تنوير العالم وتحريره
احتشد الناس في مقاعدِ كنيسة «أولد ساوث» ببوسطن، وأطلُّوا من نوافذها المدعَّمة بالقضبان. وكانوا قد انتظروا هذا اليوم — ٣١ أكتوبر ١٨١٩ — بشغفٍ كبير، مقتنعين تمامًا أنه بداية عهد جديد، وربما عالَم جديد بأسرِه. وكانت همهماتهم التي تحوَّلت إلى طنينٍ عالٍ تنبئ بوصول أحد علماء الدين الأجلاء. ومع ذلك فعندما فُتحت الأبواب، لم يظهر كاهنٌ أو حتى شمَّاس، بل مجرد قسين متواضعين، في نحو الخامسة والعشرين من عمرهما. وسكت الجمع فجأةً عندما تقدَّم أحدهما، وهو قصيرٌ ذو أنف عريض ويرتدي نظارة، وصعِد إلى المنبر. كان اسمه ليفي بارسونز، ولم يكن موضوعُ خُطبته هو الإنجيل ولا القيامة، بل اليهود.
بدأ بارسونز بقوله: «إنَّ مَن علمونا طريقَ الخلاص هم اليهود. فقد حفظوا الإنجيل بأمانة وإخلاص، وعمِلوا بجِد، وعانَوا وماتوا مدافعين عن ديننا. كان ربنا هو ربهم، وكانت جنتهم هي جنتنا.» والأهم — كما ذكر بارسونز — هو أنهم منحوا الإنسانيةَ مُخلِّصها؛ «نعم يا إخوان، فمَن يشفع لكم الآن عند رب العرش … يهودي!» وانتهى إلى أنه لكي يُظهِر المسيحيون شكرَهم لكرم اليهود يجب عليهم أن يعيدوا لذلك الشعبِ سيادتَه على وطنه الذي ورد في الإنجيل، والذي سكنه آباؤهم من قبلِهم.
أوضح بارسونز كيف عاش اليهود ١٨ قرنًا في عزلةٍ سياسية، مشرَّدين بلا وطن، ومحرومين من الاستقلال، غير أنه آنَ أوانُ رفعِ هذا الظلم. وقال: «اعترفوا أنه لا يزال في صدر كل يهودي رغبةٌ جامحة للعيش في الأرض التي منحها ﷲ للآباء، وهي رغبةٌ لا يمحوها حتى اعتناق المسيحية.» كان هذا الوطن هو فلسطين، الذي كان يومًا ما بلدًا رائعًا، لكنه لم يَعُد الآن بلدًا مستقلًّا ولا حتى إقليمًا منفصلًا، بل أصبح بلدًا عثمانيًّا يسكنه قليلٌ من الأتراك. بلدٌ راكد متخلِّف، ينتظر أن يستعيده أصحابه الحقيقيون. ثم أضاف: «وسيستعيدونه بالتأكيد!» فإذا انتهى الاحتلالُ العثماني لفلسطين، «فلن يمنع عودةَ اليهود الفورية إليها سوى معجزة!»
لم يكن بارسونز يدعو بالطبع إلى غزوٍ عسكري، فلم تكن أمريكا في وضعٍ يسمح لها بقتال العثمانيِّين حتى بعد انتصار أمريكا في حروب البربر، بل كان يدعو إلى برنامجِ دعوةٍ سلمية. وبناءً عليه كان المبشِّرون المسيحيون سيسافرون إلى الشرق الأوسط، إلى أسوار القدس المبارَكة، وهناك يقومون بأسمى أعمال الخير والصلاح بحيث تغري اليهود بالعودة إلى الوطن واستقبال يسوع المسيح. إن قيامَ دولة يهودية في فلسطين سيفي بكل الشروط اللازمة للمجيء الثاني، كما أكَّد بارسونز. وعلى ذلك سيغمُر النور المقدَّس ليس فقط اليهود، بل أيضًا المسلمين ومسيحيي الشرق الضالين. وعندها ستبدأ ألفُ سنة من السلام والتضامن الروحي، وستنحني الإمبراطورية العثمانية — بل كل الإمبراطوريات — أمام مجد المسيح؛ «وستتوجه كل العيون نحو القدس.»
تلقَّى الشعب هذه الحقائقَ مندهشًا ومذهولًا وانتظر بشغفٍ متزايد كلمات الرجل الثاني. كان هذا هو بليني فيسك؛ أطولَ قامةً من بارسونز وأكثرَ هندامًا، وأقلَّ كلامًا. تحدَّث بدوره عن الحاجة إلى عمل معجزات في الأرض المقدَّسة، للمساعدة في تحقيق الخلاص، مهما كانت المخاطر. ثم تلا من الكتاب المقدَّس: «والآن ها أنا ذا أذهب إلى أورشليم مقيَّدًا بالروح»، فانفجر الحضور بالبكاء.
