدهرت هذه المؤسسة فيما بعدُ لتصبح أكبرَ مؤسسة صهيونية أمريكية، وشاركت في عدد من النشاطات الاجتماعية والسياسية، ولكن تقديم العلاج والمستشفى اليهودي في القدس الذي تحمل اسمه ظلَّ بؤرة اهتمامها الأول. على أن هنريتا كانت ترى أن منظمة الهاداسا ليست سوى نقطة البداية. انفطر قلب هنريتا عندما بلغت سنَّ التاسعة والخمسين بعد فشل قصة حبها مع أحد علماء التلمود الذي كان يصغرها سنًّا، وقررت أن تنتقل لتعيش في فلسطين بصورة دائمة. وقامت بمجهودات كبيرة للعناية بالأطفال اللاجئين القادمين من ألمانيا، فكانت تستقبل كلَّ سفينة عند رسوها في ميناء حيفا، وتساعد في بناء البنية التحتية للخدمات الاجتماعية للدولة اليهودية التي كانت لا تزال في طور الجنين. ومع أن هنريتا سولد لم تكن قط سياسية محنَّكة كمائير، فإنها كانت تدانيها في العناد وقوة التحمُّل البدنية. فكانت — حسبما أقرَّت بنفسها — «تعمل بجد» ومهيأة «ببنية جسدية قوية والتزام بالواجب وقدرة هائلة على الانحياز للحق ورفع الظلم». وكان تصاعُد الصراع داخل فلسطين هو أكثر ما يثير حفيظتها. فأكَّدت أنها «كانت دائمًا تؤمن بأن العلاقات بين العرب واليهود يجب أن تكون في بؤرة اهتمام التفكير الصهيوني».
لم يَفُق أحدٌ من اليهود الفلسطينيِّين يهودا لايب ماجنيس في الفترة الطويلة التي قضاها يناضل من أجل تأسيس الدولة المزدوجة القومية أو في تعلُّق هذه المسألة باسمه. وُلِد هو أيضًا في الولايات المتحدة، عام ١٨٧٧، بمدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا، حيث تميَّز محرِّرًا في المجلة التي كانت تصدرها المدرسة الثانوية التي درس بها، وبأنه الرامي الأول لفريق البيسبول بالمدرسة. على أن ماجنيس لم ينجذب إلى الأدب أو الرياضة بل انجذب إلى أن يكون حاخامًا وإلى الصهيونية.
كان يهودا ماجنيس رقيق القسمات وذا مواهب خطابية مبهرة، وسرعان ما ارتقى ليشغَل منصب رئيس الاتحاد الصهيوني الأمريكي، وارتقى أيضًا ليكون حاخامَ أهم المعابد اليهودية الإصلاحية وأشهرها في نيويورك وهو معبد إيمانو-إل. وفي إشارة إلى الآباء المؤسِّسين للولايات المتحدة أكَّد ماجنيس التناغمَ بين إيمانه بالله وإيمانه بمزايا الديمقراطية والتعددية، فقال: «لقد تعلَّمت من الرسل العبرانيِّين كيف أن دِين إسرائيل كان يعني لهم تدخُّلهم في الشئون السياسية للدولة.» وباعتباره رئيسًا لإحدى المنظمات المعنية بشئون اليهود في نيويورك، طبَّق ماجنيس هذه المبادئ ليُحدث التقارب بين الفِرق اليهودية المختلفة في المدينة. ولكن هذه المبادئ المثالية دفعته أيضًا خلال الحرب العالمية الأولى إلى الإعلان بأنه من دعاة السِّلم المناهضين للحرب، ودفعته أيضًا لأن ينأى بنفسه بعيدًا عن غالبية الصهاينة الأمريكيِّين الراغبين في الاستقلال على «أرض إسرائيل». على أن ماجنيس كان يرتبط بصلات وثيقة مع جماعة من النخبة اليهودية القليلي العدد، وكانوا ينظرون إلى فلسطين على أنها مركز ثقافي وديني لليهود، وليست بالضرورة دولة سياسية لهم.
