شعلة من أجل الشرق الأوسط
لم يكن في مقدور الجنود أن يبتهجوا برؤية الشاطئ يلوح في الأفق، وذلك بسبب الضَّعف الذي أصابهم نتيجةً لقضائهم ثلاثة أسابيع في عُرض البحر مثقلين بخوذات من الصلب يضعونها فوق رءوسهم، وعلى أكتافهم أحزمةٌ عريضة توضع فيها الذخيرة، ويحملون سترات النجاة وأقنعة الغاز ومعدَّات لحفر الخنادق. وكان عددهم نحو أربعة وسبعين ألف جندي، معظمهم من مشاة البرية المشاركين في أول إنزال للحلفاء منذ بدء الحرب. لم تكن فرنسا هي مقصدَ هؤلاء الجنود — كما كان الروس وكثير من الجنرالات الأمريكيِّين يُؤثِرون — وإنما كان مقصدهم هو الشرق الأوسط. وسرعان ما دخل ساحةَ القتال أولئك الجنود أبناء مزارعي الذرة البيضاء في ولاية كنساس إلى جانب طهاة الوجبات السريعة من حي برونكس بنيويورك اختيروا على عجالةٍ ليقاتلوا في الأحياء القديمة للدار البيضاء، وفي وديان الصحراء التونسية التي شكَّلتها الرياح.
«إذا قدَّم لك مضيِّفك المحلي مشروبًا فعليك ألا ترفضه أو أن تلقي بأي كمية منه. ومن الكياسة قبولُ ثلاثة أكواب إذا عُرضت عليك، ولكن لا يجب تحت أي ظرف قبول الكوب الرابع.
لا تدخل المساجد، ولا تقدِّم مشروبات كحولية للمسلمين، ويجب عدم الإشارة إليهم بكلمة كفَّار، فهم شديدو التديُّن.
لا تحملق في امرأة مسلمة أبدًا، ولا تحتكَّ بها في الزحام، ولا تتحدَّث إليها علنًا، والأهم لا تحاول أبدًا أن تخلع نقابها.»
كان هذا الكتيب يمثل محاولةً جادة — وإن كانت غير تقليدية — لتخفيف حدة مشكلة انتقال الجنود الأمريكيِّين من المجتمعات الصناعية والطبقة المتوسطة التي عاشوا فيها إلى مجتمعات الشرق الأوسط التي لا تعيش وفقًا للمدنية الحديثة. لكنها كانت أيضًا علامةً دالة على نهاية تردُّد أمريكا حول ما إذا كانت ستدخل الحرب في هذه المنطقة أم لا.
في فترةِ ما قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربور، كان صانعو السياسات الأمريكيون يراقبون مساعي بريطانيا لحماية مصالحها في الشرق الأوسط عن طريق تدمير الأسطول الفرنسي الموجود في ميناء المرسى الكبير بالجزائر حتى لا يقع في يد الألمان، واحتلال سوريا ولبنان اللتين كانتا تحت سيطرة حكومة فيشي. وكان تشرشل — وقد أصبح رئيس وزراء بريطانيا — قد حذَّر الولايات المتحدة من مخاطر فقدان نفط الشرق الأوسط وقناة السويس التي تمثِّل حلقةَ الاتصال بين الشرق والغرب، لكن بعض القادة الأمريكيِّين كانوا لا يزالون متردِّدين. وهو الموقف الذي عبَّر عنه هاري هوبكنز أحدُ أقرب مساعدي روزفلت عندما قال لتشرشل: «نحن في الولايات المتحدة لا نفهم مشكلتكم في الشرق الأوسط.» وأضاف شارحًا لوجهة نظره: إنه مع وجود كل تلك الثروة الهائلة في المنطقة فإنها لا تستحق كلَّ الموارد التي كانت بريطانيا تستثمرها فيها. ورأى أنه من الأفضل تركُ ألمانيا تحصل على تلك المنطقة لأنه سيجعل خطوط المؤن الألمانية طويلةً وعرضةً للخطر، في حين سيقصِّر طول خطوط المؤن البريطانية. أما الرئيس روزفلت فقد أعطى من جانبه الأولويةَ لإعادة الإمداد والتموين لبريطانيا في الأيام العصيبة التي وقعت أثناءها الغارات الجوية الألمانية المتواصلة عليها. وقرَّر أنه «يجب علينا ألا ننزلق إلى أيٍّ من تلك الموضوعات الجانبية، مثل إرسال كل سفننا التجارية إلى الشرق الأوسط». وتراجع الكثيرُ من الأمريكيِّين عن الارتباط بحملةٍ ساورهم الشك في أن هدفها الأساسي هو حماية الإمبراطورية البريطانية أكثرَ منه الانتصار في الحرب. فقال والاس موراي: «سُمعتنا في العالم العربي قائمة على النيات الحسنة والثقة بدوافعنا، وهي ميزة لم يَعُد البريطانيون يتمتعون بها.»
وكان الأمريكيون مكتفين وراضين بإبقاء فرنسا خارج نطاق القتال في شمال أفريقيا، وبمراقبة أنشطة ألمانيا في المنطقة، واستمر ذلك حتى بعد الذي حدث في بيرل هاربور وإعلان هتلر الحرب على الولايات المتحدة. واستمرَّ روزفلت في رفض طلب تشرشل بتدخل أمريكي مكثَّف في الشرق الأوسط؛ إذ كان يؤمن أن بريطانيا وحدَها هي المسئولة عنه. وشرح الرئيس أن القوات الأمريكية ستدخل الحرب عبر الساحل الغربي لفرنسا، وليس عبر شمال أفريقيا. وردَّ رئيس الوزراء على ذلك متسائلًا: «لماذا تضع رأسك في فم التمساح في مدينة بريست وفي إمكانك أن تذهب إلى البحر المتوسط وتشق ذلك البطنَ الناعم للتمساح؟» لكن حديثه هذا لم يكن مجديًا. فقد كانت وزارة الحرب لا تزال ترى أن أي حملة شرق أوسطية يمكنها أن تخدم مصالح بريطانيا الاستعمارية، لكنها على أقصى تقدير لن تسفر عن «مساهمة مباشرة في هزيمة النازيِّين».
ولكن هذا الرأي تغيَّر تمامًا في يونيو عام ١٩٤٢، عندما غزت القوات الألمانية الاتحادَ السوفييتي، وطاردت الجيش البريطاني نحو ستين ميلًا من ميناء الإسكندرية بمصر. ولأن قوات المحور كانت تسيطر فعليًّا على اليونان ويوغوسلافيا وجزيرة كريت، فإنها تأهَّبت للسيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط بالكامل، قاطعةً الطريق على الإمدادات المتجهة إلى جنوب روسيا، بالإضافة إلى اعتراضها الاتصالات بين ساحات المعارك في الغرب وفي الشرق الأقصى. وللتخفيف من بعض الضغوط على السوفييت وافقت الولايات المتحدة على فتحِ جبهة ثانية ضد الألمان، ولكن قوَّاتها كانت لا تزال تعوزها وسيلةٌ تسمح لعدد ضخم من الجنود بعبور بحر المانش (القناة الإنجليزية). وبريطانيا لم يكن لديها وقتٌ للانتظار. وفي يوم ٣٠ من يوليو، أبلغ روزفلت كبارَ مستشاريه أن شمال أفريقيا «أصبحت الآن هدفنا الرئيسي» الذي يجب أن نحقِّقه «في أقرب وقت ممكن».
تطلَّبت العملية التي أُطلق عليها الاسم الكودي «الشعلة» إنزالًا مكثفًا قُرب الموانئ الرئيسية في المغرب والجزائر. ومن هناك، كان على قوات الحلفاء أن تتقدَّم شرقًا نحو تونس، مكوِّنة فخًّا للفيلق الألماني المعروف باسم فيلق الصحراء الذي ستحاصره عندئذٍ هذه القوات من جانب، وقوات الجيش الثامن البريطاني المتقدِّم من جهة الغرب من الجانب الآخر. على أن هذه المناورة البسيطة ظاهريًّا تحوَّلت إلى مسألة في غاية التعقيد بسبب نقص القدرات القتالية للجيش الأمريكي أو غيابها كليًّا، وبسبب الخلافات الدائمة بين قادة الجيش الأمريكي وقادة جيوش الحلفاء، وبسبب تضاريس أقلَّ ما يمكن أن يقال عنها إنها كانت وعرة، وأسوأ ما يمكن أن يقال عنها إن المرء ليعجز عن اجتيازها. ولكن الصعاب التي واجهتها عملية الشعلة لم تتمكَّن من تغيير الواقع القائل إن الولايات المتحدة كانت وقتها قد ألزمت نفسها بالحرب الفعلية ضد ألمانيا، وبأنها رسَّخت تحالفها مع بريطانيا العظمى، وبدأت في تأسيس خطوط إمداد لإنقاذ الاتحاد السوفييتي المحاصَر. ومنذ حروب البربر لم يكن الأمريكيون قد قاموا بحملة شرق أوسطية شاملة وحاسمة مثل هذه الحملة.
