الشرق الأوسط والرجل القادم من ميسوري
بدَت الرئاسة في البداية تحديًا يصعُب مجابهته لهاري ترومان، ولم ترجع هذه الصعوبة فقط إلى عدم لباقته أو طريقته الخنفاء في الحديث أو عدم حصوله على مؤهل جامعي. وقد قال ذات مرة لمراسلين صحفيِّين: «كنت أشعر وكأن القمر والنجوم وجميع الكواكب قد سقطت فوق رأسي.» كان ترومان قد ورِث هذا المنصب من الرئيس روزفلت الذي كان قد انتُخب أربع مرات والذي كان يتمتَّع أيضًا بإعجاب جماهيري تام؛ أما ترومان فقد تقلَّد المنصبَ بدعم وثقة قليلين نسبيًّا من الجماهير، وكانت تسبقه سُمعته بصفته عضوًا غيرَ مؤثِّر في الكونجرس، وكان وجوده في البيت الأبيض نتيجةً لآليات سياسية أكثرَ منها بسبب مواهبه القيادية أو تعبيرًا عن رغبة وإرادة شعبية. وقد تركَّز معظم النقد العنيف الذي وُجِّه لترومان على انعدام خبرته في مجال الشئون الخارجية وعلى واقع عدم دعوة روزفلت له من قبلُ ولو مرةً واحدة إلى غرفة الخرائط بالبيت الأبيض، إضافةً الى عدم استشارته في قرارات مؤثِّرة عالميًّا. وقد وصف الرئيس التنفيذي لهيئة وادي نهر تينيسي، ديفيد ليلينتال، تولِّي ترومان للرئاسة بأنها «طامة كبرى»، موضحًا الألمَ والعذاب الذي تسبَّب فيه ذلك للعديد من الأمريكيِّين، خاصة أولئك المقرَّبين من مراكز القوة. وقال ليلينتال صارخًا: «أمريكا والعالم كله لا يستحقان ذلك. فليساعدنا الرب جميعًا!»
وكان الظهور غير المؤثِّر لهذا الرجل الذي عمِل من قبلُ مزارعًا وموظفًا في مصرف وبائع خردوات، أمرًا خادعًا للغاية. فقد تضمَّنت إنجازاته المحلية مجهوداتٍ جمَّة للتخلُّص من الفقر وتحديث نظام التأمينات الاجتماعية وتقوية القوات المسلَّحة الأمريكية. ولكن إنجازاته في مجال السياسة الخارجية كانت مبهرة تمامًا، مع أنها المجال الرئيسي الذي كان يُتوقع له أن يفشل فيه. فبالإضافة إلى متابعته للهزيمة الأخيرة التي مُنيت بها ألمانيا واليابان، أشرف ترومان على عملية تأسيس الأمم المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي، وواجه الشيوعية في برلين وكوريا الجنوبية، وأعاد تعميرَ أوروبا التي دمَّرتها الحرب، ومن الأمور التي قام بها وأثارت جدلًا كبيرًا تقديمُ الأسلحة النووية للعالم. كما غيَّر أيضًا في الشرق الأوسط بما لم يفعل أيُّ أمريكي من قبل.
وقد عكست سياسةُ ترومان في الشرق الأوسط مزيجَ العنف والدهاء السياسي نفسه الذي كان يطبِّقه على غيره من موضوعات السياسة الخارجية. وكانت دروس المثابرة التي تعلَّمها بصفته ضابطَ مدفعية على الخطوط الأمامية أثناء الحرب العالمية الأولى وفي الكواليس الخلفية للحزب الديمقراطي قد أثَّرت على مواقفه تجاه المنطقة، تمامًا مثل قراءاته المكثَّفة حول الأدوار التاريخية لرجال ونساء عظماء. ومن الواضح أن تفكير ترومان بشأن الشرق الأوسط كان مصبوغًا بنشأته المعمدانية. فقد كان على دراية تامة بالإنجيل وما ورد فيه عن الأماكن المقدسة، وكان ترومان، مثله مثل العديد من الرؤساء الأمريكيِّين السابقين، يمتلك معرفة مفصَّلة عن جغرافية الشرق الأوسط. يستحضر ترومان: «ليس فقط الجزء الإنجيلي لفلسطين هو ما يثير اهتمامي. فتاريخ هذا الجزء من العالم هو الأعقد والأكثر إثارةً للاهتمام في العالم أجمع». ووضح هذا التحمُّس جليًّا في المكتب البيضاوي، حيث أذهل الرئيس الجنرال أيزنهاور ونائب وزير الخارجية دين أشيسون، اللذين كانا يظنانه جاهلًا بالموضوع، وذلك عندما أطال في الحديث إليهما حول الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، مع الاستعانة بخريطته القديمة والمهلهلة.
كان ترومان مثل شخصيات مارك توين رجلًا لكل المواقف، تصبغه واقعية الرؤساء جيفرسون وجاكسون وتيدي روزفلت، ويشبه الرئيس ويلسون في كثيرٍ من مبادئه ومُثُله. لذلك كان ترومان مثبتًا لجدية الكثير من المواقف التي اعتاد الأمريكيون أن يتعاملوا بها بصورة تقليدية مع الشرق الأوسط. وقد كانت تلك المواقف تحت الاختبار بشدة في الأعوام الأولى من رئاسته، عندما اضطُر هذا الرجل القادم من ميسوري إلى الصراع مع أزماتٍ متتالية في الشرق الأوسط.
نجمٌ يسطَع في سماء الشرق
كان الشرق الأوسط في أبريل عام ١٩٤٥ منطقةَ اضطرابات لا تهدأ. فقد احتلَّت القوات البريطانية والفرنسية سوريا، وسيطرت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية على شمال أفريقيا. أما فلسطين وشرق الأردن والعراق فظلَّت تحت قيادة بريطانية خالصة، وكانت إيران مقسَّمة بين بريطانيا والاتحاد السوفييتي. وكان هذا زمنَ تغيراتٍ جذرية، بسبب ضَعف الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وإحلال النفوذ السوفييتي والأمريكي محلَّهما، وكان أيضًا زمن الأحلاف التي تتغيَّر بسرعة. وكان التحالف الإنجليزي الأمريكي الفرنسي السوفييتي الذي نجح في وقف الزحف الألماني في المنطقة ينهار بلا رجعة. ومن ناحية أخرى، واجهت الولايات المتحدة بريطانيا في بعض مناطق الشرق الأوسط، في حين تحالفت في مناطق أخرى مع البريطانيِّين ضد الفرنسيِّين، وفي ثالثة تحالفت مع بريطانيا وفرنسا لمعارضة روسيا. وكان من المتوقَّع أن يتمكَّن ترومان من إدارة هذا الموقف غير الثابت، وأن يستجيب للمطالب الوطنية من أجل التحرر من الهيمنة الأوروبية، مع الحفاظ على ائتلاف غربي ضد التهديد السوفييتي المتصاعد. وقد اتفق ترومان مع لوي هندرسون، الرئيس الجديد لقطاع شئون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية، على أن شعوب الشرق الأوسط المستعمرة كانت «الأكثر استحقاقًا للاستقلال السياسي في فترةِ ما بعد الحرب». ولكنَّ الرئيس وضع في حسبانه أيضًا تحذيرات وزارة الخارجية بأن الاتحاد السوفييتي كان «مصمِّمًا على … اكتساح تركيا … وإيران والخليج العربي حتى المحيط الهندي».
وكان أول اختبار لدهاء ولباقة ترومان الدبلوماسية قد بدأ في سوريا أوائل يونيو عام ١٩٤٥؛ أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من يوم النصر في أوروبا. فعندما أخلَّت الحكومة الفرنسية بوعودها باحترام استقلال سوريا، ورفضت أن تخليَ مواقعها العسكرية في البلاد، وحين تصاعدت الاحتجاجات في دمشق وحماة وحلب، كان رد الفرنسيِّين هو إطلاق نيران المدفعية والطائرات الحربية. فسُوِّيَت أحياءٌ قديمة بالأرض، وهوجِم سكانها بنيران الرشاشات، مخلِّفة وراءها أكثرَ من أربعمائة قتيل. واحتجَّت سوريا لدى واشنطن «إن بلادكم قد شجَّعتنا في موقفنا الرافض لمنح مزايا خاصة لفرنسا أو أي دولة أخرى. والآن يقوم الفرنسيون بضربنا بذخيرة من برنامج المِنح المعطاة لاستخدامها ضد عدونا المشترك». وأحدَث الاحتجاج أثرَه المطلوب. فقد عبَّر مسئولو وزارة الخارجية عن ندمهم بسبب فشل أمريكا في ضمان الحريات لسوريا، التي وعدهم بها ميثاق الأطلنطي وميثاق الأمم المتحدة، وعبَّروا عن ذعرهم من خطر أن تتوجه سوريا إلى موسكو لطلب المساعدة. وقال هندرسون إنَّ «رفضَنا تلبية الطلبات السورية الحالية يمكن أن يسبِّب حالة من الإحباط المخيِّب للآمال في جميع أنحاء الشرق الأوسط مثل حالة الإحباط التي حدثت بسبب عودة الولايات المتحدة إلى حالة الانعزال بعد الحرب العالمية الأولى».