لم يأبه ماجنيس بالانتقادات التي وُجِّهت لآرائه السياسية، بل انتقل إلى القدس عام ١٩٢٢، ليصبح مستشارًا للجامعة العبرية الجديدة ثم رئيسًا لها فيما بعدُ. ومع أن ماجنيس ارتبط بحركة بريت شالوم «اتفاق السلام» — وهي حركة ثقافية فكرية ضمَّت بين أعضائها ألبرت أينشتاين والفيلسوف مارتن بوبر، ودعت إلى إقامة دولة مزدوجة القومية باعتبارها الحل لصراعات فلسطين — فإنه نأى بنفسه وبالجامعة عن أمور السياسة. ولكن اضطرابات عام ١٩٢٩ اضطرَّته إلى التدخل، فكتب يقول: «قد يُضطر اليهودي إلى العيش في بلادٍ أخرى تحت حماية السلاح، لكنه يجب ألا يرغب في وطن يهودي لا يمكن الحفاظ عليه على المدى الطويل إلا بالقهر الشديد للشعوب العربية والمسلمة.» وكانت الثورات التي رأى صهاينة شرق أوروبا أنها مجرَّد مذبحة أخرى قد بدت لماجنيس أنها ليست سوى صراع بين الجاليات، يشبه صراعَ تلك الجماعات التي كان يحاول التوسط وعقد صلح بينها في نيويورك. وادَّعى أن الحل يكمُن في إنشاء كونجرس فلسطيني ذي مجلسين على النمط الأمريكي، يتكوَّن أحد المجلسين من نواب منتخبين بالأحزاب، ويتكون المجلس الآخر من عددٍ متساوٍ من العرب واليهود. وأكَّد ماجنيس أنه «لن يمكننا تأسيسُ وطن في فلسطين إلا إذا كنا صادقين مع أنفسنا بصفتنا ديمقراطيِّين ومؤمنين بالتعاون والمحبة بين شعوب العالم. هناك فرصة أفضلُ لتجنُّب سفك الدماء إذا بذلنا كلَّ ما في وسعنا للعمل يدًا بيد — نحن المعلمين والمساعدين والأصدقاء — مع هذا العالم العربي الناهض.»
على أن النداءات المتكررة لماجنيس لم تَجِد أحدًا على استعداد لأن يُنصت لها. وفي حوارات سرية مع المؤرخ جورج أنطونيوس، ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، وسانت جون فيلبي المستشار السعودي الذي اعتنق الإسلام، قدَّم ماجنيس خطته للمجلسين التشريعيَّين، وناقش فكرةَ تكوين مقاطعة يهودية مستقلة داخل حدود دولة عربية مستقلة أكبر. ولكن أنطونيوس ونوري السعيد أصرَّا على الحفاظ على الأغلبية العربية في فلسطين عن طريق الحد من الهجرة اليهودية، مطالبين بقيود مشدَّدة على شراء الأراضي. وعرض فيلبي إمكانيةَ أن ينعَم اليهود في فلسطين بحماية ابن سعود بشرط حصول السعودية على قرضٍ قيمته مائة ألف جنيه إسترليني. ولم يعلن أيٌّ ممن أجرى معهم ماجنيس حواراته تأييده تلك الأفكار علنًا، أو حتى اعترف بأن تلك المحادثات قد جرَت بالفعل. وفي تلك الأثناء كان المفتي وأتباعه قد ندَّدوا بأي اتفاق يكون فيه مظهر من مظاهر الحل الوسط. وأعلن جمال الحسيني، رئيس الحزب العربي الفلسطيني التابع للمفتي: «نعلم أن الأرض لا تسعُ كلينا. فإما أن نطردهم وإما أن يطردونا.»
