حرب الثلاثين عامًا
سيذكر التاريخ العَقد الذي بدأ من عام ١٩٨١ باعتباره زمنَ الكوارث المهولة، بدءًا بانفجار المكُّوك الفضائي «تشالنجر» إلى انتشار وباء الإيدز. وربما سيتذكَّر التاريخ، ولكن ليس بالقوة نفسها، تميُّز هذا العَقد بفترة من التقلبات المستمرة في علاقة أمريكا بالشرق الأوسط. فقد تميَّزت هذه الفترة بضربات وقائية، وصراعات إقليمية، وثورات، ومؤامرات دولية، وهجمات إرهابية أثارت سلسلةً من ردود الأفعال المتزايدة في العنف من واشنطن. وعلى مدار هذه السنوات العشر كانت صورة الشرق الأوسط في الولايات المتحدة تتحوَّل بانتظام من كتلة من الدول التي تُعَد مصدرَ خطر بصورة غامضة إلى كتيبة من الأنظمة المتعطشة للدماء التي تستهدف الأمريكيِّين بالتحديد.
وسيثبت أن التعامل مع هذا التحول مهمةٌ شاقة لا تنتهي لخليفة كارتر، وهو رجلٌ له معتقداتٌ لا تقلُّ تشددًا عن كارتر، وشغفٌ أكبر بالأساطير التي تنسجها هوليوود. بعد أن نُصِّب رونالد ريجان، الذي كان حاكمًا سابقًا لكاليفورنيا وممثلًا في أكثر من ٢٥ فيلمًا سينمائيًّا و٥٠ عملًا تلفزيونيًّا، في اليوم نفسه الذي أُطلق فيه سراح الرهائن الأمريكيِّين في إيران، تولَّى مسئولية إصلاح إخفاقات أمريكا في الشرق الأوسط. وأوضح الرئيس الجديد نيتَه بالعودة إلى استراتيجيات الحرب الباردة الصارمة القائمة على تقييد انتهاكات السوفييت في المنطقة ومحاولة وقفها، والعودة للسير على نهج جيفرسون في مقاومة الإرهاب. فقال: «لا أعتقد أننا ينبغي أن ندفع فديةً لأناسٍ يختطفهم همجيون.»
عَقدُ الفوضى
لم يكد ريجان يستقر في البيت الأبيض حتى ظهر التحدي الأول له في الشرق الأوسط. فقد كان معمر القذافي، الذي كان اشتراكيًّا بدأت نبرةٌ دينية جديدة تظهر في خُطَبه، يمثِّل التحول من موالاة السوفييت إلى التوجُّه الإسلامي الذي كان يحوِّل في الخفاء سياسات العالم العربي. وقد اتضح هذا التحوُّل في مايو عام ١٩٨١، عندما أعلن الزعيم الليبي دعمَه لصراع إيران ضد «إبليس الأكبر» وأصدر تعليماته لمجموعة من الحشود بإحراق السفارة الأمريكية في طرابلس. وقد قال عنه ريجان، الذي كانت بشَرته الوردية ونبرته الهادئة تتناقضان تمامًا مع القذافي الداكن البشرة الصاخب الصوت: «إنه ليس بربريًّا فقط، بل غريب الأطوار أيضًا.» وردًّا على طرد السفارة الأمريكية، أغلق ريجان مكتب الجماهيرية الليبية في واشنطن، ومنع استيراد النفط منها. ولكن القذافي استفزَّ الولايات المتحدة مرةً أخرى عن طريق مدِّ المياه الإقليمية الليبية لمسافة ٢٠ كيلومترًا إضافية في البحر المتوسط. وقبِل ريجان التحدي، فأمر قوةً بحرية بالتوجه إلى خليج سدرة القريب من الساحل الليبي. فخرج سربٌ من الطائرات المقاتلة من طراز إس يو-٢٢ التي أمدَّهم بها السوفييت لتحدي الأسطول الأمريكي الصغير، ولكن سرعان ما أسقط طيارو البحرية اثنتين منها. وللمرة الأولى منذ إدارة ماديسون التحم الجنود الأمريكيون في قتال مع عدوٍّ عربي.
ونجحت المعركة الجوية فوق سدرة في إنهاء خلاف أمريكا مع ليبيا لفترة قصيرة. ولكن بعد أقل من شهر، في السابع من يونيو، كان تشكيل من طائرات إف ١٦ يتحرَّك للهجوم، هذه المرة ضد العراق. وبدلًا من النجوم الأمريكية ذات الأطراف الخمسة، كانت هذه الطائرات مزدانةً بالنجوم السداسية الزرقاء المميزة للقوات الجوية الإسرائيلية. كان هدفها هو المفاعل النووي أوزيراك، على بُعد ١٨ ميلًا جنوب بغداد. وبعد أن قطع مسافة ١١٠٠ ميل عبْر المجال الجوي للعدوِّ، ألقى الطيارون الإسرائيليون حمولتهم على المنشأة التي بناها الفرنسيون، وخلال ثمانين ثانية حوَّلوها إلى رُكام يتصاعد منه الدخان. وكانت هذه العملية، التي تحمل الاسم الكودي «عملية أوبرا»، أحدَ أجرأ الغارات الجوية في التاريخ، ولكن بتدمير المنشأة العراقية بطائرات حربية مشتراة من الولايات المتحدة، وضعت إسرائيل الولايات المتحدة في مأزق.
علاقة ريجان بإسرائيل كانت وظلَّت معقَّدة. فكان لا يزال يَعُدُّ النفط أهمَّ مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وقاوم أيَّ عمل إسرائيلي قد يهدد تلك المصلحة. ففي عام ١٩٨١ مثلًا أمدَّ المملكة العربية السعودية بطائرات أواكس الاستطلاعية، محبطًا بذلك مجهوداتٍ جمَّة قامت بها لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية لمنع تلك الصفقة، وعندما أبدى منتجو النفط العرب اعتراضَهم على خطوات إسرائيلية لضم مرتفعات الجولان المحتلة علَّق الرئيس اتفاقيةَ تعاون استراتيجي مع إسرائيل. واشتكى رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين من أن أمريكا تعامل إسرائيل وكأنها «إحدى جمهوريات الموز»، ولكن كان ريجان في الواقع يحترم الدولة اليهودية. وكان إعجابه ينبع من آرائه المانوية عن الحرب الباردة، التي تحالفت فيها إسرائيل مع الغرب ضد الإمبراطورية السوفييتية الشريرة. والأهم من ذلك أن ريجان كان أيضًا مرتبطًا دينيًّا بإسرائيل فقد ترعرع في كنيسة «أتباع المسيح» التي تؤمن بمبدأ إعادة اليهود إلى فلسطين، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنجيليِّين الأمريكيِّين المؤيدين للصهيونية. وكان دائمًا ما يوافق على إجراءات تقوية إسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا، وكذلك مساعدة اليهود الروس (والإثيوبيِّين فيما بعد) على الهجرة إلى وطن أجدادهم.
مرة أخرى وضعت الولايات المتحدة ثقتَها في قائد عربي قومي، ولكن ليس بصفته حصنًا ضد الشيوعية، بل بصفته حائطَ دفاع قوي ضد التطرف الإسلامي. ولكن أثبتَت سياسة مساندة العرب العلمانيِّين ضد المسلمين المتطرفين من ناحية، ومساندة إسرائيل ضد أنصار السوفييت من ناحية أخرى، أنها متضاربة. وقد انكشف النقاب عن التناقضات بين الاثنين بصورة مأساوية بعد عام من الهجوم على مفاعل أوزيراك، عند غزو إسرائيل للبنان.
كانت إسرائيل تحضِّر لذلك الهجوم منذ زمن طويل. فقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي نقلت «الدولة داخل الدولة» من الأردن إلى جنوب لبنان، تشنُّ هجمات منتظمة على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة الجليل. ولكن إلى جانب التخلص من هذا التهديد، كان أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي الشرس الممتلئ الجسم، يسعى إلى محو منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها منافسًا على السيطرة على الضفة الغربية وغزة. وكان شارون، وهو قائد جريء قاد غارات إسرائيل الانتقامية في الخمسينيات وهو العقل المدبِّر وراء حصار القوات المصرية عام ١٩٧٣، يؤيد تنفيذ ضربة خاطفة لطرد كلٍّ من عرفات والسوريين، وتعيين حكومة صديقة في بيروت. وتسبَّبت تلك الخطة في حدوث انشقاق كبير في إدارة ريجان. فكان وزير الخارجية أليكسندر هيج، المعادي الشرس للشيوعية، يفضِّل أي تحرُّك قد يؤدي إلى الإضرار بالسوفييت وعملائهم في العالم العربي. ومن ناحيةٍ أخرى فإن كاسبار واينبرجر، وزير الدفاع، الذي كان عمليًّا بصورةٍ أكبر وأقل ميلًا للقتال، كان قلقًا بشأن الأضرار التي ستسبِّبها الحرب على مكانة أمريكا في الشرق الأوسط. ولكن ذلك الجدال أصبح عديم الجدوى في الثالث من يونيو ١٩٨٢، عندما أطلق مسلَّحون فلسطينيون النارَ على السفير الإسرائيلي في لندن وأصابوه بجروح خطيرة. وبعدها بثلاثة أيام غزت إسرائيل لبنان.
وباختراق البلد في هجومٍ يتكوَّن من شقَّين، هاجم نحو ٣٠ ألف جندي إسرائيلي الساحلَ ومنه إلى المناطق الجبلية الداخلية للبنان، مدمِّرين في طريقهم ما يقرُب من ٥٠٠ دبابة سورية و١٠٠ طائرة، ودافعين بنحو ٦٠٠٠ فلسطيني شمالًا إلى بيروت. وعندما طاردتهم القوات الإسرائيلية حاصرت المدينة، واستمرَّت في قصف مواقع منظمة التحرير الفلسطينية ومقرِّها. وبدا الأمر كأن حجابًا قاتمًا من الدخان الكثيف قد علِق فوق المدينة، تضيئه من الخلف النيران، وتخترقه فقط جولات لإضرام المزيد من النيران. لقد تطوَّرت «عملية السلام من أجل الجليل»، التي وُصفت في الأصل بأنها غارة محدودة لتأمين حدود إسرائيل الشمالية، بسرعة إلى حصار شديد على عاصمة عربية كبرى يسكنها عشرات الآلاف من المدنيِّين.
وقد وبَّخ الرئيس ريجان مناحم بيجين قائلًا: «مهما كان عنف الهجوم على سفير إسرائيل في لندن، فإنه لا يبرِّر قيام إسرائيل بهجوم وحشي كهذا على بيروت.» وكانت صور المناطق السكنية التي دمَّرتها القنابل، والأطفال المقطَّعين، والشوارع التي تموج باللاجئين تمحو أيَّ احترام كان العالم العربي لا يزال يكنُّه لأمريكا. ولكن الأخطر من ذلك هو أن هزيمة الفلسطينيِّين والسوريِّين الموالين لموسكو أعادت مخاطرَ تدخُّل سوفييتي مباشر في الصراع. وكتب ريجان: «إننا نسير على حبل مشدود». وأصرَّ على أن يوقِف الإسرائيليون قصفَهم على الفور، وأن يسحبوا قواتهم من بيروت. ومع ذلك، قوبلت هذه المطالب بالتجاهل إلى حدٍّ كبير، بصرف النظر عن دفع هيج للاستقالة. وزادت كثافة القصف الإسرائيلي. وأخيرًا بعد أن يئس من نزع فتيل الأزمة، عرض ريجان الإشراف على نقل عرفات وأتباعه إلى تونس. فبعد ثمانين عامًا من إرسال تيدي روزفلت قوات مشاة البحرية إلى بيروت لحماية الأمريكيِّين المقيمين هناك، كان ريجان يرسلهم مرةً أخرى إلى المدينة للإشراف على لجوء الفلسطينيِّين.
حقَّقت عملية نقل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وأفرادها على يد مشاة البحرية الأمريكية بالتعاون مع القوات الفرنسية والإيطالية نجاحًا كبيرًا. وقد عبَّر ريجان عن أهمية هذا الحدث بتقديم خطة جديدة للسلام في الشرق الأوسط. فأعلن أن إسرائيل ستسحب قواتها من الضفة الغربية وغزة اللتين ستنضمان إلى الأردن. ومن ثَم أرسل الرئيس مبعوثًا شخصيًّا، هو الدبلوماسي العربي الأمريكي الدَّمث الأخلاق فيليب حبيب، في محاولة لتنفيذ هذا البرنامج. وبدأ حبيب مهمته تحت ظروفٍ بدت مواتية. فقد تُجنِّبت كارثة كانت تلوح في الأفق في لبنان وظهر بريقٌ يمكن أن يتحقق عبْره السلام. وغادر مشاة البحرية الأمريكية إلى الزوارق التي أنزلتهم في لبنان تحت أعلام تقول «أحسنتم صنعًا».
لكنهم عادوا بعد أقلَّ من ثلاثة أسابيع. ففي أثناء فترة وساطة حبيب، في ١٤ سبتمبر عام ١٩٨٢، اغتال السوريون الرئيسَ اللبناني بشير الجُمَيِّل، الزعيم الماروني الذي كان الإسرائيليون يأمُلون في توقيع معاهدة معه. ودفع الاغتيال الإسرائيليِّين لاحتلال جزء كبير من القطاع المسلم في بيروت والسماح لرجال الميليشيا من المارونيِّين بدخول معسكرات صابرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيِّين؛ حيث ذبحوا ٨٠٠ من المدنيِّين على الأقل. وقد قوبلت هذه المذبحة البشعة باحتجاجٍ دولي عنيف، فأجبر أرييل شارون على الاستقالة، وكذلك بمطالبات بالتدخل الأمريكي لحماية الفلسطينيِّين من أي اعتداءات أخرى. فأصدر ريجان، الذي لم يستطِع مقاومةَ هذا الضغط، أوامره إلى مشاة البحرية بالعودة إلى بيروت التي مزَّقتها الحرب.
لم يكن هدف مشاة البحرية هذه المرة هو تخليص الفلسطينيِّين، بل دعم حكومة أمين الجُمَيِّل، شقيق بشير الجُمَيِّل، المحاصَرة. ومرة أخرى لعِب مشاة البحرية دورَ الأبرياء في الخارج، واعتبروا أنفسهم المدافعين عن الديمقراطية، ولكنَّ السوريِّين والشيعة والدروز كانوا يَعُدُّون ذلك التدخُّلَ محاولةً لفرضِ سلطة الأقلية المارونية المقاتلة. وعلى غرار الإيرانيِّين، نَسيت هذه الطوائف إسهامات أمريكا في حصول لبنان وسوريا على استقلالهما، وبدلًا من ذلك اعتبرت الولايات المتحدة شريكةً في الحرب الأهلية الطويلة في لبنان. وبمجرد هبوطهم، تعرَّض رجال مشاة البحرية إلى وابل من النيران الكثيفة، مما اضطرهم إلى الرد بالمدفعية والدبابات، وإلى قصف العديد من المناطق السكنية نفسها التي قصفتها إسرائيل مؤخرًا. ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تشترك القوات البرية الأمريكية في قتالٍ عنيف إلى هذا الحد في الشرق الأوسط. ولكن حتى قوة نيرانهم أثبتت أنها غير كافية، فتعيَّن إرسال وحدات من الجيش لدعم مشاة البحرية المشتركين في القتال، واستعدَّت السفن الحربية التابعة للأسطول السادس لدكِّ معاقل العدو في جبل الشوف المطل على بيروت.