إذا نظرنا من منظور القرن الحادي والعشرين فقد نرى أن فيسك وبارسونز وجمهورهما كانوا متطرفين في عقائدهم ولا يعبِّرون إلا عن هامش المجتمع الأمريكي. فزعمُهما أنهما القادران وحدَهما على إنقاذ اليهود والمسلمين وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط سيبدو ساذَجًا بالتأكيد في نظر كثير من الأمريكيِّين اليوم. إن لم يكن معبِّرًا عن الغرور؛ فلماذا يتبنَّى أبناء أحد أقدم الحضارات والوارثون لأحد أعرق التقاليد في التاريخ عقيدةَ هؤلاء الغرباء المحدَثين، المبشِّرين بالبروتستانتية منذ أقلَّ من ثلاثمائة عام وأبناء دولة عمرها أقلُّ من خمسين عامًا؟
ولكن هؤلاء الأمريكيِّين لم يكونوا يمثِّلون نسبةً هامشية بالمرة. فتعاليم الميثودية والكنيسة المشيخية الأمريكية والأبرشانيِّين كان لها أتباعٌ كثيرون في الولايات المتحدة، متخطيةً كل حواجز الطبقات والتعليم والجنس. فكان من بين المبشِّرين وأتباعهم مزارعون وتجار، وأطباء وأصحاب حرف، وكان من بينهم مَن تلقَّوا قدرًا ضئيلًا من التعليم ومَن تخرجوا في أرقى الجامعات، رجالًا ونساء على السواء. ولأنهم كانوا متشربين حتى النخاع بالقيم الأمريكية، مثل الفردية والمزايا المدنية والوطنية فقد رأوا أنهم حمَلَة ميراث الثورة. وفي هذه الكنيسة نفسِها — كنيسة «أولد ساوث» — قبل ذلك بخمسة وأربعين عامًا كان أعضاء منظمة أبناء الحرية قد تجمعوا قبل مسيرة ارتدَوا فيها ملابسَ الهنود الحمر للتخلُّص من الشاي البريطاني في ميناء بوسطن.
لم تتملك الحماسة للحملة التي اقترحها فيسك وبارسونز فقط الأمريكيِّين الذين عاشوا زمنًا في أمريكا، بل سيطرت أيضًا على كثير من المهاجرين الجدد. ولم تكن الحماسة كذلك مقصورة على بوسطن أو ما يسمَّى مناطق حزام الكتاب المقدَّس (المناطق التي يسيطر عليها البروتستانت المتشدِّدون) بنيو إنجلاند. بل قوبل القسيسان بكل حفاوة وتَرحاب في كل مدينة رحلا إليها في رحلتهما عبْر الجنوب والولايات الحدودية غرب جبال اللجني لجمع التبرعات لرحلتهما. وقال بارسونز فرحًا: «بدأت روح البعثات التبشيرية تسيطر على ثروة الكنائس الأمريكية ونفوذها.»
واشتركت كلُّ هذه الجماعات في إيمانها بأن أمريكا لها دورٌ أسندَه إليها الربُّ بأن تكون «نورًا للأمم» وأن تكافح من أجل السلام العالمي. وقال المؤرخ أوليفر إلزبري عن فيسك وبارسونز وآلاف الشباب والشابات الذين قُدِّر لهم أن يسيروا في رِكابهما: «كانوا عازمين على الارتقاء بالإنسانية إلى مستوًى أفضل من الحياة. وكانوا يسعون إلى تقديم أفضلِ ما كان في أمريكا وقتها إلى العالم الوثني.» وكان المبشِّرون ينفردون بالجمعِ بين السذاجة والاستخفاف بعقول الآخرين، بين الغرور وعدم التكلُّف، ومع ذلك فقد كانت نياتهم حسنةً للغاية في الوقت نفسه؛ وكان تكبُّرهم حميدًا في جوهره.
رحل جون ليديارد إلى مصر بحثًا عن المغامرة، ودافع رجالٌ مثل ويليام إيتون وستيفن ديكاتور عن بلادهم ضد قراصنة شمال أفريقيا. ولكن كان الهدف الوحيد لرحيل فيسك وبارسونز إلى الشرق الأوسط هو نشْرَ دينهما. فكيف حسبا إذن — هما وكثير من أهل بلادهما — أنه عن طريقِ نشر البروتستانتية الإنجيلية في الشرق الأوسط ذي الأغلبية المسلِمة يمكن إنقاذ العالم بأجمعه؟ ولماذا كان لديهما هذا القدرُ الكبير من الثقة بأن شباب الولايات المتحدة الناشئة يمكنه تحويلُ الشعوب العريقة للمنطقة إلى المسيحية، ويمكنه بذلك إنقاذُ الإنسانية جمعاء؟
«التشابه إلى حد التطابق»
نستطيع أن نجد إجاباتٍ على تلك الأسئلة قبل قرنين من الزمان، محفورةً في الأفكار التي قامت عليها الولايات المتحدة.
قال ويليام برادفورد، المحافِظ المستقبلي لمستعمرة بليموث، عندما غادر السفينةَ «مايفلاور» عام ١٦٢٠: «دعنا نعلن كلمةَ الرب في صهيون.» كان برادفورد يردِّد كلماتِ أرميا، ولم تكن صهيون عنده أرضَ كنعان الموعودة، ولكن نسختها الحديثة: أمريكا، ولم يكن سكانُها هم بني إسرائيل القدامى، ولكن ١٠١ من المسافرين الذين وصلوا مع برادفورد، وهم رفاقه من التطهريِّين.