الموازنة بين القوة والإخلاص
تشابهت عملية الشعلة من الناحية العسكرية في بادئ الأمر مع غارات أمريكا القديمة ضد البربر. وكانت مفاوضات ميرفي مع حكومة فيشي قد أثبتَت فعاليتها في تخفيف حدة المعارضة الفرنسية لعمليات الإنزال مما أسهم في تقليل عدد الخسائر البشرية بين الأمريكيِّين إلى ٣٣٧ قتيلًا و٦٣٧ جريحًا. ولكن مثلما ضُلِّل الأمريكيون عام ١٨٠١ بانتصاراتهم الحربية الأولى على القراصنة وظنوا أن النصر الساحق بات أمرًا وشيك الحدوث، أدَّت سهولة ويسر غزو شمال أفريقيا إلى زرعِ بذور إحساس زائف فيهم بأن الأمر لا يحتاج إلى أي جهود إضافية. على أن الجيش الأمريكي الموحَّد كان عليه في الحقيقة أن يشتبك مع الجيش الألماني الذي صلَّبته وحنَّكته المعارك. ومع قلة عدد الألمان وقلة عتادهم وسلاحهم، وأنهم كانوا لا يزالون يقاسون من تبعات هزيمتهم الأخيرة على يد البريطانيِّين في معركة «العلمين» بالصحراء المصرية أواخر عام ١٩٤٢، فإنهم سحقوا القوات الأمريكية في معركة «ممر قصرين» بتونس، وقتلوا ما يزيد على ستة آلاف أمريكي. ولكن سرعان ما استعادت القوات الأمريكية صلابتَها وحسَّها القتالي اللازمين للهجوم على فيلق الصحراء الألماني، وذلك في اشتباكاتٍ متوالية وأجبرته على الاستسلام في مايو عام ١٩٤٣. وهكذا فإذا كانت حروب البربر قد مثَّلت أول تحدٍّ واجهه الأمريكيون بصفتهم أمةً واحدة، يصبح الأمر كما عبَّر عنه المؤرخ ريك أتكنسن قائلًا: «كان شمال أفريقيا المكان الذي بدأت الولايات المتحدة منه في التصرف بصفتها قوة عظمى؛ عسكريًّا ودبلوماسيًّا واستراتيجيًّا وتكتيكيًّا.»
على أن إلحاقَ الأمريكيِّين الهزيمةَ بالألمان لم يكن سوى العقبة الأولى أمام القوات الأمريكية لتحقيق الانتصار في شمال أفريقيا. فقد كان جلُّ ما أصاب الأمريكيِّين بالإحباط هم الفرنسيون؛ إذ كانوا في غاية الانقسام؛ ففريق منهم كان يَدين بالولاء لحكومة فيشي، ويَدين فريق آخر بالولاء لقوات فرنسا الحرة التي يقودها الجنرال شارل ديجول، كما أُحبط الأمريكيون من البريطانيِّين الذين كانت عداوتهم للفرنسيِّين كثيرًا ما تفوق كراهيتهم للنازيين. ويحكي الجنرال مارك كلارك، نائب القائد العسكري لعملية الشعلة: «وُكِلت إليَّ مهمة منع نشوب حرب ضد الفرنسيِّين، ومتابعة الحرب ضد دول المحور بأقصى سرعة ممكنة. وكان هذا يعني أن أحاول إنقاذ عدد كبير من حيوات الأمريكيِّين والبريطانيِّين والفرنسيِّين.» وتمكَّن كلارك ورئيسه الجنرال دوايت أيزنهاور من التغلب على معظم العقبات المحيطة بعلاقات أمريكا وفرنسا من ناحية، وأمريكا وبريطانيا من ناحية أخرى. ولكن أراضي شمال أفريقيا كانت تخبِّئ عقباتٍ أكبر للأمريكيِّين، تمثلت في علاقتهم بالسكان المحليين.
وفي حين كان عشرات الآلاف من المجندين الأمريكيِّين يصلون إلى سواحل الشرق الأوسط، كانت الطائرات الأمريكية تلقي بأعداد ضخمة من المنشورات في داخل البلاد. وكانت هذه المنشورات تتضمن نصائحَ باللغة العربية «لأبناء المغرب»، وتبلغهم أن «الجنود الأمريكيِّين المقدَّسين قد وصلوا لخوض الجهاد العظيم من أجل الحرية». ومع أن ذلك قد يبدو صادمًا بالنسبة إلى القارئ الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، فإن استخدام هذه اللغة المجازية الإسلامية عام ١٩٤٢ كان له أضعف الأثر على مسلمي شمال أفريقيا البالغ عددهم ٢٥ مليونًا. فالحرب العالمية الثانية كانت عندهم مجردَ مرحلة جديدة في الصراع بين المسيحيِّين لاحتلال الأراضي الإسلامية. ورأوا أن الحلفاء لم يأتوا لتحرير هذه البلاد وإنما ليعيدوها إلى الحكم الفرنسي، كما رأوا أن الألمان — مع كل حديثهم عن تحرير الشرق الأوسط — كانوا ينظرون إلى سكانه باعتبارهم جنسًا أدنى. اقتصر الاهتمام المحلي بالحرب على مشاهدة القتال بين جنود الحلفاء والمحور — وقد شبَّههم أحدُ الكتَّاب بمشاهدي مباراة للتنس، تتحرك رءوسهم جيئةً وذهابًا مع كل ضربة كرة، بالإضافة إلى سرقة المؤن من الجانبين.
كان هناك نحو ٣٥٠ ألف يهودي يعيشون في المنطقة، أبناء جاليات كانت قد استقرت في شمال أفريقيا قبل ظهور الإسلام بنحو ألف سنة، وعاشوا منذ الغزو الإسلامي في القرن السابع الميلادي بصفتهم أقليةً تنعَم بالحماية وإن كانت تتعرض أحيانًا للاضطهاد. حصل هؤلاء اليهود على حقوق متساوية على يد الإدارة الأوروبية لكنهم فقدوها على يد حكومة فيشي والقوات الفاشية في ليبيا وتونس. وطُرِد اليهود من كل المؤسسات الحكومية ومن المدارس واقتيدوا إلى معسكراتٍ للأشغال الشاقة، وفي بعض الحالات كان يُفرض عليهم أن يضعوا نجمةً صفراء على ثيابهم. وكان العديد منهم سيتعرَّض للإبادة لولا عملية «الشعلة»، ولهذا السبب رحَّب اليهود بالأمريكيِّين ونظروا إليهم باعتبارهم محرريهم. ولم تشاركهم الأغلبية المسلمة هذه الحماسة والترحيب، وقاومت بقوة أيَّ محاولات لإلغاء القوانين المناهضة لليهود. وعندما جاء إيه جاي ليبلنج، مراسل جريدة «نيويوركر»، إلى مدينة الجزائر، قال إنه نُظر إلى كل إشارات الترحيب بالمجندين الأمريكيِّين على أنها «أمثلة للذوق اليهودي الكريه»، وأنه «كانت هناك منافسة عنيفة على تدمير منازل اليهود». وأدَّى هذا الغزو أيضًا إلى سلسلة من المذابح لليهود في الدار البيضاء، حيث ظن العرب خطأ — حسبما وردَ على لسان كينيث كراوفولد المحرِّر بصحيفة «ذا نيشن» — أن بعض المجندين الأمريكيِّين الذين يقودون سياراتٍ مزينةً بنجوم العلم الأمريكي هم «جنود يقاتلون تحت راية نجمة داود»، ورأوا وجوبَ القضاء عليهم بالقوة.
وكانت مسألة إعادة اليهود إلى وضعِ ما قبل الحرب تمثل للولايات المتحدة المعضلةَ الأولى بين العديد من المعضلات التي واجهتها باعتبارها قوةً شرق أوسطية، مما اضطرها إلى تفضيل مصالحها الاستراتيجية القصيرة المدى على مُثُلها وقيَمها الديمقراطية الأساسية. وأرسل باتون لأيزنهاور يقول: «العرب لا يمانعون وجود المسيحيِّين، لكنهم يحتقرون اليهودَ تمامًا. إذا حابَيْنا … اليهودَ فسنكون قد أثرنا المتاعب وربما حربًا أهلية.» وفي وزارة الخارجية حذَّر موراي من أن منح اليهود أيَّ مزايا غير مستحقة سيؤكد ادعاءات النازيِّين بأن الحلفاء يهدفون إلى فرض الحكم اليهودي على شمال أفريقيا، مما سيحرِّض السكان المحليِّين على الثورة. بالإضافة إلى أن الفرنسيِّين قد رفضوا أيضًا فكرةَ إعادة اليهود إلى وضعهم السابق. وقال الحاكم العام للمغرب — أوجست بول نوجيس — لروزفلت معربًا عن أسفه: «سيكون من المحزن للفرنسيِّين أن ينتصروا في الحرب لمجرد أن يفتحوا الطريق أمام اليهود للسيطرة على عالَم المهن والأعمال في شمال أفريقيا.» ووافقه الرئيس على ذلك، واقترح بلؤم أن يُمنع عددٌ كبير من اليهود من مزاولة المهن الطبية والقضائية «لوقف تكرار الشكاوى التي يقدِّمها الألمان ضد اليهود في ألمانيا». ومن جانبه كان أيزنهاور مقتنعًا بأن قوات الحلفاء لا يمكنها أن تُظهِر رغبتها في تحقيق العدل لليهود وتفوز في الحرب في الشرق الأوسط في آنٍ واحد. فقال القائد لزوجته مامي: «إن الهدف من كثير من الأمور التي تحدُث هنا وتبدو غريبةً هو منع اندلاع ثورة العرب. فنحن نجلس على فوَّهة بركان يغلي.» ومع أن الولايات المتحدة أنقذت يهود شمال أفريقيا من الترحيل، فإنها لم تُعِدْ لهم قط حقوقهم كما كانت في فترةِ ما قبل الحرب.