نظر القادة الصهاينة من جانبهم إلى ماجنيس باعتباره مفاوضًا ساذجًا مغرورًا ولن يؤدي تلهُّفه على التنازل عن الوطن القومي لليهود إلا إلى التشجيع على المزيد من أعمال العنف. وحذَّر فايتسمان من «أن العرب يفسِّرون أفكار ماجنيس على أن الأمر لا يحتاج إلا إلى مذبحة صغيرة أخرى تجعلنا نرحل». ولكن ماجنيس اشتكى من أن أكبر عائق في الجانب العربي هو الافتقار إلى الشجاعة الأدبية، وأنه «لم يُشر إليَّ بأصابع الاحتقار إلا بسبب عدم وقوف شخص عربي واحد بجانبي». وفي نهاية الأمر فإن ارتياب اليهود لم يحبِط ماجنيس بقدْر ما أحبطه خوفُ العرب.
استضافت أرض فلسطين أمريكيِّين آخرين ممن ينزِعون إلى المثالية، وهم أشخاص لم يسعَوا إلى تهدئة الأزمة فيها عن طريق الوساطة بين شعبها، بل عن طريق زراعة أراضيها بطريقة علمية. ففي فترةِ ما بين الحربين العالميتين، أمدَّت الولايات المتحدة إسرائيل بعدد كبير من الخبراء الفنيِّين الذين ساعدوا المجتمع الصهيوني على التطور زراعيًّا وعلى الازدهار في بعض المجالات. وعلى عكس جولدا مائير ويهودا ماجنيس وهنريتا سولد، لم يكن لدى الكثيرين من هؤلاء الاختصاصيِّين أيُّ علاقة سابقة بالصهيونية، ولم ينظروا إلى فلسطين قط على أنها وطنهم. بل لم يكن اثنان من أكثرهم تأثيرًا ونفوذًا يَدينون باليهودية.
كان إلوود ميد معروفًا بأنه رائد وخبير في الموارد المائية، والمهندس الرئيسي لسد هوفر بالولايات المتحدة، وصانع بحيرة ولاية نيفادا وقد أُطلق عليها اسمه فيما بعد، وأغلب الظن أن ميد لم يكن قد سمِع عن الصهيونية أثناء سنوات طفولته التي قضاها في مدينة باتريوت بولاية إنديانا، أو أثناء دراسته الجامعية في جامعة «أيوا ستيت» وجامعة «بوردو». اتجهت أنظار قادة الصهيونية إليه بعد نجاحه في استعمال أساليب الري الحديثة في منطقة إمبريال فالي بولاية كاليفورنيا — وهي منطقة تتشابه جغرافيًّا ومناخيًّا مع فلسطين — وكذا بعد تعيينه رئيسًا للمكتب الفيدرالي لاستصلاح الأراضي. فدعوه مرتين في عامي ١٩٢٣ و١٩٢٧ لزيارة فلسطين، لإثبات أن فلسطين — على عكس المزاعم البريطانية — بإمكانها استيعابُ الملايين من اليهود.
ولم يخيِّب ميد ظنَّهم. فمثلما كان جورج بيركنز مارش، وهو رائد التوجه الأمريكي للحفاظ على البيئة، مستاءً من الدمار الشديد للريف الفلسطيني في القرن التاسع عشر، كان ميد أيضًا مستاءً من نفس المسألة. فقد شعر أن قرونًا طويلة من الإهمال وإساءة استخدام البيئة من ملاك الأرض العرب والعثمانيِّين غير المبالين قد أدَّت إلى تجريد الأرض من الأشجار وإفراغها من مواردها الحيوية. وكان الأمل الوحيد الباقي يكمُن في المستوطنات اليهودية، التي تنبأ ميد بأنها «تبشِّر بأن تكون نسخة مكررة من جنوب كاليفورنيا»، وقال إن تل أبيب لها «نفس جاذبية لوس أنجلوس وحداثتها».
ولم تتلقَّ القيادة الصهيونية من ميد دليلًا إرشاديًّا للتطوير القومي فقط، بل حصلت منه أيضًا على أداةٍ ترويجية قوية، كان لها أهميتها في تلك الأوقات التي كثُر فيها النزاع. وجرى تطوير هذه الأداة بعد ذلك على يد الدكتور والتر كلاي لودرميلك، الاختصاصي البارز في مجال التربة بوزارة الزراعة. كان لودرميلك من ولاية نورث كارولينا، وحصل على منحة دراسية من رجل الأعمال البريطاني سيسيل رودس، وكان من المتعصبين للكنيسة الميثودية البروتستانتية، حقَّق حُلم حياته بزيارة فلسطين لأول مرة عام ١٩٣٨. ومن قبيل المفارقة أن هدفه من الزيارة لم يكن تطبيق الخبرات الأمريكية في مجال ازدهار الصحراء، بل كان هدفه هو تمشيط الشرق الأوسط بحثًا عن أدلة تشير إلى المكان الذي تهبُّ منه العواصف الرملية التي تتسبَّب في جفاف منطقة الوسط الغربي في الولايات المتحدة.