لم يكد ترومان يطفئ الثورة في سوريا حتى واجهته أزمةٌ أكبر في ليبيا. فبعد تحرُّرها من الاستعمار الإيطالي الفاشي، كانت ليبيا في يوليو عام ١٩٤٥ لا تزال تقبع تحت نيران احتلال القوات البريطانية والفرنسية في الوقت الذي كان فيه قادة الحلفاء يجتمعون في بتسوم بألمانيا. وكان الوطنيون الليبيون الذين اجتمعوا خلف ملِكهم إدريس الذي استعاد عرشه، يتوقون إلى استقلالهم، ولكن القوى الكبرى اعترضت على ذلك. وقد اتفقوا على أن ليبيا المكوَّنة من ثلاث مقاطعات رئيسية — هي طرابلس وفزان وبرقة — ينقصها الالتحام الداخلي اللازم للاستقلال، بجانب الموارد الطبيعية الأساسية. وبالفعل كان أكبر مورد ليبي للدخل يأتي من بيع حُطام المركبات الحربية المتبقية من الحرب العالمية الثانية خردةً. وكان أمام الحلفاء خيار إما إعادة ليبيا إلى الحكم الإيطالي أو وضعها تحت الإشراف الدولي.
ولم يكد الصِّدام مع روسيا ينتهي وإزاحة ليبيا من الطريق، حتى لاح في الافق صِدامٌ آخر أكثر دمارًا بين السوفييت والغرب متمثلًا في إيران. ففي ديسمبر عام ١٩٤٥ كانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد بدأتا في سحب قواتهما من إيران، موفين بذلك بوعودهما باحترام سيادة البلاد بعد الحرب. لكن السوفييت توانوا عن ذلك. فعن طريق حزب تودة الموالي للشيوعية أعاد السوفييت توطيدَ نفوذهم في الحكومة الإيرانية وروَّجوا لانفصال الجمهوريات السوفييتية المجاورة في كردستان وآذربيجان. وكان ستالين على استعدادٍ لقطع وصول أمريكا إلى مصادر النفط الإيراني ولتهديد حقول النفط في كلٍّ من المملكة العربية السعودية والبحرين والكويت. وفي تقرير من تبريز ادَّعى مراسل وكالة أنباء «أسوشيتد برس»، جوزيف جودوين، أنه بالكاد يستطيع سماعَ الموجة القصيرة على مذياعه بسبب أصوات الدبابات السوفييتية التي تهدِر وهي تمرُّ. وتزامنت الأزمة الإيرانية مع استيلاء السوفييت على دول البلطيق وشرق أوروبا، مما جعل تلك الأزمة تبدو وكأنها جبهةٌ إضافية في الحرب الباردة التي كانت تتطور بسرعة بين الغرب والكتلة الشيوعية. وحسبما جاء في تقرير المحلِّل جورج كينان، فقد نصح خبراء وزارة الخارجية الحكومةَ بمواجهة التهديدات السوفييتية في إيران — كما في أي مكان آخر — بمزيجٍ من الدبلوماسية الحاسمة واستعراض العضلات العسكري، وهي سياسة عُرفت فيما بعدُ باسم «الاحتواء» أو «منع انتشار القوة».
كانت بعض الشرارات الأولى للحرب الباردة قد انطلقت مجازًا من الشرق الأوسط، ومنه اختبر ترومان لأول مرة آليةَ إدارة الأزمات الخاصة بالأمم المتحدة. وكانت النتيجة انتصارًا أمريكيًّا واضحًا. ولكن لأنه لم يكن يرغب في الاعتماد على هذا الإنجاز وحدَه، فقد أرسل ترومان «قوات البحر المتوسط البحرية» المُنشأة حديثًا — التي تغيَّر اسمها فيما بعدُ إلى الأسطول السادس — لتفقُّد شرق البحر المتوسط والقيام بدوريات استكشافية هناك. ولم تكن الولايات المتحدة قد استعرضت قوَّتها في الشرق الأوسط بهذا الشكل المكثَّف والمستمر منذ عهد ستيفن ديكاتور في أوائل القرن التاسع عشر.
ولكن الضغط السوفييتي على ما يسمَّى بدول النطاق الشمالي المكوَّن من إيران والعراق وتركيا لم يهدأ، وأثبتَت الأمم المتحدة عدمَ قدرتها على تخفيفه. فما كادت القوات السوفييتية تستكمل جلاءها من إيران في أغسطس عام ١٩٤٦، حتى بدأت في التجمع على الحدود التركية. وكان ستالين يتوق إلى الحصول على ممرٍّ موصِّل للبحر المتوسط بدلًا من الذي فقده في ليبيا، فعرض مطلبًا على القادة الأتراك بوصاية مشتركة على مضيق الدردنيل. وفي الوقت نفسه هدَّد الثوار اليونانيون، بدعمٍ من الشيوعيِّين، بقلب نظام الحكم الموالي للغرب هناك. ومع أن بريطانيا كانت تتحمَّل مسئولية الدفاع عن الجبهة التركية اليونانية، فإن اقتصادها الذي دمَّرته الحرب لم يمكِّنها من تمويل هذا العبء. ولم يكن هناك سوى الولايات المتحدة.
جاء في أحد التقارير الرسمية المرفوعة إلى الرئيس: «تمثِّل تركيا واليونان العقبةَ الوحيدة أمام الهيمنة السوفييتية على شرق البحر المتوسط، التي تعدُّ منطقةً ذات أهمية كبيرة اقتصاديًّا واستراتيجيًّا». وقد اتفقت وزارتا الخارجية والحربية على أن سقوط البلدين سيسرِّع بالغزو الشيوعي لجميع أنحاء الشرق الأوسط، بكل موارده النفطية، وسيؤدي في النهاية إلى انهيار غرب أوروبا. ولكن الخطر لم يكن عسكريًّا فقط. فقد أضاف تحليل إداري مشترك أنه: «يوجد عند هذا المنعطف من تاريخ العالم صراعٌ بين أسلوبين من أساليب الحياة: بين الدكتاتورية والحرية، وبين خدمة الأغلبية للأقلية وحرية السعي وراء تحقيق تقدُّم.» فإذا استسلمت اليونان وتركيا يمكن للسوفييت أن ينجحوا في تكوين إمبراطورية عالمية، وفي عزل الولايات المتحدة.
في الأزمة الأخيرة التي شملت تركيا واليونان قبل نحو قرن كامل، كان على الرئيس جيمس مونرو أن يختار بين مساعدة المتمردين اليونانيِّين ضد الأتراك أو السعي وراء اتفاقية مثمرة مع تركيا، أي بين الوفاء لمُثُل وقيم أمريكا أو الالتزام بمصالحها الاقتصادية. ولكن المسألة لم تكن عند ترومان هي مساندة أيٍّ من الجانبين: اليونانيين أو الأتراك، أو ما إذا كان عليه أن يمنح الأولوية للأيديولوجيات والعقائد أم للماديات، بل كان السؤال هو ما إذا كان يجب على الولايات المتحدة تحمُّل مسئولية وعبء الدفاع عن الشرق الأوسط من عدمه. أما ترومان فقد كان مصمِّمًا على «إيضاح موقف أمريكا للسوفييت بكل جلاء ودون مواربة» وفق تعبيره، ولكن لتحقيق ذلك كان عليه أولًا أن يُقنع الشعب الأمريكي بأن الشرق الأوسط يستحق الدفاع عنه. وكانت تلك مهمةً صعبة، في ظل التضحيات التي قُدمت في الحرب ونقص الموارد الناتجة عنها والخسائر التي مُنيت بها أمريكا في تلك الحرب. وإذا كان مونرو قبْله قد احتاج إلى مذهب وتعاليم، فإن ترومان لم يكن أقلَّ حاجةً إليهما.
ألقى ترومان خطابًا في جلسة مشتركة للكونجرس في ١٢ مارس عام ١٩٤٧، وفيه التمس مساعداتٍ عاجلة من أجل يونان «ديمقراطية» وتركيا «محبة للحرية». وقال إن سلامة البلدين «ضرورية لحفظ النظام في الشرق الأوسط» ومن أجل سلامة وأمان الغرب ككل. ولضمان «حياة خالية من القهر» لشعوب الشرق الأوسط ولدعم الأمم المتحدة، طلب ترومان موافقةَ الكونجرس على مساعداتٍ عسكرية ومدنية كبيرة لتركيا واليونان، تتضمَّن تدريب قواتهما المسلَّحة. وحذَّر من «أننا إذا فشلنا في قيادتنا فقد نخاطر بسلام العالم أجمع. وسنخاطر بالتأكيد برفاهية أمتنا».
عن طريق مناشدة الواجبات المعنوية لأمريكا، بالإضافة إلى التذكير بمصالحها الاستراتيجية كسبَ ترومان إلى صفه جمهورًا ومجلسَ نواب كانا متشكِّكين في البداية. وزادت المساعدات العسكرية لليونان وتركيا، وانطلقت نحو ساحل بحر إيجة السفينة الحربية «ميسوري» — المسمَّاة تيمنًا بموطن ترومان، التي كانت قد قبِلت استسلام اليابان. وقال النائب الشاب عن ولاية ماساتشوستس، جون كينيدي، مادحًا قرار ترومان: «إن سياستنا الخارجية هي ذاتها كما كانت منذ أيام مونرو عندما استنَّ مبدأه. ويعني هذا ببساطة أن الزمان والمكان قد جاءا بتفسيرٍ جديد لهذه الوثيقة التاريخية.»
كان ترومان قد نجح حتى الآن في تعامله مع الشرق الأوسط في خلق توازن وانسجام بين مصالح أمريكا الاستراتيجية ومبادئها ومُثُلها الأخلاقية، وذلك من أجل صيانة التحالف الغربي، وفي الوقت نفسه وقف المد الاستعماري الفرنسي والتدخل السوفييتي. ولكن الحفاظ على هذا التوازن أثبت أنه أقربُ إلى المستحيل، خاصة في ظل الأزمة الكبرى التالية التي حدثت في المنطقة. كان ترومان قد تعامل بحصافة ولباقة مع أزمات وتقلبات في شمال أفريقيا وإيران وبلاد الشام، ولكن تلك الأزمات كانت مجرد اختلاجات بسيطة مقارنةً بفلسطين، أكثر الخلافات ضراوةً، التي رجَّت الشرق الأوسط رجًّا.