كانت متطلبات النفوذ قد اضطرت الولايات المتحدة إلى التخلي عن سياستها المستوحاة من الإيمان التي اتبعتها منذ عهد الرئيس لنكولن، وهي سياسة حماية يهود شمال أفريقيا. ومع ذلك، فمثلما مكَّنت هزيمة دول البربر الولايات المتحدة من التركيز على أعمالها التعليمية والطبية في الشرق الأوسط، فإن تقهقر قوات المحور مهَّد الطريق نحو العودة إلى وضعٍ أمريكي تحكمه المبادئ. فقال هال: «إنَّ قرنًا كاملًا من العمل التبشيري الأمريكي والمجهودات الخيرية والتعليمية التي لم تدنِّسها أيُّ دوافع أو مصالح مادية كانت قد أثمرت عن نوايا حسنة تجاه الولايات المتحدة» وقناعة راسخة بأن أمريكا ستقود المنطقة إلى الاستقلال. والآن، وبكل هدوء، كان المسئولون العسكريون والمدنيون الأمريكيون قد بدءوا في تحقيق تلك التوقعات.
كان ذلك التغيير واضحًا للغاية لدى روزفلت. فعندما كانت لديه حريةُ الاختيار بين السياسات الموالية للاستعمار التي اتَّبعها ابن عمِّه تيودور، أو السياسات القائمة على قيم التحرير المثالية التي كان يتبعها سلفُه وودرو ويلسون، كان الرئيس يختار دائمًا الخيار الأخير. وتمثل هذا التفضيل في ميثاق الأطلسي الذي وضع إطاره بالاشتراك مع تشرشل رئيس وزراء بريطانيا العظمى في يوليو عام ١٩٤١، والذي كان يقضي بحماية كل شعوب العالم من الغزو الأجنبي ويَعِدها بمنحها حقَّ الحكم الذاتي. ومع أن تشرشل قد طبَّق تلك الضمانات على الدول الأوروبية المحتلة فقط، فإن روزفلت أصرَّ على أنها تنطبق على جميع الشعوب، ومن بينها شعوب الشرق الأوسط.
لم يضيِّع روزفلت وقتًا في تنفيذ تفسيره لميثاق الأطلسي. فمنذ يناير عام ١٩٤٣ في مؤتمر قادة الحلفاء المنعقد في الدار البيضاء، دعا روزفلت السلطان محمد الخامس إلى العشاء. وحضره أيضًا ولي العهد الحسن الثاني، بالإضافة إلى تشرشل ونوجيس وإليوت ابن الرئيس الأمريكي. وكانت تلك هي المرة الأولى تحت الحكم الفرنسي الاستعماري التي يقابل فيها عاهلٌ مغربي رؤساءَ دول من غير الفرنسيين، فكان نوجيس يتابع السلطان بقلق وهو يثير مع روزفلت عددًا من المسائل السياسية. وتساءل كيف يمكن للمغرب أن يحافظ على ثروته القومية، ومن ثَمَّ يرفع المستوى الصحي والتعليمي لشعبه؟ ونصح الزعيم الأمريكي المغربَ بأن يتبنى إجراءاتٍ تمنع «رجال الأعمال الفرنسيِّين والبريطانيِّين من إخراج خيراته إلى الخارج»، ولمَّح إلى أن سياسات أمريكا تجاه قضايا الاستعمار «ستختلف جذريًّا» في فترةِ ما بعد الحرب عن ما قبلها. أما تشرشل — الذي كان غاضبًا بسبب عدم وجود أي مشروبات كحولية على المائدة — فقد سعل بصوتٍ عالٍ وحاول تغييرَ الموضوع. ولكن السلطان، الذي كان ضئيل الحجم لكنه قوي العزيمة، لم يَلِن. فتساءل عمَّا يعنيه الرئيس «باختلاف جذري». ودقَّق روزفلت في كوب الماء الموضوع أمامه، واقترح أن تقوم الشركات الأمريكية بالتنقيب عن النفط في المغرب، وأن يُدَرَّب مهندسون مغاربة في الولايات المتحدة، وأن يقوم الكونجرس الأمريكي بعد الحرب بتقديم مساعدات مالية كبيرة للمغرب. وكان محمد الخامس في غاية السعادة. وصاح: «مستقبل جديد لبلادي!» وعلَّق إليوت على ذلك الموقف قائلًا: «كان تشرشل متجهمًا، يقضم سيجاره، ويتمتم محاولًا ألا ينصت إلى الحديث الدائر.»
لم يتصرَّف روزفلت تصرُّفًا من شأنه أن يغيِّر من ذلك المنظور، وفي الفترة ما بين مؤتمر الحلفاء في الدار البيضاء ومؤتمرَي القاهرة وطهران نهاية عام ١٩٤٣، أمر روزفلت بإعداد استقصاء شبه سري للحركات الوطنية في الشرق الأوسط. وترأس تلك الدراسة باتريك هيرلي، وهو شخصٌ اجتماعي مفتول العضلات من أوكلاهوما مفتون بقبَّعات رعاة البقر وأحذيتهم؛ كان هيرلي جنرالًا ووزيرًا سابقًا للحرب، تدرَّج من العمل في المناجم إلى أن اشتُهر محاميًا ودبلوماسيًّا ومدافعًا عن حقوق الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليِّين. ولأن روزفلت كان لا يثق في قدرة وزارة الخارجية على إمداده بتقييم موضوعي عن الشرق الأوسط، فقد عيَّن هيرلي مبعوثًا شخصيًّا له في المنطقة. وعن ذكرياته قال الجنرال: «كانت مهمتي هي استقصاء الحقيقة من أرض الواقع.» وبعد أن قطعَ رحلةً طولها ثلاثة آلاف ميل من شمال أفريقيا إلى الهلال الخصيب والخليج العربي، كشف هيرلي بالفعل عن الكثير من حالة الغليان الوطني التي كانت تدور تحت سطح الشرق الأوسط، وعن الكثير من التحديات التي واجهتها أمريكا في التوصُّل إلى توازنٍ بين قوَّتها العسكرية وإخلاصها لمبادئها.
وقال هيرلي للوزير الأول المغربي: «إن رئيسنا — مثله مثل الشعب الأمريكي — يعترف بالقيادة الأخلاقية للمسيح»، مؤكدًا له أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب المسلمين الذين يخشون ﷲ أمام تهديد الشيوعية الملحدة. لكنه أيضًا أبلغ بن جوريون أن الولايات المتحدة لن تتعاون في عملية تهجير مليون عربي — وهي حسب رأيه النتيجةُ الحتمية لتكوين دولة صهيونية — وأن «أمريكا لا يمكن أن تلتزم بالتفسيرات اليهودية لنصوص العهد القديم». وقد أكَّد هذه النقطة نفسها بصورة أوضحَ لابن سعود، واعدًا إياه بأن حكومته لن تدعَم استقلال اليهود بفلسطين أبدًا، وشاركه قلقه بشأن «بعض اليهود الأغنياء ذوي النفوذ والسلطة الذين يسيئون استغلالَ حرية التعبير في أمريكا للقيام بحملات دعائية لليهود». وفي خُطبة رسمية أمام الملك، عبَّر هيرلي — وهو بزي الأمراء العرب — عن ثقته بأن السعوديِّين يومًا ما سيكونون الدافع وراء تأسيس اتحاد للدول العربية يقوم على «مبادئَ شبيهةٍ بتلك الموجودة في الدستور الأمريكي».
وتابع هيرلي مهمتَه، فزار مصر ولبنان وسوريا، مدققًا في أخذ البيانات ومقدِّمًا ملاحظاته. ولكن أهم مساهماته كانت تتمثل في أكبر منطقة غير عربية زارها. كانت أمريكا تنظر إلى إيران عادةً «بعدم اهتمام بالحصول على صداقتها» حتى جاء أغسطس ١٩٤١، عندما كانت بريطانيا والاتحاد السوفييتي يحتلانها. ومنذ ذلك الحين أصبحت إيران «معبرًا» لنقل نحو ٥ ملايين طن من المؤن والذخيرة إلى الجبهة الشرقية المحاصَرة، وهو مجهود اشترك فيه ثلاثون ألف جندي أمريكي. ومع ذلك فقد اتبعت أمريكا سياسةَ تجنُّب التدخل في الشئون الداخلية لإيران. ولذلك لم يستجِب روزفلت لمناشدات القادة الإيرانيِّين لمساعدتهم على التحرُّر من الاحتلال الأجنبي. وصل هيرلي إلى إيران في نوفمبر عام ١٩٤٣، وأقام في السفارة السوفييتية بدلًا من قصر محمد رضا شاه، وهو قرارٌ أثار الكثير من الامتعاض داخل إيران. ولكن هيرلي لم يواجه صعوباتٍ مع الإيرانيِّين أو حتى مع الروس. ولكنه كان ينظر إلى البريطانيِّين باعتبارهم التهديدَ الأكبر لمهمته ولنجاح سياسة أمريكا في الشرق الأوسط بصفة عامة.