لم تعكس ملحوظاتُ برادفورد فقط اكتشافَ عالَم جديد، ولكن أيضًا إعادة اكتشاف العهد القديم، ومع بداية الإصلاح الديني أُتيح لشعب إنجلترا الاطلاعُ على الكتب التي كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تجاهلتها زمنًا طويلًا، وهي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وسفر القضاة وسفر الملوك وأسفار الأنبياء. وأحدَث اطلاعُهم على هذه الأسفار تحولًا كبيرًا. فقد قامت إنجلترا بتغيير القصة الواردة في الإنجيل بسهولة، من قصة إبراهيم إلى كتاب دانيال، واعتبرتها قصتَها الوطنية، واصلةً ما أسماه الشاعر ماثيو أرنولد «عبقريتنا وتاريخنا نحن الإنجليز وعبقرية وتاريخ الشعوب العبرية». أثْرَتْ عباراتُ الإنجيل اللغةَ الإنجليزية، وساعدت مفاهيمُ الكتب المقدَّسة مثل الحرية الاجتماعية والعدالة على تقوية الحكومة البرلمانية. وبرعت أعدادٌ من الإنجليز — من عامة الشعب ورجال الدِّين على السواء — في اللغة العبرية، وأصبحوا يطلِقون على أولادهم أسماءً من العهد القديم، مثل جيسي وسارة وصامويل وريبيكا.
كان الدافع وراء تبنِّي تاريخ العهد القديم قويًّا بصورة خاصة بين التطهريين، أكثر الإصلاحيِّين الإنجليز صلابةً. ففي بحثهم عن دِين مثالي لم تلوِّثه السياسة أو الطبقات الاجتماعية، وعن مُثل موازية لمفاهيمهم، تذكَّر التطهريون اليهود وعقيدتهم القديمة. فقد كانوا يؤمنون بأن ﷲ قد تحدَّث مباشرةً إلى الشعب المختار، وحفظ عهده معهم، ونجَّاهم من الاضطهاد. وخلَص التطهريون من ذلك إلى أنهم ورثةُ هذا العهد والعَقد، وأنَّ إسرائيلَ جديدًا قد بدأ رحلةَ شتات جديدة من العبودية إلى الحرية، موجَّهًا نحو الأرض الموعودة. وبدافعٍ من هذا الحسِّ بالتميز والاختيار، رحل الحجاج من إنجلترا إلى هولندا، ومن هناك إلى بليموث روك، محطتهم الأخيرة نحو الخلاص.
وبحلول منتصف القرن الثامن عشر كانت ثقةُ أمريكا الاستعمارية باختيارها الإلهي قد ساعدت على إشعال جذوة الصحوة الدينية الكبرى، وأُسِّسَت كنائسُ جديدة مثل المعمدانية والميثوديست والكنيسة المشيخية الأمريكية، وأُنشئت جامعاتٌ جديدة كبرينستون ودارتموث لتساعد في نشر عقائد هذه المذاهب. أما الأفكار الكالفينية القديمة الخاصة بحتمية القضاء والقدَر فجرى التخلُّص منها، والاستعاضة عنها بثقةٍ أمريكية جديدة في قدرة الفرد على تخليص روحه عن طريق وهبِ نفسه تمامًا لأنشطة الدعوة والدين. ومع ذلك فلم يكن على المسيحيِّين أن يبحثوا عن خلاص أنفسهم فقط، بل عن خلاص الآخرين أيضًا عن طريق قيادتهم إلى ميلاد روحي جديد. وبسبب ثقتهم بقدرتهم على القيام بتلك المهمةِ تطلع كثيرٌ من الأمريكيِّين إلى ألفية جديدة، وعصر ذهبي، تكون فيه كلُّ أمة مكوَّنة من شعب حر. وتكون فيه الأرض كلُّها «مجتمعًا واحدًا، جسدًا واحدًا في المسيح»، كما تنبَّأ بذلك رجلُ الدين جوناثان إدواردز. هلَّلت أمريكا البروتستانتية لذلك الحدَث المستقبلي، الذي تنبَّأ به مؤسِّسوها، مردِّدين قولَ مَتَّى في إنجيله (٥:١٤–١٦): «نور العالم» … «المدينة على الجبل» التي ليس لها مثيل.
ومع ذلك فلم تمنع هذه الحماسة الدينية التي اجتاحت الولايات المتحدة الجمهوريةَ الشابة الناشئة من فصل الكنيسة عن الدولة. ففي اتفاقية عام ١٧٩٦ مع طرابلس أعلنت الولايات المتحدة أنها «لم تؤسَّس بأي شكل على الدين المسيحي، وأنها لم تَخُض حربًا قط … ضد الدول الإسلامية … بناءً على أي وازع ديني»، وهو تأكيدٌ وافق عليه مجلس الشيوخ بالإجماع. ولكن مع ذلك فقد استمر الإيمان والعقيدة في اختراق كل ركن من أركان الحياة في أمريكا، ومنها الحكومة. فكثيرًا ما كان رجال الكونجرس وأعضاء الحكومة وحتى الرؤساء يدعون إلى أنشطةٍ تبشيرية داخل وخارج الولايات المتحدة.
