بوتقة الهوية الأمريكية
كان ويليام بينبريدج ابنًا لطبيب ناجح من نيويورك، وكان بحَّارًا في سن الخامسة عشرة، ثم أصبح قبطانًا قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان زوجًا محبوبًا وأبًا لأربعة أبناء، يحترمه ضباطه وطاقم العاملين معه، وربما كانت تنتظره حياةٌ عظيمة، لولا حظُّه التَّعس الذي كان يصاحبه دائمًا. ففي مواجهة مع سفينتين حربيتين أثناء «شبه الحرب» مع فرنسا مثلًا اضطُر إلى التخلي عن قيادة السفينة «ريتالييشن» دون إطلاق قذيفة واحدة.
ومرةً أخرى تدخَّل سوء حظه في سبتمبر ١٨٠٠، عندما تلقى أوامرَ بالإبحار بالسفينة «جورج واشنطن» باتجاه الشرق الأوسط. ظلَّت الولايات المتحدة أكثرَ من ثلاث سنوات تقتطع جزءًا كبيرًا من دخلها القومي لتقدِّمه إتاوةً إلى دول البربر. وكثيرًا ما كانت موانئ شمال أفريقيا تستضيف السفن الأمريكية التي تحمل الأخشاب والبهارات والأسلحة وغير ذلك، بهدف إثراء واسترضاء الحكام المحليين. وكانت حمولة جورج واشنطن قد بلغت قيمتها نحو ٥٠٠ ألف دولار من البضائع الموجَّهة إلى الجزائر إتاوةً.
من وجهة نظر بينبريدج كان تسليمُ هذه الإتاوة يُعَد من الخزي والعار، وضاعفَ من إحساسه بذلك أن جورج واشنطن كانت أول سفينة في الأسطول البحري الأمريكي تدخل البحر المتوسط. ومع ذلك فقد توقَّع بينبريدج — باعتباره ممثلًا لبلاده — أن يُظهر له الآخرون الاحترام، لكنه تلقَّى على العكس من ذلك وابلًا من الإهانات. إذ قال له الداي حسن: «أنتم تدفعون إتاوةً تصبحون بها عبيدًا لي.» وعلى الرغم من استقلال الجزائر عن الدولة العثمانية، فإنها كانت لا تزال تدفع إتاوةً للسلطان، وهذه المرة أمرَ الداي حسن بينبريدج أن يحمل تلك الإتاوة إلى إسطنبول. وعندما رفض القبطان، ذكَّره الداي حسن بأن السفينة «جورج واشنطن» ترسو تحت مدافع المدينة تمامًا، وفي مرمى نيران السفينة «كريسنت»، وهي سفينة تحمل ٣٢ مدفعًا كان الرئيس آدامز قد منحها للجزائريين. ومن أجل «حفظ السلام … ولمنع اختطاف السفينة وأسرِ طاقمها وضباطها … ولمنع نهب واستعباد مواطني الولايات المتحدة» أذعنَ بينبريدج لأوامر الداي.
وعلى وجهِ السرعة جرى شحن جورج واشنطن ﺑ ١٥٠خروفًا، و٢٥ بقرة، و٥ جياد، و٤ ظباء و٤ نمور و٤ أسود، بالإضافة إلى مجموعةٍ متنوِّعة من النعامات والببغاوات. وإلى كل ذلك أضيف ما يوازى مليون دولار في شكل ذهب ومجوهرات وسلع، وصاحبَ كلَّ ذلك السفير الجزائري وعائلته ونحو مائة من العبيد الأفارقة. لم يكن بينبريدج قد بلغ بعدُ الثلاثين من عمره، وكان قوي البنية ذا وجهٍ ممتلئ وشعر مصفَّف بطريقةٍ أنيقة، وكان معتزًّا بنفسه؛ لذا ثار ضد هذا التعسف والإجحاف. أما مشهد استبدال العلم الجزائري بالعلم الأمريكي فكان أكثرَ إيلامًا لبينبريدج من المشقة والرائحة الكريهة التي عمَّت السفينة. فقال: «الخزي والعار هذان يجعلانني أفكِّر في هذه الكلمات الثلاث: الولايات المتحدة المستقلة». ثم أقسم ألا يحملَ أبدًا أيَّ إتاوة إلى الجزائر «إلا إذا سمحوا لي بتسليمها من فوَّهات مدافعنا».
كان ذلك مشهدًا رائعًا للغاية بكل المقاييس؛ فقد كان يحمل مزيجًا من القباب والمآذن والقِلاع اللامعة. ولكن مع كل هذه العظمة الظاهرة فقد كانت البنية الأساسية تنخر فيها عقودٌ كاملة من الفساد وسوء الحكم والإدارة، وكان السلطان الشاب سليم الثالث قد قام بمبادراتٍ لوضع حدٍّ لهذا التدهور عن طريق قيامه بإصلاحات واسعة، ومحاولته تحديثَ جيشه. فطالب ضباطه بتعلُّم الفرنسية، وتشاور مع خبراء أوروبيين، من بينهم ضابطُ مدفعية بارع اسمه نابليون بونابرت. ردَّ نابليون مجاملةَ سليم الثالث بغزو مصر في يوليو ١٧٩٨، ثم زحف على السواحل السورية في أكبر عملية غزو أوروبية للمنطقة منذ الحملات الصليبية. وفي ظل غارات الروس والنمساويِّين والبريطانيِّين التي حاصرت الدولةَ العثمانية من كل جانب، واستغلال التجار الأوروبيِّين للامتيازات الأجنبية التي منحها لهم الباب العالي، لم تكن إسطنبول ترحِّب بالغربيين.
لذلك كان استقبال إسطنبول لبينبريدج وديًّا، بل أخويًّا. فاستُدعيَ إلى قصر قائد البحرية العثمانية وشقيق زوجة السلطان، وهناك أبهر القبطان مستمعيه بقصص في وصف بلاده. وبسبب هذا الانبهار وبتأثير هذا الانطباع الجيد، كتب قائد البحرية العثمانية إلى ويليام لوتون سميث — أول مبعوث أمريكي يوفَد إلى الباب العالي — يصفُ له مدى سعادته لاستضافة القبطان الأمريكي وسفينته، ومعبرًا عن أمله في زياراتٍ مماثلة في المستقبل. ثم أغدق على بينبريدج الهدايا، ووافق على طلبه بإلغاء حكم إعدام الضابط المسئول عن مضيق الدردنيل، الذي سمح للسفينة الأمريكية بالمرور. وقُدِّمت تحية ملكية للسفينة «جورج واشنطن» عند خروجها من المضيق عائدةً إلى موطنها محاطة بكل حفاوة.
محنة وانتصارات
لم يكن بينبريدج وحدَه يشعر بالغضب. فحسب قول وزير الخارجية جيمس ماديسون، «أثَّرت صفاقة الداي كثيرًا في مشاعر» الشعب الأمريكي، ورئيسه الجديد، توماس جيفرسون.
ففي الأعوام الخمسة عشر التي تعامل فيها جيفرسون مع هذه القضية، كان موقفه من دول البربر ثابتًا لا يتغيَّر. فقال: «لا نهاية لمطالبهم، ولا أمان لوعودهم مطلقًا.» واستمر على إيمانه بأن القوة — وليست الإتاوة — هي الردُّ الذي يحفظ لأمريكا كرامتها ومالها، ثم أعلن أنه «عدوٌّ لكل تلك الرشاوى والإتاوات والمذلة.» وأقسم بصفته رئيسًا ألا يُذعِن للابتزاز بعد ذلك أبدًا. بل قرَّر «إرسال سفن أمريكية إلى سواحل شمال أفريقيا» وإرسال «البارود والرصاص اللازمين لتأديب الجزائريين».