وفي حين كان هيرلي في غاية التحفظ فيما يخصُّ إظهار مشاعر الكراهية التي يكنُّها للشيوعية، فإنه كان ليبراليًّا يجاهر ببغضه الشديد للاستعمار. وقد قرَّر أن «اقتصاد الإمبريالية الاستعمارية هو اقتصادٌ متعفِّن بطَل استعماله، وقد فشل أن يكون نظامًا اقتصاديًّا»، وتساءل: «هل يمكن تبرير تعدي دولةٍ ما على حقوق دولة أضعف منها بمبررات الجشع أو الطمع أو الحاجة الماسَّة؟» وكان هيرلي يمتلك بالطبع إجابةً قاطعة عن هذا السؤال. وبسبب غضبه من أحد كبار المسئولين البريطانيِّين أخبره أن «المجاعة هي أسهلُ طريق لقمع الإيرانيين»، بدأ هيرلي في وضع مسوَّدة لاستقلال إيران. فكتب يقول: «إن هدف الولايات المتحدة هو دعمُ إيران دولةً حرة، ومنْح الشعب الإيراني فرصةَ التمتُّع بحقوق الإنسان كما وردت في الدستور الأمريكي وميثاق الأطلسي.» ولهذا الغرض اقترح هيرلي الاستثمار بكثافة في مجالات الصناعة والنقل في إيران، مع إرسال خبراء أمريكيِّين للمساعدة في تكوين مؤسسات ديمقراطية. وكان هيرلي يؤمن بأن إيران عندما تحقق النجاح المنشود يمكنها أن تكون النموذج والمثال لسياسات أمريكا في فترةِ ما بعد الحرب، داعيةً «إلى تأسيس حكوماتٍ حرة واقتصاد حر»، ووضع حدٍّ «للاستغلال والاستعمار» في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك فحتى بعد أن أظهرت الولايات المتحدة مخالبَها العسكرية في غرب أوروبا والمحيط الهادي، استمرَّت في الترويج لمسألة الاستقلال الوطني في الشرق الأوسط. وتقابل «المستعرب» وضابط مكتب الخدمات الاستراتيجية كيم روزفلت مع الزعماء الوطنيِّين المصريِّين، ووعدهم «بصفقة جديدة» من الحرية. وقال روزفلت — حفيد الرئيس الذي كان قد مدح احتلال بريطانيا لمصر — للملك فاروق: «ستكون أولَ حاكم لمصر حرة بعد ألفي عام من الاحتلال.» وفي تونس مدَّ القنصل الأمريكي — الذي يحمل اسمًا بغيضًا هو هوكر دوليتل، وهو شخص أرستقراطي ذو شعر أبيض — إطارَ الحماية الأمريكية على الزعيم الوطني التونسي الحبيب بورقيبة، الذي سعى الفرنسيون إلى اعتقاله. واستمر الفرنسيون في مطاردته إلى أن ساعد دوليتل في مارس عام ١٩٤٥ بورقيبة على الفِرار إلى مصر حيث الأمان، ثم منحه تأشيرة دخول للولايات المتحدة لحضور افتتاح مقر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو.
وعلى الرغم من الضغوط العسكرية والسياسية أثناء فترة الحرب، فإن الولايات المتحدة دعَّمت الحركات الوطنية الساعية إلى الاستقلال في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من المغرب حتى إيران. ولم يكن بإمكان الأمريكيِّين أن يوجِّهوا طاقاتهم الكاملة لتحرير الشرق الأوسط حتى يكتمل لهم النصر في أوروبا. وفي تلك المدة كانوا يسعون إلى دعم شعوب المنطقة ومساندتها عن طريق أكبرِ مشروع تنموي شهده العالم، وباتباع أدق التوازنات بين قوة أمريكا من ناحية، وبين مُثُلها وقيَمها من ناحية أخرى.
تحويل السيوف إلى شفرات للمحاريث
مساحة الشرق الأوسط تزيد عن مساحة الولايات المتحدة؛ إذ تبلغ مساحته أربعة ملايين ميل مربع، تمتد من المغرب إلى شبه الجزيرة العربية ومن الصحراء السودانية حتى إيران، ويقطنها سبعون مليون نسمة؛ كان ذلك هو المدى الهائل لِما عُرف باسم «مركز تموين الشرق الأوسط». أسَّسته بريطانيا في ربيع عام ١٩٤١، لحماية قاطني الشرق الأوسط من مجاعات الحرب العالمية الثانية المدمِّرة وحتى تظل شعوب المنطقة معتمدة على سلع الحلفاء وليس سلع دول المحور. وقد أدار البريطانيون عمليةَ التوزيع؛ أما الإمدادات التي كانت أطنانًا لا تُحصى من السلع الغذائية والمنسوجات والآلات الزراعية والمعدات الثقيلة فكان معظمها يأتي من الولايات المتحدة. وفي توجيهاتٍ رسمية رئاسية صدرت قبل عدة أشهر من الهجمات اليابانية على بيرل هاربور، سمح روزفلت بزيادة ضخمة في الإمدادات المرسَلة إلى المنطقة وفقًا لقانون الإعارة والتأجير، كما سمح بتأسيس قاعدتين؛ إحداهما في البصرة والأخرى في القاهرة للإشراف على توصيل هذه الإمدادات إلى المنطقة. على أن الولايات المتحدة لم ترسل ممثلًا رسميًّا عنها إلى المقر الرئيسي لمركز تموين الشرق الأوسط في مصر إلا في شهر يوليو عام ١٩٤٢، ولكنه لم يكد يصل حتى رحل مع الضباط البريطانيِّين الفارين من الهجوم الألماني.
تغيَّر موقف أمريكا تجاه إمدادات الشرق الأوسط وسياساتها فيما يخص الحركات الوطنية المحلية، في أعقاب عملية الشعلة واستسلام فيلق أفريقيا الألماني. وفى الوقت الذي استمر فيه البريطانيون في النظر إلى مركز تموين الشرق الأوسط باعتباره إطارًا للحفاظ على هيمنتهم الإقليمية، تغيَّرت نظرة الولايات المتحدة له باعتباره أداةً لتطوير الشرق الأوسط وتنميته، ولتحقيق اكتفائه الذاتي وبحيث يحقِّق في نهاية الأمر استقلال المنطقة من الاستعمار. جسَّد هذا التحول جيمس ماكولي لانديس، الذي أصبح أولَ مدير أمريكي لهذا المركز، كما جسَّد بزوغ نجم الولايات المتحدة في المنطقة.
كان لانديس مثالًا للكثير من الأمريكيِّين الذين خدموا في الشرق الأوسط، فقد كان ابنًا لمبشِّرين، وخريجًا في جامعة برنستون، يمقت الاستعمار الأوروبي ويعارض أهداف الصهيونية. وعلى عكس زملائه في وزارة الخارجية، الذين قضى العديد منهم سنواتٍ طويلة في المنطقة، لم يكن للانديس أيُّ احتكاك سابق بالسياسة في الشرق الأوسط، بل كان مؤهلًا للعمل محاميًا، ومن قبيل المفارقة أنه كان تلميذًا لبرانديس وفرانكفورتر. كان محاميًا متميزًا وعميدًا لكلية الحقوق بجامعة هارفارد، وقد هجر العمل بالمحاماة ليصبح رئيسَ لجنة الأوراق المالية والبورصات، كما ترأس هيئةَ الدفاع المدني، وأصبح من أشد أنصار «الصفقة الجديدة» التي أعلن عنها روزفلت. كان لانديس من كبار المسئولين وذا مظهر أنيق، يهوى الملذات والمتع الحسية، وكان ممتلئ الشفاه وذا حاجبين مرتفعين وعينين تعبِّران في الصور الفوتوغرافية التي التُقطت له عن الغطرسة، على أنه في الوقت ذاته كان لا يَكل ولا يَمل الدفاع عن حقوق الأقليات وتحقيق العدالة الاجتماعية. أقرَّ لانديس قائلًا: «لقد اتُّهمت بأنني شيوعي واشتراكي. ولكن … هدفي هو أن أسير بهذا النظام الرأسمالي لما يجب أن يكون عليه.»
لم يزعج مشاعرَ لانديسي النبيلة شيءٌ قدْرَ ما أزعجته تلك المشاهد التي رآها في الشرق الأوسط. إذ صُدم بشدة بعد توليه منصبَه في أكتوبر عام ١٩٤٣ عندما رأى مشاهدَ المرض والفقر التي قابلها في عواصم الدول مثل القاهرة وبغداد ودمشق، وكمَّ التبذير الهائل في مركز تموين الشرق الأوسط. فاشتكى قائلًا: «المشكلة هي أننا ليس لدينا سياسة في الشرق الأوسط. فالشرق الأوسط لم ينَل الاهتمام الكافي من سياستنا الخارجية.» وأضاف أن العالم العربي كان مليئًا «بالطموحات الديمقراطية»، ولكن بدلًا من تحقيقها، كانت الولايات المتحدة تساعد الاستعمارَ على قمعها. وتساءل لانديس: «هل سنقف مكتوفَي الأيدي ونقول للعرب حاربوا معركتكم وحدَكم، أم سنساعدهم على تحقيق مصيرهم الشرعي؟»
وفي ردٍّ حاسم بدأ لانديس في فحص مركز تموين الشرق الأوسط بدقة، وبدأ بمشروعات إقليمية واسعة النطاق، مثل نقل القمح الإثيوبي إلى المملكة السعودية، ومكافحة آفة الجراد في مصر، والقيام بعمليات إنزال جوي لنقل أدوية منقِذة للأرواح إلى إيران، وفي الوقت ذاته كان يشجع سرًّا الحركات القومية في المنطقة. وقد تمكَّن الاقتصاديون الأمريكيون من كسرِ الاحتكار البريطاني وفتح أسواق أمام رجال الأعمال المحليِّين ولا سيما في القاهرة حيث نجح لانديس في مصادقة الملك فاروق الممتلئ الجسد ذي التصرفات الطفولية (حيث كانا يستمتعان برشِّ بعضهما بعضًا بالخمور). وأكَّد لانديس أن «انتشار السلطة والتخلُّص من الأمور البيروقراطية غير اللازمة في العالم» أمرٌ ضروري للاستقلال.
وحيث أصبح أكثر تأثُّرًا بالإنجيل، أعلن لانديس قُربَ نهاية الحرب: «آنَ الأوان أن نطبع سيوفنا سككًا.» ولأن صانعي السياسات كانوا قد قدَّموا إسهامات كبيرة في التنمية الاقتصادية للشرق الأوسط، فقد وجَّهوا اهتمامهم في واشنطن إلى حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، وأهمها المتطلبات العالية للوقود أثناء الحرب. فلكي تتحرَّك كتيبة دبابات أمريكية مسافة مائة ميل مثلًا، كانت تحتاج إلى ١٧٠٠٠ جالون من النفط، في حين استخدم الأسطول الخامس ٣,٨ مليارات جالون من الوقود في العام الواحد. لذلك قامت الولايات المتحدة بجهود مكثفة لشراء النفط من إيران، وهي الجهود التي أحبطتها روسيا وبريطانيا والمعارضة الوطنية. فلم يتبقَّ أمام الولايات المتحدة إلا بديل واحد فقط للحصول على النفط من المنطقة، هذا البديل هو المملكة العربية السعودية.