لم تختلف انطباعات لودرميلك الأولى عن المنطقة عن انطباعات ميد. فقد وجد أن «مشرحة الحضارات» في الشرق الأوسط هي نتيجة «تعصُّب المسلمين بإيمانهم القدري أن ما يحدُث إنما هو مشيئة ﷲ». وأصيب لودرميلك بالإحباط من جرَّاء هذا «التدهور العام» للأحوال، لكنه تحمَّس مع ذلك بسبب «هذا الالتزام الرائع بضرورة استصلاح الأراضي الذي لم يكن قد رآه في أي بلد من بلدان العالم القديم أو الحديث»، مشيرًا بذلك إلى المستوطنات اليهودية في فلسطين. إذ نجح المزارعون الصهاينة — باستخدام أساليب حديثة في الزراعة، وتحديث التربة وإعادة التشجير — في إعادة الأرض إلى حالتها الخصبة التي كان لودرميلك يؤمن بأنها حالتها المذكورة في الإنجيل. وبالإضافة إلى ذلك، وجد عالم الزراعة هذا — الممتلئ العريض الوجنتين — مجالًا لمزيد من التقدم. إذ كان الصهاينة بحاجة إلى مشروع قومي للري، وكان لدى لودرميلك النموذج المثالي لذلك.
كان ميد ولودرميلك يمثلان قناةَ تواصل بين القيادة الصهيونية والحكومة الأمريكية التي تخطَّت وزارة الخارجية المعادية للصهيونية، وذلك باقتناعهم بالمشروع الصهيوني ولا مبالاتهم بعرب فلسطين — إن لم يكن ازدراءهم. وقد ساعدا أيضًا في إقناع القادة الصهاينة — الذين تشكَّلت نظرتهم للعالم في ظل الإمبراطورية البريطانية — بأن مستقبل فلسطين لن يتحدَّد في لندن وحدها، بل في عاصمة قوة عظمى أخرى. وكان أبرز هؤلاء القادة هو ديفيد بن جوريون الذي يعدُّ أحد أكثر الصهاينة تميزًا في فلسطين، والوحيد بينهم الذي لم يكن مواطنًا أمريكيًّا.
على أن بن جوريون عاش أيضًا في الولايات المتحدة. فقد وُلد في مدينة بلونسك ببولندا عام ١٨٨٦، وكرَّس الكثير من سنوات صباه للأنشطة الصهيونية، وفي سن العشرين هاجر إلى فلسطين. وسرعان ما ارتقى إلى مناصب قيادية سواء في الاتحاد العمالي أو في المستعمرة اليهودية أو في حركة الدفاع، مرسخًا سُمعته عن طريق بصيرته النافذة ومثابرته، وقامته السياسية التي كانت أكبر بكثير من جسده الضئيل. وبعد إجلائه من فلسطين عام ١٩١٥، أبحر بن جوريون إلى الولايات المتحدة، فعلَّم نفسه الإنجليزية وهو في الطريق، ووصل إلى أمريكا ملطَّخ الثياب وكان الطربوش العثماني لا يزال على رأسه. بدت ناطحات السحاب في نيويورك — عندما رآها أولَ مرة — «غريبةً وتشبه الأقفاص»، ومع ذلك فقد كانت المدينة «نشيطة ومنتِجة ومادية»، مما أبهر بن جوريون أيضًا، كما أثاره «نبض الحياة الحديثة لأعظم الدول ديمقراطيةً وتطورًا». ومثل لودرميلك وميد، رأى هذا الشخص المتعصِّب للصهيونية أوجه شبه بين سكان الحدود الأمريكيِّين في الغرب الأمريكي القديم وبين الرواد اليهود في الشرق الأوسط. فقال: «نحن — الذين نسعى إلى بناء أرض جديدة وسط الحطام والخراب — يجب أن نرى كيف تحوَّلت المنافي التي كان يفر إليها المضطهدون في بريطانيا إلى دولة غنية وقوية وفريدة في مواردها وقدرتها الإبداعية.»