ومع ذلك، ولأنه رجل المتناقضات على الدوام، فقد تولَّى جيفرسون منصبَ الرئاسة داعيًا إلى انعزال أمريكا عن الشئون الدولية، ومكررًا معارضته للمواجهات العسكرية. ثم أخرج عددًا من سفن الأسطول من الخدمة، وخفَّض أعداد الضباط العاملين عليها. والغريب أنه ظل يتطلع إلى تكوين تحالف دولي ضد البربر، والعمل «بالتناوب» مع القوى الأوروبية لتخليص البحر المتوسط من القراصنة.
واختار جيفرسون الحربَ، ولكن هذا الاختيار واجهته عقبةٌ قانونية كبيرة. فدستور الولايات المتحدة — الذي كان الردُّ على تهديدات البربر من بين أسباب وضعه — يجعل إعلانَ الحرب من حق الكونجرس فقط، وليس الرئيس. ولأنه لم يكن واثقًا من اتخاذ الكونجرس مثلَ هذا القرار، قرَّر جيفرسون أن يتخطى المجلس التشريعي بإصدار أمر ببدء عملية إحكام للسيطرة، وهو ما يكاد يكون إعلانًا للحرب. وبناءً على ذلك صدرت أوامرُ للبحرية بتنفيذ الاتفاقيات القائمة مع شمال أفريقيا، ولكن مع الرد على أي اعتداء للقراصنة ﺑ «حرق سفنهم أو إغراقها أو تدميرها».
كانت أول مواجهة أمريكية في الشرق الأوسط نصرًا ساحقًا للأمريكيِّين، لكنه كان نجاحًا قصيرَ الأمد للغاية. لم يجد قباطنة طرابلس بأسطولهم وسفنهم ذات الغاطس القليل العمق مشقةً في تجاوز الحصار في الميناء. وحتى السفينة «ماشودا» فرَّت من الحصار. وأذهل ذلك قائدَ الفيلق ريتشارد ديل، المحاربَ المحنَّك الذي أُسر مرتين وأُصيب ثلاث مرات في حرب الاستقلال، والذي أبحر تحت قيادة جون بول جونز. لعن ديل «أهلَ شمال أفريقيا جميعًا؛ الجزائريِّين والتونسيِّين وأهالي طرابلس»، ولم يرَ وسيلةً لحماية التجارة الأمريكية غير الاحتفاظ بقوة أمريكية دائمة في البحر المتوسط، تتكوَّن من أربع بوارج على الأقل. وإلا فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيارٌ سوى اللجوء مرةً أخرى للرشوة.
زاد حجمُ الفيلق ليصبح خمس بوارج وسفينة، ودُعِّم بفرقة من الجنود، وسُمح له باستخدام «كل قوَّته لإبقاء سفن العدوِّ في موانئها، وأن يهاجم أيَّ سفينة تحاول الفرار ويستولي عليها». ولكن كانت هذه المحاولة محكومًا عليها بالفشل، تمامًا مثل المحاولة الأولى ضد طرابلس.
لاحت نُذُر هذا الفشل في ليلة ٢٥ مايو، عندما غرِق أحد عشر قاربًا محملًا بالقمح على ساحل طرابلس، وتمكَّن فريق بقيادة الضابط بورتر من إضرام النار في نصف القوارب وتشتيت طاقمها غير المدرَّب. وقال ضابط البحرية هنري وادزورث، عمُّ الشاعر لونجفيلو: «لا بد أن أعترف أنه كان تدريبًا جيدًا.» ولكنَّ الطرابلسيِّين تمكَّنوا من إعادة تنظيم صفوفهم، وأطلقوا نيرانًا كثيفةً أصابت بورتر في فخذيه، وخلَّفت خمسة عشر قتيلًا من البحَّارة. وهكذا سقط أول ضحايا أمريكا في القتال بمنطقة الشرق الأوسط دون أن تحرز أمريكا نجاحًا يُذكر.
وظلَّت سفن طرابلس تتجنَّب البوارج الأمريكية، أو تسرع نحو الشاطئ إذا أصبحت على مرأًى منها بحثًا عن الأمان تحت مدافع المدينة. وكان إحباط الأمريكيِّين قد زاد بسبب قائدهم ريتشارد موريس، الذي كان يبدِّد شطرًا كبيرًا من وقته على موائد العشاء مع الضباط البريطانيِّين في جبل طارق، بصحبة زوجته وابنه. وبدلًا من حشد قواته للقيام بهجوم منظَّم، وصل موريس إلى شواطئ طرابلس وهو يلوِّح بعلم أبيض و٥٠٠٠ دولار رشوة للباشا.
كان جيفرسون قد أقسم أن «يعتمد أمان تجارتنا على … قوَّتنا وشجاعتنا في البحار»، لكن مثل هذه الوعود كانت تبدو جوفاء عام ١٨٠٣. شجَّع تحدي طرابلس للولايات المتحدة تونس والجزائر أيضًا، فرفعتا مطالبهما بالإتاوة، وأعلن المغرب أيضًا الحربَ فجأةً على الولايات المتحدة. ونصح روفوس كينج — مبعوثُ أمريكا إلى بريطانيا — حكومتَه قائلًا: «لا بد أن يكون أمنُنا في مواجهة البربر قائمًا على القوة وليس على المعاهدات؛ على السفن الحربية وليس على الهدايا والمساعدات.» ووافقه جيفرسون على ذلك بكل تأكيد، لكنه كان مثقلًا بالديون بسبب شراء ولاية لويزيانا من فرنسا، وكان الاحتفاظ ببارجتين فقط في البحر المتوسط يمثِّل عبئًا ماديًّا، فضلًا عن شن هجوم شامل.
كان ويليام بينبريدج يبحر تحت قيادة بريبل، وبينبريدج هو قبطان السفينة جورج واشنطن العاثر الحظ الذي تعافى من آثار الخزي الذي تعرَّض له في الجزائر ليقود واحدةً من أفضل البوارج الأمريكية، وهي السفينة «فيلادلفيا» التي تحمل ٣٦ مدفعًا. وبعد دخول البحر المتوسط بقليل عام ١٨٠٣ اشتبك بينبريدج مع السفينة المغربية مركوبة، التي ثبَت عند معاينتها أنها البارجةُ الأمريكية المسلوبة «سيليا»، وطاقمها مقيَّد بالسلاسل في باطن السفينة. وكتب القبطان في تقريره أنه «يتمنَّى أن يحقِّق هذا الأسر نتائجَ طيبة لمصلحة الولايات المتحدة»، مؤكدًا «التسامح» و«الإنسانية» اللذين يجدهما الأسرى المغاربة «لترك انطباع طيب في نفوسهم عن الشخصية الأمريكية».
وفي غضون ذلك ألقى بريبل مرساتَه في ميناء طنجة وطلب مقابلةَ الإمبراطور. وعندما اقترب منه دون أن ينحنيَ له أو يخلع سيفه سأله سليمان: «هل تخشى الأَسر؟» فأجاب بريبل: «لا، وإذا أقدمتَ على ذلك فإن سفني … ستدمر مدفعيتكم وقلاعكم ومدينتكم بأسْرِها.» وفي الحال وافق المغرب على تجديد اتفاقية عام ١٧٨٦ دون قيد أو شرط.