السؤال الأكثر أهمية
لمعظم الأمريكيِّين كان مشهد عشرات الآلاف من اليهود الذين يقاسون في معسكرات للنازحين في أوروبا المتحررة بعد الحرب أكثر فظاعةً من مشهد شعوب الشرق الأوسط الرازحة تحت حكم الاستعمار أو من مشهد القوات السوفييتية وهي تهبط باتجاه مضيق البوسفور. لم يكن لدى اليهود الناجين من النازيِّين أدنى رغبة في العودة إلى أوطانهم ومنازلهم — فمعظم تلك المنازل كانت قد تهدَّمت — بل كانوا يفضِّلون مغادرةَ أوروبا تمامًا. واستولت قضيةُ هؤلاء اللاجئين بصورة متزايدة على اهتمام الرأي العام في أمريكا، وظلَّت تطارد الرئيس في أحلامه كلَّ ليلة. وقال لنفسه: «لا يمكن للحكومة الأمريكية أن تقف متفرِّجة متكاسلة، وضحايا جنون هتلر ليس مسموحًا لهم ببناء حياة جديدة. فاليهود بحاجة إلى مكانٍ يمكنهم الذهاب للعيش فيه.»
ولكن أين؟ كانت أكثر الأماكن وضوحًا هي فلسطين، نتيجةً لرفض وتردُّد معظم الدول غير الأوروبية في استيعاب هؤلاء اللاجئين. ولكن الوثيقة البيضاء لعام ١٩٣٩ كانت لا تزال سارية، ولم يكن أيُّ زعيم بريطاني — ولا حتى تشرشل المناصر للصهيونية — على استعداد للمخاطرة بإثارةِ ملايين المسلمين عن طريق إلغائها. وبدلًا من ذلك اعترضت القوارب الحربية البريطانية سفن الهاجاناه المكتظَّة بالناجين من معسكرات الموت النازية الذين يحاولون الوصول إلى فلسطين، مرسلةً إياهم مرةً أخرى إلى ألمانيا أو إلى سجون مؤقتة في العراء في جزيرة قبرص. وبكت إليانور روزفلت — أرملة الرئيس الأمريكي — قائلة: «لا يمكن أن أتحمل مجرد التفكير في يهود أوروبا الذين قضَوا سنواتٍ طويلة في معسكرات الاعتقال وراء الأسلاك الشائكة» لكن وزارة الخارجية لم تشاركها تلك المشاعر. بل اتفق هندرسون ومختصون آخرون من مكتب شئون الشرق الأدنى مع بريطانيا على أن إغراق فلسطين باليهود سيؤدي إلى عدم استقرار الشرق الأوسط كله، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تصاعد النفوذ السوفييتي في المنطقة، وخسارة موارد النفط لا يمكن إيجاد بديل لها.
وكانت مشاهد معاناة اللاجئين وسيناريوهات غضب المسلمين قد وضعت ترومان وجهًا لوجه أمام المعضلة الأمريكية الشهيرة في الشرق الأوسط وهي تحديد الأولوية، هل لحفظ المصالح أم لحماية المبادئ. على أن ازدواجية ترومان نفسه تجاه اليهود والصهيونية زادت من تعقيد هذا القرار. كان ترومان — شأنه شأن ويلسون وروزفلت من قبله — يَعُدُّ اليهود من أقرب مساعديه، خاصة صديقَه العسكري القديم وزميله في متجر الخردوات إيدي جاكبسون. ولكونه سليلًا لمزارعين أُجْلوا بسبب الحرب الأهلية وكانوا هدفًا للعنصريِّين الجنوبيِّين الكارهين لآرائه الليبرالية، تعاطف مع ضحايا النازيِّين الذين اضطُروا إلى هجر منازلهم وأوطانهم. وقال: «كل إنسان أُجبر على ترك بلده لديه مكان آخر يذهب إليه، لكن اليهود لا يوجد أمامهم مكان يذهبون إليه.» وكانت قراءاته للإنجيل قد قادته إلى تقبُّل فكرة إعادة اليهود إلى أرض الميعاد، كما قادته إلى الانضمام عام ١٩٤١ إلى لجنة فلسطين الأمريكية المسيحية ذات التوجه الصهيوني. ومع ذلك — ومثل سابقِيه الديمقراطيِّين — فكثيرًا ما كان ترومان يترك العِنان لمشاعره المعادية للسامية؛ إذ لم يُدعَ آل جاكبسون ولو مرة واحدة للعشاء في البيت الأبيض، كما عبَّر بصراحة عن مشاعره تجاه الهجرات الجماعية لليهود. وكان أيضًا قلقًا بشأنِ ما إذا كانت الدولة اليهودية المستقبلية ستكون دينية، وما إذا كان سيجري استدعاء القوات الأمريكية للدفاع عنها. ومن اللافت للنظر أنه عندما صوَّت ٧٧ عضوًا من الكونجرس مؤيدين قرارَ الدولة اليهودية عام ١٩٤٤، لم يكن ترومان من بينهم. وفسَّر ذلك قائلًا: «إنني أتعاطف مع اليهود لكنني لا أرغب في فعل شيء يجلب المشاكل.»
لكل هذه الأسباب فضَّل ترومان «جعْلَ العالم كله مكانًا آمنًا لليهود»، وليس بالضرورة إعادة توطينهم في فلسطين. ولكنَّ الرئيس الثالث والثلاثين كان يَعدُّ نفسه دائمًا سياسيًّا في المقام الأول، ورجل دولة بعد ذلك. وكان يستطيع بالكاد أن يتجاهل نداءات الكونجرس من أجل بناء دولة يهودية، ولا التلغرافات المؤيدة للصهيونية التي أغرقت البيت الأبيض في نهاية الحرب مع اليابان. وأصبح قادة العرب يصرحون أيضًا بآرائهم علانية، مفتتحين مكتبًا للمعلومات في واشنطن، ونشر ابن سعود الوعودَ التي وعدها إياه روزفلت. ولكن كل تلك الإجراءات لم يكن لها إلا أثر ضئيل على ترومان، فقال: «أنا مسئول أمام مئات الآلاف التواقين إلى إنجاح الصهيونية. عِلاوة على أن دوائري الانتخابية لا تحتوي على مئات الآلاف من العرب.» وفي محاولة لتلبية تلك الطلبات، طلب ترومان من إيرل هاريسون، عميد كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا، أن يتحرَّى موقف اللاجئين. وكان هاريسون مسئولًا سابقًا بهيئة الهجرة، وليست له أي روابط سابقة بالصهيونية؛ لذلك كان من المتوقَّع أن يصدر تقريرًا صادقًا وحياديًّا.
وحثَّ هاريسون على مطالبة بريطانيا بفتح أبواب فلسطين أمام ١٠٠ ألف يهودي، كان نصفهم قد وصل بالفعل إلى قِطاع الاحتلال الأمريكي بمساعدة منظمات صهيونية. ولكن كليمنت أتلي، عضو حزب العمال اللبق الذي حلَّ محل تشرشل رئيسًا للوزراء عام ١٩٤٥، لم يُظهِر أيَّ استعداد لتعديل سياسة بريطانيا. فأخبر ترومان بكل هدوء أن اليهود يجب معاملتهم مثل أي مجموعة أخرى، وحذَّره من أن مطالبة الولايات المتحدة بالسماح لهم بدخول فلسطين ستتسبَّب في ثورة المسلمين في العالم أجمع، ودعم الشيوعية، بالإضافة إلى «الإضرار الجسيم بالعلاقات بين بلدينا». وكان إرنست بيفن السمين وهو وزير خارجية أتلي، وكان عاملًا سابقًا في الميناء وعضوًا في النقابات العمالية، فكان أقلَّ لباقةً ورقيًّا. فقد وبَّخ اليهود بسبب إصرارهم على التدافع «للوصول إلى أول الصف» من أجل الحصول على مساعدات دولية، ووبَّخ الأمريكيِّين أيضًا بسبب تفضيلهم إعادة توطين اليهود في فلسطين «لأنهم لا يرغبون في وجود عدد كبير منهم في نيويورك».
وقد بدأت اللجنة المكوَّنة من ستة موفَدين أمريكيِّين وستة موفَدين بريطانيِّين عملها في يناير عام ١٩٤٦، فسافر هؤلاء الأعضاء إلى شتى أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، واستمعوا إلى شهادات عدد كبير من الشهود: عاملين في مجال الإغاثة، ومسئولين عسكريين، وسياسيين، وأكاديميين، وعرب ويهود. وشرح ماجنيس، ممثلًا عن حركة التوحيد، وجهةَ نظره القائلة بإقامة دولة ذات قوميتين، في حين دافع كلٌّ من بن جوريون وجولدا مائير ووالتر لودرميلك بحرارة عن وجهة نظرهم القائلة بإقامة دولة يهودية خالصة. وأكَّد الصهاينة للجنة أن ٩٦٫٨٪ من اللاجئين يفضِّلون إعادة الاستيطان في فلسطين، ولكن جمال الحسيني أصرَّ على أن العرب سيقاومون الهجرةَ اليهودية وسيحاربون من أجل تحويل فلسطين إلى دولة عربية. وانتهت اللجنة إلى أن «وضع بريطانيا العظمى كانتداب ليس وضعًا جيدًا»، وأشارت إلى تصاعُد هجمات الميليشيات اليهودية ضد أهداف بريطانية، التي لم تقتصر على جماعات المجدِّدين وحسب وإنما من قوات الهاجاناه أيضًا. ومع ذلك قرَّرت اللجنة أن «فلسطين لن تكون دولة عربية أو يهودية»، وأوصت بوضعها تحت وصاية دائمة من الأمم المتحدة. وللتخفيف من مأساة اللاجئين اقترحت اللجنة السماحَ لمائة ألف يهودي بدخول فلسطين دفعةً واحدة، مع رفع الحدود التي قرَّرتها الوثيقة البيضاء على شراء اليهود للأراضي في فلسطين.