كثيرًا ما نظر واضعو السياسات الأمريكية إلى المملكة السعودية على أنها من أعظم الممالك تأثيرًا ونفوذًا في العالم الإسلامي، وفي ذات الوقت فقد اشتُهرت المملكة السعودية بأنها المصدر الرئيسي للنفط الذي تحصُل عليه الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. ومع أن المملكة لم تَعُد مهدَّدة من جانب دول المحور فإنها ظلت محورَ اهتمام شركات البترول البريطانية الساعية نحو احتكار نفطها. وبناءً على قناعةٍ بأن «النفط السعودي يمثل أحدَ أهم ثروات العالم، وأن هناك منافسةً سرية بغيضة تسود الشرق الأوسط لتوزيع هذه الثروة»، أوصى وزير الخارجية هال باتخاذ إجراءات طويلة المدى لدعم وضع أمريكا في الرياض. وكانت مهمةُ تنسيق تلك الخطوات قد انتهت إلى وزير الداخلية، هارولد أيكس، أولِ قياصرة الطاقة في أمريكا.
وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط نجحت الولايات المتحدة في تحويل الأسلحة إلى أدوات زراعية وبِنية تحتية صناعية. ومع كثير من التشجيع الخفي والعلني للحركات الوطنية التحررية أعدَّت الدفعة الأمريكية للتنمية السياسية والاقتصادية المنطقةَ لمقاومة الاستعمار ولتحمُّل أعباء الاستقلال. وكانت القوة العسكرية قد امتزجت بمُثُل ومبادئ المساواة لإعداد شعوب المنطقة لتتولي مسئوليات جديدة وللتواؤم مع الواقع الجديد. ولكن كانت الفجوة بين الشرق الأوسط الواقعي والمثالي للعديد من الأمريكيِّين العاملين في المنطقة لا تزال واسعة للغاية. فقد لقي الآلاف من المجندين الأمريكيِّين حتفَهم في ساحات المعارك الجافة المتربة، وكذلك لقي كثير من الخرافات والأساطير حول المنطقة المصير نفسه.
مزجٌ بين الإنجيل وهوليوود
نَشر الرسام بيتر أرنو رسمًا كاريكاتيريًّا عشيةَ الحرب العالمية الثانية بجريدة «نيويوركر»، على شكل عربة أمريكية فارهة تسير بسرعةٍ في أرضٍ شرق أوسطية بها مآذن وقباب، وتمرُّ بجانب رجل عربي ذي لحية وأنف معقوف وهو ساجد يصلي. يجلس في السيارة اثنان من الأمريكيِّين: سيدة أنيقة ترتدي قبعةً مستديرة وزوجها يرتدي هو الآخر قبعةً على شكل خوذة من القش. ودون أن يتوقَّف يصيح الأمريكي في العربي قائلًا: «يا رجل، أيُّ الطرق يؤدي إلى مكة؟» وقد نجح الرسم الكاريكاتيري في توصيل معاني التعالي والنقد الذاتي في آنٍ واحد، مستخدمًا صورًا شعبية وخرافية للغاية للمنطقة دعائمَ لتوضيح الجهل الأمريكي بشعوب المنطقة وثقافاتها. وسرعان ما واجه الأمريكيون مشاهدَ أكثرَ قربًا لحقيقة الشرق الأوسط عندما قادوا سياراتٍ رباعية الدفع ونصف النقل، وكانت خوذاتهم هذه المرة من الحديد. وفي وسط فوضى القتال وفي بيئةٍ غريبة عليهم كانوا هم أيضًا بدورهم يسعون إلى البحث عن طريق للوصول إلى مكة، وإلى تونس والقاهرة وطهران أيضًا.
وباستثناء أغانٍ شهيرة لفِرق غنائية كبيرة، مثل أغاني «كارافان» و«ليلة في تونس» وعرض أفلام رومانسية مثل «كازبلانكا» و«علي بابا والأربعون حرامي»، فإن الأمريكيِّين في أربعينيات القرن العشرين لم يكن لديهم في الحقيقة أيُّ احتكاك آخر بالشرق الأوسط. قالت إحدى النشرات التي أصدرتها وزارة الحرب محذِّرة مجنديها في العراق: «لقد شاهدتم أفلامًا عن الحياة الزاهية في الصحراء وعن أسواق الشرق. لكنكم عندما تصلون إلى هناك ستبحثون بلا جدوى عن الأشياء التي توقعتموها. ستلمسون وتستنشقون الكثيرَ من الأشياء التي لم تحذِّركم الأفلام منها.» ودون وعي لهذا الواقع كان الجنود يتلقَّون أوامرهم بالذهاب إلى المنطقة بما يشبه فرحة الأطفال. فقد تخيَّل المراسل الحربي سيسيل براون أنه سينتقل إلى عالم «علاء الدين والبساط السحري» وكان إيراسموس كلومان، وهو قائد بمكتب الخدمات الاستراتيجية، يرى مصر باعتبارها «بلد العجائب». لم تختلف هذه الأحلام عن أحلام طفل حقيقي، هو نورمان شوارتسكوف الذي كان في العاشرة من عمره وتصوَّر والده مسافرًا إلى «مكانٍ سحري بعيد، إلى بلد ألف ليلة وليلة، حيث يرتدي الناس عباءاتٍ وأثوابًا طويلة ويحملون الخناجر في أحزمتهم ويركبون الجمال عبر الصحراء». وحتى الجنرال باتون قاسي القلب انصاع لرومانسيةِ أول نظرة ألقاها على مدينة الدار البيضاء، قائلًا: «هي مدينة تجمع بين هوليوود والإنجيل.»
ولكن قُدِّر لمعظم هؤلاء الحالمين أن يعيدوا تجربة المسافرين الأمريكيِّين إلى الشرق الأوسط منذ زمن جون ليديارد، ليفيقوا بعنفٍ ويصابوا بالإحباط. فكانت القاهرة مثلًا عند الطيار المقاتل هال مارتنج «بالتأكيد مكانًا قذرًا وآخرَ مكان أتمنى العيش فيه». واشتكى بصورة لاذعة من البيئة المحيطة به، ومن الحر المستمر، ومن رمال الصحراء التي تدخل بين أسنانه ليلًا ونهارًا. وأضاف: «حتى شراب الشعير طعمه مترب.» ولم يجِد الجنرال شوارتسكوف سحرًا ولا أساطير في إيران، وإنما وجد فقرًا وجهلًا وضياعًا فقط. وتساءل رجالُ كتيبة الرقيب إرنست وايتهيد باستمرار: «ماذا نفعل في هذه الحفرة القذرة؟» وتذكَّر وايتهيد أن الإجابة عن هذا السؤال كانت عادة: «الحفاظ على حياة» القوات البريطانية الاستعمارية.
ظلَّت كلمة «العرب» للمجندين الأمريكيِّين هي الكلمة الجامعة لكل شعوب الشرق الأوسط. وكانت شكوى المجندين من السكان المحليِّين هي نفسها أيضًا. وكانت الصفات التي نعتوا بها العربَ كما جاء على لسان أحد المراسلين الحربيِّين المتجهمين لا تخرج عن كونهم «عديمي الأخلاق، لا يمتون إلى الجَمال والوسامة بصلة، جاحظي العينين، فاشلين، يبعثون على الأسى». وأضاف لذلك أحد قادة الجيش: «غير مفيدين، لا قيمة لهم، جهلة، غير أمناء ومرضى.» وكان نقص الوعي الصحي أمرًا يثير اشمئزاز الأمريكيِّين بصورة خاصة. فعبَّر الرقيب وايتهيد عن اشمئزازه من استخدام المجاري العامة حمَّاماتٍ، في حين فُجع جان جوردون بيلتييه الضابط التابع للفرقة الأولى للمشاة من كيفية «عيش الحيوانات في نفس الغرفة مع الناس». ومع معارضة أيزنهاور عامةً للبحث عن أخطاء الغير، فإنه أيضًا صرخ قائلًا: «إن العرب يوجِّهون اهتمامًا قليلًا للغاية للنظافة الشخصية.»
ومثل العديد من الزوار الأمريكيِّين للشرق الأوسط منذ زمنِ سارة هايت وجون لويد ستيفنز، صُدمت الجيوش فيما اعتبروه إساءة معاملة النساء المحليات. فتذكَّر وايتهيد أن «الرجال العرب كانوا يسيرون على الطريق راكبين بِغالهم، ثم تأتي خمس أو ست من نسائهم يسرن أمام البغل، وهن يحملن حمولاتٍ على رءوسهن وظهورهن. جنودنا لم يعتادوا هذا قط». وصُدم آخرون من منظر النساء وهن يسرن أمام أزواجهن راكبي الحمير — وهو إجراء احتياطي منهم ضد الألغام — وذلك حسب قول القائد البحري راي مارس. وظنَّ الجنرال باتون أن «هذا الإذلال التام للنساء من الأسباب الرئيسية لتخلُّف العرب»، وكان السبب الرئيسي لبقاء المسلمين في العصور الوسطى. ولكن بالإضافة إلى هذا الكره للنساء، كان الأمريكيون يحتقرون العرب بسبب نقص معارفهم الفنية، وبسبب تخلُّف أساليبهم الزراعية، والقسوة التي يظهرونها للحيوانات العاملة معهم. فكتب بيلتييه: «الرجال يقضون ثلثي الوقت في ضرب تلك الحيوانات، وثلث الوقت في إدارة المحراث.» على أن أكثرَ ما انتقده الأمريكيون في العرب كان موجَّهًا إلى ميلهم إلى السرقة ونهب مخازن المؤن والتمثيل بجثث الأمريكيِّين. واشتكى أحد المجندين من أن «أثوابهم الفضفاضة الصوفية تمكِّنهم من إخفاء سيارة جيب إذا تُرك لهم وقتٌ كافٍ للعمل على تفاصيل هذا التمويه»، واشتكى آخر قائلًا: «سيسرقون الهواء من إطارات السيارات إذا أُتيح لهم ذلك.»