كان هذا التوجُّه لبن جوريون يخالف توجُّه جابوتنسكي، الغارق في اليهودية البولندية، والأهم أنه سارَ على عكس منظور حاييم فايتسمان الذي يرى أن بريطانيا هي المركز السياسي للعالم. ولكن بحلول عام ١٩٣٥، كان بن جوريون قد حلَّ محلَّ فايتسمان باعتباره الشخصية الصهيونية الأهم، وظهر باعتباره الرجل العجوز الزاهد صاحب الهالة من الشعر الأبيض، الذي لا يَكل من وضع الحسابات، والذي سيهيمن على سياسة الحركة الصهيونية عدةَ عقود. وبعدها بأربع سنوات وباندلاع الحرب العالمية الثانية وإصدار بريطانيا للكتاب الأبيض عام ١٩٣٩، أقسم بن جوريون على محاربة النازيِّين كأنه لم يكن هناك وثيقة بيضاء، وأن يحارب الوثيقة كأنه لا وجود للحرب. كان حلُّ هذا اللغز يكمُن في البلد الذي ترك انطباعًا جيدًا عليه بمخزونه المستمر من القوة مع أنه لا يزال على الحياد تجاه فلسطين وتجاه الصراع العالمي الناشئ. وآمن بن جوريون بأن الولايات المتحدة، التي شهدت ميلادًا للتوجهات الصهيونية لجولدا مائير وهنريتا سولد ولماجنيس وميد ولودرميلك يمكنها أن تشرف على ميلاد الدولة اليهودية.
اتخاذ قرار في بيلتمور
في تلك الأثناء كانت الحرب قد تفشَّت في معظم مناطق العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط. وفي حين كانت القوات اليابانية تنتقل من نصر إلى نصر على بريطانيا وحلفائها في آسيا، استولت ألمانيا النازية على معظم أوروبا. وكانت حكومة فيشي الشكلية، التي شُكِّلَت بعد سقوط فرنسا في يونيو عام ١٩٤٠، تحكم المغرب وتونس والجزائر — التي تمثل في مجموعها مليونَ ميل مربع — بالإضافة إلى مناطق الانتداب في سوريا ولبنان. وأصبحت ليبيا أيضًا تحت الحكم الفاشي بعد دخول إيطاليا الحرب. ورحَّب العالم العربي عامة بهذه التطورات. وبحلول ربيع عام ١٩٤١ وقعت في العراق ثورة موالية لدول المحور يقود جزءًا منها المفتي الأكبر المنفي الحاج أمين الحسيني، وقد سَحقت القوات البريطانية في العراق هذه الثورة. ونَهب مثيرو الشغب منشآت شركة نفط العراق التي يملك الأمريكيون بعضها، وحاصروا القنصلية الأمريكية في بغداد حيث أصيب بول نابنشو — الذي كان يومًا ما بطلَ القومية العربية — بعدوى وتوفي على أثرها. وعقد المفتي معاهدةً مع هتلر، معلنًا رغبته في «حل المشكلة اليهودية بنفس الطريقة التي تُحل المسألة بها الآن في دول المحور»، وجنَّد مسلمين من دول البلقان ليخدموا مع القوات النازية. وفي تلك الأثناء كانت الجماهير في مصر تهتف مساندةً لفيلق الصحراء (فيلق أفريقيا الألماني) وهو يخترق الصحراء الغربية متجهًا نحو قناة السويس.