ورفض ريجان الاتهامات بأن أمريكا «قد لاذت بالفرار» من لبنان، ولكن ظلَّت الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الولايات المتحدة فشلت في مهمة كبح جماح سوريا وحلفائها، وبعد اندحارها من إيران بدا وكأن الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط. وكان انحسار الهيمنة الأمريكية في المنطقة قد تأكد بإلغاء لبنان لاتفاقية السلام مع إسرائيل، التي كانت الولايات المتحدة قد توسَّطت فيها، والأكثر من هذا في سلسلة من الهجمات الإرهابية المتعاقبة ضد مواطنين أمريكيِّين ومؤسسات أمريكية. فقد فجَّر إرهابيون، ينتمون على الأرجح إلى حزب ﷲ، السفارةَ الأمريكية في الكويت في ١٢ ديسمبر عام ١٩٨٣، وفي شهر سبتمبر التالي فجَّروا ملحقًا للسفارة الأمريكية ببيروت فقتلوا جنديَّين أمريكيَّين. وقتلت قنابل حزب ﷲ ١٨ أمريكيًّا في مطعم في توريخون بإسبانيا في أبريل عام ١٩٨٤، و٢٢ شخصًا في انفجارٍ آخر للسفارة الأمريكية في سبتمبر من نفس العام.
وفجأةً عادت عمليات اختطاف الطائرات والهجوم على المباني بالمطارات للظهور على الساحة. فأعدم إرهابيون من جماعة حزب ﷲ اثنين من الأمريكيِّين، عندما أجبروا طائرة كويتية على الهبوط في طهران في ديسمبر ١٩٨٤، وبعدها بستة أشهر اختطفوا طائرةً تابعة لشركة طيران ترانس وورلد إيرلاينز كانت في طريقها إلى بيروت، حيث عذبوا روبرت دين ستيثيم ثم قتلوه، الغواص بالبحرية الأمريكية، ثم ألقَوا بجثته على مهبط الطائرات. وقُتل أيضًا خمسة أمريكيِّين في هجوم بالقنابل والمدافع الآلية شنَّته منظَّمة أبو نضال الفلسطينية، في مطاري روما وفيينا في ديسمبر ١٩٨٥. وفي شهر مارس من ذلك العام، وضع فلسطينيون قنبلةً على متن طائرة متوجِّهة إلى أثينا، فقتلوا أربعة أمريكيِّين آخرين.
وبدا الموقف كأنه لا يمكن أن يمرَّ شهر دون أن يسمع الأمريكيون خبرَ مقتل بعضٍ من بني وطنهم على يد سفَّاحين مجهولي الهوية من الشرق الأوسط. وبرز انتشار الإرهاب العربي، وضَعف الأمريكيين، بقوةٍ في عملية الاستيلاء على السفينة الإيطالية «أكيلي لاورو». فقد استولى أعضاء من جبهة تحرير فلسطين على السفينة، بأسلوب يحاكي القراصنة المغاربة الذين كانوا على متن المركب الشراعي بتسي قبل ٢٠١ عام، واحتجزوا ركَّابها الأمريكيِّين الاثني عشر رهائنَ تحت تهديد السلاح. ولكن على عكس مختطفي السفينة «بيتسي»، لم يكتفِ أعضاء جبهة التحرير الفلسطينية بسَجن الرهائن الأمريكيِّين فقط، بل جعلوا إحدى الرهائن عِبرة. ووقع اختيارهم على مواطنٍ معاق من نيويورك في التاسعة والستين من عمره اسمه ليون كلينجهوفر، وهو يهودي أمريكي. دفع المختطفون كرسي كلينجهوفر المتحرك إلى حافة السفينة، وأطلقوا النار على ظهره، ثم ألقَوا بجسده الذي كان لا يزال ينتفض في البحر.
وكتب ريجان في مذكراته: «مرةً أخرى كانت لدينا أزمة في الشرق الأوسط، حياة الأمريكيِّين فيها معرَّضة للخطر.» وكانت قدرة أمريكا على الرد على هذا التهديد محدودة بسبب غياب رادع معقول، وبسبب غياب أيِّ حلفاء يمكن الاعتماد عليهم. فبدلًا من القبض على مختطِفي السفينة أكيلي لاورو، عرضت مصر عليهم توصيلهم بأمان إلى المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس. ولكن اعترضت طائرات البحرية الأمريكية المقاتلة طريقَ الطائرة المصرية التي تقلُّ القائد الفلسطيني أبو عباس، وأجبرتها على الهبوط في صقلية، ولكن السلطات الإيطالية أفرجت عن السجين على الفور. وبدا أنه على أمريكا أن تتعامل مع إرهاب الشرق الأوسط وحدَها.
وبالفعل تصرَّفت الولايات المتحدة وحدَها عندما واجهت ليبيا، الراعيَ الرئيسي لمنظَّمة أبو نضال، مرةً أخرى في مارس ١٩٨٦. وأملًا في استفزاز القذافي وجرِّه إلى مواجهة عسكرية، أصدر ريجان أوامرَه للبحرية الأمريكية بتجديد دورياتها قرب الساحل الليبي. وفسَّر ذلك قائلًا: «أي دولة وقعت ضحيةً للإرهاب لديها حقٌّ طبيعي في الرد بقوة لردع أي أعمال إرهابية جديدة. وشعرت أننا يجب أن نُري القذافي أننا … لن ندعَه يُفلِت بفَعلته.» وابتلع القذافي الطُّعم. فعندما فتحت زوارق الصواريخ الليبية النار على الأسطول الأمريكي، فجَّر مقاتلو البحرية الأمريكية السفن بالصواريخ، وقصفوا مواقع الرادار الأرضية أيضًا.
اقتصَّ ريجان لأعمال العنف التي قامت بها منظَّمة أبو نضال، ولكن القذافي لم يرتدع. فبعد أسبوعين فقط من الصِّدام في سدرة، قتل عملاء ليبيون اثنين من القوات الأمريكية وأصابوا خمسين عن طريق زرع قنبلة في ملهًى للرقص ببرلين. وانتقم ريجان بإصدار أوامره بإلقاء أكثر من ستين طنًّا من المتفجرات على طرابلس وبنغازي. وقد أخطأت بعض القذائف هدفها وقتلت عددًا من المدنيِّين، منهم — حسب بعض التقارير — ابنة القذافي بالتبني. وقد أثارت عملية «وادي الدورادو»، كما أُطلق عليها، غضبَ حلفاء أمريكا مرة أخرى؛ فرفضت كلٌّ من إسبانيا وفرنسا السماح للمقاتلات الأمريكية بالطيران عبْر مجالهما الجوي في الطريق إلى ليبيا. ولكنَّ تعاطُف أوروبا مع القذافي لم يمنعه من القيام بهجمة إرهابية أخرى عليها، وكانت أقوى هجماته على الإطلاق. ففي ٢١ ديسمبر ١٩٨٨ انفجرت قنبلة زرعها عملاء ليبيون، حسبما يقال، على متن طائرة تابعة لشركة طيران بان آم في رحلتها رقم ١٠٣ فوق لوكربي باسكتلندا، فقتلت جميعَ ركَّابها البالغ عددهم ٢٥٩ راكبًا، من بينهم ٣٧ طالبًا أمريكيًّا، بالإضافة إلى أحد عشر قرويًّا على الأرض.
استعرضت الولايات المتحدة قوَّتها مرة أخرى، دون مساعدات أوروبية، ضد عدوٍّ لها من شمال أفريقيا. ولكن على عكس يوسف القره مانلي، وهو حاكم طرابلس في أوائل القرن التاسع عشر، كان بإمكان القذافي الردُّ بتوجيه ضربات تقريبًا لأي مكان في العالم، وينجو بفَعلته. ولم يكن هناك مكانٌ أفضل من لبنان لتوجيه ضربة لأمريكا يسهُل تنفيذها ببراعة. وفي خطوة انتقامية أخرى على تفجيرات ليبيا، طالب القذافي بإعدام بيتر كيلبرن، أمين مكتبة بالجامعة الأمريكية ببيروت، الذي كان حزب ﷲ قد احتجزه سنتين، ولبَّى حزب ﷲ طلبه.
كان اختطاف كيلبرن وقتْله أحدَ أعراض وباء عمليات الاختطاف والاغتيال الذي أصاب الأمريكيِّين المقيمين في لبنان قي الثمانينيات. فقد أصبح مواطنو الولايات المتحدة، الذين كانوا بين المِطْرقة والسَّنْدان بين الطوائف المتناحرة في الحرب الأهلية العنيفة، ضحيةً سهلة لآلاف من رجال الميليشيا المسلحين المقنَّعين، الذين كانوا يجوبون بين أنقاض بيروت. وكان أول مَن اختُطِف هو ديفيد دودج، رئيس الجامعة الأمريكية ببيروت، وحفيد مؤسس الجامعة، دانيال بليس. فقد اختطفه حزب ﷲ عام ١٩٨١، واحتجزه عامًا كاملًا، قبل أن يُفْرج عنه دون أن يصاب بسوء، ولكن خليفته مالكولم كير كان أقلَّ حظًّا. كان كير أيضًا أحدَ أبناء المبشِّرين الذين جاءوا إلى الشرق الأوسط وعالِمًا شهيرًا في مجال الشئون العربية، وعندما كان كير يغادر مكتبه بالجامعة الأمريكية ببيروت عام ١٩٨٤، اقترب منه عضوان من حزب ﷲ، وأطلقا النارَ على رأسه. وفي العام التالي، اختطف حزب ﷲ رئيسَ مكتب الاستخبارات المركزية في بيروت، ويليام باكلي، وعذَّبه وأعدمه، وفي عام ١٩٨٨ اختطف وشنق أيضًا ويليام هيجينز وهو عقيد أمريكي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان.
كان تيدي روزفلت قد أرسل في الماضي برقيةً إلى الحكومة المغربية قال فيها: «إننا نريد بيرديكاريس حيَّة أو رايسولي ميتًا»، ولكن بالنسبة إلى ريجان الذي كان يواجه دولةً تؤمن بمبادئ الفيلسوف توماس هوبس، فلم تكن أمامه حكومة ليخاطبها. وكان البديل الوحيد أمامه هو ردع الدول الراعية للمختطفين، وعلى رأسها إيران، بوسائل اقتصادية وعسكرية، ولكن لم ينجح أيٌّ من هذه الإجراءات. فقضى ريجان معظمَ الفترة الثانية من رئاسته مرتبكًا بسبب اللغز الإيراني، وغيرَ واثق مما إذا كان عليه أن يرهب القادة هناك أم يعمل على استرضائهم. ثم في صيف عام ١٩٨٥ عرضت إسرائيل عليه حلًّا. فقد زعمت أن العناصر المعتدلة في صفوف القيادة الإيرانية يمكنها أن تعمل على الإفراج عن الرهائن مقابلَ الحصول على صواريخ مضادة للدبابات تحتاج إليها بشدة في حربها ضد العراق. وجذب هذا الاتفاق انتباهَ ريجان، فرسم خطةً تمدُّ إسرائيل بمقتضاها طهران بالصواريخ سرًّا، ثم تعيد الولايات المتحدة ملء مخازن إسرائيل. وبرَّر الرئيس الموقف لنفسه قائلًا: «إننا لن نشحن أيَّ أسلحة للإيرانيِّين. وأنا لم أنظر إلى العملية باعتبارها … صفقة «سلاح مقابل الرهائن»؛ لأنها لم تكن كذلك بالفعل.»
وفي الليل، بدأت إسرائيل في نقل الصواريخ في صناديقَ لا تحمل علامات في سفن تحمل أعلام دول محايدة. وبحلول شهر أغسطس، كان قد وصل إيران ستمائة صاروخ، وبحلول ديسمبر كان قد وصلها ١٥٠٠ صاروخ آخرين. ومع أن هذه الصفقات أعادت الاتصالات إلى حدٍّ ما بين تل أبيب وطهران، فقد أحدثت انشقاقًا بين واضعي السياسات في واشنطن. ففي حين كانت وكالة الاستخبارات المركزية وهيئة الأمن القومي تؤيدان العملية، فإن فكرة شراء الرضاء الإيراني بالسلاح كانت بغيضةً لجورج شولتز، وزيرِ الخزانة السابق البدين الجسد، مدير شركة بكتل الذي كان قد حلَّ محل هيج وزيرًا للخارجية في إدارة ريجان. ومع ذلك فقد استمر الرئيس في الموافقة على نقل الأسلحة، حتى بعد نوفمبر ١٩٨٦، عندما سرَّبت الصحافة خبرًا عن العملية. وفي البداية أنكر ريجان أنه باع صواريخَ لحكومةٍ ترعى الإرهاب، ولكن بعدها بأسبوع عكس ريجان موقفه واعترف أن الولايات المتحدة أمدَّت إيران بالفعل «ببعض الأسلحة الدفاعية»، وإن كان لهدف نبيل. وأصرَّ على أن «حكومتنا تتَّبع سياسةً حازمة بعدم الاستسلام لمطالب الإرهابيِّين، ونحن لم نقايض — وأكرِّر لم نقايض — السلاح أو أي شيء آخر مقابل الرهائن، ولن نفعل ذلك.»
ولكن مراوغات ريجان كلَّفته كثيرًا من مصداقيته بين الأمريكيِّين، وفي الوقت نفسه لم تؤدِّ إلى تقدير طهران له. فقد رفض الإيرانيون كبْحَ جماح حزب ﷲ في لبنان، وفي الخليج استمرَّت في شن هجماتٍ بقوارب الصواريخ ضد ناقلات النفط الكويتية غير المسلحة. لقد تجاهل ريجان الدرسَ الأساسي في حروب البربر: وهو أن إمدادَ دول القراصنة في الشرق الأوسط بالسلاح يؤدي فقط إلى مزيدٍ من أعمال القرصنة. وللدفاع عن إمدادات النفط الأمريكية من الكويت، اضطُر الرئيس إلى إرسال البحرية مرةً أخرى للعمل. وعلى مدار عامي ١٩٨٧ و١٩٨٨ أغرقت السفن الحربية الأمريكية عددًا من القوارب البحرية الإيرانية، ورافقت السفن الكويتية المعرَّضة للخطر. وفي إطار تلك العمليات، أسقطت المدمِّرة الأمريكية يو إس إس فينسن طائرةَ ركاب إيرانية مدنية عن طريق الخطأ، متسببة في مقتل جميع ركابها البالغ عددهم ٢٩٠ فردًا.
وفي حين كان الجنود الأمريكيون يحاربون الإيرانيِّين في الخليج، كانت شحنات الأسلحة الأمريكية للنظام الإسلامي قد فجَّرت فضيحةً مدوية في واشنطن. اتضح أن عائدات مبيعات الصواريخ وُجِّهت إلى مقاتلي الكونترا المناهضين للشيوعية في نيكاراجوا، وذلك خرقًا لقوانين الكونجرس. وخضعت الإدارة الأمريكية لتحقيق شامل بُثَّ على التليفزيون في جميع أنحاء البلاد، ولكن ذلك لم يُقنِع ريجان بالعدول عن اتباع سياسات مثيرة للجدل، ومتناقضة، في الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تقوم بتسليح إيران بصواريخ مضادة للطائرات، كانت أيضًا تقوم بإمداد أعداء إيران في بغداد بالمروحيات وقذائف الهاون وأقمار التجسس الصناعية.
ومع أن العراق لم يكن أقلَّ مساندةً لمنظَّمة أبو نضال وغيرها من الجماعات الإرهابية من ليبيا، فقد شطب ريجان العراق من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأرسل مرتين — في عامي ١٩٨٣ و١٩٨٤ — المبعوثَ الرئاسي دونالد رامسفيلد لمقابلة صدَّام حسين، متجاهلًا أدلةً على أن الرئيس العراقي قد استخدم الغاز السام ضد آلافٍ من أعدائه. فقد أكَّدت وثيقة من وزارة الدفاع أنه «لا يساور أحدًا أيُّ شك حول استمرار تورُّط العراقيِّين في الإرهاب. وكان السبب الحقيقي هو مساعدتهم على الانتصار في حربهم ضد إيران.» وفي حين كان رامسفيلد يستنكر بوضوح استخدامَ العراق للأسلحة الكيماوية، أكَّد رامسفيلد أيضًا لصدَّام أن الولايات المتحدة لا تزال تقف وراءه في صراعه ضد آيات ﷲ الشيعيِّين، وأنها ترغب في «تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين، حسب الإيقاع الذي يختاره العراق». واستمرَّت العلاقات بين واشنطن وبغداد تزداد قوةً حتى بعد أن أطلقت طائرة ميراج عراقية النيرانَ خطأ على الفرقاطة الأمريكية «ستارك»، التي كانت تقوم بدوريات في الخليج العربي في مارس ١٩٨٧، فقتلت ٣٧ بحارًا.