بدَت رحلةُ بريبل مبشِّرة بالنجاح في بدايتها، ولكنها — مثل العمليات السابقة — انتهت أيضًا بالهزيمة. فبعد ظهر يوم ٣١ أكتوبر، وأثناء مطاردة مركب طرابلسي صغير بالقرب من الشاطئ، ارتطمت فيلادلفيا بحاجزٍ صخري وغرقت، وبُذلت جهود محمومة لتحريك السفينة — بقَطعِ الصاري الأمامي أو إلقاء المعدَّات في البحر — أو حتى إغراقها، ولكن بلا جدوى. وقرَّر بينبريدج الاستسلامَ عندما وجد مدافعه مثبَّتة في زوايا غير فعَّالة، ورأى تسعًا من سفن العدوِّ تقترب، وجُرِّد هو و٣٠٧ من رجال طاقمه من ملابسهم الرسمية، وتُركوا يرتعدون بردًا خارجَ مبنى القنصلية الأمريكية السابقة، في حين نجح المنتصرون في سحب السفينة «فيلادلفيا» إلى الميناء باستخدام حبال غليظة، وتباهى قرمنلي بإضافة هذه السفينة إلى بحرية «طرابلس» وأُعيد تسميتها «هبة ﷲ».
لم يكن بريبل بحاجةٍ إلى إقناع. «أدعو ﷲ أن يكون الجنود والضباط … قد عقدوا العزم جميعًا على استحباب الموت على العبودية». لذلك أعدُّ خطةً جريئة؛ حيث يبحر الأمريكيون على متن سفينة طرابلسية صغيرة — استولوا عليها حديثًا — نحو الميناء، ثم يصعدون بهدوء إلى سطح السفينة «فيلادلفيا» ويشعلون فيها النار. واختار بريبل لقيادة هذه العملية ابنَ أحدِ أبطال البحرية الأمريكية، وهو ضابطٌ شاب وصفه أحد زملائه بأنه «يتحلَّى بروح الفرسان، وسلوكه مهذَّب للغاية، ويجمع إلى شخصيته الجذابة دماثةَ الخلق». وكان اسمه ستيفن ديكاتور.
كان له أنفٌ رفيع رقيق، وفمٌ جذاب، ورموش طويلة مقوَّسة، مما جعل ديكاتور يبدو شاعرًا أكثرَ منه مقاتلًا. ومع ذلك فقد اشتُهر منذ طفولته بشجاعته وقوَّته البدنية، عندما دافع — فيما يقال — عن أمِّه ضد مجموعة من المجرمين. وكان قد قتل ضابطًا إنجليزيًّا في مبارزةٍ بجزيرة مالطا في أوائل ذلك العام، واضطُر إلى الهروب من الجزيرة. والآن — في سن الخامسة والعشرين — كان ديكاتور يخدُم على السفينة «إسيكس»، عندما تلقَّى أوامرَ بريبل بقيادة الحملة. وحين طلب متطوِّعين قال: «نحن الآن على وشْك البدء بحملة قد تنتهي بموتنا أو عبوديتنا الدائمة، أو مجد خالد.» وتطوَّع الطاقم بأكمله.
في التاسعة والنصف من ليلة ١٦ فبراير ١٨٠٤، والقمر لا يزال هلالًا، بدأ ديكاتور حملته، وكان معه على المركب الصغيرة التي أُعيد تسميتها إنتريبيد سبعة وستون متطوعًا يرتدون زيَّ البحَّارة المالطيِّين. وكان في مواجهتهم مدافعُ السفينة «فيلادلفيا» التي تطلق قذيفتين في المرة الواحدة، ومدفعية «طرابلس» بأكملها، وهو ما وصل في مجموعه إلى ١٥٠ مدفعًا.
أشادت أوروبا بأسرِها بهذه العملية. ووصفها اللورد نلسون البريطاني بأنها «أكثر العمليات جرأة في هذا العصر»، وقال البابا بيوس السابع إن البحرية الأمريكية «قدَّمت للمسيحية أكثرَ مما قدَّمته أقوى الدول في العالم المسيحي في قرون طويلة». ولكن على الرغم من شجاعة ديكاتور كان لا يزال أمام بريبل مهمةُ استعادة بينبردج وطاقمه؛ فالرجل الذي تعهَّد ذات مرة «بأن يقضي حياته في البحر المتوسط» بدلًا من «أن يدفع سنتًا واحدًا إتاوةً أو ثمنًا للسلام» كان يعرض على الباشا الآن مبلغًا ضخمًا مقداره ١٠٠ ألف دولار لافتداء الأسرى. لكن قرمنلي سخر من العرض، وطالب بأكثر من ١٫٥ مليون دولار مقابل إطلاق سراح الأسرى.
استأنف بريبل هجومَه شاعرًا بالخزي والغضب، فقصف ميناء طرابلس وأغار عليه. وفي حركة موحَّدة جريئة اخترق ديكاتور وخمسة عشر من رجاله مسلَّحين «بالخناجر والحراب والسيوف والبلطات»، صفوفَ العدوِّ وصعِدوا إلى سفنه. ومع أن ديكاتور أصيب بحربة في ذراعه، فقد أطلق النارَ على أحد قباطنة القراصنة وراوغ قرصانًا آخرَ حاول أن يضرب عنقه. ولكنَّ أخاه — الذي كان أيضًا ضابطًا بحريًّا — كان أقلَّ منه حظًّا، ولقي مصرعه إثر إصابته بطلق ناري في رأسه. وبنهاية اليوم كان الأمريكيون قد قتلوا ٤٧ طرابلسيًّا، وأسروا ٥٦ منهم. وقال ديكاتور: «مات بعض المسلمين كالرجال، ولكن العدد الأكبر منهم مات كالنساء.» إلا أن بريبل أطفأ نيران حماسته. فعندما علِم أن ديكاتور استولى على ثلاث سفن حربية «فقط» وبَّخه قائلًا: «ثلاث فقط! وأين الباقي؟»
كانت إنتريبيد تحمل الآن ١٥ ألف رطل من البارود وكانت مشحونةً بالقذائف العنقودية والمتفجرات. وكان أحدُ أصدقاء طفولة ديكاتور، وهو الكابتن ريتشارد سومرز، بالإضافة إلى ضابطين آخرين، هما وادزورث وجوزيف إسرائيل، وعشرة من البحَّارة، قد تطوَّعوا لقيادة السفينة إلى الميناء. وكانت الخطة أن يشعلوا فتيلًا ثم يهبطوا إلى مركب تجديف صغير، ويهربوا قبل أن تنفجر السفينة وتدمِّر أسطولَ الباشا.
في ليلةٍ غير مقمرة يغلِّفها الضباب يوم ٣ سبتمبر شاهد الفيلق إنتريبيد وهي تختفي عن الأنظار، وظلوا يحدقون في الظلام ساعتين، حتى شقَّ الأفقَ انفجارٌ «مدوٍّ وهائل». ووصف أحد شهود العِيان، وهو البحَّار روبرت سبنس، رؤيته للقذائف تضيء الظلام «كأنها عدة كواكب»، ثم «ألسنة من اللَّهب … ترتفع إلى عَنان السماء». انفجرت إنتريبيد لأسباب مجهولة قبل أن تصل إلى هدفها وقُتل كلُّ مَن عليها. في صباح اليوم التالي كان بينبريدج يعرج جراء جُرح أصيب به، ومع ذلك فقد ذهب إلى الشاطئ لرؤية الجثث المتفحِّمة والأشلاء. وتوسَّل إلى الباشا للسماح له بدفنهم، لكنَّ طلبه رُفض، وأصرَّ الباشا على أن تُترك الجثث للكلاب.