وكانت قلة الاحترام للسكان المحليِّين تؤدي أحيانًا إلى المساس بشرفهم وتهديد حياتهم. فقال الجنرال باتون عن قائده البريطاني الجنرال أندرسون: «أفضِّل أن يصدر لي عربي أوامره. وأنا أظن أن العرب أقلُّ من لا شيء.» وفي حادث رمزي قيل إنه حدث عند أحد حواجز الطرق خارج القاهرة، أوقف أحدُ رجال الشرطة العسكرية الأمريكيِّين سيارةً سوداء يستقلها مصري أنيق يرتدي طربوشًا. وعرَّف الراكب نفسه بأنه النحاس باشا، رئيس وزراء مصر، ولكن جندي الشرطة العسكرية رفض السماح له بالمرور قائلًا: «قد يكون الأمر كذلك، ولكن، من وجهة نظري، أنت مجرَّد أفريقي ملعون.» وقيل عن مجند آخر أنه قال إنه وزملاءه كثيرًا ما أطلقوا الرصاص على العرب، وأنهم «طرائدُ مستحلَّة مثلهم مثل الأرانب البرية في الولايات المتحدة في موسم الصيد». وقال قائد إنساين مارس له إنه إذا كان له الخيار بين إطلاق النار على عربي أو حمار، «فاقتل العربي واترك الحمار». وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة ترسل ملايين الدولارات لضمان بقاء أهالي شمال أفريقيا على قيد الحياة، كان طياروها يقتلون الآلاف منهم في غاراتهم الجوية التي كانت تخطئ هدفها.
ومع ذلك فلم يكن كل جنود القوات الأمريكية نافرين أو غير مبالين بالسكان المحليِّين. فقد بذل بعض الجنود مجهودًا لفهم الثقافة المحلية، والتواصل مع هؤلاء «العرب»، وأحيانًا كانوا يصادقونهم. وقدَّمت لنا مذكرات الحرب وصفًا مؤثرًا للجنود العرب الأمريكيِّين الذين كانوا يقومون بدور المترجمين في مناسبات خاصة، وكذلك للجنود اليهود الأمريكيِّين الذين كانوا يحاولون — بلا جدوى — التحدُّث إلى يهود شمال أفريقيا باللغة اليديشية المستخدمة في أوروبا. وكانت أكثر الفئات انجذابًا للمجندين الأمريكيِّين هم أطفال شمال أفريقيا المستفيدين من الكرم الأمريكي المتمثل في الحلوى واللبان. وكان الجنود بدورهم يعبِّرون عن إعجابهم بالطريقة التي يجلس بها القرويون على أعقابهم ويتحدثون في السياسة ساعاتٍ طوالًا، والتي أطلق عليها أحدُ الجنود «الطبعة الصباحية للأخبار اليومية»، أو طريقة رعيهم لأغنامهم أثناء غارات بالقنابل. وعلى عكس ممارسات أمريكية قديمة أصبح بعض الجنود يكنُّون الاحترام للإسلام. فقد اتخذ باتون موقفًا عدائيًّا مما اعتبره إساءةَ معاملة المسلمين لنسائهم، لكنه كان أيضًا يقرأ القرآن ويجده ملهمًا ومثيرًا للاهتمام. وانبهر جانر سبايك ميليجان — ربما بصورة أقل ولعًا — بكيفية «توجُّه العرب نحو مكة عند غروب الشمس ليقوموا بعبادتهم»، مضيفًا أن ذلك «أكثر مما أستطيع قوله فيما يتعلَّق بنا، فالمرة الوحيدة التي نركع فيها تكون لتناول أموال وقعت على الأرض».
وربما كان الرقيب بيل يحلُم أن يرقص رقصةَ جيترباج — وهي إحدى أنواع رقصات موسيقى السوينج — تحت سفح الأهرامات، لكن بقرب نهاية شتاء ١٩٤٥ وبانتهاء الحرب في الشرق الأوسط منذ زمن طويل وقُرب نهاية الصراع في أوروبا، كانت مثل تلك الخيالات تتضاءل وتشحب رويدًا رويدًا. كانت الولايات المتحدة تستيقظ على واقعٍ جديد في المنطقة، ليس فيه قصورُ علاء الدين أو راقصات ممتلئات الصدور، لكنه كان ساحةً لسياسات القوى العظمى والتناحر بين الأديان والجاليات، ومنافسة شرسة على النفط. وبناء على وعيه بتلك التغييرات — وبتأثيرها على تميُّز وظهور أمريكا في فترةِ ما بعد الحرب — توجَّه روزفلت نحو الشرق الأوسط.
صرخة على ضفاف البحيرة المرة الكبرى
نُوقش العديد من الموضوعات الملتهبة في يالطا: هيكل الأمم المتحدة، ومستقبل ألمانيا وأوروبا الشرقية، ومسألة التعويضات وجرائم الحرب. ولكن الشرق الأوسط لم يكن من بينها. ومع ذلك فعندما أنهى مؤتمر دول الحلفاء المنعقد على ساحل شبه جزيرة القرم أعماله في ١١ فبراير عام ١٩٤٥، أذهل روزفلت كلًّا من تشرشل وستالين عندما أطلعهم على خطته لزيارة المنطقة. زعم الرئيس أنه كان مهتمًّا بالشرق الأوسط ولا سيما الوضع في فلسطين، وأضاف أن تعاطفه يتجه الآن تمامًا إلى اليهود. لم يهتم ستالين بالخبر، ولكن تشرشل انزعج بسببه؛ لأنه كان قلقًا بشأنِ ما يمكن أن تخطِّط له أمريكا فيما يتعلق بالإمبراطورية البريطانية. وصُدم أيضًا هنري هوبكنز، ليس بسبب مرض روزفلت الذي شُخِّص على أنه مرحلة متقدمة من مرض بالقلب ونُصح بعدم الذهاب إلى يالطا، والامتناع تمامًا عن الإبحار في البحر المتوسط. أما ما صَدم هوبكنز في الواقع فهو هذه الفكرة التي رفضها تمامًا معتبرًا إياها «لعبة» ومحاولة من روزفلت «للتمتع للغاية بالأبهة التي يعيش فيها حكامُ ذلك الجزء من العالم الذين … يظنون أن الولايات المتحدة ربما يمكنها علاجُ كل متاعبهم وحل كل مشكلاتهم».
على أن هوبكنز لم يكن على درايةٍ بمدى الخطر الذي يشكِّله الصراع الفلسطيني على مصادر أمريكا الجديدة من النفط، الصراع الذي احتدم أثناء فترات كثيرة في الحرب. وبدءًا من معركة بيرل هاربور وخاصة بعد عملية الشعلة، كانت إدارة الرئيس روزفلت تحاول حثيثًا غضَّ الطرْف عن المأساة التي يعيشها يهود أوروبا، ورغبة البقية الباقية منهم في الوصول إلى فلسطين. فمع انتقاد الرئيس وتحفُّظاته على الوثيقة البيضاء لعام ١٩٣٩، فإنه سعى إلى الحفاظ على جبهة موحَّدة مع بريطانيا، وعلى النيات الحسنة مع العرب الذين كانت عدة آلاف من الأمريكيِّين يخدمون في بلادهم. وقد أكَّد للحاخام ستيفن وايز وغيره من قادة الصهيونية أن أسرع سبيل لحماية يهود أوروبا هو إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية. وقال: «طواحين الآلهة تطحن ببطء، لكنها لا تُبقي ولا تذر.»
أما بعض اليهود الأمريكيِّين، فقد تبيَّن لهم أن عملية الطحن هذه أثبتت بطأها الشديد، في الوقت الذي لم يَبدُ فيه روزفلت إلهًا. وبعد أن نجح بيتر برجسون في تخطي معارضة المؤسسة اليهودية الأمريكية، استمر مع مجموعته الشديدة التصميم من يهود فلسطين في إثارة المشاعر من أجل مجهودات إنقاذ حكومية ودعم لا مثيل له للصهيونية، فنشر عددًا أكبرَ من إعلانات الصحف التي احتلت صفحة كاملة ونداءات والتماسات إلى الكونجرس الأمريكي، وأصدر مجلةً تحمل شعار «١٧٧٦ هو فلسطين». وتمكَّن برجسون أيضًا من عرض مسرحية غنائية مسانِدة لليهود، باسم «لن نموت أبدًا»، كتبها كاتب السيناريو الهوليودي بن هيكت وأخرجها موس هارت وتوزيع موسيقي بيد كيرت وايل، وبيعت جميع تذاكر العرض الذي قُدم في ميدان ماديسون سكوير جاردين. ساعدت هذه التكتيكات على حشد جالية أمريكية يهودية، كانت من أشد المناصرين للصهيونية، وكانوا جميعًا من أصول أوروبية شرقية، إن لم يكونوا من الطبقة العليا الألمانية. ونتيجةً لذلك وبحلول عام ١٩٤٥ كان الحزبان الديمقراطي والجمهوري قد تبنيا منصاتٍ مؤيدة للصهيونية، وقرَّرا أن فلسطين يجب أن «تُفتح أمام الدخول الحر لليهود … وأن [يُعاد] تأسيسُ البلد دولةً يهودية ديمقراطية حرة».