وأصبحت إدارة الرئيس ريجان نفسها، التي اشتهرت بأنها تسلك مسارًا مباشرًا في سياساتها تجاه الاتحاد السوفييتي، تشتهر بأنها لا تحقِّق شيئًا في الشرق الأوسط. فقد قادتها المخاوف الأمنية إلى الهجوم على ليبيا وهي تدلل العراق، وتسلِّح كلًّا من صدَّام حسين وزعماء الثورة الإيرانية في آنٍ واحد. وبسبب غرقها حتى أذنيها في خرافات الشرق الأوسط، كانت تقدِّم إمدادات للعرب المقاتلين من أجل الحرية في أفغانستان، وساعدت الحكومةَ الدينية السعودية مع تجاهُل التهديدات التي يمثلها كلاهما لها. في البداية ساند البيت الأبيض، الذي كان يتردَّد بين اعتبارات الأمن والمعتقَد، غزوَ إسرائيل للبنان ثم احتجَّ عليه، وسارعت الولايات المتحدة بإرسال شحنات من الأسلحة إلى الدولة اليهودية، ثم أجَّلتها، وتعاونت مع المخابرات الإسرائيلية في خطةٍ مثيرة للجدل لمبادلة الأسلحة بالرهائن، لكنها عادت عام ١٩٨٥ وحاكمت جوناثان بولارد المحلِّل في الاستخبارات البحرية الأمريكية، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. وقد ساعد ريجان في عملية إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ثم قاطع المنظمةَ بعد ذلك، ثم غيَّر موقفه مرة أخرى، وشارك في محادثات دبلوماسية مع عرفات.
كان عجز أمريكا عن الاستمرار في حوارٍ بنَّاء حول خلافات الشرق الأوسط، فضلًا عن حلِّها، أحدَ أعراض مرض مزمن. فمع أن ريجان نال الكثير من التقدير بسبب انتصاره في الحرب الباردة، فقد أثبت أنه غير قادر على أن يتماشى مع تعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي، وحرب العراق وإيران، والتوتر السائد بين الأنظمة الإسلامية والعلمانية. ولم تكن رؤية تأسيس سلام أمريكي في المنطقة أسرعَ زوالًا قط مما كانت عليه في تلك الفترة.
ولكن يبدو أن الأمريكيِّين كانوا غير واعين إلى حدٍّ كبير لهذا التشوش الذهني. فقد كان انتباههم موجَّهًا إلى المشاهد المذهلة للملايين الذين يتظاهرون مطالبين بالحرية في شرق أوروبا، ويدمِّرون جدارَ برلين. وهلَّل جمهور السينما عندما قَتل مايكل جيه فوكس في فيلم «العودة إلى المستقبل» (١٩٨٥) وتوم كروز في فيلم «من الطراز الأول» (١٩٨٦) المهاجمين الليبيِّين بسهولة، وعندما رسم إنديانا جونز (هاريسون فورد) ابتسامةً متكلَّفة على شفتيه ثم أطلق النار على عربي يستخدم السيفَ ببراعة في الفيلم الذي حقَّق نجاحًا رائعًا «سارقو الفُلك الضائع» (١٩٨١). وجذِلوا أيضًا عندما لعِبت الممثلة الجذابة بروك شيلدز دورَ أمريكية مثيرة ساذجة في فيلم «الصحراء» (١٩٨٣) وقد اجتاح فارس عربي متَّشح بالسواد كيانها. وضحكوا أيضًا على الإرهابيِّين المسلمين الذين كانوا يُجرُون تجربةً مع انتحاريِّين ويخطِّطون لتفجير برجَي نيويورك التوءمين في الفيلم الكوميدي «الخطأ صواب» الذي أُنتج عام ١٩٨٢.
لقد كانت هوليوود مرةً أخرى منغمسةً في خيالات الشرق وتدمجها مع الحقائق عن الشرق الأوسط. وبدا الرئيس ريجان نفسه مرتبكًا. فقد ظهرت عليه أولى بوادر مرض ألزهايمر الذي قضى على حياته فيما بعد، فكان يخلِط في بعض الأحيان بين مشاهد من أفلامه القديمة وأحداث العالم الواقعي. ولكن هذه الحَيرة كانت تصبح عبئًا على الأمريكيين. لقد انتهى عَقد من الفوضى في الشرق الأوسط، ولكن كان عَقد آخر يبزغ، ومعه الحرب.
سيوف ودروع في الرمال
كان احتمال نشوب صراع واسع النطاق في الشرق الأوسط يبدو بعيدًا في ذلك اليوم من عام ١٩٨٩ الذي سقط فيه لقب «نائب» رئيس الولايات المتحدة عن جورج إتش دبليو بوش ليصبح الرئيس الحادي والأربعين لأمريكا. كان بوش بطلَ حرب سابقًا، ورجلًا أنيقًا وقائد فريق البيسبول بجامعة ييل ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، فكان يجسِّد القوة والمهارة اللتين ستتعامل بهما الولايات المتحدة مع أزمات المنطقة. وكان الطريق يبدو ممهدًا لنجاحه. فقد انهارت الكتلة الشيوعية، فحُرِم العديد من الحكام الديكتاتوريِّين العرب من الدعم السياسي السوفييتي ومن مصدرٍ يعتمدون عليه للذخيرة. وفي الخليج العربي، كانت جيوش إيران والعراق، التي أُنهكت قواها بعد عشر سنوات من القتال وسقوط أكثر من مليون ضحية، قد استسلمت لفترة من الجمود غير المستقر. وكان يبدو أن الانتفاضة الفلسطينية أيضًا قد استنفدت طاقتها، وأن منظمة التحرير الفلسطينية أصبحت لا تلعب أي دور. ومع أن السلام كان لا يزال بعيدًا، فإن الشرق الأوسط كان على الأقل قد هدأ إلى الحد الذي يستطيع معه واضعو السياسات الأمريكيون التفكيرَ في التخلص من بعض صراعاته الأكثر تقلبًا، مع تمهيد الطريق أمام استقرار المنطقة.
ولكن سريعًا ما اتضح المظهر الخادع للهدوء في الشرق الأوسط. فقد بدأ صدَّام حسين، الذي كان يثقل كاهلَه ديونُ حرب تقترب قيمتها من تريليون دولار، يبحث بجنون عن مصدر للمال، ووجده في جارته الكويت. وقد ادَّعى صدَّام أن هذه الإمارة الغنية بالنفط قد فصلها الاستعمار البريطاني عن العراق، ومن ثَم فقد طالب صدَّام بحقه في «المحافظة العراقية التاسعة عشرة». واتباعًا للمنهج الأصولي الذي كان يجتاح العالَم العربي ارتدى صدَّام زعيم حزب البعث العلماني عباءةَ صلاح الدين على الطراز الحديث، وأعلن حربًا مقدسة ضد السعوديِّين الآثمين، الذين كان يَدين لهم بمليارات الدولارات. وبدءًا من شهر يوليو ١٩٩٠ بدأت آلاف الدبابات والقوات العراقية التي لا حصرَ لها في التجمع عند الحدود الكويتية، واستعدَّ العالَم كلُّه للغزو العراقي الوشيك للكويت. وربما للجزيرة العربية بأكملها، وواجهت حكومة بوش أولى أزماتها في الشرق الأوسط.
واجه الرئيس معضلةً أيضًا؛ فعلى عكس جون كوينسي آدامز، الذي كان عليه أن يختار بين تأكيد المُثُل الأمريكية عن طريق مساعدة اليونان في صراعها من أجل الاستقلال، وبين حماية الاستثمارات الأمريكية التجارية في تركيا، كان على بوش أن يختار بين اثنين من الأصول الاستراتيجية. صحيح أن الكويت كانت تمدُّ الولايات المتحدة بالنفط، ولكن إسهامات العراق في رفاهية البلاد لم تكن أقلَّ أهمية. وقد جاء في توجيهات الأمن القومي التي صدرت عام ١٩٩٠: «العلاقات الطبيعية بين الولايات المتحدة والعراق … تدعَم الاستقرار في كلٍّ من الخليج والشرق الأوسط.» واستمرَّ البيت الأبيض في تقدير دور العراق باعتباره وسيلةً لتقييد إيران، ومؤثِّرًا متوسط المستوى على الفلسطينيِّين. ولأنها لم تستطِع أن تحدِّد أيًّا من الحليفين تساند في الحرب العراقية الكويتية، سعَت واشنطن إلى الالتزام بموقف الحياد. إذ يُزعَم أن أبريل جلاسبي، ممثلة أمريكا في العراق وأول سفيرة لها في الشرق الأوسط، قالت لصدَّام حسين مؤكدة: «ليس لنا رأي في الصراعات بين العرب. وكلُّ ما نأمُله هو أن تُحل هذه القضايا على وجه السرعة.»
كان الأمريكيون في الماضي يحاولون البقاءَ خارج ساحة الخلافات في الشرق الأوسط، كما فعلوا مثلًا في فلسطين قبل عام ١٩٤٨، فقط ليجدوا أنفسهم يتورَّطون فيها بعنف، ولم يكن الصراع في الخليج استثناءً. لذلك فعندما غزا جيش صدَّام الكويت في الثاني من أغسطس وبدأ في نهبها، تبخَّر أيُّ أملٍ لبوش في إيجاد حلٍّ سلمي للأزمة مع اشتداد قوة شبح الهيمنة العراقية على منطقة الخليج. ولم يَعُد الحياد خيارًا أمام أمريكا. فدعا بوش مجلس الأمن للانعقاد، وطالب باتخاذ خطوات لتحرير الكويت من كل القوات الأجنبية، وأصدر تعليماته للبحرية الأمريكية بإرسال أسطول إلى الشرق الأوسط في العملية التي عُرفت باسم «عملية درع الصحراء». وأكَّد بوش «لا يمكن أن نسمح لموردٍ بهذا القدْر من الأهمية أن يسيطر عليه أحدٌ بهذا القدْر من القسوة، ولن نفعل.»
وبدأ بوش بكل صبر وهمَّة في محاولة الوصول إلى إجماع عالمي على التدخل العسكري في الكويت. وكانت كل الردود قدَرًا إيجابية. فعلى عكس معارضتهم السابقة في التعاون مع أمريكا في صراعها ضد الإرهاب، كان الأوروبيون يتلهفون للانضمام إلى أي مساعٍ لحماية نفط الشرق الأوسط. والمفاجأة الأكبر كانت استعداد العديد من الحكام العرب بسبب التهديد العراقي لأنظمتهم، للاشتراك في تحالفٍ ضد صدَّام. وكانت شروطهم الوحيدة هي أن تمدَّهم الولايات المتحدة بملايين الدولارات في هيئة مساعدات في فترةِ ما بعد الحرب، واستثناء إسرائيل من هذا التحالف. وتشجَّع بوش بهذا التضامن الدولي، فأصدر سلسلة من قرارات الأمم المتحدة تسمح باستخدام «كل الوسائل الضرورية» لإجلاء العراقيِّين عن الكويت.
وفي تشكيل عسكري أكبرَ عشر مرات تقريبًا من عملية الشعلة قبل ذلك بثمانية وأربعين عامًا، تمركز حشدٌ يتكوَّن من أكثر من نصف مليون جندي أمريكي، بالإضافة إلى أعداد ضخمة من الدبابات والطائرات والبنادق ومركبات الدعم حول الكويت. وانضمت إليها قوات من ٣٤ دولة، لتكوِّن معًا أكبرَ عرض على الإطلاق للمعدات العسكرية التي تتجمع في الشرق الأوسط. ومع ذلك أحجم بوش عن استخدام هذه القوة الساحقة، مانحًا صدَّام فرصةً أخيرة للانسحاب. وفي عدة اجتماعات حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، أكَّد وزير الخارجية جيمس بيكر، وهو رجل قليل الحديث من تكساس، على نظيره العراقي الثرثار طارق عزيز، ضرورةَ الجلاء عن الكويت. ولكن جهوده ذهبت سدًى. فقد رفض صدَّام سحبَ قواته، بل على العكس مدَّ نطاق حربه المقدسة لتشمل إسرائيل والولايات المتحدة، وأقسم أن يشنَّ «أم المعارك» للاحتفاظ «بالمحافظة التاسعة عشرة». وبناءً على ذلك حدَّدت الأمم المتحدة الخامس عشر من يناير ١٩٩١ ليكون آخر موعد يمكن لصدَّام فيه إما أن يستجيب لقراراتها أو يجلب على نفسه غضبَ الاتحاد.
كان أداء بوش نموذجيًا في أول تجربة له في الشرق الأوسط، ولكن كانت أكبر عقبة لا تزال قائمة أمامه. فقد كانت مهمة الرئيس في إقناع الشعب الأمريكي بضرورة خوض الحرب أكثرَ صعوبةً من الحفاظ على تحالف دولي، ودعم جيش بأكمله في الصحراء العربية. فقد ظلت هناك مهمة إقناع الكثيرين الذين يشكون أن الشباب الأمريكي لن يحارب من أجل تحرير الكويت، وإنما من أجل نفطٍ يصل بأمان وبأسعار مناسبة. لذلك ألغى بوش تمامًا أي إشارة إلى النفط في أحاديثه، وشدَّد بدلًا من ذلك على الخطر الذي يمثله العراق على الشعوب المستقلة في كل مكان. وحذَّر الرئيسُ من أن «كل يوم يمر يقرِّب صدَّام خطوة من تحقيق هدفه المتمثل في امتلاك ترسانة نووية. وهو لم يمتلك قطُّ سلاحًا إلا واستخدمه». كان الزعماء البريطانيون قد قارنوا في يوم من الأيام ناصر بهتلر، ولكن صدَّام، حسب وصف بوش، قد فاق هتلر في وحشيته. وحتى في ذلك الوقت، ظل الكونجرس منقسمًا حول ما إذا كان سيسمح للرئيس بتخليص الكويت من العراقيِّين. وبأغلبية خمسة أصوات فقط في مجلس الشيوخ، اتَّجهت أمريكا لخوض الحرب.
بدأت عملية «عاصفة الصحراء» في مساء ١٧ يناير بغارات جوية مدمِّرة على بغداد وغيرها من مراكز القيادة العراقية. وتحوَّلت المطارات وأجهزة الرادار وشبكات الاتصالات إلى نيران وأنقاض تحت تأثير الصواريخ الموجهة بدقة والقنابل العنقودية الساحقة. وبدا العراقيون مستعدين لهذا الهجوم. فقد تابع المشاهدون على شاشات التليفزيون في جميع أنحاء العالَم وابلًا من النيران العراقية المضادة للطائرات، التي كانت تحوَّلت إلى كتل خضراء في كاميرات التصوير الليلية. ولكن هذا الوابل العراقي لم يجدِ نفعًا في إسقاط طائرات التحالف، وبدلًا من القتال مع العدو، هربت الطائرات الحربية العراقية جميعًا إلى طهران. والأخطر من هذا أن صدَّام أطلق صواريخ سكود على معسكرات التحالف في السعودية، فقتلت في إحدى المرات ٢٨ جنديًّا.