ونجح التقرير — الذي نُشر في أبريل — في إثارة غضب الفئات الثلاث المتناحرة في فلسطين. فقد اتَّهم الصهاينة اللجنة بالتضحية بطموحاتهم السياسية من أجل الأعمال الخيرية، وهاجم العرب اللجنةَ لموافقتها على هجرة اليهود وشرائهم الأراضي. ومع رضا البريطانيِّين عن الفقرة المقرَّرة لاستمرار الانتداب فإنهم وقفوا أمام رقم المائة ألف يهودي الموصَى بالسماح لهم بالهجرة. كان ترومان فقط هو الذي يبدو راضيًا. فقد رحَّب بإلغاء الوثيقة البيضاء، وأصدر تعليماته لوزارة الدفاع بإعداد عملية لنقل اللاجئين إلى فلسطين. ومن أجل تهدئة المخاوف البريطانية عيَّن دبلوماسيًّا هو هنري جرادي لمقابلة هربرت موريسون، البريطاني المسئول عن شئون فلسطين، من أجل تقصي توصيات اللجنة.
وقد صدرت خطة جرادي وموريسون في ٣١ يوليو ١٩٤٦، وأحدثت ضجةً فور صدورها. فبجانب منْح ١٠٠ ألف يهودي حقَّ دخول فلسطين، أوصت الخطة بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقاليم تنعَم جميعها بالحكم الذاتي: إقليم بريطاني يضم القدس التي تمثِّل نحو نصف مساحة البلد، ثم جيب عربي أصغر، ومقاطعة يهودية تتضمن أقلَّ من ٢٠٪ من مساحة فلسطين. وكان من المقرَّر أن تنضم الأقاليم الثلاثة في اتحاد فيدرالي واحد تحت وصاية الأمم المتحدة بالاشتراك مع بريطانيا. وأصابت المرارة الصهاينةَ بسبب تقليص حجم الإقليم المخصَّص لهم، ومنعهم من الاستقلال به؛ لذلك رفضوا مقترحات الخطة تمامًا. وصاح الحاخام آبا هليل سيلفر، خليفة ستيفن وايز، باعتباره صوتَ الصهيونية الأمريكية: «ينحصر الحل من وجهة نظر يهود أوروبا في فلسطين أو الموت. أما يهود فلسطين فالخيار الآن بين الحرية أو الموت.» ومن جانبهم رفض العرب مجرَّد التفكير في الخطة. ولكن ترومان رحَّب بمقترحات موريسون وجرادي، باعتبارها أفضل الطرق لتأسيس «أرض الميعاد لبني إسرائيل، وأيسر السبل إليها ليهود أوروبا النازحين». وبدا الأمر وكأنه يمكن الوصول إلى حل وسط أخيرًا.
أو هكذا ظن ترومان. فقد انفجرت قضية فلسطين — الشديدة التقلبات — عام ١٩٤٧، مع أنه كان يظن أنها قابلة للاحتواء في العام الأول من رئاسته. فقد اعترض الصهاينة الأمريكيون بشدة على ما استشعروا أنه انجرافُ الإدارة الأمريكية بعيدًا عن مساندتها السابقة للدولة اليهودية، وأغرقوا البيتَ الأبيض مرةً أخرى برسائل وتلغرافات غاضبة. وتسبَّبت هذه المواجهة بين ترومان واليهود الأمريكيِّين في الضغط على إيدي جاكبسون، القصير الأصلع ذي الجسم الممتلئ، ودفعه إلى الخطوط الأمامية، وجنَّده القادة الصهاينة في محاولة لإقناع الرئيس بالإنصات إلى مطالبهم. وقال صاحب متجر الخردوات السابق: «هاري، إن شعبي بحاجة إلى مساعدة، وأنا أناشدك مساعدتهم.» تأثَّر ترومان بهذه المناشدة، ولكنه سرعان ما ندِم على صبره وتحمُّله. فقد اقتحم الحاخام سيلفر المكتبَ البيضاوي محتجًّا على سياسات ترومان، ضاربًا بقبضةِ يده على مكتب الرئيس.
لم يكن اليهود فقط هم مَن يطاردون ترومان، ولكن طارده الأمريكيون المسيحيون أيضًا. فقد ذكَّر معهد مودي لدراسات الكتاب المقدَّس في شيكاجو مثلًا الأتباع المخلصين بأن «صكوك الملكية» التي تَمنح فلسطين لليهود لا تزال «باقية في ملايين النسخ من الأناجيل حول العالم». وقد أثَّر ضحايا معسكرات النازيِّين أكثرَ في الصحافة، ومن بينها جريدة «نيويورك تايمز»، التي قدَّمت في أحد الأيام أكبرَ تغطية صحفية عن الصهيونية، ودعت إلى صورة من صور المساندة والدعم لاستقلال اليهود في فلسطين. ووجدت استقصاءات للرأي جرى القيام بها عام ١٩٤٧ أن الأمريكيِّين يؤيدون بنسبة واحد إلى اثنين إقامةَ دولة يهودية. أما بعض أكثر الضغوط كثافةً على ترومان فلم يكن منبعها الأجواء العامة، بل قادة الحزب الديمقراطي الذين حذَّروه من أن الفشل في دعم أهداف الصهيونية سيكلف الحزب مقاعدَ الأغلبية في الكونجرس، وربما مقعد الرئاسة أيضًا.
وكان كبار الدبلوماسيِّين ومسئولي وزارة الدفاع هم الذين يوازنون تلك التأثيرات، عن طريق التنبؤ بتبعات كارثية للولايات المتحدة إذا اتبعت مسارًا مواليًا للصهيونية، وكذلك كان مناصرو المؤسَّسات الخيرية في الشرق الأوسط، الذين تنبئوا بمحو «مجهودات وتضحيات أجيال كاملة من المبشِّرين والمعلمين». واستمرت التطورات في العالم العربي في تعزيز هذه المخاوف. فقد هدَّد المسئولون السعوديون بالانتقام اقتصاديًّا من الولايات المتحدة، وألمحوا إلى احتمال «حرب عصابات ضد أمريكا في جميع أنحاء العالم العربي». ولأول مرة في تاريخ المنطقة تتظاهر الجماهير في مصر وسوريا والعراق ضد السياسة الأمريكية، وتشعل النيران في مركز المعلومات الأمريكي في بيروت. وتذكَّر آتشيسون أنه بسبب فلسطين كانت الولايات المتحدة قد حلَّت محل بريطانيا في كونها «أكبر قوة ممقوتة في الشرق الأوسط».
وأعلن ترومان، رجل الدولة، التزامَه بالترفُّع عن التيارات الحزبية المتقاطعة والاحتجاجات العربية، وأن يقوم بصياغة سياسته تجاه فلسطين «ليس في ضوء النفط، وإنما في ضوء العدالة». لكنه بوصفه سياسيًّا لم يكن ليستطيع التصرُّف على أساس المبادئ وحدها. واتباعًا لسابقةٍ قام بها ويلسون عندما خاطبَ يهود أمريكا عشيةَ أقدس أيامهم، يوم الغفران، كرَّر ترومان يوم ٤ أكتوبر نداءه بالسماح لمائة ألف يهودي بدخول فلسطين، لكنه دعا أيضًا إلى تكوين «دولة يهودية قابلة للاستمرار على مساحة كافية من فلسطين».
مثَّل تصريح يوم الغفران أولَ سابقة يقوم فيها رئيس أمريكي رسميًّا بدعم مطالب يهودية بإقامة دولة لهم، وأثار بذلك حَنَق كلِّ معارضي تلك المطالب في الولايات المتحدة والشرق الأوسط. ولكن بسبب فشله في تعريف مصطلح «مساحة كافية» أثار ترومان أيضًا ثائرة الجماعات الصهيونية. وبذلك أثبتت هذه اللفتة في النهاية أنها كانت غيرَ ذات جدوى، وكان أداء الديمقراطيِّين في انتخابات المجالس النيابية لعام ١٩٤٦ سيئًا، مما خلَّف في ترومان مرارة وغضبًا. وكان يغلي غضبًا من اليهود «المعتوهين الغريبي الأطوار» الذين ادَّعى أنهم «سيقدمون البلد [فلسطين] إلى ستالين إذا أُتيحت لهم الفرصة للقيام بذلك»، وأنهم يخططون «للقضاء على تاريخ الولايات المتحدة أو تاريخي أنا شخصيًّا». لكنه وجَّه أيضًا نقدًا لاذعًا لمسئولي وزارة الخارجية، الذين بدَوا من وجهة نظره «مهتمين برد الفعل العربي أكثرَ من اهتمامهم بمعاناة اليهود» والذين كثيرًا ما كانوا معادين للسامية.