كان للنشاط الأمريكي اليهودي أيضًا أثره على روزفلت. فقد عدَّل من سياسته السابقة، التي اقتضت تأجيلَ معالجة موضوع اللاجئين لِما بعد تحقيق النصر، مع الاحتفاظ بالحياد فيما يتعلَّق بفلسطين، وشكَّل الرئيس ما عُرف باسم «مجلس لاجئي الحرب» للتخطيط من أجل إعادة توطين اليهود، وأعلن أيضًا التزامه بمساندة فكرة الدولة الديمقراطية اليهودية. ولكن مرة أخرى لم تكن الصهيونية القوةَ الوحيدة المؤثِّرة على البيت الأبيض. وقد تنبأت وزارة الخارجية بأن موافقة البيت الأبيض ودعمه للدولة اليهودية سيكون له عواقبُ وخيمة ومدمِّرة على وضع أمريكا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وحذَّر إدوارد ستيتينيوس، الذي حلَّ محل كورديل هال وزيرًا للخارجية في نوفمبر عام ١٩٤٤، من أن ذلك «سيؤثِّر سلبًا بصورة كبيرة على قدرتنا على حماية المصالح الأمريكية الاقتصادية والتجارية والثقافية والخيرية في جميع أنحاء المنطقة». وقد أكَّد القادة العرب هذه التحذيرات، عندما احتجُّوا علنًا لأول مرة على نصرة أمريكا للصهيونية. فتحدَّث رئيس الوزراء السوري سعد ﷲ الجابري عن الدمار «المعنوي والمادي» لصورة أمريكا في بلاده، الذي تسبَّبت فيه سياساتها، وتحدَّث الملك عبد ﷲ عن «الامتيازات الاقتصادية التي يمكن منعها» في شرق الأردن. وفي خطاب إلى روزفلت عبَّرت إحدى جمعيات مشاهير المثقفين العرب عن عدم تصديقها بأن «أمريكا الديمقراطية قادرة على … نبذ صداقاتها في العالم العربي … من أجل عِرق متناثر في أنحاء العالم … ويعتمد على قوة وسلطة المال في تحقيق مخططاته».
كان النفط هو أكثرَ المصالح الأمريكية المهدَّدة بالخطر بسبب الصراع في فلسطين، ولم يحدُث أن تملَّق التيار الأمريكي الصهيوني أيَّ شخصية عربية بقدْرِ ما تملَّق الملك ابن سعود. فمنذ البدايات الأولى للحرب كانت الإدارة الأمريكية تأمُل في أن يستخدم الملك وضعه المميز الفريد في الشرق الأوسط للمساعدة في إخماد احتجاجات العرب ضد الصهيونية. ولكن هذه الآمال تحطَّمت في مايو عام ١٩٤٣، بسبب مذكِّرة غاضبة موجَّهة إلى روزفلت. فقد أصرَّ ابن سعود على أن «اليهود ليس لهم أي حق في فلسطين»، وحذَّر من ردود أفعال عنيفة ضد المصالح الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، قائلًا «إذا قُدِّر للحلفاء — لا قدَّر ﷲ — أن يتوِّجوا نصرهم في نهاية صراعهم بترحيل العرب من وطنهم».
وعلى متن الباخرة «كوينسي» أحدَث باخرة في أمريكا، عبَر روزفلت الجزءَ الشرق أوسطي من البحر المتوسط ودخل قناة السويس من بورسعيد. ورست السفينة في البحيرة المرة الكبرى، حيث استقبل روزفلت أولًا فاروق ملك مصر، ثم هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا خلال اليومين التاليَين. كان فاروق يرتدي زيَّ قائد الأسطول، وقد استمع بتهذيب والرئيس الأمريكي يتحدَّث عن موضوعين تقليديِّين من موضوعات الاهتمام الأمريكي في مصر، هما القطن طويل التيلة والسياحة. وتنبأ الرئيس بأن السياحة ستتوسَّع باطراد بنهاية الحرب، مثلها مثل الطلب العالمي على المنسوجات. أما فاروق فأكَّد ترحيبه الحار بكل الزائرين الأمريكيِّين، ووعد بإنتاجٍ أكبر من القطن، ولكن الحديث انتهى دون التطرق لأكثر الموضوعات بروزًا وإلحاحًا، وهو استقلال مصر. أما الإمبراطور الإثيوبي الضئيل الحجم الذي كان يرتدي حُلة عسكرية أكبرَ من مقاسه وقبَّعة، فقد كان أوفر حظًّا؛ إذ حصل على تأكيدات من روزفلت على رفضه إعادة الحكم الاستعماري الإيطالي لإثيوبيا. وغادر الزعيمان السفينةَ محمَّلين بهدايا قيمة؛ سيارة ذات محركين لفاروق، وأربع عربات استطلاع عسكرية لهيلا سيلاسي.
كانت هاتان المقابلتان مجرَّد تدريب على قمة عيد الحب التي عقدها روزفلت مع الملك السعودي. كان روزفلت ضعيفًا شاحب اللون وهو ينتظر ضيفَه تحت مدافع السفينة، يجلس على كرسي متحرك مرتديًا عباءةً سوداء كبيرة تدثِّر كتفيه. أما ابن سعود — الذي لم يكن أفضل منه صحةً — فلم يتمكَّن من صعود سلَّم المدمِّرة الأمريكية ميرفي التي كانت قد جاءت به من جدة، فجلس في أحد قوارب النجاة ورُفع برافعة إلى السفينة كوينسي. وكانت تساعده حاشية مكوَّنة من نحو ستين رجلًا، منهم حرسُه الخاص النوبيون حاملو السيوف المعقوفة، الذين كانوا «ذوي أجساد ممشوقة سمراء وعيون سوداء فتاكة»، حسب وصف أحد البحَّارة، والذي أضاف: «كانوا يبدون وكأن بإمكانهم الاستمتاع بحفرِ أحرفِ أسمائهم الأولى على أجساد أعدائهم.» وأحيط هذا الحدث بسرية تامة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها الملك ابن سعود بلاده، وخوفًا من قيام ثورات إبَّان غيابه، كان الملك قد غادرها متخفيًا، وجرى القيام بغارات جوية لإبقاء السكان داخل منازلهم. وعمل روزفلت أيضًا على عدم الإعلان عن تلك الزيارة. بل إنه تمكَّن من إقناع ابنته آنا بمغادرة السفينة قبل وصول ابن سعود، قائلًا لها إن «المسلم لا يسمح بوجود سيدات في حضرته عندما يتحدَّث إلى غيره من الرجال … وعندما يرى سيدة في مثل هذا المقام فإنه يسبيها».
حيَّا روزفلت ابن سعود بحرس شرف كامل ومجموعة من الأعلام المرفرفة. واحترامًا لضيفه امتنع عن التدخين، في حين قدَّم له الملك القهوة في تحية عربية تقليدية. بدأت المناقشات بصورة ودية، وقد دبَّت الحيوية في روزفلت وهو يصف رؤية أمريكا الراسخة حول نقل التكنولوجيا الحديثة إلى الشرق الأوسط، وتحويل صحاري الجزيرة العربية إلى حدائق غنَّاء. وذكَّر ابن سعود روزفلت بكل لطف بأنه محارب وليس مزارعًا، وأنه لا يهتم بتعديل أساليب حياة شعبه الممتدة عبْر الزمن.
وكان من الممكن أن يتوقَّف المزاح عند هذا الحد، لولا ترجمة ويليام إيدي، سفير أمريكا في جدة. كان مستعربًا تخرَّج في جامعة برنستون، وهو سليل مبشِّرين عملوا في الشرق الأوسط، وفي التاسعة والأربعين من عمره كان قائدًا بحريًّا سابقًا نال أوسمة ونياشين وكان رئيس مكتب الخدمات الاستراتيجية، وبذلك جمع بين الإيمان والقوة. ومع أن مهمته كانت تنحصر ببساطة في التحقُّق من «الأفكار والمطالب والاحتياجات والطموحات السياسية وغير السياسية» للعرب، فإنه كان يرى أن دوره هو تقوية الروابط الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية. وآمن إيدي بأن الولايات المتحدة بإمكانها عن طريق تحالفها مع ابن سعود أن تضمن «صداقة ثلاثمائة مليون مسلم ونياتهم الحسنة ومواردهم»، وفي الوقت نفسه تحمي «أثمن جوهرة» في الشرق الأوسط.
ولكن حماية هذه الجوهرة أثبتَت أنها تمثِّل تحديًا كبيرًا لإيدي، عندما انتقل موضوع الحوار والمناقشة على متن السفينة كوينسي من المحاصيل والكهرباء إلى فلسطين. فقد عبَّر روزفلت عن تعاطفه مع اليهود الناجين من النازيين، واحترامه لليهود الذين حاربوا ضد هتلر والذين صارعوا من أجل تحويل صحراء فلسطين إلى جنة مزدهرة. وتساءل: هل يوافق السعوديون على السماح بدخول أعداد أكبر من اليهود إلى فلسطين؟ وأجاب الملك بجفاف وغلظة بالنفي. وقال إن ملايين الدولارات من رأسماليِّين أمريكيِّين وبريطانيِّين هي التي غيَّرت وجهَ الصحراء، وليس الزراعة اليهودية. وتساءل: كيف يمكن لهذه الزراعات أن تفيد العرب إذا «كان هذا الازدهار سيورَّث لليهود [فقط]؟» وزعم الملك أيضًا أن الجنود اليهود لا يحاربون ألمانيا في أوروبا، وإنما العرب، وأنهم بدلًا من منحهم فلسطين فيجب على اللاجئين اليهود أن يُمنحوا «أخيرًا» المنازل الألمانية. وأصرَّ قائلًا: «اجعلوا العدو والطاغية يدفع الثمن، فهذه هي الطريقة التي نحارب بها نحن العرب. فالتعويضات يجب أن تأتي من المجرم، وليس من المتفرِّج البريء.» وحاول روزفلت مراتٍ ومراتٍ أن يثير مسألة اللاجئين، مذكرًا ابن سعود بأن ثلاثة ملايين يهودي قُتِلوا في بولندا وحدها. ولكن في كل مرة كان الملك يزداد إصرارًا على موقفه. وردَّ قائلًا: إذا كان ثلاثة ملايين يهودي قد قُتلوا في بولندا، فهذا معناه توافر مكانهم الشاغر لثلاثة ملايين يهودي آخرين.