على أن التكريم وحدَه لم يخفِ حقيقةَ أن الولايات المتحدة خاضت حربًا في الشرق الأوسط، وفشلت في تحقيق النصر حتى ذلك الوقت. ولم يكن لديها أيُّ عذر مقبول لذلك الفشل؛ لأن بحريتها أصبحت تمتلك عددًا من السفن الحربية يكفي لهزيمة كل أساطيل القراصنة مجتمعة. وأكَّد ماديسون أن «السلام مع طرابلس كان لمدة طويلة حسب شروطنا وفي نطاق سلطتنا»، ولكنَّ أعضاءً آخرين بارزين في الحكومة ظلوا على تردُّدهم بشأن استخدام قوة الأسطول. ورأى وزير الخزانة ألبرت جالاتين السويسري المَولد أنَّ دفع رشوة إلى القراصنة سيلحق بالولايات المتحدة «الخزي الذي لحِق بكثير من الدول التي لا تقلُّ قوةً واهتمامًا بالأمر عنها»، مفضلًا ادخارَ اﻟ ٩٠٠ ألف دولار لصيانة الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط. وظل الرأي العام أيضًا على انقسامه بشأن اللجوء إلى القوة، مع عدم ثقته بالتكلفة النسبية لخوض حرب أو شراء سلام.
ولكن كان هناك أمريكيٌّ واحد لم يؤثِّر فيه غيابُ الحماسة الشعبية لاستخدام القوة. هذا الرجل هو ويليام إيتون؛ كان إيتون قد تعلَّم من خلال عمله قنصلًا لأمريكا في تونس، أنَّ دفْعَ إتاوة للقراصنة لا يثمر سوى الخزي والعار. ويغري القراصنةَ بطلب المزيد، وتعلَّم أن القوة هي الشيء الوحيد الذي يُحترم في الشرق الأوسط، وأنه ليس أمام الولايات المتحدة خيارٌ عدا القوة إذا أرادت تحقيق السلام.
البطولة الجديدة
يبدو إيتون ذا ملامحَ رقيقةٍ راقية شبه مثالية، ومع ذلك فقد وصفه أحدُ معاصريه بأنه «يشبه كلبَ بولدوج كبيرًا في مظهره وشخصيته». وقد ظهرت نزعته العدوانية منذ كان في السادسة عشرة من عمره عندما هرب من مزرعة والده في كونيتيكت ليقاتل في الجيش، ثم التحق بجامعة دارتموث حيث درس اللغتين اللاتينية واليونانية، وحفظ حملات قيصر والإسكندر الأكبر. واكتسب إلى جانب ذلك مهارةً في رمي السكاكين فكان يصيب هدفه بدقة من مسافة ثمانين قدمًا، وكان يحلُم بالعودة في يوم من الأيام إلى ساحة المعركة. واعترف لأرملةٍ كان يواعدها: «لن يحبَّك أحدٌ كما أحبُّك أنا، لكنني أوثر ميدانَ مارس (إله الحرب) على جنة فينوس (إلهة الحُب والجمال)». تطوَّع إيتون مرةً أخرى في الجيش، وأصبح نقيبًا تحت قيادة الجنرال «أنتوني واين المجنون» في الحرب ضد الهنود في أوهايو.
كان إيتون يحمل في ذهنه أفكارًا خياليةً عن الشرق الأوسط مثل سلفه جون ليديارد. وقد أقسم أن يظلَّ على إيمانه «بربٍّ واحد» وأن يمحق «فكرة أن المسيحيِّين والمسلمين أعداءٌ طبيعيون». وكانت أوامره تقضي بمساعدة التونسيِّين على التحول من القرصنة إلى مهنٍ سلمية كالزراعة مثلًا. ومع ذلك فإن الهدايا التي حملها معه إلى شمال أفريقيا، ومن بينها سفينتان حربيتان أمريكيتان، حملت للتونسيِّين رسالةً مضادة، مُفادها أن القرصنة مربحة. قَبِل البيك التونسي الرشوة، ثم هدَّد فورًا بتجديد الحرب مع الولايات المتحدة. وكان على إيتون أن يسترضيَه بالكثير من الأقمشة الفخمة، والساعات الذهبية، والعِصي المرصَّعة بالأحجار الكريمة، وبلغت قيمة هذه الأشياء ٦٠٠٠ دولار، وفي المقابل طالبه البك بتسديد فاتورة مخزية قيمتها ٨٠٠ دولار، ثمنًا للبارود الذي استُخدم في تحية القنصل الجديد عند وصوله!
وفي بداية عام ١٨٠٠ كتب إيتون يقول: «إن عامًا من المعاناة أطولُ من خلود في النعيم، ألا يكفي ما أنا فيه ليكون هو الجحيم؟» كانت هذه الفترة القصيرة كافيةً لمحو أي أفكار خيالية من ذهن إيتون، ولجعله مشمئزًّا للغاية. وكانت شكاواه من تونس عديدةً لدرجةٍ يصعُب تصنيفها؛ «أبخرة خانقة من بحيرات راكدة، أنفاس جثث عفنة … وشمس حارقة لا تُحتمل … أشد حرارة من التبغ والخمر … مسلمون وحشيون، ويهود مخادعون، وإيطاليون خونة … جِمال كسولة، وبِغال عنيدة، وعرب همَج.» ومع أنه بذل جهدًا عظيمًا للتعرُّف بالثقافة المحلية، وأتقن أربع لهجات، وسافر في طول المنطقة وعرضها، فإنه لم يجد شيئًا يصون للشرق الأوسط صورتَه في نظره، ولخَّص فكرته عنه قائلًا إنه «أرضُ اللصوصية والشذوذ»، ولا يخضع أهله «لأي وازع من شرف أو أمانة».
أما ما ضايقَ إيتون أكثرَ من كل المنغِّصات الحسية فكان الخجل والعار اللذين شعر بهما وهو يرى الولايات المتحدة تحوِّل ثروتها التي جمعتها بشرفٍ ونزاهة إلى طغاة شمال أفريقيا. وقال بعد أن علِم بالإهانة التي تلقَّاها كابتن بينبريدج على يد الجزائريين: «هنيئًا لكِ يا بلادي! كم أنت مهانة!» ثم شعر بالخزي مرةً أخرى عندما أعلنت طرابلس الحربَ على الولايات المتحدة في مايو ١٨٠١، وعندما تكرَّر فشلُ بحرية الولايات المتحدة في حماية تجارتها. وتساءل: «ألا يوجد أمريكيون يجري في عروقهم دمٌ حار وكرامة تؤرق نومهم عندما يهينهم القراصنة؟ هل أصبحنا نستبدل مجدنا في مقابل الأمان من قراصنة البربر؟»
كان إيتون قد شارف على اليأس م ن تقلُّب الأمريكيِّين عندما قابل حامد قرمنلي — الشقيق المنفي لحاكم طرابلس — في سبتمبر عام ١٨٠١. وبسبب إعجابه بشجاعة حامد ونبله، اقترح إيتون أن تساعده الولايات المتحدة على استعادة حقِّه في العرش، على أن يكون حليفًا تعتمد عليه في المنطقة. فتغيير نظام الحكم في طرابلس كان هو السبيل الوحيد لتمكين الأمريكيِّين من «استعادة شرفهم القومي بالحديد والنار وليس بالذهب» كما شرح إيتون. ولكنَّ ماديسون، الملتزم بالمبادئ والمتردِّد على الدوام، تراجع عن الفكرة في آخر لحظة. فأجاب إن «للقنصل مطلَق الحرية في تطبيق حماسته وحساباته فيما يخص حامدًا، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة لن تتدخل في الصراعات الداخلية لأي دولة».
استشاط إيتون غضبًا. فقد بدا أن الحكومة مصرَّة على «شراء زيت الورد لتعطير ذقن ذلك القرصان [قرمنلي]» بدلًا من «المدافع لردعه عن طيشه». وحذَّر من أنه في خلال عشر سنوات ستطول غارات القراصنة المدنَ الساحلية الأمريكية، وسيغتصبون نساءها، ويأسِرون صبيانها. ونصح المسئولين في واشنطون ساخرًا أن يبدءوا بارتداء ملابس العبيد من الآن.