لم يكن بالإمكان أن يكون الخطر الذي يتهدَّد فلسطين اليهودية أكثرَ حدة، ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية أحدَث صدعًا عميقًا بين صفوف اليهود الأمريكيِّين، وبين الصهاينة وغير الصهاينة، وحتى بين صفوف الصهاينة أنفسهم. وأحدثَ أكبر تلك الانشطارات انشقاق القادة اليهود، مكوِّنين مجموعة من تسعة من اليهود الفلسطينيِّين تحت القيادة المبدعة والمؤثِّرة لهيليل كوك، المعروف باسم بيتر بيرجسون. كانوا جميعًا أعضاءً في حركة جابوتنسكي المجددة، وأُرسل بيرجسون وفريقه إلى أمريكا في يوليو عام ١٩٤٠ لحشد الدعم والتأييد لقوة قتالية يهودية تساعد في الدفاع عن فلسطين. وادَّعى بيرجسون أن «جيشًا بهذه الروح المعنوية يمكنه بالفعل تغيير مسار الحرب في أفريقيا. إنَّ بإمكانهم تحقيق النصر!» ولهذا الغرض استخدم بيرجسون أساليبَ تعدُّ عادية اليوم، لكنها كانت تعدُّ حينئذٍ جريئة. فقد نشر نحو ٢٠٠ إعلان في الصحف الأمريكية، يقول أحدها الذي نُشر في جريدة «نيويورك تايمز»: «اليهود يقاتلون لأجل حقهم في القتال» وبنى تحالفاتٍ مع الحزبين الرئيسين في الكونجرس الأمريكي مؤيدةً لتكوين جيش يهودي، وبحلول نهاية الحرب، كان يحصل على مساندات من العديد من نجوم هوليوود، منهم فرانك سيناترا وجيري لويس ومارلون براندو.
كان اليهود الأمريكيون لا يزالون يراوغون ويعترضون في يونيو عام ١٩٤١ عندما اقتحمت القوات الألمانية روسيا السوفييتية وبدأت بتطبيق خطة «الحل الأخير». للتخلص من اليهود وإبادتهم؛ فقد أُلقي القبض على ١,٦ مليون يهودي من قِبل فِرق القتل النازية وأعوانها المحليِّين، وأُرغموا على حفر قبورهم بأيديهم ثم قُتلوا رميًا بالرصاص. أما مئات الآلاف الآخرون الذين احتُجزوا في أحياءٍ فقيرة قذرة فقد ماتوا من الجوع والمرض أثناء انتظار ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال. وأخيرًا وصلت أخبارُ تلك المذابح إلى الولايات المتحدة، ولكن القادة اليهود الأمريكيِّين ظلوا على تشكُّكهم في صحة الأنباء، ولم تضَع الصحف أنباء المذابح في صدر صفحاتها وإنما وضعتها في الصفحات الأخيرة. وفي ديسمبر، جرى من جديد إسكات الضجة المثارة حول الهولوكوست بفعالية فائقة عن طريق إعلان روزفلت الحربَ على اليابان بعد مهاجمة الطائرات الحربية اليابانية لميناء بيرل هاربر الأمريكي. وهكذا تحوَّل النضال لإنقاذ اليهود ولضمان تأسيس دولة لهم فجأةً إلى مرتبة أدنى وأقل أهمية من المجهودات الأمريكية الشاملة للانتصار في الحرب.
ولكن الصهاينة لم يتمكنوا من التغاضي عن حقيقةِ أن الولايات المتحدة كانت الآن هي القوة المهيمنة بين الحلفاء، والعنصر الفاصل في الحرب، والمخطِّط للفترةِ التي بعدها. وشرح بن جوريون أنه «حاليًّا، لا توجد أي مساعدة خارجية إلا من الولايات المتحدة. فالمساعدات الضخمة التي نحتاج إليها لتأسيس جيش واستعادة الأرض والاستقرار فيها والحفاظ على وضعنا لا يمكن أن تأتي إلا من … أمريكا». وكانت الحاجة إلى إنقاذ يهود أوروبا مع استغلال وضع أمريكا الجديد قد دفعت قادةَ الصهيونية إلى غض الطرف عن كثير من خلافاتهم وإلى الاتفاق على خطة ثورية.