انتعشت الديانة البروتستانتية في الولايات المتحدة بسبب حرية الحدود وعدم وجود قيود لكنيسة وطنية موحَّدة، وزاد عددُ أتباعها وقويت سلطتها أيضًا باختراعها وسائلَ جديدة لابتكارات روحية. وبنهاية القرن الثامن عشر كان شلال الطاقة الدينية قد تحوَّل إلى صحوةٍ ثانية أكَّدت العودةَ إلى الأصول، والإيمان بالخلاص القادم. وقال أحد وزراء كونيتيكت عام ١٨١٥: «لقد دخلنا تلك الفترة المُهَيِّئة للألفية الجديدة»، واصفًا فترةً تتوقَّف فيها كل الحروب، ويكون لكل مجتمع كنيسته، ويكون لكل عائلة مباركتها اليومية. وكان هناك تركيزٌ واهتمام خاص بتحويل اليهود إلى الإنجيلية، وتوحيد إسرائيل القديمة بالجديدة. وازدهرت وانتعشت وانتشرت مؤسسات الأنشطة الدينية، مثل مؤسسة المرأة للترويج للمسيحية بين اليهود، محقِّقة نتائجَ رائعة من حيث عدد المتحولين إليها. وانتشرت نبوءةٌ عامة، مُفادها أن «معبد الرب سيهبط بين البشر قريبًا». وفي مدن وقرى نيو إنجلاند ونيويورك كان الشباب على استعداد تام لوهب حياتهم لتحويل هذه الرؤية إلى حقيقة.
دعت الصحوة الثانية الأمريكيِّين إلى الانغماس — ليس فقط في الروحانيات — بل أيضًا في فخرهم ببلادهم. ونصح بليني فيسك قائلًا: «يجب على المسيحيِّين أن يطوِّروا وطنيتهم إلى درجة كبيرة. فما الذي يمكن أن يكون أكثرَ تناسبًا، من نار متوهجة وحماسة سياسية موجَّهة للمسيح؟» أثار هذا المزيج من حب الوطن والتوجُّه للرب دهشةَ ألكسيس دي توكفيل، باعتباره أحدَ أكثر صفات أمريكا تميزًا. واستخلص هذا الفرنسي عام ١٨٣٥ أن المسيحية لها «تأثير أكبر بكثير على أرواح البشر … في أمريكا» أكثر من أي مكان آخر في العالم، وأنه فقط في الولايات المتحدة يُرْبط بين الدين و«السلوكيات الديمقراطية» و«روح الاستقلال الفردي».
ظهر التزام أمريكا برؤيتها لتحسين العالم أجمع، دينيًّا ودنيويًّا، عام ١٨٠٨، في ويليامز كولدج بماساتشوستس. ففي عاصفة صيفية مشبَّعة بالبرق، اختبر خمسة طلاب ثقتَهم بالله عن طريق اختيار أكثر المخابئ ضَعفًا، وهو كومة من القش، ليختبئوا فيها. وقال لهم قائدهم صامويل ميلز: «إنني أنا وأنتم كائنات صغيرة للغاية، ومع ذلك فعلينا ألا نرضى حتى يكون لنا تأثيرٌ ممتد إلى أبعدِ ركن من هذا العالَم المدمَّر.» ونجا الطلاب الخمسة كلهم. وخرجوا من التجربة مبتلين ولكنهم كانوا ممتلئين بالرغبة في تدريس الإنجيل خارج الولايات المتحدة. وقد انتشر حادث كومة القش في كلياتٍ أخرى، مثل هارفارد وبراون ويونيون، وخاصة في ميدلبيري وكلية آندوفر للاهوت، حيث درس كلٌّ من بارسونز وفيسك. وسرعان ما كان الطلبة يقدِّمون طلباتٍ في كنائسهم المحلية لرعاية مجهودات تبشيرية خارج الولايات المتحدة، ضاغطين على الكبار للقيام بخطوات تنفيذية.
وقد سارع الكبار بالتصرُّف بالفعل. فعام ١٨١٠ قاموا بتأسيس المجلس الأمريكي للبعثات التبشيرية بالخارج. وكان المجلس مكوَّنًا من رجال دين من طوائف مختلفة، بالإضافة إلى رجال صناعة وأطباء ومحامين، وكان هدف المجلس هو ترسيخ وجود مراكز التبشير أو «المحطات» في جميع أنحاء العالم غير البروتستانتي. وكان رأي أحد مؤسسي المجلس، القس صامويل هوبكنز «أن امتداد الحب المسيحي هو فقط الذي يمكنه تقريب الإنسانية من الألفية التي ستضع حدًّا للفقر والاضطهاد والظلم.»