ولكن غضب ترومان لم يكن ليخفي حقيقةَ أن قضية فلسطين كانت قد أدَّت إلى اغتراب قطاع كبير من الكونجرس والجمهور الأمريكي عن مؤسسة السياسة الخارجية. فمنذ بدايات عام ١٩٤٧ كان هذا الانشقاق قد بدأ في إحداث انقسام في البيت الأبيض. وكان اثنان من مستشاري الرئيس الأساسيِّين: المستشار اللبق الأنيق كلارك كليفورد وديفيد نايلز، الذي كان أكثرَ انكبابًا على الكتب وأكثر تحفظًا، الأول بروتستانتي والثاني يهودي، يحثان ترومان على تبني وجهات نظر موالية لليهود، لأسباب سياسية وأخلاقية. وعلى عكسهم كان ائتلاف قوي يقوده جيمس فوريستال، وزير الدفاع الكئيب القوي الشكيمة، وجورج مارشال، جنرال أركان حرب الجيش الوقور، الذي قيل عنه إنه أكثر الشخصيات الأمريكية احترامًا. وكان فوريستال ومارشال يؤكدان أن المعايير الديمقراطية الأساسية تملي بأن يحكم فلسطين العربُ الذين يمثلون الأغلبية بها، وأن تحكم الاعتبارات الاستراتيجية — وليس السياسة الداخلية — سياسةَ الرئيس.
وثار هذا الجدال داخل وخارج البيت الأبيض، في حين كان الوضع في فلسطين ينحدر نحو حرب مفتوحة. وتحالفت الهاجاناه مع حركة المجدِّدين متغلبتين على سنواتٍ من الصراع الداخلي، في القيام بهجمات متصاعدة ضد الأرتال والجسور والقطارات البريطانية. وردَّ البريطانيون في يونيو بتمشيط المناطق اليهودية في فلسطين بحثًا عن أسلحةٍ غير مرخَّصة وقبضوا على ٢٥٠٠٠ يهودي، من بينهم معظم القادة الصهاينة. وفي ٤ يوليو عام ١٩٤٦ اغتيل ٤٠ لاجئًا يهوديًّا في مذبحة في كالسي ببولندا، مما أكَّد استحالةَ إعادة اليهود إلى أوطانهم السابقة. وجاءت الاستجابة اليهودية لتلك الأحداث بعد أقل من ٣ أسابيع، عندما انفجرت قنبلة في المقر الرئيسي للبريطانيِّين في فندق كينج ديفيد بالقدس، وكان الهجوم — الذي خطَّطت له الهاجاناه، ونفَّذته ميليشيا إرجون المجددة بقيادة مناحم بيجين، الذي ادَّعى أنه حذَّر البريطانيِّين مرارًا وتكرارًا — قد أسفر عن مقتل ٩١ شخصًا، منهم ١٧ يهوديًّا. ودُفن تحت رُكام الفندق آخرَ أمل في حدوث تصالح بين بريطانيا ويهود فلسطين، أو في تفادي حرب واسعة النطاق بين اليهود وعرب فلسطين.
صراعات حول التقسيم والاعتراف
تجاوبت الأمم المتحدة مع قرار بريطانيا بتكوين «لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين» مكوَّنة من مندوبين عن ١١ دولة من أعضاء الأمم المتحدة. وبداية من مايو عام ١٩٤٧، سافرت اللجنة إلى الشرق الأوسط، وتحدَّثت مع مسئولين عرب ويهود. وتحدَّث إليها القائد الصهيوني العجوز حاييم فايتسمان عن «آلاف السنين من الاستشهاد والشتات» للشعب اليهودي، وتوقه إلى أن يكون له دولته الصغيرة، في حين حذَّر بن جوريون من أن اللاجئين اليهود مصمِّمون على الوصول إلى فلسطين، حتى لو كان عليهم أن يبحروا إلى هناك على متن «قوارب صغيرة». وتجسيدًا لقوله قامت سفينة أخرى من سفن الهاجاناه المسمَّاة باسم «إكسودس ١٩٤٧» بمحاولة لكسر الحظر البريطاني، لكنها مُنعت وأُعيد ركَّابها مرةً أخرى إلى أوروبا. ودُعيت اللجنة لترى بنفسها على أرض الواقع القوات البريطانية وهي تقود كالقطيع أكثرَ من أربعة آلاف وخمسمائة من اليهود الناجين من معسكرات الموت النازية — في أسوأ حال صحيًّا وبدنيًّا، لكن في معنويات مرتفعة متحدية — إلى إحدى السفن مُرحلة إياهم إلى هامبورج بألمانيا. وعلى العكس من ذلك، قاطع العرب اللجنةَ رسميًّا. ومع ذلك، أدلى الحكام العرب بتصريحات غير رسمية إلى أعضاء اللجنة أكَّدوا فيها معارضتهم وجودَ «رأس جسر ساحلي» في الشرق الأوسط، وأكَّدوا إصرارهم على تأسيس دولة عربية فقط في فلسطين.
كان لتجربة اللجنة في فلسطين أثرٌ عميق على النتائج التي خلَصت إليها وقدَّمتها في الأول من سبتمبر. ومع أن ثلاثة من أعضائها أوصوا بأن تصبح فلسطين دولةً اتحادية مزدوجة القومية، فإن الأغلبية وهم ثمانية أعضاء دعت إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين — يهودية وعربية — مع وجود تنظيم دولي للقدس. وكان على الدولتين أن تحقِّقا استقلالهما في عامين وأن يُربطا معًا عن طريق اتحادٍ اقتصادي. (انظر خريطة ٣).
ومع أن هذه الخطة تركت الدولةَ اليهودية بحدود ملتوية — إذ كانت أغلبية السكان قبل وصول المهاجرين من العرب — فإن الصهاينة تبنَوا فكرةَ التقسيم بِعَدِّها تحقيقًا لحُلم استمر ألفي عام. وندَّد العرب سواء في فلسطين أو في سائر الشرق الأوسط بالخطة ونظروا إليها باعتبارها أحدَث محاولة غربية للاستيلاء على الأراضي العربية واستعمارها بأجانب. أما الجامعة العربية فقد أعلنت التزامها بدعم ومساندة عرب فلسطين في «حربها التي لا تهدأ» ضد التقسيم، وذلك بعد استشارة المفتي، الذي كان في منفاه في مصر، وأعلنت التزامها أيضًا بمدِّ عرب فلسطين «بالرجال والذخيرة والأموال».
ومع مساندة ترومان لتقرير هاريسون، وتقرير موريسون جرادي والتقرير الأنجلوأمريكي، فإنه كان مؤرَّقًا بسبب النتائج التي توصلت إليها اللجنة. فقد كان يخشى أن تُجرجَر الولايات المتحدة إلى تطبيق التقسيم، أو يحدُث ما هو أسوأ، وهو أن يطالب الاتحاد السوفييتي بدور في التقسيم، مما يمنحه قاعدةً في الشرق الأوسط عن طريق فلسطين بعد أن حُرم من ذلك في تركيا وليبيا وإيران. وكان الرئيس قلقًا أيضًا بشأن ما إذا كان المستوطنون الصهاينة — المشهورون بزراعاتهم وسياستهم اليسارية المتطرفة — يمكن أن يظهروا دولةً مواليةً للسوفييت أو ما إذا كان من الممكن أن يؤدي يأس العرب من الغرب إلى التحالف مع موسكو. أما أكثر ما كان يخشاه ترومان فكان فكرة أن تتغلَّب القوات العربية على الهاجاناه، وأن يتطلب الأمر تدخُّل الولايات المتحدة عسكريًّا في فلسطين، لمنع حدوث محرقة أخرى. وقدَّرت وزارة الدفاع الأمريكية أن الأمر سيتطلب نحو ٢٠٠٠٠٠ جندي لتنفيذ التقسيم، مما لا يُبقي جنديًّا واحدًا للدفاع عن اليونان وتركيا أو غرب أوروبا.
في تلك الأثناء تصاعدت الضغوط الصهيونية على الرئيس. ومرةً أخرى أُغرق البيت الأبيض بآلاف الرسائل التي تحثُّه على تبنِّي موقف واضح موالٍ للتقسيم. واعترف ترومان في مذكراته قائلًا: «أنا أرى أن اليهود في غاية الأنانية، فلا هتلر ولا ستالين عاملاهم معاملةً سيئة أو عنيفة.» ومع ذلك فقد تمكَّن من الاحتفاظ بتلك الأفكار لنفسه، وساند نتائجَ اللجنة علنًا. وأصدر ترومان توجيهاته لمندوب أمريكا في الأمم المتحدة ﺑ «حصد أكبر عدد من الأصوات»، وذلك عندما عُرضت فكرة التقسيم على الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر نوفمبر.
وبعد أن وضع ترومان إدارته صراحةً وراء دعم خطة التقسيم، كان يتوقَّع الانتقال إلى قضايا عالمية أخرى، ولكن الاقتراع في الأمم المتحدة أدَّى فقط إلى تفاقم الأزمة. فقد خرَّبت الجماهير الغاضبة السفارةَ الأمريكية في دمشق، وفجَّر متطرفون إسلاميون القنصلية الأمريكية في القدس. وفي أماكنَ أخرى من القدس أطلق قناصةٌ عرب النيرانَ على سيارة إسعاف وهي صاعدة جبل المشارف في الطريق إلى مستشفى هاداسا، أما في الشمال فعبَر تسعمائة عربي من الجنود غير النظاميِّين الحدودَ السورية للاعتداء على مستوطنة كفار سولد، وهي المستوطنة التي سُميت على اسم هنريتا سولد مؤسِّسة هاداسا. ووجهت وزارة الخارجية بالتعاون مع أركان الحرب المشتركة ووكالة الاستخبارات المركزية الأنظارَ إلى تلك الأحداث باعتبارها دليلًا على أن التقسيم ليس «عمليًّا» وأن إعادة النظام إلى البلاد يمكن أن يكون فقط عن طريق تدخُّل القوات الأمريكية والسوفييتية معًا، وهي أسوأ نتيجة كان من الممكن تخيُّلها.