لم يكن الهدف الرئيسي لصواريخ سكود هو الأمريكيِّين، بل الإسرائيليِّين. فقد وجَّه صدَّام، الذي كان يتوق إلى جذبِ إسرائيل إلى ساحة القتال لتنسحب مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية من الائتلاف، ٣٩ صاروخًا سوفييتيَّ الصنع على تل أبيب وحيفا، مدمرًا منازلَ ومصيبًا البلاد بشلل اقتصادي. فوضع الإسرائيليون الأقنعة الواقية من الغاز ببساطة واختبئوا في غرفٍ محصَّنة ضد الهجمات الكيماوية والبيولوجية، ولكن لم يكن صبرهم بلا حدود. فمع أن الرئيس بوش كان قد ناشد القادة الإسرائيليِّين بألا يردوا على استفزازات صدَّام، فقد استعد الجيش الإسرائيلي لحملة للبحث عن منصات إطلاق الصواريخ في غرب العراق وتدميرها. كان جنود المظلات الإسرائيليون في المطارات بالفعل استعدادًا للمغادرة، عندما توصَّل الرئيس أخيرًا إلى حل. ستتجه صواريخ باتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ الباليستية وأطقم العمل المسئولة عن التعامل معها إلى إسرائيل، وستُنشر للتصدي لصواريخ سكود القادمة من العراق. ومع أن معظم صواريخ باتريوت لم تُصِب هدفها فإن مشهد وجود عسكريِّين أمريكيِّين على أراضي الإسرائيليِّين لأول مرة رفع من روحهم المعنوية كثيرًا. وقد قال مايكل وودز، قائد أحد الأطقم: «أنا في الجيش منذ ستة عشر عامًا، ولم يُرَحَّب بي في بلدٍ ما مثلما حدَث هنا. إنه ترحيب غامر.»
ولكن الأكثر تدميرًا بكثير من استخدام صواريخ سكود كان استخدام صدَّام لسلاح النفط. فعلى عكس الحكام العرب الذين سعَوا عام ١٩٧٣ إلى كسر شوكة الغرب سياسيًّا عن طريق حرمانه من منتجات البترول الحيوية لاقتصاده، سعى القائد العراقي إلى وقف تقدُّم التحالف عن طريق إغراقه بالنفط حرفيًّا. فقد ألقت القوات العراقية أكثرَ من مليون طن من النفط الخام في الخليج، وأشعلت النار في مصافي النفط الكويتية، مكوِّنةً بذلك أكبرَ تسريب للنفط في التاريخ، بالإضافة إلى حقولٍ من اللَّهب الذي لا يمكن إطفاؤه. وقد تسبَّب تلوُّث الجو وتلوث المياه في نفوقِ أعدادٍ لا حصر لها من الأسماك والطيور البحرية المختلفة، وانتشار الأوبئة بين جنود التحالف. وبذلك كانت الكارثة البيئية في الشرق الأوسط التي حاول جورج بيركنز مارش، مؤسِّس حركة الحفاظ على البيئة، منْعَها.
وفي خضم هذه الفظائع ورغم استراتيجيات التأخير التي يستخدمها صدَّام، فقد بدأ التحالف حملتَه البرية المسمَّاة «سيف الصحراء» في ٢٤ فبراير. وقد أثبت هذا الهجوم أن إيقاعه سريع كالبرق، وأكثر تدميرًا مما كان يتنبأ مخطِّطوه. فقد اقتحمت قوات المدرعات والمدفعية الكويت وجنوب العراق، والتفَّت حول الحرس الجمهوري، المزعوم أنه صفوة مقاتلي صدَّام، وقضت عليه، وأبادت سلاح الدبابات. وقال قائد عملية عاصفة الصحراء، الجنرال نورمان شوارتزكوف، الذي كان والده قد أسهم في الإطاحة بزعيم شرقي في إيران في السابق: «كان صدَّام هو ما يطلِق عليه المنظِّرون العسكريون «مركزَ جاذبية معاديًا»، فإذا دُمِّر، أفقدَ العدوَّ الرغبةَ في القتال.» وفي غضون مائة ساعة كانت مدينة الكويت قد أُمِّنت، وتحوَّل جزء كبير من الجيش العراقي الذي حوصر في كمين أثناء تراجعه على ما يطلق عليه «طريق الموت»، وهو اسم مناسب، إلى رماد. وقيل إن جنود مشاة البحرية وهم يتقدمون كانوا يردِّدون أغنية جعلتها فرقة الروك «كلاش» شهيرة وكانت تحكي عن قنابل تنفجر بين المآذن، وعن مؤذِّنين يرفعون الآذان بتحدٍّ. وكان الجنود ينشدون «دك حصون القصبة» وهم يقضون على آخر معاقل المقاومة العراقية.
وكان على القادة الأمريكيِّين في ذلك الوقت أن يقرروا ما إذا كانوا سيمدون هجومهم إلى داخل الأراضي العراقية للإطاحة بنظام صدَّام أم لا. وكان الجنرال كولين باول، رئيس مجلس رؤساء الأركان المشترك الذي كان يشرف على الحملة، ضد مد نطاق الحرب. وكان باول، الذي كان رجلًا دمث الخلق صعِد السُّلم من بدايته، من أصول متواضعة من جامايكا تسكن في حي برونكس بنيويورك، يستند في المقام الأول على أسسٍ إنسانية. وكان رأيه أن المعركة قد أصبحت «استغلالًا لضَعف العدوِّ»، وأن الولايات المتحدة ستلطِّخ سمعتها أخلاقيًّا إذا استمرت في ذبح العراقيين. لكن باول كان أيضًا استراتيجيًّا محنكًا يرى أن العراق، الذي تعرَّض للعِقاب ولكن لا يزال يتمتع بقدرات عسكرية، ذو قيمة لأمريكا. وقد شرح ذلك قائلًا: «كانت نيتنا العملية هي ترك ما يكفي من قوة لبغداد كي تظل تهديدًا لإيران التي لا تزال عدوًّا لا يعرف الرحمة للولايات المتحدة»، ووافقته إدارة بوش على ذلك. فسمحت لبقايا جيش صدَّام بالعودة مترنِّحة إلى العراق دون التعرُّض لها. ولكن بمجرد عودة الجيش إلى هناك، وجَّه ما تبقى معه من سلاح إلى الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، الذين كانوا قد تمرَّدوا على النظام البعثي بتشجيع خفي من الولايات المتحدة. وبرباطة جأش تشبه تلك التي تعامل بها كيسنجر مع الأكراد من قبلُ عندما تخلَّى عنهم، وقفَ بوش يتفرَّج بسلبية، والجماعتان تواجهان الهلاك.
نفَّذت عملية «وداع الصحراء» التي بدأت في العاشر من مارس الانسحابَ السريع للقوات الأمريكية من منطقة الحرب. وقد خلَّفت وراءها الكويتَ المنهوبة، لكنها محرَّرة، وعشرات الآلاف من الضحايا الأكراد والشيعة نتيجةَ وحشية حزب البعث، بالإضافة إلى ٤٠٠ ألف فلسطيني طردتهم الكويت زاعمةً أنهم كانوا يساندون صدَّام، وعراقًا محرومًا من أي بنية تحتية مدنية، ولكن الجيش لا يزال بقوَّته إلى حدٍّ بعيد. وأصبح العديد من زعماء الخليج العربي ينظرون إلى أمريكا الآن باعتبارها منقِذتهم. أما ضحايا صدَّام الذين لا يُحصَون في العراق، فكانوا ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها خائنة. ولكن كان الأسوأ من هذا هو ذلك الاستياء الذي تجيش به صدور المجاهدين العرب، ومن بينهم أسامة بن لادن الذي لم يكن نجمه قد سطع بعد، والذي كان قد نجح أخيرًا في طرد الكفار السوفييت من أفغانستان ليجد الكفار الأمريكيِّين يعسكرون قرب مكة والمدينة. فقال المجاهدون، مساوين بين الغرب وأمريكا: «المسألة ليست أن العالم ضد العراق. بل إن المسالة أن الغرب ضد الإسلام.»
أما التبعات الطويلة الأمد لهذا الصراع الذي عُرف فيما بعدُ باسم «حرب الخليج الأولى» فلم تكن تعني الأمريكيِّين كثيرًا. فقد كان الأمريكيون، الذين حجب عنهم المراقبون العسكريون رؤيةَ الجوانب البشعة للقتال والذين شعروا بالارتياح بسبب العدد القليل نسبيًّا من الضحايا (فقط ١٤٧ قتيلًا أمريكيًّا على أرض المعركة)، وباستعداد أعضاء التحالف للمساعدة في دفع قيمة فاتورة الحرب التي بلغت ٦١ مليار دولار، يفتخرون بقوة بلادهم. وقال بيكر وزير الخارجية: «ما قام به الرئيس في الخليج كان ببساطةٍ أمرًا صائبًا. فقد اختار جورج بوش الخيارات الصعبة التي يتوقعها العالم من قيادات أمريكا.» ولكن كانت مكانة أمريكا قد وصلت إلى ذروتها بعد الحرب، ليس في الوطن فقط، بل في الخارج أيضًا، وذلك بفضل سياسات بوش في الشرق الأوسط. فقد اعترف جزء كبير من العالم بهيمنة أمريكا على المنطقة، وحقَّقوا توافقًا مع أهدافها. وعلى عكس وودرو ويلسون، الذي أدَّى رفضه خوضَ حرب ضد الإمبراطورية العثمانية إلى إضعاف مكانة أمريكا في مؤتمر باريس للسلام، قدَّم الرئيس بوش جزءًا كبيرًا من جيشه للخليج ووقف رابط الجأش لتحديد مستقبله. فأعلن أن «الأمريكيِّين هم أكثر شعوب الأرض تدينًا. وكنا نشعر دائمًا بفطرتنا أن هدف الرب مرتبط بقضية الحرية.» وبعد أن لوَّح الرئيس بقوة أمريكا، أصبح يلوِّح بالمُثُل الأمريكية.
وكخطوة أولى تجاه تحقيق هذا الهدف النبيل أعلن بوش عزْمَه على إعادة عقد مؤتمر السلام الدولي، ولكن هذه المرة في مدريد. وجاب وزير الخارجية جيمس بيكر العالَم العربي لحشد المساندة لتلك القمة، وللضغط على إسرائيل للتنازل عن الأرض وإزالة المستوطنات. وقد أثارت مجهوداته حنقَ إسحاق شامير، القائد السرِّي السابق الضئيل الحجم القوي الإرادة الذي حلَّ محلَّ بيجين رئيسًا للوزراء. وأسرع شامير في عملية بناء المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، وقاوم كل الاقتراحات الخاصة بالتفاوض مع عرفات. وكتب بيكر بكلمات مريرة: «من الصعب ألا نصدق أن حكومة شامير كانت تعبِّر عن ازدرائها للمصالح الأمريكية». وبعد أن منع الوزير ضمانات قروض إعادة توطين المهاجرين اليهود السوفييت إلى إسرائيل، أبلغ الكونجرس أن شامير يمكنه الاتصال به عندما يكون مهتمًّا بالسلام، حتى إنه أعطاهم رقم هاتفه في البيت الأبيض: (٢٠٢–٤٥٦–١٤١٤). ووافق الإسرائيليون أخيرًا، بعد أن أرهبهم ما قام به الوزير، على حضور المؤتمر، ولكن على شرط ألا يُدعى عرفات. وقبِل بوش هذا الطلب بسرور؛ فقد كان عرفات هو القائد العربي الوحيد تقريبًا الذي وقف بجانب صدَّام أثناء الحرب.
وبدأت فعاليات مؤتمر السلام، الذي عُقد وسط زخم من الدعاية والتفاخر، في ٣٠ أكتوبر ١٩٩١ في العاصمة الإسبانية. وسعِد الملايين حول العالم لرؤية الزعماء العرب والإسرائيليِّين مجتمعين في القصر الملكي، المقام على طراز روكوكو (الذي أُزيلت منه على وجه السرعة صورةٌ للملك تشارلز الخامس وهو يذبح البربر)، وجالسين إلى نفس المائدة المزخرفة. وقد ابتهج بيكر قائلًا: «مثل جدران أريحا، انهارت الحواجز النفسية لنصف قرنٍ انهيارًا مدويًا.» ولكن هذا التقدُّم الظاهري لم يؤدِّ إلا لطريق مسدود. فقد وجَّه فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري السريع الغضب، جميعَ ملاحظاته للحط من قدْر شامير، وعرض شامير حوافزَ عديمة القيمة من الأراضي المحتلة للممثلين الفلسطينيين. لكن الوفد الأمريكي تمكَّن مع ذلك من التوصل إلى إطار عمل من مستويين لمحادثات سلام ثنائية، ومناقشات متعددة الأطراف حول قضايا، مثل مصادر المياه، والتحكم بالسلاح، وإعادة توطين اللاجئين. ولكن انهارت المحادثات الثنائية بسبب رفض إسرائيل تقديمَ تنازلات عن الأراضي في الضفة الغربية وغزة، وأيضًا بسبب رفض الفلسطينيِّين قبولَ أي شيء أقل من دولة تديرها منظمة التحرير الفلسطينية في المنطقتين. واعترض شامير على إعادة مرتفعات الجولان بالكامل إلى سوريا، ولم يرغب السوريون من جانبهم في عرض سلام حقيقي. وفي غياب أي تقدُّم على المستوى الثنائي، رفض الكثير من الوفود العربية مجردَ التفكير في القضايا التي ستناقشها أطراف متعددة.
لقد هزمت الأسلحة الأمريكية غازيًا شرسًا في الشرق الأوسط وحرَّرت حليفًا يكنُّ لها الولاء. ولكنها أعادت أيضًا الحُكم القَبَلي للكويت، بدلًا من تأسيس حكومة نيابية، ومكَّنت صدَّام من الاحتفاظ بنظامه الدموي القاتل. وعقَدت مؤتمر سلام التفتت إليه أنظار العالم بأسرِه، فقط لتواجه فشلًا في عَقد حتى الاتفاقيات التمهيدية. ومع أن بوش قد تجنَّب معارضةَ ويلسون إرسال قواته إلى الشرق الأوسط، فقد شارك ويلسون خيبةَ أمله في محاولة تغيير المنطقة حسب النمط الديمقراطي الأمريكي. وظل السلام الأمريكي الذي وعد به الرئيس يبدو بعيدَ المنال كما كان في فترةِ ما قبل الحرب، وبدا النظام العالمي الجديد لا فرق بينه وبين القديم. ويقال إن أكبر وأهم تغيير لم يحدُث في الشرق الأوسط ولكن في البيت الأبيض الذي خرجت منه عائلة بوش في يناير ١٩٩٣، ليفسحوا الطريقَ لبيل وهيلاري كلينتون.
صِدام الرؤى والحقيقة
بهذه الكلمات التي لا تحمل أي قدْر من الاحترام، افتتحت شركة إنتاج والت ديزني فيلم كوميديا الرسوم المتحركة علاء الدين (١٩٩٢)، وهي قصة أخرى مستقاة من ألف ليلة وليلة. لقد كان الاستخفاف بالقسوة المفترَضة لثقافات الشرق الأوسط مقبولًا في يومٍ ما، بل إنه جدير بالثناء في الولايات المتحدة، ولكنَّ نشْر كتاب «الاستشراق» وبداية التصحيح السياسي جعلا مثل هذا الذمَّ غير لائق. وغضبًا مما اعتبرته مجموعات الأمريكيِّين العرب آخرَ محاولة لهوليوود للاستخفاف بميراثهم، اعترضت بعنف على تلك الأغنية. وقد أذعنت شركة ديزني هذه المرة. فسرعان ما غيَّر كاتبو كلمات الأغنية المقطعَ المُهين الذي يقول «حيث يقطعون أذنك إذا لم يَرُق لهم وجهك»، إلى «حيث الأرض مسطَّحة وواسعة، والحرارة عالية». ولكن استمرت صناعة السينما في إهانة الأمريكيِّين من ذوي الجذور العربية والإيرانية والتركية عن طريق الاستمرار في نشر صور سلبية عن شعوب الشرق الأوسط. وأصبح الإرهابيُّ العربيُّ الغاضبُ، الذي يحاول تفجير مدينة أمريكية في الفيلم الكوميدي «أكاذيب حقيقية» إنتاج عام ١٩٩٤ الذي قام ببطولته أرنولد شوارزنيجر، صورةً أساسية.