وإذا كان صهيون يعني بذلك الأرضَ الموعودة في أمريكا لقائد الحجاج ويليام برادفورد، أما ليفي بارسونز الذي عاش بعد ذلك بقرنين فكان يعني بصهيون الأرض الأصلية القديمة لإسرائيل، التي أصبح اسمها الآن فلسطين. وفي حين أنه كان يمكن تحويلُ ديانة الكثيرين حول العالم، فإن المبشِّرين آمنوا بأن فلسطين فقط هي البلد التي يمكنهم أن يحدِثوا أثرًا فوريًّا وعميقًا فيها. فهناك ستمتزج رغبتان معًا؛ تلك التي يتمنَّاها البروتستانت في الاتحاد مع أسلافهم الروحيِّين — أي اليهود — والأخرى الرغبة الشديدة في عودة المسيح.
لم يكن الانبهار الذي أظهره كثيرٌ من الأمريكيِّين البروتستانت نحو اليهود نابعًا من أي اتصال مكثَّف معهم، فقد كان يعيش في الولايات المتحدة في ذلك الوقت نحو ٤٠٠٠ يهودي، وهو ما كان يمثل نحو ٠٫٤٪ من مجموع السكان حينئذٍ، ولم ينبع من الرغبة في عَقد صداقة شخصية معهم. بل الحقيقة أن بعض الكتابات الإنجيلية المبكرة تضمَّنت بعض الملحوظات التي قد تبدو اليوم معاديةً للسامية بالتأكيد، منها إصرارهم على أن يُعَمَّد جميع اليهود في النهاية. ومهما كانت المشاعر التي كانوا يكنُّونها لهم بوصفهم مواطنين ينتمون إلى نفس الوطن، فإنها كانت مختلفة عن عواطف الإنجيليِّين نحو اليهود باعتبارهم أبناءَ عمومتهم في المعتقَد والأداة للخلاص المستقبلي. وعن طريق الإسراع لتنفيذ وعود الرب بإعادة اليهود إلى موطنهم الأصلي، سوف يتمكَّن المسيحيون من إعادة تشكيل ظروف سيادة اليهود كما كانت في عهد المسيح، وتمهيد المسرح لعودته. كان هذا هو مفهوم الإعادة أو «العودة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه» وكان تأثيره عظيمًا. ذلك لأن اللاهوت المسيحي صوَّر في إحدى المرات خسارةَ اليهود لسيادتهم على أنه عقابٌ لرفضهم فكرةَ الظهور الأول للمسيح، ولكنَّ الإنجيليِّين كانوا يرون إعادةَ إحياء الدولة اليهودية على أنه شرطٌ أساسي للظهور الثاني للمسيح على الأرض.
يوم الأشياء الصغيرة
اتَّبع بارسونز وفيسك طريقًا في البحر المتوسط كثيرًا ما سار فيه التجار الأمريكيون، وهي رحلةٌ تستغرق ستة أسابيع من نيو إنجلاند إلى سميرنا (إزمير اليوم) على سواحل تركيا على بحر إيجة. ولا يمكن للمرء أن يتخيَّل مشاعر الصدمة والغربة التي شعر بها هذان القسان الشابان عندما دخلا هذه المدينة الشرق أوسطية القديمة، التي يقال إنها مهدُ ميلاد هوميروس. فعلى عكس مدينة بوسطن المنظَّمة وغير المكدَّسة التي تركاها وراءهما، كانت سميرنا «لؤلؤة الهلال الخصيب» مكوَّنة من مجموعة من الحارات الملتوية والروائح الغريبة والموسيقى غير المتناغمة. وقال أحد الزائرين الأمريكيِّين المعاصرين معلقًا على ذلك: «لا يوجد بين الولايات المتحدة وتركيا أيُّ وجه شبه يجعلهما تنتميان إلى نفس العالم.» ومع ذلك، فقد استقبل مسيحيو سميرنا اليونانيون الذين كانوا يمثلون نحو نصف عدد سكان المدينة الأمريكيِّين بكل حفاوة وتقدير، وقضى القسان الشهرين التاليَين في التأقلم مع ما حولهما وفي دراسة اللهجة والعادات المحلية. ونصحهما صامويل ورسيستر، سكرتيرُ المجلس الأمريكي، قائلًا: «لا تقوما بأي فعل مجنون أو متسرِّع، ولا بما يمكن أن يصدم مشاعرَ الناس هنا، ولا تعرِّضا أنفسكما لغضب الآخرين ومقتهم.» ووفقًا لهذه النصائح، أنفق فيسك وبارسونز ٤٨ دولارًا على شراء ملابس شرقية وستة دولارات ونصف لتلقي دروس في اللغة العربية.