تزايدت أيضًا الضغوط الصهيونية على البيت الأبيض، بدلًا من أن تهدأ، بعد الاقتراع في الأمم المتحدة، كإجراء احتياطي ضد أي تراجع رئاسي بشأن التقسيم. ونجحت تلك الإجراءات العنيفة فقط في إبعاد ترومان أكثرَ وأكثر عن الصهاينة، لدرجةِ أنه رفض التحدث إلى أيٍّ من قادتهم. وما حدث هو أن الإدارة الأمريكية أعلنت في ديسمبر تعليقَ جميع مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الشرق الأوسط. ولم يكن لهذا الحظر أيُّ تأثير يُذكر على القوات العربية، التي كانت عادةً تتسلح بأسلحة أوروبية، لكنه حرم يهود فلسطين من موردٍ حيوي للسلاح. ونتيجةً لذلك بدأت القيادة الصهيونية في حملة عالمية للحصول على أسلحة من كل الأنواع. ورأس تيدي كوليك، عمدة القدس فيما بعدُ والمولود في فيينا، تلك العملية في الولايات المتحدة، فحصل على تمويل من شخصيات سيئة السمعة مثل باجزي سيجل، وعدد من نجوم هوليوود، من بينهم فرانك سيناترا. ولكن هذه التبرعات — على سخائها — لم تستطِع تعويضَ نقص المدفعية والدبابات والطائرات الحربية لدى الهاجاناه.
وأصبح هذا النقص شديدًا بسبب عبور عصابات من الجنود غير النظاميِّين العرب إلى فلسطين للانضمام إلى الميليشيات العربية الفلسطينية في القيام بهجوم شامل على المستوطنين الصهاينة. أصدر بن جوريون أوامره لقواته بممارسة ضبط النفس والاستمرار على حالة الدفاع وليس الهجوم خوفًا من أن يؤدي تفشي حرب أهلية في فلسطين إلى ذعر عالمي يؤدي بدوره إلى إعادة النظر في موافقته السابقة على التقسيم. ولكن هذه السياسة كان لها مردود عكسي. فقد نجحت القوات العربية في عزل وحصار المستوطنات اليهودية وتحويل الطرق الجبلية الملتوية نحو القدس إلى فخٍّ قاتل للمركبات اليهودية. وبدا الأمر وكأن الجالية اليهودية قد لا تتمكَّن من الصمود حتى ١٥ مايو، وهو التاريخ المحدَّد لانسحاب بريطانيا من فلسطين، وواجه بن جوريون خيارًا صعبًا: فإما القتال والمخاطرة بالمساندة العالمية له، أو البقاء سلبيًّا والمخاطرة بالإبادة التامة لشعبه.
كان الموقف يزداد انهيارًا في فلسطين، مما أدَّى إلى تعميق حس ترومان بالفزع. واعترف لإيدي جاكوبسون بأن «الوضع كان صداعًا في رأسي مدة سنتين ونصف السنة. فاليهود انفعاليون للغاية، ومن الصعب أن تتحدث إلى العرب، بحيث يصبح من المستحيل إنجاز أي شيء. وبالطبع فإن البريطانيِّين على أعلى درجة من عدم التعاون». ويأسًا من الوصول إلى أي طريقة أخرى لحقن الدماء وافق الرئيس على مراجعةِ الجمعية العامة للأمم المتحدة قضيةَ فلسطين، وطلب من وزارة الخارجية اقتراحَ توجهات بديلة للسياسة الأمريكية، بعيدًا عن أي «عناصر سياسية».
وبدأت وزارة الخارجية في ابتكار تنظيم جديد للوصاية على فلسطين، بحيث تُديرها الولايات المتحدة بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا. وقال لوي هندرسون اللبق القادم من منطقة الوسط الغربي الأمريكي إن الخطة ستقرر «بصورة حاسمة» أن الولايات المتحدة لن «تسمح لنفسها» بأن تسيطر عليها الصهيونية، وهو ما «سينتج عنه تحرير اليهود الأمريكيِّين من هيمنة الأمريكيِّين المتطرفين». وظل موقف ترومان تجاه الوصاية غيرَ واضح، مع أنه كان يبدو وكأنه ينظر إليها على أنها بشارة للتقسيم وليست بديلًا عنه، كما كانت وزارة الخارجية تفضِّل. وبالتأكيد لم تكن نيته هي تحويلها إلى سياسة كما فعل غير عامد، مع العديد من الوثائق التي وُضعت أمامه على متن يخت الرئاسة ويليامزبرج، أثناء إبحاره إلى سان كرواه في فبراير.
عندما عاد ترومان إلى واشنطن استمرَّ في إلقاء اللوم على «العناد البريطاني وتطرُّف يهود نيويورك» على صداع فلسطين الذي أصابه في رأسه، وعلى تدهور كل الاجتماعات التي عقَدها مع القادة الصهاينة. ومع ذلك فلم يستطِع أن يجبر نفسه على توبيخ إيدي جاكوبسون. فقد طلب صديق الرئيس القديم منه طلبًا واحدًا فقط، هو الحديث إلى حاييم فايتسمان. كان ترومان قد قابل فايتسمان مرةً واحدة من قبل، في نوفمبر السابق، وكان فايتسمان قد أقنعه بضم صحراء النقب ضمن حدود الدولة اليهودية المقترحة. ولكن القضية الآن لم تَعُد حدودَ هذه الدولة، بل بقاءها. قاوم ترومان الفكرة، ولكن جاكوبسون أشار عندها إلى تمثال لأندرو جاكسون. وذكره قائلًا: «هاري، طوال حياتك كان لك مثال أعلى، وأنا أيضًا لديَّ مثال أعلى». وضحِك ترومان قائلًا: «لك ما تريد، أيها الوغد الأصلع.» دخل فايتسمان البيت الأبيض سرًّا في ١٨ من مارس، وأخبر فايتسمان ترومان أن الشعب اليهودي يقف بين خياري الدولة ذات الحكم الذاتي أو الإبادة، وليس أمامه خيار سوى القتال من أجل الاستقلال. وعبَّر ترومان عن رغبته في تجنُّب مزيد من سفك الدماء في فلسطين، لكن قيل إنه أكَّد لفايتسمان أنه يمكنه «الاعتماد» على الولايات المتحدة. وأضاف: «أنا مع التقسيم.»
كانت حكومة الولايات المتحدة منقسمةً الآن بلا رجعة بين مسئولين يميلون إلى خطة الوصاية خوفًا على قوة أمريكا، وآخرين لا يزالون يساندون التقسيمَ مسترشدين بالمبادئ والاعتبارات السياسية. وزاد اتساع هذه الهوة في شهر أبريل، عندما غرقت فلسطين في فوضى أشدَّ.
تخلَّت الهاجاناه عن سياسة ضبط النفس واستعرضت أسلحةً تشيكية حصلت عليها حديثًا؛ لذلك اتجهت إلى الهجوم بدلًا من الدفاع فقط. فحرَّرت القوات اليهودية المستعمرات المحاصرة واخترقت حصار القدس. وهوجمت عشرات القرى العربية، وفي بعض الحالات طُرد سكانها. ووصلت أعمال العنف إلى ذروتها في دير ياسين بالقرب من القدس في التاسع من أبريل، عندما ذبح رجال ميليشيات من المجددين أكثرَ من مائة مدني عربي كان من بينهم نساء وأطفال. وعندما دخل جاك دي رينييه، الممثل السويسري للصليب الأحمر الدولي، رأى «جثثًا متناثرة. لقد «أبادوهم» ببنادقهم وقنابلهم، وأجهزوا على البقية بسكاكينهم.» وبعد أقل من أسبوع واحد، أعدَّ مسلحون عرب كمينًا لقافلة تابعة لمستشفى هاداسا، وقتلوا ٧٧ طبيبًا وممرضة ومريضًا. وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير لها: «عندما اشتعلت النيران في الحافلات، أُطلقت النار على الركَّاب وهم يحاولون الهرب منها. وبعد ظهيرة ذلك اليوم كانت الجثث متناثرة في الشوارع.» وفي نفس الوقت بدأ الفيلق العربي في شرق الأردن تحت قيادة ضباط بريطانيِّين في احتلال الضفة الغربية، وهي منطقة خصَّصتها الأمم المتحدة ضمن الدولة العربية المستقلة. وتجنبًا لمواجهة مع إمارة شرق الأردن، أرسل بن جوريون جولدا مائير في بعثة سلام سرية إلى الملك عبد ﷲ، الذي رفض السلام واختار الحرب. واقتحم الفيلق بعد ذلك كتلةَ إتزيون التابعة للجاليات اليهودية والواقعة بين القدس والخليل، فقتلت ١٥٧ من المدافعين عنها، معظمهم بعد استسلامهم.