لم يتنازل إيتون عن خطته لاستبدال حامد بيوسف قرمنلي، وفور وصوله إلى واشنطن بدأ يسعى للحصول على دعم الكونجرس. وأكَّد للأعضاء أن شعب طرابلس «هؤلاء الأطفال السُّمر السذَّج» سيلتفون حول حامد المُطالب بالعرش. وفي تلك الأثناء وصلت أنباءُ استيلاء طرابلس على السفينة «فيلادلفيا» وأسرِ طاقمها بالكامل. وآلمت إيتون أنباءُ هذه الكارثة. فإذا كان وضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مذلًا قبل ذلك، فقد أصبح الآن ميئوسًا منه تمامًا.
لكنَّ الحقيقة أن متاعب إيتون لم تكن قد بدأت بعد. فأثناء رحلته في نهر النيل برفقة الضابط بريسلي نيفيل أوبانون ومجموعة صغيرة من ضباط البحرية، واجه إيتون دواماتٍ وغارات من البدو، وابتزاز من مسئولين عثمانيِّين فاسدين. وأخيرًا عثر على حامد بائسًا ومحاصَرًا في مكانٍ يُطلق عليه برج العرب، على بُعد نحو ١٥٠ ميلًا من القاهرة. وهناك، في ٨ مارس ١٨٠٥، جمع إيتون جيشه.
كانت القوة متباينةً أشدَّ ما يكون التباين؛ فقد كانت مكوَّنة من ٩ أمريكيِّين، و٩٠ طرابلسيًّا، و٦٣ مرتزقًا أوروبيًّا، و٢٥٠ بدويًّا. وكان التسليح ضعيفًا للغاية. وعلَّق إيتون على ذلك قائلًا: «سأُضطر إلى الاعتماد على قوة الغضب المتأصلة في العرب … بديلًا عن مدفعية الميدان، والبنادق، والذخيرة.» جمع إيتون جنوده وقال لهم إن كل البشر سواسية في الولايات المتحدة، بصرف النظر عن عقيدتهم، ولا تمايز بينهم إلا بصدقهم وإخلاصهم. ووزَّع كمياتٍ كبيرة من الذهب، وكان يقول: «المال هو الرب الوحيد الذي يعرفه العرب»، ووعدهم ببذل أقصى ما في وُسعه لوضع حامد في السلطة. ووعد حامدٌ بدوره أنه سيقيم علاقاتِ سلام مع الولايات المتحدة فور توليه السلطة، كما تعهَّد بإطلاق سراح كل الأسرى الأمريكيِّين في طرابلس. رقَّى إيتون بعد ذلك نفسَه إلى رتبة «جنرال»، وارتدى حلةً بيضاء فاخرة صمَّمها بنفسه، ثم بدأ عمليةً لم تجُل بخاطر أي قائد منذ العصور القديمة، وهي أنه بدأ زحفًا لمسافة خمسمائة ميل عبْر الصحراء الغربية تحت الشمس الحارقة.
كتب يقول عن ذلك: كانت الرحلة «على الرمال الحارقة والجبال الصخرية … عبْر أكثر صحاري العالم جدبًا» مضنيةً حقًّا. فبعد اثني عشر يومًا قلَّت الحصة اليومية لكل فرد من الأرز غير المطبوخ (بسبب ندرة المياه) إلى النصف. ولكن البيئة القاسية والمؤن الشحيحة كانت أهونَ العقبات التي واجهت إيتون. فقد كانت المعارك التي نشبت بين المسلمين والمسيحيِّين في جيشه أشدَّ خطرًا، وهدَّد البدو — الذين كانوا يطالبون يوميًّا بزيادةِ أجورهم — بالثورة أو ترْك الخدمة. وشكا إيتون منهم قائلًا: «إنهم لا يعرفون معنى الوطنية أو الحق أو الشرف، ولا ولاء عندهم إلا لما يحقِّق مصلحتهم.» وتبيَّن أن حامد أيضًا مصدرُ إزعاج؛ فقد كان لا يكفُّ عن الشكوى من خوفه من يوسف وعدم ثقته بالأمريكيِّين. وتصاعد التوترُ عندما انضم حامد إلى البدو في هجومٍ على قافلة المؤن، ولم يوقفهم سوى صفٍّ لإطلاق النار نظَّمه إيتون وجنود البحرية الأمريكية.
بعد أن تغلَّب إيتون على كل تلك الصعاب، توجَّه هو وقوَّته وقد أنهكهم العطش إلى خليج بومبا — على بُعد نحو ثلاثين ميلًا من طبرق — حيث كان من المفترض أن تنتظرهم سفينةٌ حربية أمريكية تحمل مؤنًا. ولكن الخليج كان خاليًا. مرَّت أيام كاملة، وبدا موت الرجال الأربعمائة مؤكدًا، عندما حدثت المعجزة وظهر شراعٌ فجأة في الأفق. كانت السفينة الأمريكية «آرجوس» قد وصلت محمَّلة بالأغذية والمياه. واصل جيش إيتون المسيرَ غربًا نحو درنة بعد أن تجدَّدت قواه، وهو ثاني أكبر ميناء في المنطقة، ويُعَد موقعًا مثاليًّا لشن الهجوم الأخير على طرابلس. وفي ٢٥ أبريل اتَّجه إيتون على فرسه نحو أبواب درنة وطالب المدينة بالاستسلام. وصاح موجِّهًا حديثَه إلى حاكم المدينة: «لا تدعوا اختلافَ الدِّين يدفعنا إلى سفك دماء الأبرياء»، مؤكدًا له أن هدفه الوحيد هو تنصيبُ حاكم شرعي على العرش. وكان ردُّ الحاكم مقتضِبًا: «رأسي أو رأسك.»
كان جيفرسون متشككًا في جدوى تغيير قيادة طرابلس بالقوة منذ البداية، مع أنه لم يفصح عن ذلك لإيتون قط. وأثناء بحثه عن بديل دبلوماسي، لجأ الرئيس إلى توبياس لير، وهو معاونٌ سابق لجورج واشنطن يبلغ من العمر اثنين وأربعين عامًا. وكان طويل الوجه ويتَّسم بالجِدية والعملية، ولم يكن من النوع الذي يقود جيشًا من المرتزقة عبر الصحراء ليهاجم قلعةً أو حصنًا للعدوِّ، بل كان يفضِّل أسلوب المفاوضات بدلًا من ذلك. ويرى أن إيتون خيالي مغرور، كما كان يرى في حامد شخصًا ضعيفَ الشخصية غير قادر على توقيع أي اتفاقية، فضلًا عن الالتزام بها. ففضَّل لير التفاوضَ مع يوسف فقط، مقدِّمًا عرضًا بتبادل مائة أسير حرب طرابلسي مقابل أسرى السفينة «فيلادلفيا»، ودفع «فرقًا» لطرابلس يُقدَّر ﺑ ٦٠ ألف دولار.
كان يوسف حينئذٍ مهدَّدًا بعدوٍّ قوي رابض في درنة، فتلقَّى العرض بحماسة بالغة. حتى إنه وافق على السماح لحامد بالعودة إلى طرابلس، إذا انسحب إيتون مع قواته. وعندما تم الانتهاء إلى هذا القرار في ٤ يونيو ١٨٠٥، أبحرت السفينة «كونستيتيوشن» إلى ميناء طرابلس. وسارت إلى جانب حطام السفينة «فيلادلفيا» المتفحِّم، وحيَّاها الطرابلسيون بإحدى وعشرين طلقة مدفع. وكان على متنها بينبريدج و٢٩٦ رجلًا من رجاله (كان ستة منهم قد قُتلوا، وتحوَّل خمسة إلى الإسلام)، وكانوا قد نالوا حريتَهم بعد ١٩ شهرًا عصيبة قضوها في الأسر.