وبدءًا من شهر مارس عام ١٨٢٠ رحل الاثنان في رحلة تمتد ٣٠٠ ميل داخل آسيا الصغرى، زائرين كلَّ واحدة من المدن السبع التي زارها القديس بولس، وقاما باستطلاع المنطقة بهدف «التبشير». ومع وجود عدد قليل من اليهود هناك، فإن المنطقة كانت مكدَّسة بالسكان من المسيحيِّين الشرقيِّين، واليونانيِّين الأرثوذكس، والأرمن، وكان البروتستانت ينظرون إليهم باعتبارهم على ضلال روحاني، ولديهم استعدادٌ تام لإعادة الميلاد. وكان هناك أيضًا مسلمون يعتبرهم الأمريكيون أتباعَ عقيدة غريبة وغامضة، وأنهم في أشد الحاجة إلى الخلاص. وكتب ورسيستر بخطٍّ بارز لفيسك وبارسونز: «ما الذي يمكن تحقيقه؟ وبأي الوسائل؟» لم يكن السؤال يخصُّ اليهود فقط، بل يخصُّ أيضًا المسلمين والمسيحيين، ليس فقط في فلسطين، بل أيضًا في «مصر وسوريا وفارس».
ومع أن فلسطين لم تكن بلدًا مميزًا في ذلك الوقت، فإنها كانت محلَّ اهتمام العثمانيين، ولو لم يكن ذلك لأي سبب آخر سوى مركزها بوصفها ملتقى الديانات الرئيسية. وأظهرت السلطات حساسيةً خاصة نحو القدس؛ فقد كان أهل الملل المختلفة يتمتَّعون باستقلالهم، وكان الأجانب ممنوعين من الإقامة فيها. ولم يكن لدى الحاكم ولا رؤساء تلك الملل أيُّ استعداد لاستقبال أجنبي من فئة مسيحية تهدُف إلى إحداث اضطراب في هذا التوازن القديم قِدمَ الدهر. ولكن بارسونز تذكَّر مهمته — التي عبَّر عنها ورسيستر بقوله «إعادة العالم إلى الرب وإلى الأخلاق وإلى السعادة»، فصمَّم على الخروج من سميرنا في ديسمبر ١٨٢٠، ودخل المدينةَ المقدَّسة بعدها بثلاثة أشهر، متجمدًا من البرد وعلى أرجل مصابة متعبة بسبب السير وسوء حالة الطرق.
ادعى بارسونز أنه أولُ مبشِّر أمريكي يصل إلى تلك «الحوائط المقدَّسة». وعلى عكس بقية البلاد، التي كان المسافرون الغربيون يجدونها متخلِّفة، حتى بالمقارنة بمناطقَ أخرى من الشرق الأوسط، وقليلة السكان، وفقيرة ومقفرة للغاية، انبهر بارسونز بمدينة القدس. فعندما تسلَّق جبلَ الزيتون ونظر من أعلى إلى المدينة القديمة غربًا، وإلى البحر الميت في الجنوب الغربي، رأى أنه «لا يوجد مكانٌ في العالم يمتلك منظرًا أجمل من هذا، أو يرتبط بأحداثٍ أكثرَ قداسة أو إلهامًا». وقد تلقَّى ترحيبًا دافئًا غير متوقَّع من الكنائس هناك، خاصة من اللاتينيِّين، لكنه لم ينجح في تحويل أي يهودي من يهود المدينة البالغ عددهم عشرة آلاف إلى الإنجيلية، وما أحزنه أكثرَ أنه علِم أن القانون الإسلامي يحرِّم بناءَ كنائس جديدة، ويحدِّد عقوبة ارتداد المسلم عن دينه بقطع رأسه؛ لذلك كان أكثرَ المرشحين للتحوُّل هم الأرمن واليونانيون، «المسيحيون بالاسم» كما كان المبشِّرون يسمونهم، وكانوا يرونهم أتباعَ «مسيحية فاسدة قديمة». وكان بارسونز يأمُل أن تقوم هذه التجمعات المحلية بدور الرابطة الطبيعية مع اليهود والمسلمين، وأن تلهمَهم بالتزامها وتمسُّكها بالمسيح. فكتب في تقرير إلى فيسك بعد وصوله إلى القدس بنحو ثمانين يومًا: «هذا هو بالفعل مركزُ العالم أجمع. لذلك يجب ألا نتخلَّى عن فكرة الوقفة الدائمة هنا، فالباب قد انفتح بالفعل.»
اجتمع بارسونز بزميله مرةً أخرى في ربيع عام ١٨٢١، ولكن الوضع في سميرنا كان قد تدهور في تلك الأثناء. فقد ثار اليونانيون، وهي جزءٌ من أملاك الدولة العثمانية منذ القرن الخامس عشر، وسرعان ما امتدَّت نيران الثورة إلى التجمعات اليونانية في الأناضول. وبدافع من العداوات والكراهية القديمة اكتسح العساكر الأتراك المنطقة، وحرقوا وقتلوا دون تمييز، واضطُر المبشِّران الأمريكيان إلى الاختباء في سفينة أمريكية زائرة، هي يونايتد ستيتس؛ وكانت هذه هي المرة الأولى من بين عدة مرات ساعدت فيها السلطات الأمريكية في الشرق الأوسط ممثِّلي العقيدة الأمريكية. ومع أن بارسونز أصبح آمنًا، فإنه أصيب بالدوسنتاريا. ومع ذلك فقد ظلَّ متفائلًا وواثقًا بأن «الاضطرابات الحالية ستضمن … انضمامَ كل الممالك إلى المسيح». ولكن حتى يحدُث ذلك، قرَّر الأمريكيان أن يرحلا عن الأناضول، وأن يعودا إلى الأمان النسبي في مدينة الإسكندرية.