وأحدث الانهيار التام للنظام في فلسطين ردودَ فعل متباينة بين العرب واليهود. فقد بدأت أعداد كبيرة من العرب في الفرار من فلسطين، بعد الرعب الذي أصابهم في دير ياسين، وبسبب شائعات بحدوث أعمال عنف أخرى في المستقبل، وبسبب تخلي الكثيرين من زعمائهم عنهم. اختنقت الطرق المؤدية شمالًا إلى سوريا ولبنان بآلاف العائلات الفلسطينية، وقد حملوا متاعهم بسرعة على حمير أو على رءوسهم، وعبروا نهر الأردن باتجاه الشرق، أو ازدحمت بهم مراكب الصيد المتجهة إلى غزة. وأبلغت وزارة الخارجية ترومان «أنهم لا يملكون أيَّ أمتعة وبدون مأوًى مناسب أو إمدادات طبية مناسبة أو غذاء. وحصص الطعام اليومية لهم، والمكوَّنة من الخبز فقط، توازي فقط ٦٠٠ سعر حراري». ولم يَقُم القادة العرب بأي شيء لوقف هذه الهجرة. بل إن اهتمامهم بفقد سكان فلسطين العرب كان أقلَّ من اهتمامهم بالأراضي التي حصل عليها الملك عبد ﷲ في الضفة الغربية. ورغبةً منهم في مقاومة المزايا التي حصل عليها شرق الأردن، بدأ حكام مصر وسوريا والعراق في التفكير في القيام بغارات عسكرية خاصة بهم في فلسطين.
لم يكن أمام اليهود خيار التقهقر ولا القدرة العسكرية لمقاومة هجوم عربي عام. ولذلك وجَّهوا طاقاتهم نحو إعادة دعم دفاعات المستوطنات، وتخزين أسلحة خفيفة، وتهريب شحنات من الذخيرة وأسلحة ثقيلة وإمدادات طبية. في تلك الأثناء كانت القيادة الصهيونية في حالةٍ من التفاؤل الذي لا أساس له، وقد أعدَّت أرضَ اليهود لتصبح دولة. فأسَّست وزارات حكومية بها خطوط للهاتف ومكاتب، وأُصدرت طوابع وعملات ورقية بسرعة. وكان ينقصهم فقط اسم الدولة المرتقبة؛ كان من بين الاقتراحات أسماء صهيون وهيرتزليا ويهودا. وكان هناك اقتراح آخر باسم «إسرائيل».
في ضوء هذه الأحداث أصبحت مسألةُ ما إذا كان يجب على الولايات المتحدة أن تساند التقسيمَ أم الوصاية أمرًا لا أهمية له ولا جدوى منه. وبحلول الأسبوع الثاني من شهر مايو، ظل الغموض يكتنف مسألتين فقط: ما إذا كانت الدولة اليهودية الناشئة قادرة على مقاومة الهجوم العربي، وإذا كان الأمر كذلك، فهل تعترف أمريكا بالدولة اليهودية. وفي محاولة لتجنُّب كلتا المسألتين، اقترحت وزارة الخارجية أن يؤجَّل الإعلان عن استقلال الدولة اليهودية إلى أجلٍ غير محدَّد، وأن تُعلن هدنة عامة. وقبِل بن جوريون الهدنةَ، لكنه لم يوافق على تأجيل إعلان الاستقلال. في حين وافق العرب على وقف إطلاق النار، على شرط إلغاء التقسيم. وبما أنه لم يتبقَّ خيار سوى الحرب، فكَّرت الإدارة الأمريكية في مدى قدرة اليهود على مقاومة غزوٍ من عدة جهات. ومع اختلاف التقديرات، فقد آمن مارشال، الذي كان أكثرَ المسئولين خبرةً في المجال العسكري، أن العرب هم الذين سينتصرون في النهاية. فسأل أحد كبار المسئولين الصهاينة: «ماذا سيحدث إذا كان هناك غزو مطوَّل؟ إنه سيضعفكم.»
وحضر مارشال ومعه روبرت لوفيت نائب الوزير اجتماعًا دعا إليه ترومان في ١٢ مايو حول قضية الاعتراف بالدولة اليهودية. وحضَره أيضًا المستشاران كلارك كليفورد وديفيد نايلز. وجلس الرئيس بينهم: الدبلوماسيون عن يمينه والمستشارون عن يساره. وافتتح لوفيت الاجتماعَ بملخَّص للتبريرات المألوفة التي تسوقها وزارة الخارجية ضد فكرة إنشاء وطن قومي لليهود، مستعرضًا المخاطرَ التي يمثلها ذلك لمصالح أمريكا الحيوية في الشرق الأوسط، والعبء الذي سيمثله على قوات أمريكا الدفاعية. وحذَّر من أن الرئيس قد يُنظر إليه على أنه متورط «في محاولة واضحة للغاية لكسب أصوات الناخبين اليهود». وشدَّد على الخطر الذي تمثله الصهيونية «البلشفية» والعملاء السوفييت الذين زُرِعوا — حسب ادعاء لوفيت — وسط اللاجئين. وأضاف أن الولايات المتحدة يجب ألا تتسرع في الاعتراف بما قد يتبين أنه دولة شيوعية، وبذلك تكون كمن اشترى «سمكًا في ماء». ولم يعترض مارشال على هذا التشبيه الغريب من لوفيت، لكنه اعترض على وجود مستشارين سياسيِّين في هذا الاجتماع الحاسم بشأن السياسة الخارجية. ثم قال، في ملاحظة صدمت نائبَ وزير الخارجية: «إذا كان الرئيس سيتبع نصيحةَ السيد كليفورد، وإذا كان عليَّ أن أصوِّت في الانتخابات، فسأصوت ضد الرئيس.»
وكان التهديد بالاختلاف مع مارشال المحترم الوقور قد أثار بالتأكيد فزع ترومان. فقد كانت شعبيته تشهد تراجعًا في استطلاعات الرأي الخاصة بانتخابات عام ١٩٤٨. لكن وجهه ظلَّ لا يعبِّر عن شيء، وأعطى الكلمة لكليفورد. بدأ كليفورد بتفنيد كل تبرير من تبريرات وزارة الخارجية، مؤكدًا أن العرب بحاجة إلى الأموال أكثرَ من حاجة الولايات المتحدة إلى نفطهم، وأن الاعتراف السريع بالدولة اليهودية هو أفضل السبل لدعم سمعة أمريكا في العالم، مع التفوق على الاتحاد السوفييتي في الوقت ذاته. واستوعب ترومان هذا التحليل أيضًا، لكنه لم يكن قد حسم رأيه بعدُ. وعندما سأله الصحفيون فيما بعدُ عن قراره بشأن الاعتراف، قال ترومان مسوِّفًا: «سأعبر الجسر عندما أصل إليه.»
ولاح الجسر في الأفق بعدها بيومين، في ١٤ من مايو، عندما كان البريطانيون يستعدون لإجلاء آخرِ جندي من فلسطين، وذلك عندما تجمَّع ٣٨ عضوًا في الحكومة اليهودية المفترَضة في متحف تل أبيب. وقف الحضور عندما عزف أوركسترا فلسطين السيمفوني، وأدَّوا النشيد الوطني «هتكفاه»، بقيادة ممثليهم، ومن بينهم بن جوريون وجولدا مائير، ثم اصطفوا للتوقيع على وثيقة الاستقلال. كانت تلك الوثيقة تصف أرض إسرائيل بأنها موطن الشعب اليهودي ومحلُّ ميلاده، ومهد ثقافته الدينية والقومية، ومنبع عطاياه الروحية للعالم أجمع. وذكَّرهم ذلك بمحطات ومراحل الحركة الصهيونية، منذ تكوين المستعمرات اليهودية الأولى وحتى إعلان وعد بلفور، ثم مقاومتهم للنازية، وقرار الأمم المتحدة الصادر بالتقسيم. وتذكَّروا أيضًا معسكرات الاعتقال والإبادة، وعرضوا السلام على دول الجوار، وعلى عرب فلسطين الذين سيقبلون بالسيادة اليهودية. وتعهَّدت الوثيقة — ربما انعكاسًا لزيارة بن جوريون للولايات المتحدة وقراءاته المكثفة عن الديمقراطية الأمريكية — بالالتزام «بمبادئ حرية الضمير والعبادة والتعليم والثقافة»، وبضمان «المساواة الاجتماعية والسياسية لكل المواطنين، دون تفرقة على أساس العِرق أو الدِّين أو الجنس»، واتفق الموقِّعون على أن يكون اسم الدولة الجديدة إسرائيل.
وصلت أنباء ميلاد إسرائيل إلى واشنطن في الساعة السادسة من مساء يوم ١٤ مايو. في تلك الأثناء كانت جيوش مصر ولبنان وسوريا والعراق تحتشد «من أجل إحلال السلام والأمن في فلسطين» عن طريق غزو الدولة الوليدة، وكانت الطائرات المصرية قد قصفت بالفعل مدينةَ تل أبيب، واستمر اللاجئون العرب في الفرار من فلسطين، خوفًا أو بسبب إخراج القوات اليهودية لهم. وفي نيويورك، كان الوفد الأمريكي للأمم المتحدة لا يزال يمارس ضغوطَه من أجل الوصاية، في حين كانت الجاليات اليهودية وغير اليهودية المسانِدة للصهيونية في شتى المدن الأمريكية تقيم الاحتفالات. وظل السؤال قائمًا حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعترف بدولة إسرائيل وحكومتها التي نصَّبت نفسها أم لا.