كان الانقسام العميق في تصوير الشرق الأوسط في دُور السينما يزداد أيضًا في المكتبات وقاعات المحاضرات. وشهد مجال دراسات الشرق الأوسط ازدهارًا في الولايات المتحدة في التسعينيات. فقدَّمت أكثرُ من مائة كلية وجامعة دوراتٍ دراسية عن موضوعات متعلقة بالشرق الأوسط، وكانت رابطة دراسات الشرق الأوسط — التي تأسست عام ١٩٦٦م — تفتخر بأن عدد أعضائها أكثرُ من ٢٦٠٠ عضو. وبسبب نشأتهم على نظريات التعدد الثقافي وما بعد عصر الاستعمار، فقد عبَّر كثير من هؤلاء الدارسين عن استهجانهم الشديد لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط، خاصةً مساندتها لإسرائيل وللحكام العرب المستبدِّين. ومارسوا ضغوطًا من أجل اعتراف صريح بمنظمة التحرير الفلسطينية وبقوى المعارضة الديمقراطية في المنطقة، واحتفَوا في بعض الحالات بالقادة المعارضين لأمريكا في دمشق وطهران. ولكن لم تَعُد مثل هذه المشاعر مقتصرة على أقسام دراسات الشرق الأوسط، بل انتشرت في جميع أقسام العلوم الإنسانية، وحتى بعض فروع الدراسات العلمية أيضًا. وقال نعوم تشومسكي، اللغوي الكبير من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا والاشتراكي الليبرالي الشهير الذي وُلد عام ١٩٢٨ لأبوين صهيونيَّين في فيلادلفيا: «لقد ساندت الولايات المتحدة أنظمةَ حكم ظالمة ومستبدة وقاسية، وأعاقت المبادرات الديمقراطية. فالولايات المتحدة تدلي ببيان صريح تقول فيه: الولايات المتحدة ستدير هذه المنطقة من العالم بالقوة، لذلك ابتعدوا عن الطريق.»
وبدا أن نظرية هنتنجتون تتأكد في صباح يوم ٢٦ فبراير ١٩٩٣، عندما دخلت شاحنة مليئة بالمتفجرات إلى مرأب السيارات تحت الأرض التابع لمركز التجارة العالمي في مانهاتن. كان قائد السيارة هو الكويتي رمزي يوسف، ولكن صانع القنبلة كان العراقي عبد الرحمن ياسين. وكان كلاهما ينفِّذ تعليمات شيخ كفيف مصري اسمه عمر عبد الرحمن، كان يتزعم من مسجده ببروكلين جماعةً إسلامية متطرفة تربطها علاقاتٌ بتنظيم القاعدة التابع لأسامة بن لادن. وكان عبد الرحمن يأمُل، بإسقاط برجَي مركز التجارة العالمي التوءمين وهما أطول مبنيَين في نيويورك وأحد أبرز رموز السيادة الأمريكية، في شن حرب مقدسة شاملة ضد الغرب. أشعل رمزي فتيلَ القنبلة التي تزن ١٣١٠ أرطال، وهرب من المرأب سيرًا على قدميه. ونتجت عن الانفجار الذي حدث بعد الظهيرة بقليل فجوةٌ قطرها ٩٠ قدمًا في أربعة أدوار كاملة من الخرسانة، وأدَّى إلى مقتل ستة أشخاص وإصابة أكثر من ألف. وقُبِض على ستة من المتآمرين، وصدرت ضدهم أحكامٌ بالسَّجن مددًا يصل مجموعها إلى ٢٤٠ عامًا.
كان تفجير برجَي مركز التجارة العالمي أولَ هجوم إرهابي كبير على أرض الولايات المتحدة، ومع أن الحكومة الفيدرالية كانت تواجه بوضوح تهديدًا غير مسبوق من الشرق الأوسط، فقد امتنعت عن تعبئة كل قواها العسكرية والاستخباراتية. وقررت إدارة الرئيس كلينتون التي كان عمرها شهرًا واحدًا أن تتعامل مع الإرهاب على أنه جريمةٌ وليس تهديدًا للأمن القومي. وقد تأكَّدت معارضة الرئيس للالتحام مع الإرهابيِّين المسلمين في قتال عسكري في أكتوبر ١٩٩٣، عند مقتل ١٨ جنديًّا أمريكيًّا في محاولة فاشلة للقبض على جنرال الحرب الصومالي محمد فرح عيديد، في حادثةٍ عُرفت باسم «إسقاط الصقر الأسود». وكان مقتل ١٦٨ مدنيًّا بعد ذلك بثمانية عشر شهرًا على يد مفجِّر قنابل ينتمي لجماعات استعلاء البِيض في انفجار المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي قد زاد من إصرار كلينتون على محاربة الإرهاب برجال الشرطة بدلًا من رجال الجيش. وكتب يقول: «كنت سعيدًا بفعالية عمل أجهزة تنفيذ القانون، وقلِقًا بسبب عِظَم مخاطر تعرُّض مجتمعنا للإرهاب.»
ومع أن كلينتون كان حاصلًا على منحة رودس للالتحاق بجامعة أكسفورد، وأستاذًا في القانون، وحاكمًا لولاية أركنساس، فإنه لم تكن لديه خبرة كبيرة في الشئون الخارجية، وكانت معرفته بالشرق الأوسط سطحية. إلا أنه كان يعرف أن هزيمة بوش في انتخابات عام ١٩٩٢ ترجع جزئيًّا إلى انشغاله بالعراق والوساطة بين العرب وإسرائيل، وفشله في التركيز على القضايا الداخلية. وفي عموم الأمر رحَّب الأمريكيون الذين تمتعوا بفترة من الازدهار الذي بدا لا نهائيًّا، باهتمام الرئيس بالشئون الداخلية. فقد كانوا يشاركون كلينتون قناعته بأنه يمكن هزيمة الإرهاب عن طريق التخلص من الفقر والجهل اللذين ولَّداه، وأيضًا عن طريق عزل الدول المموِّلة له. وبعد أن تخلَّص مواطنو الولايات المتحدة من أعباء محاربة القاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى عسكريًّا، أصبح بإمكانهم أن يستمتعوا بثمار العَقد الأخير المزدهر من القرن.
ولكن بصفة عامة امتنع كلينتون عن اللجوء إلى القوة وسيلةً لحماية مصالح أمريكا في الشرق الأوسط. إذ بدا أنه لا توجد حاجة ماسَّة لذلك. فقد طوى النسيان التحدي السوفييتي، وانتهت الحركات الوطنية. وصحيح أن التفجيرات الإرهابية قد أزهقت أرواحَ كثير من الضحايا في الولايات المتحدة، لكن كلينتون كان يشعر أن التهديد الإسلامي يمكن مواجهته بالحذر وليس بالقوة. كما أنه لم يشعر بوجودِ ما يجبره على التوسط بين العرب والإسرائيليِّين. ومع أنه نشأ معمدانيًّا، وحذَّره قَس في طفولته من أن «الرب لن يغفر لك أبدًا إذا لم تقف بجانب إسرائيل»، فقد كان راضيًا بإقامة علاقات ودية مع الدولة اليهودية دون إضاعة وقته الرئاسي الثمين على عملية سلامٍ لا طائل من ورائها. وكان يمكن لهذا الوضع أن يستمر لولا مكالمة هاتفية من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في التاسع من سبتمبر ١٩٩٣، يبلغه فيها بأن إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية قد توصَّلتا إلى اتفاقٍ سرِّي، بعد عقود من إراقة الدماء على الجانبين.
وفي حين كان على الولايات المتحدة أن تعاود الحديثَ مع المنظمة الفلسطينية، كان ممثلون عن حكومة رابين التي انتُخبت حديثًا يتفاوضون سرًّا مع مساعدي عرفات في العاصمة النرويجية أوسلو. وبعد أن وُضعت الخطوط العريضة للاتفاقية، سعى رابين وعرفات إلى ختمِها بختم رئاسي. وإذا كان كلينتون قد انزعج بسبب حقيقة أن أيًّا من الجهتين لم ترَ أنه من المناسب أن تستشيره بشأن المحادثات، فقد كان مع ذلك سعيدًا لأن يكون الأب الروحي لمعاهدتهم. وتبِع ذلك ترتيبات عاجلة لتوقيع علني في البيت الأبيض بعدها بأربعة أيام فقط، وتقلَّص دور الرئيس إلى مجرد ضمان حضور الرئيسين للحدث، وأن عرفات لن يحاول تقبيلَ وجنتي رئيس الوزراء الإسرائيلي المتحفِّظ. وقضى كلينتون ليلة مؤرقة قبل الاحتفال يقرأ كتاب «يوشع»، وهو تأريخ لغزو اليهود — وهذا متناقض تمامًا مع المناسبة، وفي الصباح ارتدى ربطةَ عنق تزينها أبواق ذهبية لتذكِّره بالأبواق التي نفخ فيها يوشع لإسقاط جدران أريحا. وفكَّر: «الآن ستعلِن الأبواق حلولَ سلام سيعيد أريحا إلى الفلسطينيِّين.» وفي اليوم التالي، في حضور آلاف العرب والإسرائيليِّين والأمريكيِّين المباركين لهذا الاتفاق، أعاد كلينتون بوجه مشرق المصافحةَ الثلاثية التاريخية التي قام بها الرئيس كارتر. وقال للموقِّعين: «سلام» باللغات العبرية والعربية والإنجليزية، وأضاف: «اذهبوا وأنتم صانعو سلام.»
وعلى غرار السادات وبيجين، تلقَّى عرفات ورابين جائزةَ نوبل للسلام، ولكن إعلان المبادئ الذي وقَّعاه بالأحرف الأولى في ذلك اليوم على عشب البيت الأبيض كان أبعدَ ما يكون عن اتفاقيةٍ متكاملة. فعدا الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وعدا شجْب الإرهاب والمحرِّضين عليه، وعدا المَنْح التدريجي للحقوق الوطنية الفلسطينية، لم يحدِّد ما يُطلَق عليه اتفاق أوسلو توقيتًا لإخلاء إسرائيل للضفة الغربية وغزة، أو كيف ستعود تلك المناطق إلى الحكم العربي. وتأجل أي قرار بشأن الوضع النهائي للقدس، التي يدَّعي الطرفان أنها عاصمتهما، وبشأن ملايين اللاجئين الفلسطينيِّين وأبنائهم المشتَّتين حول العالم أجمع، إلى أجلٍ غير مسمًّى. وقد استغل الإسرائيليون ذلك الغموض للتوسُّع في إقامة المستوطنات في تلك المناطق، في حين قام عرفات والسلطة الفلسطينية التي أوجدتها اتفاقية أوسلو بمحاولاتٍ متخبطة لمنع الإرهاب أو تعليم السلام للفلسطينيِّين.
وعندما واجه كلينتون عدمَ قدرة المفاوضين العرب والإسرائيليِّين على الانتقال من المبادئ العامة إلى ترتيبات سلام حقيقية، اضطُر، كما اضطُر كارتر، إلى التوسط بين الجانبين. وحُذف كثير من الأشياء من جدول الرئيس الذي كُرِّس لمحاولة التوصل إلى اتفاقيات مؤقتة بين الطرفين. واستضاف البيت الأبيض عرفات الذي يرتدي زيَّ الحرب عدة مرات، حتى إن نقَّاد كلينتون، الذين تذكَّروا سنواتِ تطرُّفه عندما كان طالبًا، اتهموه بأنه يحاول أن يعيش مجددًا أوهامَ الستينيات لقادة حرب العصابات في العالم الثالث. ولكن في الحقيقة لم يحدُث قط أيُّ تقارب بين الرئيس وعرفات. في حين نشأت علاقة وطيدة بينه وبين الملك حسين، ملك الأردن، وزوجته الأمريكية الفاتنة الملكة نور التي تلقَّت تعليمها في جامعة برنستون. أما عاطفة كلينتون العميقة الحقيقية فكانت باتجاه رابين، المحارب الهادئ والسياسي الجسور، الذي كان كلينتون يَعُدُّه الأب الذي لم يحظَ به. وتذكَّره كلينتون: «أصبحنا أصدقاء بذلك الأسلوب الفريد الذي يصبح به الناس أصدقاء عندما يكونون في صراعٍ يعتقدون أنه عظيم ورفيع. وفي كل مقابلة كان احترامي له واهتمامي به يزيدان.» وبحضور الملك حسين ورئيس الوزراء رابين وآلاف الضيوف إلى جانب الإعلام الدولي في صحراء يهودا في أكتوبر ١٩٩٤، ترأس كلينتون توقيعَ اتفاق سلام أردني إسرائيلي. وكانت مجموعات البالونات الزرقاء والبيضاء والخضراء التي أُطلقت فوق سماء الاحتفال تؤذن ببدء مساعٍ أخرى للسلام، عندما بدأ كلينتون يستكشف إمكانيةَ مبادلة مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل مقابل تصالح سوريا مع إسرائيل.
وخلفَ رابين في رئاسة الوزراء شيمون بيريز، الذي تولَّى منصب وزير خارجية إسرائيل وقتًا طويلًا، وكان المهندس الرئيسي لاتفاق أوسلو، وحاول استعادةَ زخم عملية السلام. ولكن استمرار التفجيرات قوَّض مجهوداته، وأدَّى إلى هزيمته في انتخابات عام ١٩٩٦ أمام بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود الذي درس بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. وتطلَّب المزيجُ بين الحكومة اليمينية في إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي تموج بالفساد والانقسامات بين الفصائل بالضرورة، المزيدَ من الجهود من جانب كلينتون. ونتج عنها اتفاقٌ مؤقت آخر تفاوضوا عليه في مزرعة واي بميريلاند، في أكتوبر ١٩٩٨، تنازلت بمقتضاه إسرائيل عن مناطقَ أخرى وتلقَّت مزيدًا من الوعود الفلسطينية بالسلام. ولكن في ذلك الوقت كانت الجهود من أجل تحقيق اتفاقيات سلام فلسطينية إسرائيلية قد بدأت تتنحى جانبًا مفسحةً المجال للحاجة إلى الدفاع عن الأمريكيِّين ضد هجوم آخر من إرهاب الشرق الأوسط.
بدأت الموجة الأخيرة من الهجمات في العاشرة من مساء ٢٥ يونيو ١٩٩٦، عندما فجَّرت شاحنة وقود تحمل ٥٠٠٠ رطل من الديناميت أبراجَ الخُبر، وهو مبنًى يُستخدم لإيواء الجنود الأمريكيِّين في مدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية. وأسفر الحادث الذي أُلقيت مسئوليته على حزب ﷲ وتنظيم القاعدة عن ١٩ قتيلًا أمريكيًّا و٣٧٢ مصابًا. وبعدها بعامين، في السابع من أغسطس ١٩٩٨، قَتل تنظيم القاعدة ٢٤٤ شخصًا وأصاب أكثر من ٤٠٠٠ في تفجيراتٍ متزامنة لسفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا. وأصبحت مشاهدُ رجال الإنقاذ المنهكين وهم يبحثون عن الجثث في الأنقاض، التي شوهدت أولَ مرة في بيروت في الثمانينيات، ومشاهدُ صفوف التوابيت الملفوفة بالأعلام وهي تُنقَل إلى طائرات الشحن الأمريكية، مشهدًا معتادًا ومتكررًا. وأعلن بن لادن وهو مبتهج ميلادَ تنظيم جديد يحمل اسم الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيِّين، وأعلن حربًا مفتوحة على الولايات المتحدة. وأصدر أمرًا أن «كل مسلم … في أي بلد» واجب عليه «قتل ومحاربة الأمريكيِّين وحلفائهم، سواء من المدنيِّين أو العسكريِّين.»
وكانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية مقتنعة بأن تنظيم القاعدة سيشن هجومًا كبيرًا داخل الولايات المتحدة، ولكنَّ ردَّ فعل كلينتون ظلَّ في نطاق الحد الأدنى. وكان الرئيس، وهو ملزم بحظر على الاغتيالات السياسية أصدرته إدارة الرئيس فورد، يفضِّل إلقاء القبض على بن لادن وليس قتله، أو تشجيع عملاء مصريِّين أو أفغان على تصفيته. وفي تلك الأثناء كانت القوات الأمريكية مشغولةً بالفعل في كوسوفو، تحمي الألبان من الصرب، وتقصف بلجراد، واعتقد كلينتون أن الشعب لن يساند أيَّ عملية كبيرة في الشرق الأوسط. وكان الرئيس يتعرض بالفعل للهجوم من الكونجرس بسبب محاولته إخفاءَ عبثه مع متدرِّبة بالبيت الأبيض. وبسبب القيود القانونية والسياسية عليه، أصدر كلينتون أوامره بضربة انتقامية محدودة على تفجير السفارتين بإطلاق صواريخ كروز ضد معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان ومصنع أدوية سوداني يُشتبه في أنه يصنِّع أسلحة كيماوية. وأكَّد أن معركة أمريكا تستهدف «المتطرفين والقتلة»، وليس الإسلام، وأنها ستكون «صراعًا طويلًا ممتدًّا». ولكن حتى هذا الرد المحدود شجبه نقَّاد كلينتون باعتباره محاولةً لإبعاد الضوء عن التهم الموجَّهة إليه، وفسَّره الإرهابيون على أنه علامة على الضَّعف. ونجا بن لادن دون أن يصاب بأذًى من ذلك الهجوم، ومع أن الصواريخ دمَّرت المصنع السوداني، فإنه لم يُعثر على أي أثر لموادَّ سامَّة بين أنقاضه.
وبنهاية سنواته الثماني في المنصب، كان كلينتون قد أصبح خبيرًا محنكًا بصورة استثنائية في شئون الشرق الأوسط، وأصيب بجُرح غائر لا يُمحى منه. وقد امتنع كلما كان ذلك ممكنًا عن استعراض القوة العسكرية الأمريكية ضد المتطرفين الإسلاميِّين، لكنه اكتشف أن المتطرفين كانوا عاقدين العزمَ على نقل معركتهم إلى الولايات المتحدة. وقد جاهد، تأييدًا لأسمى المبادئ الأمريكية، لتحقيق السلام بين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين، فقط ليصاب بالإحباط مرةً تلو الأخرى. وكان التحالف بين الولايات المتحدة والأنظمة العربية أقوى مما كان من قبل، خاصة في منطقة الخليج العربي، في حين كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد في الشرق الأوسط. وكانت رؤية كلينتون الأصلية في اتحاد الشعب الأمريكي مع شعوب المنطقة بحثًا عن حلولٍ غير عنيفة لخلافاتهم، وسعيًا وراء الإنماء العادل أيضًا، قد تحطَّمت تمامًا بنهاية عام ١٩٩٩، ضحيةً لخلافات عنيدة وحسابات اقتصادية باردة. واختُتمت تجربة كلينتون في الشرق الأوسط، كما ينبغي، بمزيدٍ من الإحباط والألم، وفشل الإيمان والقوة.
وفي محاولةٍ أخيرة يائسة لإنقاذ اتفاق أوسلو، وافق كلينتون على طلبٍ لرئيس وزراء إسرائيل الجديد إيهود باراك، القائد العسكري السابق الذي يميل إلى اليسار، بإجراء محادثات لعَقد اتفاقية سلام نهائية مع عرفات. ودعا كلينتون الزعيمَين إلى كامب ديفيد في شهر يوليو عام ٢٠٠٠، أي قبل ستة أشهر فقط من نهاية فترة رئاسته، وقضى كلينتون نحو أسبوعين في صراع لتضييق الفجوة بينهما. وحسب أقوال المشاركين الأمريكيِّين والإسرائيليِّين، قُدِّم عرضٌ للفلسطينيِّين بإقامة دولة مستقلة في ٩٠٪ (زادت فيما بعدُ إلى ٩٥٪) من مساحة الضفة الغربية وكامل غزة وفي النصف الشرقي من مدينة القدس. وكانت إسرائيل بموجب الاتفاق ستتنازل أيضًا عن جزء صغير من صحراء النقب لغزة. وكان سيجري جمْع المستوطنات الإسرائيلية في كتلٍ متاخمة لحدود ١٩٦٧، ويحصل اللاجئون الفلسطينيون على تعويضاتٍ مالية مناسبة. ولكن عرفات أكَّد أن كلينتون وباراك لم يعرضا عليه سوى مناطقَ غير متجاورة، وكأنها مناطق للعزل العنصري، في الضفة الغربية، ورفضا منْحَه السيادةَ على الحرم الشريف في القدس، أو جبل الهيكل كما يُطلِق عليه اليهود، ومعه الحائط الغربي. وفشلت اقتراحات كلينتون لسد فجوة الخلاف أيضًا في منْحِ اللاجئين حقَّ عودة كاملة إلى إسرائيل. وغادر عرفات كامب ديفيد، ولم يتوقف إلا لتوجيه الشكر لكلينتون على عظَمته. فتنهَّد كلينتون وردَّ عليه قائلًا: «أنا لست عظيمًا. بل أنا فاشل، وأنتم مَن جعلتموني فاشلًا.»
وفي سبتمبر من ذلك العام، بعد زيارة قام بها أرييل شارون، الذي أصبح زعيم المعارضة الإسرائيلية، لجبل الهيكل اتَّهم الفلسطينيون الإسرائيليِّين بمحاولة تدمير المسجد الأقصى في الحرم الشريف وبدءوا انتفاضتهم الثانية. ولكن على عكس الانتفاضة الأولى، التي كانت غير عنيفة إلى حدٍّ بعيد، كانت هذه الثورة مليئة بالتفجيرات الانتحارية والكمائن التي سرعان ما حصدت حياةَ مئات الإسرائيليِّين. وردَّ الإسرائيليون بقوة وعنف بتدمير مباني السلطة الفلسطينية وعزل مدن الضفة الغربية واغتيال الزعماء العسكريين. ومحَت حمَّامات الدم هذه أيَّ رؤية مشرِقة لسلام عربي إسرائيلي، وأنذرت بأعمال العنف التي سرعان ما غطَّت المنطقة بأكملها. وكرَّس كلينتون الأسابيع الأخيرة له في الرئاسة في جهودٍ خطيرة لوقف إطلاق النار والبدء في المحادثات من جديد. وركضت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، تتأرجح على حذائها ذي الكعب العالي وراء الرئيس عرفات وهو يخرج مندفعًا من السفارة الأمريكية بباريس حيث كانت تجري محادثات الهدنة. وصاحت في الحراس من مشاة البحرية: «أغلقوا الأبواب»، وكأن إغلاقَ المدخل لن يوقف عرفات فقط، بل سيوقف أيَّ تدهور للأوضاع في الشرق الأوسط. وصاحت مرةً أخرى «أغلقوا الأبواب»، ولكن بلا جدوى.
نارٌ هوجاء
أطلَّ القرن الحادي والعشرون على أمريكا وهي متحمِّسة بآمالها للمستقبل، ولكنها ممزقة بعمق أيضًا جراء عدد من الموضوعات المعاصرة المطروحة للنقاش؛ رأسمالية السوق الحرة مقابل دولة الرفاهية، والطلب على الطاقة مقابل الرغبة في الحفاظ على البيئة، والعلاقة بين الحكومة والكنيسة. وظهرت الخلافات أيضًا حول انخراط أمريكا في الشرق الأوسط، وحول تحالفها مع إسرائيل، وحول العلاقات بين شركات الأعمال الكبرى والنفط العربي. وعلى العكس من ذلك، لم تَدُر إلا مناقشات قليلة حول التهديدات والمخاطر التي يمثلها التطرف الإسلامي، والسُّبل التي يمكن للولايات المتحدة الدفاع بها عن نفسها. وبدا أن الأمريكيِّين منشغلون بتأثير الألفية على الحواسيب، متمثلة في مشكلة عام ٢٠٠٠، أكثر من فكرة وقوع هجوم إرهابي على وطنهم. في الماضي، في عام ١٧٨٩، كان الخوف من هجوم قراصنة الشرق الأوسط على شواطئ الأمة الجديدة قد حفز الأمريكيِّين على الإقرار بالدستور والاتحاد معًا. ولكن عام ٢٠٠٠، لم يهتمَّ مواطنو الولايات المتحدة بتهديد هجوم إرهابي داخل الولايات المتحدة؛ لأنهم كانوا منشغلين بمناقشة قضايا أساسية.
ولكن كان موضوع الإرهاب ضد أمريكا على رأس قائمة أولويات وتفكير أسامة بن لادن. وكان قد أصدر أوامره بالفعل بتنفيذ عملية يجري فيها إيقاظ الخلايا النائمة لتنظيم القاعدة، واختطاف طائرات أمريكية، ثم الاصطدام بها بمبانٍ تجارية وحكومية كبرى في أمريكا. فبتمويل وافر من الجمعيات الخيرية في المملكة العربية السعودية وفي الخليج العربي، نجح على الأقل تسعة عشر إرهابيًّا في التسلل إلى مدنٍ أمريكية، وانتحال هويات جديدة، والالتحاق، في العديد من الحالات، ببرامج تدريب على الطيران.
وكانت وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من أجهزة الاستخبارات قد تلقَّت العديد من التحذيرات بشأن أنشطة تنظيم القاعدة. ويتذكَّر تينيت قائلًا: «كان النظام يصدر إشارات حمراء.» ولكن يبدو أن المسئولين الأمريكيِّين كانوا يغطُّون في سُبات عميق. فقد جاء جورج دبليو بوش الابن إلى الرئاسة، معلنًا نيَّته محاربةَ الإرهاب بشدة، ولكنه في الحقيقة لم يتخذ سوى بضع خطوات لتقوية دفاعات الدولة. ولم ينجح البيت الأبيض في إقناع اليمن بالتعاون في مطاردة مهاجمي المدمِّرة كول، وكان كارهًا للضغط على السعودية لاتخاذ إجراءات صارمة بشأن الجمعيات الخيرية المموِّلة للإرهاب. وحتى بعد إلقاء القبض على المواطن الفرنسي من أصلٍ مغربي زكريا موسوي في مدرسة مينسوتا للطيران في أغسطس ٢٠٠١، والعثور معه على كتيباتٍ خاصة بطائرات من طراز ٧٤٧، كان ردُّ فعل الإدارة الأمريكية بطيئًا. فرفع بوش درجةَ التأهب إلى الدرجة القصوى في السفارات الأمريكية، ووافق على خطة لإطلاق صواريخ محمولة بطائرات مسيَّرة على بن لادن في أفغانستان، لكنه امتنع عن تحسين الأمن الداخلي. وقرَّرت لجنة حكومية فيما بعدُ أن «أهم فشل واجهناه كان في تصوراتنا. فلا نعتقد أن القادة قد فهموا مدى خطورة التهديد.»
وكان يجب على الشعب الأمريكي أيضًا أن ينتبه إلى هذا الخطر. فالهجمات الإرهابية، التي كان آخرها على المدمِّرة كول، وقبل ذلك حوادث اختطاف الطائرات والاغتيالات في بداية السبعينيات، أصبحت حقيقةً في الحياة الأمريكية. وقد انعكست هذه الحقيقة في الثقافة العامة في أفلام مثل «الحصار» (١٩٩٨)، الذي تتعرَّض فيه نيويورك للدمار على يد مفجِّرو قنابل إسلاميون، وتخضع للأحكام العرفية، وأيضًا فيلم «ثلاثة ملوك» (١٩٩٩) الذي ظهر فيه جنودٌ أمريكيون أبرياء يتعرضون للتعذيب بسادية في العراق. وانتشرت صورٌ توحي بالخطر عن الشرق الأوسط، مثل تلك التي رسمها لويس وهنتنجتون. ومع ذلك، وبسبب ثقتهم بجيشهم، فقد كان الأمريكيون لا يزالون يواجهون صعوبةً في فهم كيف يمكن لمجموعة من الرجال غير المدرَّبين من مصر والسعودية ولبنان اختراق بلادهم ومهاجمة عاصمتهم وأهمَّ مدنهم. وكان البعض الآخر، تحت تأثير نظريات إدوارد سعيد وتشومسكي، يؤمنون بأن العرب والإيرانيِّين يجب أن يخشَوا الأمريكيِّين أكثرَ مما يجب على الأمريكيِّين أن يخشوهم. وكان آخرون لا يزالون يعيشون في عالَم الخيالات. فقد انبهر ملايين الأمريكيِّين عام ٢٠٠٠ بفيلم «الليالي العربية» المنتَج للعرض على التليفزيون والفائز بجائزة إيمي، واكتملت ملامح الفيلم بظهور شهرزاد التي تقصُّ الحكايات، والشخصية المثيرة علي بابا، والسندباد البحري. وربما تساءل كثيرون ممن شاهدو الفيلم عن الأسباب التي حدَت بسكان أرضٍ غامضة كهذه أن يطيروا بطائرات بدلًا من البساط السحري ويهاجموا الولايات المتحدة، وهي الدولة التي لم تسبِّب لهم أيَّ ضرر قط.
ولكن هذه الخرافات حول الشرق الأوسط ماتت فجأةً في الساعة الثامنة وستٍّ وأربعين دقيقة من صباح ١١ سبتمبر ٢٠٠١؛ ففي تلك اللحظة اصطدمت بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي طائرةٌ تابعة لشركة طيران أمريكان أيرلاينز كانت متجهة إلى لوس أنجلوس يقودها إرهابيون من تنظيم القاعدة، وعلى متنها ٩٢ راكبًا و١٠٠٠٠ جالون من الوقود. ولن ينمحي من الذاكرة الأمريكية أبدًا مشهدُ ألسنة اللَّهب وهي تخرج من جانبي المبنى، وأطنان الأنقاض والأشياء والبشر يسقطون على الشوارع بالأسفل. وكذلك لن ينمحي الرعبُ الذي انتشر عندما ضربت طائرة يونايتد إيرلاينز رقم ١٧٥ البرجَ الجنوبي بعد سبع عشرة دقيقة. قال براين سويني، أحد الركَّاب على متن الطائرة في رسالةٍ لزوجته قبل الاصطدام بلحظات: «تمتَّعي بحياتك وعيشيها بأفضل وجه. واعلمي أني أحبك، وأنه مهما حدث سوف أراكِ مرة أخرى.» وفي أقل من نصف ساعة اصطدمت طائرة مدنية ثالثة بالجناح الغربي للبنتاجون في واشنطن، في حين سقطت طائرة رابعة، يبدو أنها كانت تستهدف البيت الأبيض أو الكونجرس، في حقل ببنسلفانيا بفضل شجاعة ركَّابها. وفي الساعة العاشرة والنصف كان البرجان التوءمان قد انهارا، والمباني من حولهما تهتز. وغلَّفت سحابة من الدخان الأبيض الكثيف الجزء الجنوبي من مانهاتن، وهو نفس المكان الذي غادرت منه السفينة يو إس إس إسيكس قبل مائتي عام لتخوض أولى حروب أمريكا في الشرق الأوسط.