بقى بارسونز حيًّا بصعوبة حتى وصوله إلى المركب. وكان من الضروري حملُه إلى خارج السفينة وهو يرتعد. وفي شتاء عام ١٨٢٢ رافق فيسك زميلَه في مرضه، مقدِّمًا له الدواء ومصليًا من أجل شفائه. ولكنَّ مجهوداته ذهبت سدًى. فكثيرًا ما كتب بارسونز عن رغبته في الاستشهاد، وفي فبراير استُجيبت صلواته.
أصاب خبرُ وفاته المجلسَ الأمريكي بالذهول. وألَّف أحد القساوسة من شباب المبشِّرين مرثيةً قال فيها:
ولكن ذلك لم يكن ليؤثِّر في حركة التبشير ولا في حماسة بليني فيسك. فقد رحل إلى مالطا لتسلُّم مطبعة من المجلس، وللقاء بديل لبارسونز. وكان ذلك البديل هو القس جوناس كينج، أستاذ اللغات الشرقية بجامعة أمهرست، كان قويَ البنية، وقد تطوَّع من قبلُ ثلاثَ سنوات للخدمة في مجال التبشير. وقابل الاثنان بدورهما الإنجليزيَّ جوزيف وولف، وهو ابنٌ لحاخام يهودي كان قد تحوَّل إلى الكاثوليكية قبل أن يصبح إنجليكانيًّا، ويتزوَّج من ابنة إيرل أوكسفورد. وقالت التعليمات الجديدة التي وردت لهذه المجموعة، وكانت تهدُف إلى تشجيع المبشِّرين على المثابرة في نشر النور والحياة في مناطق الظلام وموت الأخلاق: «لا ترهقوا أذهانكم وإلا ستفقدون أملَكم وشجاعتكم.» رحل فيسك وكينج وولف إذن إلى مصر، وقد قرَّرا استكمال الرحلة إلى فلسطين.
كانت المدينة بسكَّانها الثمانية آلاف ومنازلها البيضاء وكنائسها المنتصِبة على التلال المطلَّة على الخليج أكثرَ نظامًا من القدس وسميرنا (أزمير)، وأكثرَ أمانًا أيضًا. ورغم قُربها من الأرض المقدَّسة، فإنه لم يكن بها أيُّ مظهر من مظاهر عدم الاستقرار السياسي، وكان موقعها القريب من البحر يسهِّل الهرب. بالإضافة إلى أن الدبلوماسيِّين البريطانيِّين كان وضعهم مستقرًّا في بيروت، وكلهم حماسة لمد حمايتهم لأناسٍ يشاركونهم الدِّين والثقافة، وأهدافهم غير استعمارية. أما أكثرُ ما أسعد المبشِّرَين فكان وجودَ أعداد كبيرة من المسيحيِّين الشرقيِّين والدروز وجالية صغيرة من اليهود في جبل لبنان السوري، مما يعني فرصًا أكبرَ للتحوُّل إلى المسيحية.
وفي الوقت الذي عاد فيه كينج إلى الولايات المتحدة تابعَ وولف رحلته. واستقر فيسك في بيروت. وزارَ مناطقَ مختلفة، وصار يجيد العربية واليونانية، ويكتب لجريدة «ميشينري هيرالد» في موطنه مقالاتٍ مفصَّلة عن أسفاره. وقرَّر في ذلك الوقت الإجابةَ عن أسئلة صامويل ورسيستر: «ما الذي يمكن تحقيقه؟ وبأي الوسائل؟» فإذا لم يتمكَّن المبشِّر من تحويل شعوب الشرق الأوسط، فيمكنه على الأقل تعليمُ أطفالهم. فقد آمن فيسك أنه عن طريق تعليمهم القراءةَ والكتابة حسب الطُّرق الأمريكية، يمكنه تفتيحُ أذهان الناس لاحتمال الخلاص عن طريق المسيح. وفتحت مدرسةُ فيسك أبوابها للقبول باعتبارها المدرسةَ الأولى من بين عدة مؤسسات أمريكية قُدِّر لها أن تغيِّر وجهَ الشرق الأوسط، عام ١٨٢٣.
شهد هذا العام أيضًا وصولَ تعزيزات جديدة من أمريكا، منهم: إيزاك بيرد، خرِّيج جديد في جامعة ييل، وويليام جوديل من دارتموث، كان الاثنان قد جلبا زوجتيهما، وهو ما عكس وعيَ المجلس بالدور الذي يمكن أن تقوم به النساء في الأنشطة التبشيرية. وقد ساعد بيرد وجوديل فيسك في إدارة المدرسة، وانضمَّا إليه في جولات تبشيرية في كثيرٍ من مدن الشرق الأوسط، من دمشق إلى أنطاكية وحلب.