وحيدًا في البيت الأبيض، فكَّر ترومان في التبعات العديدة والمؤثِّرة لهذا القرار. واعترف في رسالة شخصية قصيرة إلى دين ألفانج، وهو ناشط عمالي مولود في إسطنبول كان يدعم القضية الصهيونية: «إن هدفي الوحيد في فلسطين كان وقف نزيف الدم. ومما تبدو عليه الأمور اليوم فمن الواضح أننا لم ننجح في ذلك. لا يوجد أحدٌ في أمريكا منح هذه المشكلة من وقته وفكره أكثرَ مما فعلت أنا.» كان على الرئيس أن يوازن بين الضرر المتوقَّع من جراء اعتراف الولايات المتحدة بإسرائيل على صورة أمريكا في العالم العربي، والحافز الذي سيمنحه ذلك للسوفييت، والأعباء المهولة التي سيضعها على عاتق الدفاعات الغربية، وبين الحاجة إلى إقامة العدل للناجين من الإبادة على يد النازية والاستجابة للتعاطف الشعبي مع الصهيونية. وكان عليه أن يضع في الاعتبار تورُّط أمريكا السابق في الشرق الأوسط — وهو ميراث يتضمن مساندةَ الحركات الوطنية العربية واليهودية على السواء، وكذلك ضحايا الحرب والاضطهاد — بالإضافة إلى مصالح أمريكا الحيوية في المنطقة في الحاضر والمستقبل.
وفي السادسة وإحدى عشرة دقيقة ظهر متحدث باسم الإدارة الأمريكية أمام الصحفيِّين في البيت الأبيض، وقال للصحفيِّين بلا أي انفعال: «أُبلِغت الحكومة أنه قد أُعلنت حكومة يهودية في فلسطين، وأن الحكومة المؤقتة طلبت الاعتراف بها.» ثم قرأ المتحدث الرسمي من نصٍّ مطبوع، مهوِّنًا من شأن الرسالة وأهميتها، فقال: «تعلن الولايات المتحدة اعترافها بالحكومة المؤقتة باعتبارها السلطة الفعلية لدولة إسرائيل.»
أنا كورش!
تحقَّقت نبوءة عودة الدولة اليهودية التي وصفها ليفي بارسونز وبليني فيسك من منبر الوعظ بكنيسة «أولد ساوث» قبل ذلك بمائة وثلاثين عامًا، وكانت تلك النبوءة قد شجَّعت أناسًا من أمثال إيما لازاروس وويليام بلاكستون ولويس برانديس ومارك توين، على اختلاف توجهاتهم. على أن هذا لم يمنع في ذات الوقت من تحقق بعض المخاوف التي عبَّر عنها سيلاه ميريل عام ١٨٨٠، وتشارلز كرين وهوارد بليس بعد الحرب العالمية الأولى، ثم عبَّر عنها فيما بعد آلان دالاس وعدد كبير من المسئولين الحكوميِّين. ولسوف تصبح إسرائيل تدريجيًّا حليفًا قويًّا من الناحية العسكرية للولايات المتحدة ويتزايد باضطراد تقديرها واحترامها له، وستصبح دولة ديمقراطية نابضة بالحياة وإن كانت غالبًا ما تثير الضجيج. ولم تتحوَّل تلك الدولة قط إلى البلشفية أو احتاجت إلى قواتٍ أمريكية للدفاع عنها، على أن تلك الدولة اليهودية سوف تنشر العداء في شتى أنحاء الشرق الأوسط، وستصبح سببًا من أسباب عداوة المسلمين للغرب قرونًا طويلة. وسوف يمثل اللاجئون العرب الذين حملوا اسم «فلسطينيين» معهم إلى المنفى قضيةً أساسية في الصراع العربي الإسرائيلي المستمر، وسوف ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها السببَ في محنتهم. وعلى عكس توقعات وزارة الخارجية فقد استمرَّت كمياتٌ هائلة من النفط العربي في التدفُّق على الولايات المتحدة بعد اعترافها بإسرائيل وإن كان قد تدفَّق أيضًا الغضب العربي عليها.
لم يكن تفاخُر ترومان مجرَّد حديث مرْسَل في نوبة غضب؛ فالملك الفارسي كورش الكبير (٥٧٦–٥٢٩ ق.م) لم يُعِد اليهودَ من المنفى سامحًا بإعادة بناء دولة يهودية فحسب، بل سيطر أيضًا على إمبراطوريةٍ شرق أوسطية مترامية الأطراف. كانت الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي قوةٌ لا ندَّ لها في الشرق الأوسط؛ لم تكن إمبراطورية بالمعنى المألوف للكلمة، لكنها كانت قوةً مهيمنة وكيانًا عسكريًّا وسياسيًّا ضخمًا قادرًا على حماية حدود المنطقة ودعم الدول الوليدة. كانت الولايات المتحدة قد حقَّقت تلك الهيمنة في وقت قصير يثير الدهشة، في أثناء هذا الوقت كان الأمريكيون قد حوَّلوا أنفسهم من مجرد مراقبين سلبيِّين لشئون الشرق الأوسط إلى المسئولين الرئيسيِّين عن تخطيط المنطقة والمحكِّمين لما يبدُر فيها من نزاعات.
كانت تلك هي الدولة التي قضى ممثلوها الوقت في قراءة الجرائد أثناء جلسات مؤتمر سان ريمو عام ١٩٢٠، وهي أيضًا الدولة التي رفض صانعو سياساتها الاعترافَ بالمملكة السعودية عندما أُعلن تأسيسها، وهي أيضًا الدولة التي كانت تنظر إلى فلسطين — بل إلى معظم الشرق الأوسط — باعتباره من الممتلكات الأوروبية التي يجب عدم انتهاك حُرمتها. ولكن بعد ذلك بخمس وعشرين سنة كان للولايات المتحدة نفوذٌ اقتصادي واستراتيجي لا مثيل له في شتى أنحاء المنطقة. كان سكان المنطقة، ومعظمهم كان لا يزال يرزح تحت نِير الاستعمار، ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها الملهمَ والمحرِّر من السيطرة الأجنبية. وتَدين العديد من دول الشرق الأوسط للولايات المتحدة باستقلالها، وقد أصبح بعضها فيما بعدُ من ألد أعدائها، في حين تلقَّت دولٌ أخرى مساعدات اقتصادية أو بنية تحتية أو إرشادات سياسية، وتُعَدُّ كلها أحجار البناء لسيادة أي دولة، وكانت جميعها هدايا من الشعب الأمريكي.
وكان معلِّمو القرن التاسع عشر الأمريكيون قد ساعدوا في تحديد هوية عربية جديدة للعديد من شعوب الشرق الأوسط، وفي الفترة ما بين مؤتمر السلام بباريس وتأسيس دولة إسرائيل كان الجنود ورجال الدولة الأمريكيون قد ساعدوا في إعادة تشكيل المنطقة. وفي حين كانت المنطقة أبعدَ ما تكون عن اتحاد فيدرالي بين دول ديمقراطية مستنيرة كالذي كانت تتخيَّله أجيال عديدة من الأمريكيين، كان الشرق الأوسط يبعُد بالقدْر نفسه عن حالة الركود والتخلف التي كان عليها في ظل حكم العثمانيين، أو حالة الخليط من المستعمرات الأوروبية التي كان عليها في فترةِ ما قبل الحرب العالمية الثانية. وبنهاية أربعينيات القرن العشرين كان هناك شرق أوسط مختلف تمامًا — ناهض وغير قابل للقمع ومتردد بين الأصالة والمعاصرة — يتفاعل مع ولايات متحدة مختلفة وأشد قوة، ولكن هذا التفاعل لم يسِر دائمًا على نحوٍ ودي.
فمع المساعدات التي قدَّمتها الولايات المتحدة لدول الشرق الأوسط الوليدة، أصبح العديد منها ينظر إليها باعتبارها خليفة أوروبا الإمبريالية، أي قوة استعمارية تتحدَّث عن التنمية والديمقراطية، في حين أنها تستغل موارد المنطقة وتساند أنظمة الحكم المحلية القمعية. وهاجم دعاةُ التحرُّر الوطني من العرب الولايات المتحدة قائلين إنها لا تساند الحركاتِ الوطنيةَ إلا عندما تتفق هذه الحركات مع أيدولوجيتها، وندَّد الأصوليون الإسلاميون بالولايات المتحدة باعتبارها تجسيدًا لليبرالية الغربية والعلمانية والفساد. ولأكثر من قرن كامل، ظلَّ الأمريكيون يمدُّون الشرق الأوسط بمساعداتٍ خيرية وتوجيهات أيديولوجية، ولكن بدءًا من فترةِ ما بعد الحرب أصبحوا أيضًا هدفًا للكراهية العميقة والاستياء الشديد من قِبل سكان المنطقة.
بعد عام ١٩٤٨ قضى الأمريكيون العقودَ الستة التالية يناضلون من أجل إحداث التوازن بين المزايا التي منحوها للمنطقة والموارد والمزايا العسكرية التي يحصلون عليها منها، وذلك لتحسين صورتهم بوصفهم معلِّمين ورجالَ خير وصُناع سلام بدلًا من السمعة التي اكتسبوها في المنطقة بوصفهم طفيليِّين متعجرفين وأنانيِّين. وكان عليهم أن يوائموا بين التزامهم بمبادئ حق تقرير المصير واحترام سيادة الدول من ناحية وبين الحاجة إلى مواجهة تحديات عالمية — من الشيوعية السوفييتية أولًا وفيما بعدُ من التطرف الإسلامي — من ناحيةٍ أخرى. وكان على الأمريكيِّين أن يفيقوا من أوهامهم بشأن الشرق الأوسط التي طالما احتفظوا بها: من صحارٍ حالمة وجوارٍ مثيرة للشهوة، لكي يتعاملوا مع مخاطرَ حقيقية تهدِّد أمنهم وسلامتهم. فقصة الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط في فترةِ ما بعد الحرب هي قصة محاولات جادة قام بها رجال دولة وجنود ومواطنون عاديون لإحداث هذا الانسجام والتوازن، ولتأمين المصالح الحيوية، ودعم المُثُل الجديرة بالتقدير والتفرقة بين الحقيقة والخيال.