وفي حين كان الموقف بين روزفلت وابن سعود قد تحوَّل إلى البرودة والجفاء، كان الهواء في مكان آخر على السفينة يزداد سخونة. فإن خدم الملك ذبحوا عددًا من الخراف المائة التي جلبوها معهم إلى السفينة وكانوا يقومون بشيها قرب مخازن الذخيرة. وكان أعضاء آخرون من الحاشية يقومون بتجربة إطلاق النار من مدافع السفينة كوينسي، محدِثين جلبةً في مياه البحر حول السفينة، ثلاثين دقيقة، قبل أن يقرِّر القبطان أن «أضرارًا جمَّة قد تحدُث» واستطاع أن يوقفهم. في تلك الأثناء كانت أجزاء كبيرة من السفينة قد غُطِّيَت بسجاجيد فارسية — فقدَما الملك لم تطأ الأرضيات المعدنية قط — وأُقيمت خيمةٌ بها وسائد حريرية ومقاعد مطلية بالذهب. ولم يحدُث من قبل أن امتزجت القوة العسكرية الأمريكية بالجو الأسطوري للشرق الأوسط كما حدث في تلك المرة. كان كلُّ ما ينقصه هو الحريم الذي نجح إيدي في إقناع الملك بتركه في بلاده، محذرًا إياه أن حركة السفينة قد تزيح نقاب السيدات.
كان التقارب بين البحَّارة والسعوديِّين على السفينة قد ازداد حميمية ودفئًا، كما حدث فجأة أيضًا بين الملك وروزفلت. فقد تنازل روزفلت فجأةً عن طلبه السابق بالتعاون فيما يخص فلسطين، وبدلًا من ذلك وعد ابن سعود بألا يساعد اليهود أبدًا على حساب العرب. وأكَّد التزامَه بالدفاع عن المملكة السعودية، وأن يقوم بكلِّ ما في وسعه «باستثناء الحرب» لدعم الاستقلال السوري واللبناني. واعترف الرئيس بأن الشعب الأمريكي كانت لديه «معلومات مغلوطة وأنه كان مضللًا» فيما يخص الشرق الأوسط، وأضاف بعد ذلك في مؤتمر صحفي أنه تعلَّم عن المنطقة في خمس دقائق قضاها مع ابن سعود أكثرَ مما تعلَّمه من عشرات الرسائل الدبلوماسية.
وكان اللقاء التاريخي بين الرئيس والملك السعودي قد انتهى إيجابيًّا، بل حتى وديًّا، ولكن النيات الحسنة تلك شابتها بعضُ الأحداث الصغيرة المؤسفة على متن السفينة. فقد دُعي أميران سعوديان لمشاهدة أحدث الأفلام الكوميدية التي أنتجتها هوليوود، فصُدما عندما مُزِّعت ملابس البطلة لوسيل بول. تمامًا كما ذُهل البحَّارة الأمريكيون المكلَّفون بغسل دماء الخراف من ظهر السفينة وبقايا طعام السعوديِّين الذين يفضِّلون البحر على أسرار السفن والبحرية واضطُر ابن سعود إلى الفرار مبللًا عندما أغرقت موجةٌ عالية خيمته، وأن يبحث عن مأوًى في كابينة القبطان. ولكن في النهاية كانت هذه المناسبة ذكرى لا تُنسى للطرفين. وقدَّم الملك لروزفلت مجموعةً من العباءات العربية وسيفًا مرصعًا بالماس، ووزَّع بسخاء شديد خناجرَ وساعاتٍ ذهبية ونقودًا على البحَّارة وضبَّاط السفينة على حد سواء. وعاد ابن سعود إلى جدة محمَّلًا بكرسيٍّ متحرك، معلنًا أنه «أغلى مقتنياتي لأنه هدية من صديقي العظيم الرئيس روزفلت، يرحمه ﷲ».
لم يكن الجميع سعداء بهذه القمة السعودية-الأمريكية الأولى. فقد رأى هوبكنز أن روزفلت قد «تأثَّر تأثُّرًا مفرطًا» — ربما بسبب مرضه — فتخلى بسهولة عن دعمه للصهيونية ومساندته لها. أما الصهاينة فكانوا بالطبع مدمَّرين بسبب المحادثات، وحانقين على محاولات الإدارة الأمريكية وصفَ تلك المحادثات بأنها «تمثيل خبيث» لالتزامهم المستمر بالاستيطان اليهودي. وبنفس الطريقة، سعِد القادة العرب بهذا الاجتماع، الذي كان يمثِّل أعظم إنجازاتهم في فلسطين منذ الوثيقة البيضاء لعام ١٩٣٩. وتناثرت الروايات حول شجاعة ابن سعود في محادثاته مع روزفلت. قال عبد الرحمن عزام، الأمين العام للجامعة العربية، إن الملك أقسم للرئيس قائلًا «لن يهدأ لي بالٌ حتى أُقتل أنا وأبنائي جميعًا دفاعًا عن فلسطين»، ثم أجبر الرئيس الأمريكي أن يقسم هو الآخر أنه «لن يساند الصهاينة أبدًا».
لعلَّ ردَّ الفعل المناسب للحديث الذي دار بين روزفلت وابن سعود كان يجب أن يتصف بالحدة وليس الاستحسان. ففي حين كانت الولايات المتحدة قد رسَّخت تحالفها مع المملكة السعودية، ظلَّ موقفها من فلسطين، أكثرَ موضوعات الشرق الأوسط تقلبًا وتحولًا، مبهمًا غير واضح، وعُرضة لتفسيرات متناقضة. وسرعان ما أصبح هذا الغموض يكتنف القادةَ الأمريكيين، مما وضع الكونجرس الأمريكي في موقفٍ مضاد للرئيس، والرئيس في موقف مضاد لوزارة الخارجية، وفي النهاية انقسم البيت الأبيض على نفسه. ولكن روزفلت لم يعرف بهذه الانشقاقات قط. فبعد شهرين من لقائه بالملك السعودي على متن السفينة كوينسي، تُوفي روزفلت في منتجعه بمدينة وورم سبرنجز بولاية جورجيا، وبعد وفاته بأقلَّ من أربعة أسابيع انتهت الحرب في أوروبا.
أثبَت تراث انخراط أمريكا في الشرق الأوسط في الحرب العالمية الثانية أن ذلك الانخراط كان مستمرًّا وعميقًا في آنٍ واحد. فعلى عكس الصراع العالمي السابق، الذي قدَّمت أمريكا عن طريقه منافعَ ومزايا عديدة للشرق الأوسط لكنها في النهاية كان ينقصها الوجود العسكري والدعم المحلي لتقديمها، وعد الأمريكيون في الحرب العالمية الثانية بإحداث تغييرات إيجابية في المنطقة، ودعموا ذلك الوعد بقوات ومساعدات مادية. وبتشجيع أمريكي بدأت دول شمال أفريقيا طريقًا أدَّى في النهاية إلى حصولها على الاستقلال، وحرَّرت كلٌّ من سوريا ولبنان نفسيهما من الحكم الفرنسي. وساعدت الولايات المتحدة أيضًا في إعداد إيران لنيل استقلالها نهائيًّا ودعَّمت الحركة الوطنية في مصر. فعام ١٨٨٦ كان التمثال الذي صُمِّم أساسًا من أجل الشرق الأوسط قد أصبح منارة لملايين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الباحثين عن الحرية، ولكن عملية الشعلة التي تمَّت بعدها بنحو ستين عامًا، كانت قد أنارت سبلًا عديدة للحرية للكثير من شعوب الشرق الأوسط.
أما شبه الجزيرة العربية وفلسطين فأصبحتا، على صعيدٍ أقلَّ مواتاة، جزءًا لا يتجزأ من انخراط أمريكا في الشرق الأوسط. فقد تعيَّن على كل رئيس بعد روزفلت أن يتعامل معهما، محاولًا فصلهما ومصالحتهما، مع التصارع مع غيرهما من التحديات الشاقة في المنطقة. أما أكثرُ مَن واجه التعجيز الناتج عن ذلك فكان خليفة روزفلت التالي له مباشرة. ولقُرابة مائتي عام ظل الأمريكيون يحلُمون بتحويل الشرق الأوسط إلى نسخة من الولايات المتحدة؛ ديمقراطي ومتفتح الذهن وحر. ولكن النظر إلى مرآة الشرق الأوسط على الضوء الشاحب لفترةِ ما بعد الحرب جعل ذلك الرئيس يرى نفسه وحدَه فقط: قصيرًا عريض الكتفين وذا نظارة مذهبة وقبَّعة صغيرة رمادية تتجه أطرافها لأعلى، راسمًا ابتسامة صريحة على شفتيه تقول: «ثِق بي.»