كان التفاؤل والحيوية اللذان أظهرهما المبشِّرون مبررًا للاحتفال في بوسطن. فقد تفاخر المجلس الأمريكي بنجاحه في توصيل الإنجيل «للدروز والموارنة والسوريِّين واليونانيِّين»، وفي تأسيس مراكز دائمة في «هذه البقعة من العالم المثيرة للاهتمام للغاية فلسطين». وتفاخر المبشِّرون بأنه «غرست معايير الصدق والاستقامة، ولن تُقتلع من مكانها أبدًا». وتنبَّأ سيرينو دوايت، المؤرِّخ الشهير وقس مجلس الشيوخ الأمريكي، باليوم الذي «سيشقُّ فيه المبشِّرون المحمَّلون بالكتب طريقَهم إلى أكثر الأركان المسلمة ظلمةً، وذلك عندما يجري الإعلان عن مدِّ الخلاص في مصر والجزيرة العربية وفارس».
مثل هذا الإطراء الذاتي كان في الحقيقة دون سندٍ ولا مبرِّر. فبالرغم من مجهودات المبشِّرين غير المنقطعة، فقد نجحوا فقط في تحويل عدد صغير جدًّا من المسيحيِّين الشرقيِّين، وكان معظمهم من الفقراء المعدِمين، وليس أمامهم خيار سوى قبول وظائف أو صدقات من الكنيسة. وفي لبنان تصاعدت معارضةُ المارون، وهم فئةٌ كاثوليكية مرتبطة تقليديًّا بفرنسا وتدير سائرَ مدارسها على نفس نهج مدارس الليسيه الفرنسية. وأكَّد أحدُ الأساقفة المارونيِّين «أنه من غير المقبول بأي حال من الأحوال تعليمُ النساء قراءةَ كلمة الرب، فهن على قدرٍ كافٍ من السوء الآن، علِّموهن القراءة والكتابة ولن يكون هناك عيشٌ محتمَل معهن!» وهدَّد المطران بفصل أي ماروني من الكنيسة يحضُر قداسًا بروتستانتيًّا، وأمر أن تُتلف كلُّ المنشورات التبشيرية، ومن بينها الإنجيل.
جيء بالزوجة أمام المحكمة، وأُدينت، وحُكم عليها بالغرق في النيل … استمرت في الصراخ: «سأموت مسيحية» ولكن ذلك زاد من غضب منفِّذي الحكم، فسارعوا بإعدامها، في أثناء ذلك كانت النار قد أُوقدت على الشاطئ لحرق زوجها … لكنه … أنقذ نفسه بالشهادة بأنه مسلم، أما زوجته فلم تعترف بذلك قط.
•••
وكانت الحِقَب التالية بمنزلة فترة محدَّدة وحاسمة لكلٍّ من أمريكا والشرق الأوسط، فقد تميَّزت تلك الفترة من تاريخ الشرق الأوسط بعدم الاستقرار بسبب الضَّعف المتنامي للدولة العثمانية، وبسبب محاولات الدول الكبرى اقتطاعَ مناطق لتكون تحت السيطرة الأوروبية الكاملة، وهو ما أدَّى إلى فترة طويلة من التقلبات وبِحار بلا شطآن من الدماء. وفي تلك الأثناء كان الأمريكيون المستعمِرون يتَّجهون غربًا نحو كاليفورنيا وأريجون، ونحو فلوريدا وتكساس جنوبًا. وكان الاتحاد قد ضمَّ مناطقَ محدَّدة حديثًا على الخريطة، بعضها لديه عبيد وبعضها لا يملك عبيدًا، وقد أعاد هذا إلى الأذهان التساؤلَ عما إذا كان بإمكان هذه الولايات الممتدة أن تظل موحَّدة بالفعل إلى الأبد.
وأفرز التوسُّع الأمريكي وعدم استقرار الشرق الأوسط علاقاتٍ جديدة شديدة التشابك. وبمساعدة التكنولوجيا الحديثة ووسائل الانتقال الثورية تمكَّنت أعدادٌ هائلة لم تُشاهَد من قبلُ من الأمريكيِّين من السفر إلى الشرق الأوسط، واختراق بعض أجزائه التي لم يكن الوصول إليها ممكنًا قبل ذلك. وكانت شعوب المنطقة عادةً ما تحسِن استقبال هؤلاء الزائرين، والتفاعل معهم على عدة مستويات؛ تجاريًّا وتعليميًّا واستراتيجيًّا.
وفي قلب هذه العلاقة الديناميكية كان لا بد أن تتحسَّن كثيرًا موضوعاتٌ محدَّدة لعلاقة أمريكا بالشرق الأوسط، كالقوة والإيمان والخيال. وبدلًا من بعض المغامرين المنفردين كجون ليديارد، وأصحاب دعوة انتشار القوة كويليام إيتون، ومبشِّرين كبليني فيسك جاء أناسٌ يحملون مزيجًا من هذه الصفات جميعًا، كالتجار الإنجيليِّين، والبحَّارة المبشِّرين، ورؤساء الدول المستكشفين. واضطُر واضعو السياسات الأمريكيون لأول مرة إلى الاختيار بين الاهتمام بمصالح البلاد التجارية والاستراتيجية في الشرق الأوسط، وبين اتباع مُثُلهم الأخلاقية والروحية.