قُتل نحو ٣٠٠٠ أمريكي في الهجمات، وهي أكبر مذبحة للمدنيِّين في تاريخ أمريكا. وكان رد الفعل الأول هو الصدمة. وغلَّف الغموض هويةَ مرتكبي الحادث وهدفهم وأسلوب عملهم. وتساءل الناس بجنونٍ هل لا تزال هناك خلايا إرهابيةً أخرى موجودة، وإذا كان الأمر كذلك، فما أهدافهم التالية؟ وفي محاكاةٍ لما حدَث في فيلم الحصار، أوقفت قوات الأمن جميعَ رحلات الطيران، وأغلقت الجسور والأنفاق، واعتقلت مئات الأمريكيِّين المسلمين والعرب. ووُضِعَت الأنصابُ التذكارية القومية تحت حراسة مشدَّدة، ومن بينها السفينة «يو إس إس كونستيتيوشن» الرابضة في خليج بوسطن، التي خشيت السلطات أن تُستهدف بسبب دورها في الانتصار على البربر.
ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة في حالة حرب. وكانت الأسئلة العاجلة هي: مع مَن، وأين، وكيف يمكن للأمريكيِّين ردُّ الضربة؟ وكان الرئيس هو الوحيد القادر على تقديم إجابات، وهو رجل مرتبط بالشرق الأوسط بقوة وبصور متنوِّعة، ويَدين له كثيرون بالولاء وكذلك يعارضه كثيرون بشدة. فقد كان الرئيس، الذي فاز في الانتخابات بعد منافسة انتخابية طاحنة، يحترمه بعضُ الأمريكيِّين بسبب دفاعه عن قيم العائلة وسياساته الاقتصادية والاجتماعية المحافظة، في حين كان آخرون يكرهونه بسبب سذاجته وعدم حساسيته لقضايا البيئة والرفاهية، وورعه الساذج. ومع ذلك، فقد التفَّ الأمريكيون، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، حول جورج بوش الابن وتطلَّعوا إليه لقيادتهم. واستجاب لهم الرئيس على الفور, وبذلك حدَّد بوش، أكثرَ من أي رئيس آخر في فترةِ ما بعد الحرب، النَّهج الذي ستسير عليه علاقةُ أمريكا بالشرق الأوسط التي لم تَسِر على خط مستقيم.
لقد كان جورج بوش يمثل مجموع خبرات أمريكا المتنوعة في المنطقة؛ فقد كان دبلوماسيًّا محاربًا مثل جورج بيثون إنجليش، وإنجيليًّا محاربًا مثل ويليام فرنسيس لينش؛ أي مزيجًا من هذين. وعلى نفس نهج جيفرسون وتيودور روزفلت، لم يشعر بوش بالكثير من تأنيب الضمير بشأن استخدام القوة ضد أعداء أمريكا في المنطقة، أو بشأن الإطاحة بأنظمة الحكم العدائية. وأقسم بوش بعد ١١ سبتمبر بأن «الولايات المتحدة ستطارد وتعاقب أولئك المسئولين عن هذه الأعمال الجديرة بالازدراء» وتعهَّد بألا «يفرِّق بين الإرهابيِّين الذين ارتكبوا تلك الجرائمَ وأولئك الذين يؤوونهم.» ولكن على غرار فرانكلين ابن عم تيدي روزفلت، كان بوش يقدِّر للغاية قيمةَ النفط ورافضًا لإبعاد مورِّديه، خاصةً في المملكة العربية السعودية. وكان بوش يشارك أندرو جاكسون قلقه على علاقات أمريكا التجارية مع الشرق الأوسط، وحافظ على علاقة والده بالشركات الأمريكية التي تعمل هناك. ولكن على عكس جورج بوش الأب، البروتستانتي المتزمت، كان الابن أكثرَ انجذابًا نحو الكنائس الإنجيلية، أكثرِ الكنائس شعبيةً ونفوذًا على الصعيد السياسي. وقد جعله ذلك الوريث الروحي للأستاذ الجامعي جورج بوش، الذي دعا في أربعينيات القرن التاسع عشر إلى تكوين دولة يهودية وليس مجرد أنه من نسل عائلته، وكذا وريثًا لرجال الدين الاستعماريِّين الذين حذَّروا من مخاطر الإسلام العدواني. ولم يكن وصف بوش للصراع ضد الإرهاب الإسلامي بأنه «حملة صليبية لتخليص العالم من الأشرار» غير متعمَّد. فإلى جانب هذه الحماسة الدينية، كان الرئيس يملك أيضًا الحماسة العلمانية للمحافظين الجدد، الذين كان كثير منهم من الليبراليِّين السابقين الذين نفروا من نبذ اليسار لإسرائيل وتهاونه مع جرائم الشيوعية، والذين كانوا يدعون إلى تطهير الشرق الأوسط بالديمقراطية. كان هذا المزيج بين المهام المقدسة والمدنية في ذهن بوش قد وضعه بإحكام على مسار ويلسون. ولكن الإيمان نفسه الذي منع ويلسون من الدخول في علاقات عدائية في الشرق الأوسط حفز بوش على اتخاذ قرار الحرب.
اختير المكان الذي ستوجِّه إليه أمريكا ضربتها الانتقامية في كامب ديفيد في ١٥ سبتمبر. فقد دعا نائب وزير الدفاع بول وولفيتز، أحدُ المحافظين الجدد الذي يتمتع بصيت ذائع، إلى الانتقام من العراق، الذي كان يؤمن وقتها بأنه قَطعًا مرتبط بتنظيم القاعدة. ولكن كولين باول، الذي كان قد أصبح وزيرًا للخارجية، انضم إلى نائب الرئيس ديك تشيني ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس في التوصية بالحرب ضد أفغانستان، حيث كانت طالبان لا تزال تؤوي أسامة بن لادن. واتفق بوش مع باول، وبدأ في الإعداد لتكرار التحالف المتعدد الجنسيات الذي جمعه والده قبل ذلك بعشر سنوات. وأصبح تخليص أفغانستان من الطغيان والإرهاب حملةً عالمية، وليست أمريكية.
بدأت الهجمات الجوية ضد مواقع طالبان في أفغانستان بعد أقلَّ من شهر من هجمات ١١ سبتمبر. وقدَّمت الطائرات الأمريكية المقاتلة التي كانت تحلِّق على مستوًى منخفض دعمًا للقوى المحلية المعادية لطالبان المسمَّاة بالتحالف الشمالي، وهي تتقدم نحو المدن الرئيسية كابول وجلال آباد وقندهار. وبنهاية شهر نوفمبر كان جنود مشاة البحرية الأمريكية يشتركون في القتال في أفغانستان أيضًا، مما أدَّى إلى تقليل عدد جيوب المقاومة لطالبان، ويطاردون بن لادن على طول الحدود الباكستانية الجبلية. وتمكَّن بوش من إقناع ١٨ دولة، من بينها بريطانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، بالمساهمة بقوات في الحملة وبالمشاركة في إعادة تعمير أفغانستان بعد الحرب. ومع أن بن لادن تمكَّن في النهاية من الهرب، واستمرت طالبان في القتال من وراء حصون لا يمكن الوصول إليها، فقد اعتبرت عملية «الحرية الدائمة» ناجحة. وبعد أن اكتملت المراحل العسكرية للحرب، كان بإمكان الولايات المتحدة التركيز مرة أخرى على قضايا الإيمان. فساعد الأمريكيون في وضع دستور أفغاني، وفي إجراء انتخابات ترشحت فيها المرأة الأفغانية للبرلمان لأول مرة في تاريخ أفغانستان.
وكان يمكن أن يكون تحرير أفغانستان كافيًا للانتقام لأحداث ١١ سبتمبر، ولكن بوش كان مقتنعًا بأن أمريكا متورطة في حرب طويلة المدى على الإرهاب، استعادت فيها الولايات المتحدة بدرجة ضئيلة زمامَ المبادرة فقط، ولكن لا يزال عليها الاحتفاظ به. فقد رأى بوش أن سياسات الردع والاحتواء التي استُخدمَت أولًا ضد السوفييت في الشرق الأوسط، وفيما بعدُ ضد إيران والعراق، لم تَعُد كافية لمواجهة الخلايا الإرهابية التي تعمل داخل الولايات المتحدة، التي من المحتمل أنها تلوِّح باستعمال أسلحة الدمار الشامل. وباتباع نهج ترومان وأيزنهاور وكارتر، الذين تبنَّى كلٌّ منهم أساليبَ جديدة لمواجهة التهديدات الأمنية القادمة من المنطقة، ابتكر بوش مبدأ جديدًا. فالولايات المتحدة لن تنتظر وترد على الهجمات الإرهابية، لكنها ستحارب أيَّ منظمة أو دولة تشترك في أعمال الإرهاب أو تروِّج لها. لقد أصبح أسلوب الضربات الوقائية الذي عارضه كلٌّ من نيكسون وجونسون عندما انتهجته إسرائيل، سياسةَ أمريكا. وستكرِّس الولايات المتحدة طاقتها لترسيخ الديمقراطية في الشرق الأوسط باعتبارها مبدأ وأفضل وسيلة للتخلُّص من الكراهية والتخلُّف اللذين يزدهر الإرهاب في ظلِّهما. وقد قال بوش لطلابٍ عسكريِّين في حفل تخرُّج بكلية ويست بوينت في يونيو ٢٠٠٢: «أمريكا ليست لديها إمبراطورية تريد أن تتوسَّع فيها أو مدينة فاضلة لتؤسسها. إننا فقط نتمنى للآخرين ما نتمناه لأنفسنا؛ الأمان من العنف، وثمار الحرية، والأمل في حياة أفضل.» ومرة أخرى، كان الأمريكيون سيجاهدون لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على صورتهم، بدءًا بالعراق الذي يحكمه حزب البعث.
ومع أن الأدلة على وجود رابطة بين صدَّام وبن لادن كانت ضعيفة، فقد قرَّر بوش أن يجعل العراق حالةَ اختبار لمذهبه الجديد. ولم يكن بوش يفتقر إلى مبرِّرات للحرب. فصدَّام حاول اغتيال والده عام ١٩٩٣، وكان ينتهك بانتظام مناطقَ حظر الطيران. ولكن المبرر الأقوى لبوش كان محاولات العراق المستمرة لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، وإخفائها عن مفتشي الأمم المتحدة. ومثل هذه التصرفات تشير إلى احتقار لقوة أمريكا يشبه ذلك الذي تبديه القاعدة لها، وتضع العراق جنبًا إلى جنب مع إيران وكوريا الشمالية في «محور الشر». وبدأ بوش الاستعداد للحرب، بعد أن وصف صدَّام بأنه «خطر جسيم يزداد قوة» على السلام العالمي.
وعلى عكس حرب الخليج الأولى، التي عارضها كثيرٌ من الأمريكيِّين ووافق عليها الكونجرس بفارق ضئيل للغاية، نالت الحرب الثانية ضد العراق دعمًا محليًّا واسع النطاق، ولكن في حين انضم المجتمع العالمي للولايات المتحدة في هزيمة صدَّام عام ١٩٩١، رفض العديد من الدول الانضمامَ إلى آخر «ائتلاف للراغبين في المشاركة» نادى به بوش. ومع أن الكويت والسعودية سمحتا على مضضٍ باستخدام صحرائهما قواعدَ انطلاق للهجوم الأمريكي، فإنه لم تسهم أي دولة عربية بجنود في القوات الغازية، ولم تشارك بفعالية في الإطاحة بصدَّام. وقد تلقَّت مساعي بوش في تكوين تحالف لطمةً أقوى عندما عارضت روسيا وعددٌ من دول غرب أوروبا، على رأسها فرنسا وألمانيا الانضمامَ إليه. فمع أن العديد من الدول الأوروبية قد انضمت إلى أمريكا في تحرير الكويت عام ١٩٩١ وفي أفغانستان بعد ذلك بعشر سنوات، فقد أبدَت الآن تحفظات قوية حول الغزو المقترح للعراق. ورفضت محاولات أمريكا تقييدَ تعاملاتها التجارية مع العراق، عن طريق العقوبات الدولية، وعبَّرت عن استيائها من سياسات بوش الاقتصادية والبيئية الأحادية. وعندما بدأت صورة انهيار برجَي مركز التجارة العالمي تخبو، استأنفت حكومتا فرنسا وألمانيا مساعيهما القديمة لإبعاد نفسيهما عن استراتيجيات أمريكا المضادة للإرهاب في الشرق الأوسط، وللتعامل مع المنطقة على أساس مستقل دون مواجهات.
وقد تعمَّقت الانقسامات بين أوروبا والولايات المتحدة حول قضية الشرق الأوسط أكثرَ بسبب دعم بوش لإسرائيل وآرييل شارون، الذي أصبح رئيسًا للوزراء عام ٢٠٠١. ومع أن الكثيرين توقَّعوا انتقامًا فوريًّا ضد الانتحاريِّين الفلسطينيِّين، فقد انتظر شارون أكثرَ من عام، وهو يعمل على تقوية علاقاته مع بوش، قبل أن يشن هجومًا مضادًّا كبيرًا في الضفة الغربية. في ذلك الهجوم، قتلت القوات الإسرائيلية المئات من أعضاء جماعات حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى، واعتقلت الآلاف. واحتُجِز عرفات في مركز القيادة شبه المُدمَّر في رام ﷲ، حيث ظل حتى وفاته بعدها بعامين. وردَّ بوش على ذلك بالاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وإعاقة قرارات مجلس الأمن الساعية إلى التدخل. وقد أسعدت مواقفه الموالية لإسرائيل غالبيةَ الأمريكيِّين الذين استمروا في تفضيل الدولة اليهودية، ومنهم الإنجيليون، لكنها أغضبت كثيرًا من الأوروبيِّين الغربيِّين. فبدأ أعضاء الاتحاد الأوروبي، الذين كانوا ملتزمين ببقاء السلطة الفلسطينية ومهتمين بالاستياء المتصاعد بين مواطنيهم من المسلمين، يبعدون أنفسهم عن الجبهة الإسرائيلية الأمريكية. فاتخذ بوش بعضَ الخطوات اللازمة للتخفيف من حدة هذا الغضب بأن أصبح أولَ رئيس في التاريخ يساند علانيةً تكوين دولة فلسطينية، وعن طريق عرض العمل مع الاتحاد الأوروبي على رسم «خارطة طريق» لحل هذا الصراع. ولكن ذلك لم يُرضِ الأوروبيِّين. فقد احتشد المتظاهرون في شوارع بروكسل وأنتويرب وباريس، حاملين لافتاتٍ تحمل صور بوش وشارون وتنتقدهما بأنهما «محور الشر» وتشبِّههما بهتلر.
وباقتراب موعد التصويت في مجلس الأمن على حرب العراق في فبراير٢٠٠٣، كان باستطاعة بوش الاعتماد على بريطانيا العظمى فقط لمساندة خطته لغزو العراق. وفي محاولةٍ أخيرة لحشد الدعم الدولي لهذا القرار، أكَّد بوش التهديدَ الذي تمثله أسلحة العراق البيولوجية والكيماوية. وقال وزير الخارجية كولين باول في عرض متعدِّد الوسائط أمام المجلس: «إنَّ تَرْك صدَّام حسين يمتلك أسلحةَ الدمار الشامل بضعة أشهر أو سنواتٍ أخرى ليس خيارًا مطروحًا، ليس في عالَم ما بعد ١١ سبتمبر.» وقدَّم وزير الخارجية شرائطَ لبثٍّ تم اعتراضه، وصورًا بالأقمار الصناعية، من المفترض أنها تثبت بالوثائق وجودَ أسلحة دمار شامل في العراق. وادَّعى باول أن صدَّام قد تعاون مع تنظيم القاعدة، وتآمر للحصول على قنابل نووية.