كان هذا الحسُّ العقلاني نفسُه هو ما حرَّك جيفرسون وحفَّزه. لقد حقَّق هدفه الذي سعى إليه طويلًا بتكوين قوة عسكرية قادرة على فرض إرادة الولايات المتحدة على البربر، ولكنه في نفس الوقت تعلَّم أن استخدام القوة في الشرق الأوسط قد يكون محفوفًا بكثير من التنازلات الأخلاقية. فقد أُقصي قرمنلي بالفعل، ولكنه حصل على الثَّمن. وكانت الولايات المتحدة قد أهانت أحدَ حكام الشرق الأوسط وأذلته، مما حقَّق لها كثيرًا من حرية التجارة وحفظ الكرامة، ولكن كان لا يزال عليها أن تقضيَ على الممارسات المنتشرة للرشاوى والإتاوات.
كانت طبيعة النصر الأمريكي المحدود واضحةً في الخطاب السنوي لجيفرسون أمام الكونجرس في ديسمبر ١٨٠٥. فوقف الرئيس الذي لا يخلو من المتناقضات والذي أقال من قبلُ عشراتٍ من ضباط البحرية وعارض بناءَ البوارج يقترح توسعًا غير مسبوق في الدفاعات البحرية للبلاد. وأعلن أنه ستُحصَّن الموانئ البحرية، وتُنظَّم دورياتٌ للحراسة. وأعلن أيضًا بدْءَ حملة لتوظيف قباطنة جدد، وبناء بوارج بحرية ضخمة تحمل كلٌّ منها ٧٤ مدفعًا، وهي باكورة الإنتاج الأمريكي من هذا النوع.
لا شك أن كلمات جيفرسون أثارت موجةً من التصفيق الحماسي. ومع ذلك فربما يكون استخدام الرئيس للمحدِّدات اللفظية مثل «يبدو» و«في الوقت الحالي» قد أزعج كثيرًا من أعضاء الكونجرس. وربما لاحظ بعضهم أيضًا غيابَ أي ضمانات لسلامٍ دائم مع شمال أفريقيا، أو لإنهاء دفع الإتاوات. بل ربما يكون بعضهم قد توقَّع أن البحرية الأمريكية، بعد تطويرها وتقويتها، سيتعيَّن عليها يومًا ما أن تحارب البربر مرةً أخرى.
الرصاص والبارود
في ٢٢ يونيو ١٨٠٧ غادرت البارجة «تشيزابيك» التي تحمل ستة وثلاثين مدفعًا ميناء نورفوك بفرجينيا في طريقها للانضمام إلى الفيلق الأمريكي في البحر المتوسط. وفور مغادرتها المياه الإقليمية واجهت السفينة «ليوبارد» البريطانية التي تحمل خمسين مدفعًا. وكانت بريطانيا تحتاج إلى مزيد من البحَّارة في حربها ضد نابليون؛ لذا طالبت بحق تفتيش السفن الأمريكية بحثًا عن الهاربين من الجيش البريطاني لإعادة ضمهم إلى البحرية الملكية. واقتربت ليوبارد، ولكن القائد الأمريكي جيمس بارون — الأخ الأصغر لصامويل بارون — تماسك ولم يهتز. وكانت المعركة من جانب واحد فقط بصورة مخزية. فبسبب نقص فتائل الإشعال اللازمة لتشغيل المدافع، لم يتمكَّن الأمريكيون من إطلاق النار إلا على جانب واحد فقط من السفينة «ليوبارد»، قبل أن يستسلموا تمامًا.
وبسبب وقوع هذا الحادث عقبَ النجاحات التي تحقَّقت في شمال أفريقيا بفترة قصيرة، كانت هزيمة تشيزابيك ضربةً مؤلمة لكرامة البحرية الأمريكية والبلاد كلها. أدانت محكمةٌ عسكرية بارون بتهمة الإهمال، وكان ضمن هيئة المحكمة ديفيد بورتر وستيفن ديكاتور. والأسوأ أن البحرية اضطُرت إلى تقليص حجم فيلق البحر المتوسط من أجل تحصين السواحل الأمريكية. ومع أن جيفرسون كان يتباهى بالانتصارات الأخيرة على البربر، فقد أوصى بكل هدوء بدفع إتاوات إضافية للجزائر «من أجل ضمان السلام في تلك المنطقة عندما لا يتوفَّر في غيرها».
كانوا يجرِّدون الشخص من ملابسه، ثم يُدخِلون سيخًا حديديًّا في أسفل العمود الفقري، ويدفعونه بمحاذاة العمود الفقري حتى يظهر من بين كتفي الشخص، متحاشين أيَّ أعضاء حيوية. ثم كان السيخ يُرفع عاليًا في الهواء ويُعرض البائس على العبيد الآخرين، وهو يتلوى من عذابٍ لا يُطاق.
كانت قدرة الولايات المتحدة على الردِّ على هذه الإهانات قد تدهورت تمامًا في يونيو ١٨١٢ بسبب نشوب الحرب مع بريطانيا. وبعد ذلك بثلاثة أشهر فقط، استولى القراصنة الجزائريون على السفينة «إدوين»، وهي سفينةٌ من مدينة سالم، وأسروا طاقمَها المكوَّن من ١١ بحَّارًا. وقال الداي الحاج علي باشا: «إن سياستي ورأيي أن أزيد — لا أن أخفِّض — عددَ عبيدي الأمريكيِّين. ولن أطلق سراحَهم ولو مقابل مليون دولار.» وتكرَّر هذا السيناريو الجزائري في كلٍّ من تونس وطرابلس، اللتين عاودتا الهجومَ على السفن التجارية الأمريكية، وأعلنتا ولاءهما للتاج البريطاني.
لم يَعُد مبدأ دفع الإتاوة يحظى بتأييد الشعب الأمريكي، ولتنفيذ هذه المهمة البغيضة اختارت الإدارة رجلًا متميزًا هو موردخاي مانويل نوا. عندما كان موردخاي في السابعة والعشرين من عمره، كان صحفيًّا ناجحًا وسياسيًّا وكاتبًا مسرحيًّا، وكانت تربطه علاقاتُ صداقة وطيدة مع بعض الشخصيات العامة، مثل ستيفن ديكاتور وجويل بارلو. ولأنه كان من أصولٍ برتغالية يهودية، فقد أبلى بلاء حسنًا أيضًا في دفاعه عن حقوق اليهود وهويتهم. ولذا كان يبدو المرشَّح المثالي للوساطة في قضية البربر؛ فاليهود — حتى المنتمون إلى أصولٍ أوروبية — كان يُنظر إليهم على أنهم وسطاء محايدون بين الغرب المسيحي والشرق الأوسط المسلم. بل إن يهوديًّا آخر، هو الكولونيل ديفيد فرانكس، كان الممثِّل الشخصي لجورج واشنطن في مفاوضاتِ عقدِ الاتفاقية مع المغرب عام ١٧٨٦. واعتمد ماديسون على هذه السابقة في تعيين نوا قنصلًا للولايات المتحدة في تونس، ومنحه صلاحياتٍ لإنفاق ٣٠٠٠ دولار فدية لكل أسير. وكان على القنصل أن يقول إن هذه المبالغ تبرَّعت بها عائلات الأسرى، ولا علاقة لها البتة بالحكومة الفيدرالية.