وفي مايو عام ١٩٤٢، اجتمع مندوبون عن المنظَّمات الصهيونية في فندق بيلتمور بنيويورك في قاعات الطعام المبنية على الأسلوب المعماري المعروف باسم أرت ديكو، وفي هذا المؤتمر وافقوا على خطة من ثماني نقاط، دعت لأول مرة صراحةً إلى تأسيس «دولة ديمقراطية يهودية تندمج في نسيج العالم الديمقراطي الجديد». وبذلك لم يَعُد هناك وجود للمبادرات غير الواضحة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وأيضًا لم يَعُد هناك وجود للمبادرات الداعية إلى إنشاء دولة يهودية صغيرة أو للتخطيط لتأسيس مناطقَ تنعَم بالحكم الذاتي داخل حدود دولة عربية كبيرة مهيمنة. وكما ذهب كلُّ ما سبق أدراجَ الرياح، فقد ذهب أيضًا الافتراضُ الصهيوني الذي ظل قائمًا فترةً طويلة من الزمن، القائلُ إن مصير فلسطين سيتحدَّد في لندن. وبدلًا من ذلك، اتفق المندوبون على أن الولايات المتحدة تمثِّل «ساحة المعركة» الجديدة للحركة الصهيونية، وأن واشنطن ستكون لها الكلمة العليا في الصراع من أجل حصول اليهود على دولة ذات سيادة. ومنذ ذلك الحين، ستسعى الحركة الصهيونية إلى استقلالٍ تام لليهود في فلسطين، وإلى إقامةِ دولةٍ لها حدودٌ معترَف بها ومؤسسات جمهورية وجيش ذو سيادة، وأن يحدُث كل ذلك بالتعاون مع أمريكا.
ومع ذلك فلم يرحِّب كل الصهاينة بتلك القرارات. فقد هاجم فايتسمان، الموالي للبريطانيِّين، تلك القرارات، ورفضها أصحابُ فكرة القومية المزدوجة في دولة واحدة، من أمثال سولد وماجنيس، وأعلنوا انفصالَهم لتأسيس حزب خاص بهم، هو حزب الإيشود (الوحدة)، الذي دعا إلى كيان اتحادي عربي يهودي. على أن المعارضين لبرنامج أو مؤتمر بيلتمور كانوا يمثلون نسبةً ضئيلة من الحركة الصهيونية. أما الأغلبية الساحقة من الصهاينة، سواء من الأمريكيِّين أو الفلسطينيِّين، فأيدوا المبادرات الساعية لإقامة دولة يهودية مستقلة. وكانت هذه الأغلبية غيرَ مستعدة لأن تقف موقفًا سلبيًّا وهي ترى إدارة روزفلت تتجاهل الإبادة العِرقية لليهود في أوروبا وتظل على الحياد فيما يتعلَّق بفلسطين. وباستخدام استراتيجيات سريعة وقصيرة المدى بدأها وأجادها بيتر بيرجسون تمامًا، مارسَ الصهاينة الأمريكيون ضغوطَهم من أجل قضيتهم بتصاعد مستمر، سواء في الكونجرس أو في وسائل الإعلام الأمريكية. وهكذا بدأت مرحلةٌ جديدة في علاقة أمريكا بالقضية الفلسطينية.
وفي حين كان مؤيدو الدولة اليهودية والمعارضون لها يتصارعون حول مستقبل فلسطين، ظلَّ اهتمام روزفلت موجهًا إلى منطقة مختلفة تمامًا من العالم العربي. ففي نوفمبر عام ١٩٤٢، وعندما كان ممثلو الحركة الصهيونية يعلنون موافقتهم على المسوَّدة الأخيرة لقرارات بيلتمور، اتجهت أكبرُ قوة بحرية في العصر الحديث نحو الساحل الأسمر لشمال أفريقيا. وبعد شهور عديدة من نزوع وزارتي الخارجية والحربية الأمريكيتين إلى الشك، ومن الخلافات بين دول الحلفاء، ومن تردُّد البيت الأبيض، دخلت الولايات المتحدة أخيرًا الحرب في أوروبا، عن طريق الشرق الأوسط.