ومع ذلك ظل مجلس الأمن متشككًا. فلم يكن السؤال ما إذا كان صدَّام يمتلك أسلحة دمار شامل أم لا، فحتى هانز بليكس، كبير مفتشي الأمم المتحدة، كان يؤمن بأنه يمتلكها، ولكن ما إذا كانت المراقبة الدولية والعقوبات تَحُدُّ من هذا التهديد بفعالية أم لا. وقد اتفق غالبية أعضاء مجلس الأمن مع بليكس في أن الإجراءات الحالية تحقق نجاحًا، وأن الحرب ليست ضرورية ولا مطلوبة. ولكن بوش الذي شعر بالحيرة قرَّر المضي قُدمًا في خطته، بصرف النظر عن موقف الأمم المتحدة، وفي ١٨ مارس أصدر إنذارًا يمنح صدَّام مهلة ٤٨ ساعة لمغادرة البلاد وإلا سيواجه غزوًا شاملًا لبلاده.
وبعدها بيومين كان ربع مليون جندي، أكثر من ٩٠٪ منهم من الأمريكيِّين، يجتاحون العراق. ونظرًا لأن تركيا منعتهم من دخول شمال العراق عبْر أراضيها، بدأت تلك القوات هجومها من الكويت، في أقصى الجنوب الشرقي. وحطَّم جنود مشاة البحرية الرقم القياسي الذي سجَّله إيتون ورجاله في الصحراء الغربية وقطعوا مسافةً تتجاوز الخمسمائة ميل في بيئة وحشية يصعُب اجتيازها لملاقاة العدوِّ. وقد اشتبكوا مع العدوِّ بلا رحمة وسحقوا قوات صدَّام المدرَّعة وأفضل فِرقه العسكرية على ما يبدو. واستولت كتيبة خاصة من مشاة البحرية، أُطلِق عليها اسم «قوة طرابلس» إحياءً لذكرى حروب البربر، على مدينة تكريت، مسقط رأس صدَّام. وفي تلك الأثناء كانت طائرات الائتلاف الحربية وصواريخ جوالة تكرِّر قصف عام ١٩٩١ المكثَّف على بغداد ومواقع استراتيجية أخرى، في هجوم مكثَّف اسمه الكودي «الصدمة والرعب». ولمعت شاشات التليفزيون حول العالم مرةً أخرى باللون المائل للخضرة المميز للأسلحة العراقية المضادة للطائرات وهي تنير السماء في الليل بلا جدوى. ولكن الصور المرعبة لمصافي النفط المشتعلة والمياه الملوَّثة باللون الأسود لم تتكرَّر، بسبب الوحدات الأمريكية والبريطانية السريعة التحرك التي استولت على حقول النفط ومعامل التكرير العراقية. وقد أمَّنت فرقٌ أخرى الجسور والمطارات الاستراتيجية، مما سهَّل تقدم القوات البرية.
تحقَّق النصر سريعًا، وإن لم يكن بنفس السهولة وعدم المقاومة التي شهدتهما حرب الخليج الأولى. فكانت العواصف الرملية العنيفة تضرب صفوفَ قوات التحالف والقناصة العراقيِّين يصطادونهم وهم يتقدمون ببطء في مدن النجف والكوفة والناصرية. ولكن لا الرمال ولا سيل الرصاصات وقذائف الأر بي جي كانت لتبطئ الهجوم الشرس. وفي حين استمر وزير الإعلام العراقي المثير للضحك محمد سعيد الصحاف، الذي تعرِّفه الصحافة باسم «بوب بغداد»، في الإصرار على أن الأمريكيِّين كانوا «حياتٍ تسعى في الصحراء» وأنه «لا وجود للكافرين في المدينة»، كان الغزاة يلتقون في العاصمة. وفي التاسع من أبريل التفَّ العراقيون حول العرِّيف البحري إدوارد تشين، وهو يلف سلكًا من الصلب حول تمثال صدَّام حسين الذي لفَّه بالعلم أمريكي. لقد احتفل الأمريكيون في نهاية القرن التاسع عشر بتفوقهم بأن نصبوا مسلةً فرعونية في سنترال بارك، وأعلنوا عن مبادئهم ببناء تمثال ضخم يحمل شعلة مضيئة، كان في الأصل سيقام في مدينة السويس، في جزيرة بيدلو. لكنهم الآن، في بداية القرن الحادي والعشرين، يتباهون بقوَّتهم ويعلنون عن مُثُلهم عن طريق الإطاحة بتمثال صدَّام في العراق. وثبَّت تشين السلك بكلَّاب في دبابته من طراز إم ٨٨، وأسقط تمثال صدَّام من قاعدته، في حين كان العراقيون يزغردون ويرقصون.
وللحظة واحدة متوهجة، بدا وكأن أمريكا قد نجحت في التوفيق بين القضايا المتناقضة في تورطها في الشرق الأوسط. فقد كان الجنود المنتصرون يجوبون الآن المدينة الأسطورية من ألف ليلة وليلة، ويستعدون لتحرير شعبٍ يتوق إلى الحرية. وبعد خيبة الأمل التي تسبَّب فيها مصدق وناصر ومبدأهما بعدم الانحياز، والسادات المستبد، وعرفات حامل السلاح، كانت أمريكا مستعدة لتحقيق حُلمها بقيادة علمانية للشرق الأوسط، ملتزمة بالديمقراطية ونبذ العنف، وموالية للغرب. ولأول مرة أصبحت رؤية سلام أمريكي يشعُّ من العراق وينير المنطقة بأسرِها، تبدو وشيكة. وهبط بوش، من فوق متن طائرة من طراز فايكينج على ظهر السفينة «إبراهام لينكولن» وكأنه منقذ اللحظات الأخيرة الذي يظهر في المسرحيات، في أول مايو، على ظهر السفينة «أبراهام لينكولن» معلنًا نهايةَ عملية الحرية العراقية.
وفي الحقيقة، كانت المعركة الحقيقية قد بدأت لتوها. فما إن حُرِّرت بغداد حتى بدأ اللصوص في نهب وسرقة مبانيها، وانهارت خدماتها الحيوية، كالمياه والكهرباء والرعاية الصحية. ومع أن صدَّام قد اعْتُقِل وقُتل نجلاه سيئا السُّمعة قصي وعدي، تصاعدت المقاومة ضد المحتلين. وانضم آلاف من جنود الجيش العراقي السابق، الذين سُرِّحوا في ظل سياسةٍ غير حكيمة للتخلص من حزب البعث، إلى صفوف المتمردين، في حين كانت القوات الأمريكية تصارع من أجل حفظ النظام في دولةٍ مساحتها ضِعف مساحة أيداهو، وعدد سكانها يصل إلى ٢٦ مليونًا. ويوميًّا وبهجمات أكثر فتكًا، كانت القوات الأمريكية تُقذف بقنابل يدوية الصنع، وتُنصب لها كمائن في الشوارع. واختُطف عدد كبير من المدنيِّين الأمريكيِّين، كثيرٌ منهم من المشاركين في إعادة إعمار العراق، وتم تصويرهم والإسلاميون يحملون الخناجر ويقطعون بها رءوسهم. وساءت العلاقات بين الإدارة الأمريكية والمعارضة العراقية، فحوَّل أحمد الجلبي ولاءه إلى السيد علي حسيني السيستاني، القائد الشيعي في العراق. ورغم البحث المكثَّف في سائر أنحاء البلاد، لم يُعثر على دليل واحد دامغ على وجود أسلحة دمار شامل.
ومع ذلك، فقد نتج عن تدخل أمريكا في العراق عدة نتائج إيجابية، بعضها في غاية الأهمية. ففي تحدٍّ للتهديدات بالقتل من قِبل المتمردين، نجح الشعب العراقي في وضع دستور وإجراء انتخابات حرة. وقام معمر القذافي، الذي طالما كان مصدر إزعاج لرؤساء أمريكيِّين متتالين، من تلقاء نفسه بوقف أبحاث بلاده في مجال الأسلحة النووية وسعى إلى تجديد علاقاته بالولايات المتحدة. وبفضل النموذج العراقي، اجتاحت موجة من الديمقراطية سائرَ أنحاء الشرق الأوسط، في مصر والسعودية، حيث بدأت الجماعات المعارضة في الظهور، وفي لبنان، الذي نجح أخيرًا في التحرر من الاحتلال السوري المباشر. وقال بوش، وهو يثني على هذه الإنجازات: «إننا نؤمن أن الحرية يمكنها أن تطوِّر وتغيِّر حياة الكثيرين في الشرق الأوسط الأكبر. فمتى مُنح الناس خيارًا في هذا الشأن، فإنهم يفضِّلون حياةَ الحرية على حياة الخوف.»
وسرعان ما سحقت الحكومتان المصرية والسعودية هذه الحركات الديمقراطية، كما ظل لبنان تحت السيطرة السورية بصورةٍ غير مباشرة. وحصلت الأحزاب الإسلامية المتطرفة مثل حماس، التي سيطرت على الانتخابات الفلسطينية الديمقراطية عام ٢٠٠٦، على شعبية جارفة في سائر المنطقة على حساب الحركات العلمانية المحدثة. وتخلَّت ليبيا عن برنامجها النووي، ولكن إيران بادرت ببرنامج نووي أكبر وأقوى في دفاعاته وأكثر تهديدًا للمنطقة. وكان العراقيون قد اتحدوا تحت دستور وطني وقيادة واحدة، ولكن سرعان ما وقعت البلاد ضحيةً لصراعات دموية طائفية بين الشيعة والسُّنة، ثم بين الشيعة والسُّنة والأكراد. وفجأة، بالإضافة إلى نشر الديمقراطية، وجدت الولايات المتحدة نفسها متورطة في مهمة أصعبَ بكثير، هي إقامة دولة في الشرق الأوسط. فالقوات الأمريكية التي جاءت للإطاحة بديكتاتور كانت الآن تجاهد لتوحيد هذا الشعب، متحدِّين الشظايا وهم يشقون طريقَهم بين بقايا المساجد والأسواق التي دمَّرها القصف.
أكَّد أحد كتيبات وزارة الحربية الصادر أثناء الحرب العالمية الثانية للجنود الأمريكيِّين المتمركزين في العراق: «إنكم لا تخوضون الحرب لتغيير العراقيين. بل بالعكس. إننا نخوض هذه الحرب للحفاظ على مبدأ عِشْ ودَعِ الآخرين يعيشون.» وتضمَّن الكتيب القائمةَ المعتادة من المسموحات والمحظورات: «ابتعِد عن المساجد، وتجنَّب أيَّ مناقشات سياسية أو دينية، لا تشرب الخمر أو تأكل لحم الخنزير، لا تضرب عراقيًّا أبدًا، ولا تقترب من امرأة مسلمة أو تحاول لفتَ انتباهها.» وبعد ذلك بستين عامًا، كانت المهمة التي كُلف بها رجال الجيش الأمريكي ونساؤه قد اختلفت تمامًا، ولكن التحذيرات ظلت متشابهة إلى حدٍّ كبير. فقد نصحتهم «البطاقة الذكية للثقافة العراقية»، التي صدرت للقوات الأمريكية في العراق «بالمصافحة باليد اليمنى فقط، وعدم تقديم خمور أو لحم خنزير لأي مسلم، وعدم الدخول في مناقشات دينية». ولكن على عكس منشور الحرب العالمية الثانية، منحت البطاقة الذكية أيضًا تفاصيلَ عن الطوائف العديدة المتناحرة في العراق، وتضمَّنت نصائحَ منقذة للحياة حول كيفية التفرقة بينها. ولكن حتى هذه المعلومات أثبتت أنها غير مناسبة عند التفاوض حول حقول الألغام العرقية في العراق وفي الحفاظ على حياة الأمريكيِّين. وقدَّم براين تيرنر، وهو شاعرٌ خدم بصفةِ ضابطٍ مشاة في العراق، دليلًا إرشاديًّا أكثرَ عملية، فكتب شعرًا يقول فيه:
وكان الانقسام في الرأي العام بشأن العراق يشبه الاختلافاتِ العميقة في نظرة الشعب إلى الشرق الأوسط. وأصبحت الكليات تنقسم باستمرار بين الأساتذة الذين لا يزالون يُحمِّلون أمريكا مسئوليةَ مشكلات الشرق الأوسط، وبين الذين يهاجمون الجامعات بسبب صقل صورة تهديد الإسلاميِّين. وفي الوقت نفسه، استمرَّت صناعة السينما في النضال حول أفضل طريقة لتصوير الشرق الأوسط وسكانه. فيصوِّر فيلم «ميونيخ» الذي أُنتج عام ٢٠٠٦ بعضَ الإرهابيِّين الفلسطينيِّين على أنهم فصحاء وودودون، في حين أن فيلم «الاتحاد ٩٣» الذي أُنتج في العام نفسه، يُظهِر المختطفين التابعين لتنظيم القاعدة قتلةً دمويِّين للغاية. ويَظهر في فيلم «سيريانا» (٢٠٠٥) العربُ طيبين وأشرارًا، وأيضًا انتحاريون وأمريكيون متفائلون، لكن الفيلم في النهاية يلقي باللوم في مشكلات الشرق الأوسط على شركات النفط الجشِعة، والقتلة من وكالة الاستخبارات المركزية. ومع ذلك استمرَّت الأساطير القديمة، حتى في سنواتِ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. فيحكي فيلم «هيدالجو» (٢٠٠٤) قصةَ فرانك هوبكنز (الذي أدَّى دوره فيجو مورتنسن)، الذي يعمل في خدمة بريد الخيول السريع بوني إكسبريس والذي كان حزينًا للغاية على اختفاء الغرب القديم، حيث يجد حدودًا جديدة غير ملوَّثة في الواحات والكثبان الرملية والمخيمات التي تشبه الأحلام في الجزيرة العربية.
والجدال حول الطبيعة الحقيقية للشرق الأوسط وعلاقته بالولايات المتحدة مستمر ولا يظهر أي علامات على أنه ينحسر. فالشعب الأمريكي، الذي سعى دومًا لتحويل المنطقة إلى مرآة للولايات المتحدة، يمكنه اليوم أن يرى انعكاسه في وجه العراق الممزَّق. ومن المحتمل أن يزداد ذلك التمزُّق. فأمامنا تلوح احتمالاتٌ كثيرة لصِدامات واسعة النطاق مع إيران ومع كثير من الجماعات الإسلامية المتطرفة. وقد يجد الأمريكيون أنفسهم يتورطون مرةً أخرى في اندلاعٍ لأعمال العنف بين العرب والإسرائيليِّين. والنفط، مصدر الطاقة الذي لا يزال على العالم أن يبحث عن بديل له، والذي يصبح أقلَّ وأغلى كل عام، قد يستمر في إشعال نيران هوجاء تلتهم الثروة الأمريكية وقوَّتها البشرية. ومع أن الجدل المحلي حول العراق قد تحوَّل من مناقشة النصر في مقابل الهزيمة إلى الانسحاب الفوري في مقابل الانسحاب التدريجي؛ فمن المتوقَّع أن تظل القوات الأمريكية في العراق طوال عام ٢٠٠٨ على الأقل. فإذا حدث هذا، فستكون الولايات المتحدة قد أكملت ثلاثة عقود من صِدامات مستمرة في الشرق الأوسط، ولكن نهاية حرب الثلاثين عامًا قد تكون مجرد إعلان على اندلاع صراعات أخرى، قد تكون أكثرَ تدميرًا، وتستمر وقتًا طويلًا في القرن الحادي والعشرين.
ورغم هذه الكوارث، فمن المتوقَّع أن تستمر الولايات المتحدة في اتباع الأساليب التقليدية لعلاقتها بالشرق الأوسط. فسيستمر واضعو السياسات في رسالتهم المدنية وسطاءَ ومحرِّرين للمنطقة، وسيسعون إلى تحقيق سلام أمريكي. وستظل الكنائس الأمريكية والجماعات التبشيرية تسعى إلى إنقاذ المنطقة روحيًّا. ولن يفتقر منتجو الأفلام عن الشرق الغامض الخطير إلى جمهور. فالموضوعات التي نشأت على مدارِ أكثرَ من قرنين من احتكاك أمريكا بالشرق الأوسط ستستمر في تمييز تلك العلاقات، وتربط بينها وتحرِّكها أجيالًا قادمة.