ساعد ماديسون في سَنِّ عادةِ تعيين يهود أمريكيِّين في المناصب الدبلوماسية في الشرق الأوسط، ولكنَّ هذه الليبرالية كانت تشوبها الممارسةُ المستمرة لدفع الإتاوات. وكان يمكن لمثل هذه الهفوات أن تتكرَّر ما دامت الولايات المتحدة غيرَ قادرة على مقاومة طلبات القراصنة وعلى الاستجابة لتهديداتهم بقوة السلاح. ولكن الولايات المتحدة كانت غير قادرة على استجماع مثل تلك القوة أو الشجاعة، ما دامت الحرب مستمرة مع بريطانيا.
لم تهدِّد حرب ١٨١٢ أمنَ الولايات المتحدة فقط — فقد أحرق البريطانيون عاصمتها — بل هدَّدت أيضًا وحدتها التي حققتها بشِق الأنفس؛ فقد فكَّر أهل نيو إنجلاند المعارضين للحرب في الانفصال. ومع ذلك فقد أمكن تجنُّب هذه الكارثة بإصرار ومثابرة بعض قادة القوات البرية مثل أندرو جاكسون، القائدِ الذي لعب فيما بعدُ دورًا مصيريًّا في علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. وقامت القوات البحرية بدور متميز. فعن طريق تطبيق الخبرات والتجارب التي اكتسبوها من محاربة البربر، تغلَّب الأمريكيون على البريطانيِّين وأغرقوا بعضَ سفنهم واستولوا على بعضها. أما الحساب مع الجزائر فلم يُحسم حتى انتهت الحرب بتوقيع معاهدة جنت عشيةَ عيد الميلاد ١٨١٤. وضجَّ الشعب الأمريكي مطالِبًا بالقصاص من القراصنة، فوقَع على عاتق الرئيس تحديدُ موعد التنفيذ وكيفيته.
لم يكن اتخاذ القرارات سهلًا على جيمس ماديسون. ففي الرابعة والستين كان قد أصبح رجلًا مغضَّن الوجه خائرَ القوى، وحكيمًا حذرًا، وكان كثيرَ الخلاف مع أعضاء حكومته. والآن وقد وجد نفسه محاصَرًا بين الضغط الشعبي للثأر من البربر وعدم رغبته في خوض حربٍ أخرى بهذه السرعة بعد إحلال السلام، فقد أصابه التردُّد، ومرَّت ثلاثة أشهر كاملة قبل أن يتَّجه إلى الكونجرس ويطالب بإعلان الحرب رسميًّا، واستجاب له الكونجرس على الفور، وتلقى قائد الحملة — ستيفن ديكاتور — أوامرَ بالتهديد بإيقاع «كوارث خطيرة» بحكام شمال أفريقيا، وألا يرضى بأقلَّ من «سلام دائم وعادل».
غادر ديكاتور نيويورك في ١٥ مايو على رأس فيلقٍ قوي مكوَّن من ١٠ سفن، منها البارجة «جيريير» التي تحمل ٤٤ مدفعًا، والتي استُولي عليها حديثًا من البريطانيين. وبعد ذلك بشهر واحد اشتبكت السفينة «جيريير» بالقرب من ساحل إسبانيا مع سفينة جزائرية تحمل ٤٦ مدفعًا، وقتلت قبطانَها الريس حميدة و٣٠ من أفراد طاقمه، ثم طارد ديكاتور سفينةً أخرى للعدوِّ — هي إستيديو — حتى جنحت، وأسرَ ٥٠٠ بحار، أما الأمريكيون فقد فقدوا سبعةً من رجالهم بسبب مدفع معطَّل.
وفي صبيحة يوم ٢٨ من يونيو استيقظ عمر باشا «داي» الجزائر الجديد مذعورًا على ١٠ سفن حربية أمريكية راسية في مينائه. فاستنجد الداي بالبريطانيين، وذكَّرهم بتأكيدهم له «أن الأمريكيِّين سيُمحَون تمامًا من على وجه البحار في خلال ستة أشهر»، وقال لهم «إنهم الآن يشنُّون علينا حربًا بسفن كانت مِلكًا لكم في يوم من الأيام!» ولكن الموائد كانت قد انقلبت على أصحابها. فبريطانيا لم تَعُد في حالة حرب مع الولايات المتحدة، ولن تستطيع الجزائر وحدَها الدفاع عن نفسها ضد الأسطول الأمريكي. ولم يكن أمام الداي خيارٌ سوى مقابلة ديكاتور والمرشَّح الجديد لمنصب القنصل الأمريكي ويليام شيلر. وُلد شيلر في كوبا وتلقَّى تعليمه في جامعة برينستون، وكان مفاوِضًا يتميز بالدهاء والعناد، وكانت آراؤه عن أهل شمال أفريقيا تُردِّد بقوة صدى آراء إيتون. ومنها: «الإسلام، الذي يتطلب القليل جدًّا من الإرشادات … يبدو مناسبًا تمامًا لمفاهيم الشعوب البربرية، إنني مندهشٌ من أن يُسمحَ لقوة غير ذات قيمة إلى هذا الحد بإعاقة ومضايقة عالَم التجارة والمطالبة بإتاوات وفِدْية مقابل الأسرى.»
في تلك الأثناء كان ديكاتور قد تقدَّم نحو تونس وطرابلس، مطالبًا بتعويض عن السفن التي جرى الاستيلاء عليها والإفراج عن باقي المختطفين. وعاد الأسطول إلى الولايات المتحدة حاملًا أعلام ٢٩ سفينة من سفن العدوِّ، وحِيكت الأعلام معًا وصُنع منها بساط قُدِّم للسيدة الأولى دوللي ماديسون، وعادت السفن الأمريكية إلى الوطن ومعها سبعة أسرى من طرابلس، وعُرِضوا في عدة مسارح بمدينة نيويورك باعتبارهم «مسلمين حقيقيِّين». وانتهت بذلك أكثرُ من ثلاثة عقود من الصراع بين الولايات المتحدة وشمال أفريقيا. وكان قراصنة البربر الذين استولوا على ٣٥ سفينة أمريكية وأسروا ٧٠٠ بحَّار وهدَّدوا بقاء أمريكا وجرحوا كرامةَ الأمريكيِّين، قد انتهَوا.
وفي النهاية يبقى أن نسأل: هل كان هذا الصراع مبرَّرًا؟ من الناحية المالية البحتة، كانت الإجابة لا قاطعة؛ فقد وصل ثَمن محاربة طرابلس وحدَها بين عامي ١٨٠٢ و١٨٠٥ إلى ٣ ملايين دولار، وهو مبلغٌ أكبر بكثير من الإتاوات التي دفعتها الولايات المتحدة إلى دول البربر الأربع في تلك السنوات. وكان جون آدامز على حقٍّ في تقديره أن محاربة القراصنة ستكون أكثرَ تكلفة من رشوتهم. ولكن استفادة أمريكا من الناحية الاستراتيجية فاقت نفقاتها. فقد أمكن تنفيذُ مبدأ جيفرسون بضرورة تبني «موقف حاسم ومستقل» في الشرق الأوسط، كما مكَّن الولايات المتحدة من حماية نفسها من الابتزاز وكسب الاحترام الدولي. وعلَّقت جريدة «نايلز ويكلي ريجستر» على ذلك قائلة: «كلمة أمريكي أصبحت من أكثر الكلمات فخرًا في العالم. ونحن على خطأ كبير إذا لم تمنحنا هذه الحرب مع الجزائر نفوذًا إضافيًّا في المجالس الأوروبية.» ولم يأتِ هذا الفخر من فراغ. فبعد الحملة الأمريكية بسنة، اتَّبع أسطولٌ إنجليزي هولندي مشترَك مثالَ ديكاتور، عن طريق فرضِ إرادته على الجزائر. وكما قال أحد البريطانيِّين: «لم يكن من الممكن أن تحتمل إنجلترا ما كانت الولايات المتحدة قد رفضته وعاقبت عليه.»
غيَّرت حروب البربر نظرةَ أوروبا للولايات المتحدة، وبدَّل ذلك الانتصار بلا شك صورةَ الأمريكيِّين عن أنفسهم. فقد ملأتهم الحرب بمشاعر الفخر الوطني والحيوية وإحساس رائع بالهوية. وانتشرت الرموز الوطنية، كالأعلام والنسور الصلعاء وأشكال العم سام. وأثنت جريدة «نايلز ويكلي ريجستر» على «الطاقة التي تمنحها الحرية لأبطالها، وأنها تقوي قضيتَها عند مواجهة أي دكتاتورية». والجماهير — التي كانت تنكمش وتقشعر أبدانها عندما تذكر سوزان روسون «العجز الأمريكي» في «عبيد في الجزائر» — أصبحت الآن تلتهب حماسةً بمسرحية «حصار طرابلس» لجيمس إليسون. وسعِد الأمريكيون أيضًا بكلمات الشاعر جوزيف هانسون عن المسلم الذليل:
انتهت حروب البربر بانتصار الولايات المتحدة، ولكنَّ الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى المشاركين الأساسيِّين في تلك الحرب من الأمريكيِّين. فقد استُقبل ستيفن ديكاتور استقبالَ الأبطال، وذاع صيتُه بعد أن صاغ عبارة «وطني سواء على حق أو على باطل». ولكن بعد ذلك بخمس سنوات قُتل هذا القائد في مبارزةٍ مع جيمس بارون، القبطان السابق للسفينة «تشيزابيك»، الذي لم يغفر لديكاتور قط محاكمته عسكريًّا. وقد دُفن ديكاتور في البداية في فيلادلفيا بجانب جثمان المفاوِض جويل بارلو، ثم نُقل إلى الأكاديمية البحرية بأنابوليس. وكان بارلو قد عُيِّن مبعوثًا للولايات المتحدة في فرنسا عام ١٨١١، ورافق نابليون في غزو روسيا، ثم مات متجمدًا في بولندا. أما ويليام بينبريدج فكانت نهايته تقليدية؛ فقد توفِّي وفاةً طبيعية بعد قيادة الأسطول على مقرُبة من بوسطن وفيلادلفيا. ولم يتغلَّب بينبريدج قط على إحساسه بسوء حظه في البحر المتوسط، مرددًا: «لقد ضاعت مني فرصةُ الحرب أو التفاوض» مع البربر. أما توبياس لير فقد تعرَّض للملاحقة بسبب دوره في اتفاقية طرابلس حتى بعد الحدث بسنوات، فانتحر في واشنطن في أكتوبر ١٨١٦.
ولم يتعافَ إيتون قط من تجربته المريرة في شمال أفريقيا. ومع أن التجربة مكَّنته من تقدير الولايات المتحدة، حيث «يسمح لنور ﷲ أن يضيء الأذهان»، فإنه بقي على مرارته. وبدافعٍ من الثأر، انضم عام ١٨٠٦ إلى المؤامرة التي دبَّرها آرون بور لغزوِ منطقة لويزيانا. لكنه فيما بعدُ تحوَّل إلى شاهد ملك ضدَّه. ومع هذه النقطة السوداء فقد منحه المجلس التشريعي لماساتشوستس ١٠ آلاف فدان من الأراضي الزراعية «بسبب رغبته في تكوين ذكرى عمل بطولي». فعاش هناك دون عمل، عيشةً منعزلة أشبه بعيشة الرهبان، مدمنًا على الشراب. وقد أفضى إلى صديقٍ قديم له من الجيش عام ١٨١٠ قائلًا: «إنني أعيش تحت حصارٍ محكم. فملك الموت يدفعني إلى الداخل، ويرسم خطوطًا … حول قلعتي»، ثم تُوفي في العام التالي.
أما توماس جيفرسون العجوز فكان يتابع من ضَيعتِه بمونتيتشيللو أنباءَ انتصارات ديكاتور في شمال أفريقيا وسقوط القراصنة البربر. وقد استعاد علاقتَه بصديقه وغريمه القديم جون آدامز، فكتب إليه عن فخره بالبحرية الأمريكية، التي أسماها «الحائط الخشبي للولايات المتحدة»، والتزامها «بإحكام السيطرة على دول البربر». وعلى الرغم من المعارضة الشديدة لتكوين قواتٍ بحرية أمريكية، والهزائم التي مُنيت بها أمريكا في معاركها الأولى في الشرق الأوسط، فإن البحرية الأمريكية خرجت قوةً حربية عالمية. بل إن فيلق البحر المتوسط كان في حالةِ تأهُّب دائمة وقت وفاة الرئيسين جيفرسون وآدامز في ٤ يوليو ١٨٢٦، وهو ما واكبَ العيد الخمسين لميلاد الدولة.
•••
غير أنَّ هذه الإنجازات العظيمة في مجال العلاقات الخارجية لم تخفِ التناقضات التي ظلَّت تثير الاضطرابات الداخلية في الولايات المتحدة. ومع أنَّ عدد سكان الولايات المتحدة قد تضاعف أكثرَ من خمس مرات في السنوات الخمسين الأولى بعد الاستقلال، ووصل إلى ١١ مليون نسمة، فإن خُمس هذا العدد كان لا يزال من العبيد. وإذا كانت حروب البربر قد مكَّنت الأمريكيِّين من الاتحاد في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، فإنَّ قضيةَ العبيد الأمريكيِّين ذوي الأصول الأفريقية زادت من فُرقتِهم وانقسامهم بلا رجعة. ولكن حتى هذا الصراع تأثَّر بأسطورة البربر وبتجارب الأسرى الأمريكيِّين في شمال أفريقيا.
وقد كان لقليلٍ من الأحداث في فترةِ ما بعد الاستقلال تأثيرٌ جذري على أمريكا أكثرَ من حربها مع الشرق الأوسط. فقد دفع التهديد القوي من تلك المنطقة المستعمرات السابقةَ إلى الاتحاد وجمعِ مواردها معًا، وإلى تكوين قوة بحرية وتوجيهها بعيدًا عن السواحل الأمريكية. وباختيار أمريكا للقتال بدلًا من مهادنة القراصنة، وخروجها بذلك عن مسلكِ أوروبا، استطاعت الدولة أن ترسِّخ شخصيتها القومية. ولن يضطر مواطنوها بعد ذلك إلى احتمال «الإهانات المذلة» التي تعرَّض لها بينبريدج عام ١٨٠٠، ولن يترددوا أبدًا — كما فعل بينبريدج — في التفكير في كلمات «الولايات المتحدة المستقلة». ففي بوتقةِ هذا الصراع الذي دام ٣٠ عامًا تشكَّلت الهوية الأمريكية.
استعرض الأمريكيون تلك الهويةَ المحدَّدة الجديدة، فاندفعوا في مغامراتٍ في الشرق الأوسط فيما وراء شمال أفريقيا، نحو الجزيرة العربية والأناضول والهلال الخصيب. ولم يَعُد هدف عدد كبير منهم البحثَ عن الثروة أو الأمان أو حتى التحقُّق من صحة الأساطير التي سمِعوها عن تلك المنطقة. بل كان هدفهم هو حمْلَ مِشعل التنوير والخلاص إلى المنطقة، وإعادة تشكيلها وفق النموذج الأمريكي. فتخلى الشباب والشابات عن الخيال وتبرءوا من البارود والقنابل، وأخذوا يغرسون قيمَهم عن طريق الأناجيل والكتب فقط، في المدارس والمستشفيات، بدافعٍ من إيمانهم العميق.