اندماج وصراع
في يونيو ١٨٢١، وتحت لهيب شمس السودان، توقَّف ضابط مصري ليشرب من ماء النيل. كان مسافرًا تسعة أشهر، متحديًا التيارات التي تحطِّم القوارب، ورجال القبائل العدوانيِّين، والحرارة الحارقة. وتقدَّم ببطء هو وقواته على متن قوارب محمَّلة بالمدافع والذخيرة والمؤن. كانت مهمتهم هي إخضاعَ العصابات التي تعوق سيرَ التجارة المصرية داخل أفريقيا، بالإضافة إلى توسيع نفوذ الحاكم المصري محمد علي. وكان اسم الضابط محمد أفندي، الذي يصفه معارفه بأنه «أبيض البشَرة، رقيق المظهر» — وهو لون بشَرة غيرُ شائع في الشرق الأوسط — لكن تبدو عليه «سيماء الجِدية والسكينة التي يتميز بها المسلمون». جثا محمد أفندي على ركبتيه وضمَّ كفيه ورفع بهما الماءَ إلى شفتيه الجافَّتين، ولكن قبل أن يرشف رشفةً واحدة دعا السماء — أو هكذا كتب فيما بعدُ — «أن تمنح الرخاءَ لجمهورية الولايات المتحدة الحرة العظيمة».
وُلد محمد أفندي قبل ذلك التاريخ بأربعة وثلاثين عامًا، بكامبريدج ماساتشوسيتس، في زمن مؤتمر الدستور، وسُمي باسمه المسيحي: جورج بيثون إنجليش. وكان ضِمن دفعة الخريجي من جامعة هارفارد عام ١٨٠٧، درس القانون أولًا، ثم تحوَّل إلى دراسة اللاهوت والعبرية. وكان إنجليش — شأنه شأن ليفي بارسونز وبليني فيسك والعديد من طلاب المدارس الإكليريكية الذين درسوا أسفار موسى الخمسة في ذلك الوقت — يكنُّ احترامًا عميقًا لليهود ورغبةً في تصحيح «الشرور العظيمة والتعذيب الشيطاني» الذي تعرَّضوا له من قِبل المسيحيِّين. ولكنه تمادى إلى ما هو أبعدُ من الندم، فقد قادته معرفته بالعهد القديم إلى التشكيك في صحة الإنجيل تاريخيًّا ودينيًّا، ودفعته إلى قراءة ترجمة إيطالية للقرآن تعود إلى عام ١٦٨٨. واستخلص منها «أن المسلمين، الذين يُعَدون الأكثرَ عددًا بين أصحاب الأديان في العالم اليوم» أولى بنبوءات الإنجيل من غيرهم، وأنهم أطاعوا نواهي موسى عن عبادة الأوثان، «مثل عبادة الملائكة والأموات التي انتشرت في ثلاثة أرباع العالم المسيحي». وليس من المستغرَب إذن أن تثير هذه الهرطقة هجومًا مضادًّا من رجل دين متخرج في جامعة هارفارد هو ويليام إيليري تشاننج ومن إدوارد إيفيريت، عضو مجلس الشيوخ ووزير الخارجية فيما بعد. ولكن ذلك لم يثنِ إنجليش، وترك كامبريدج باحثًا عن مصادرَ جديدة للإثارة في العالم.
رحل غربًا، وهو ما كان يعني في ذلك الوقت نحو أوهايو، وجرَّب العمل بالصحافة قبل أن يستقر على ضفاف نهر واباش عضوًا في طائفة «بيوريتانيكال هارموني». وعندما سئم من المثالية، رحل عام ١٨١٧ إلى واشنطن، حيث زار صديقًا قديمًا، هو جون كوينسي آدامز، وزير الخارجية الجديد. وحصل آدامز لصديقه إنجليش على وظيفةِ ملازم أول بحري في فيلق البحر المتوسط. لكن إنجليش ملَّ أيضًا الخدمةَ على السفن، فحروب البربر كانت قد انتهت، وبعد وصوله إلى مصر استقال من البحرية الأمريكية.
من هارفارد إلى سِنَّار
كان إنجليش منفتحَ الذهن إلى درجة الهرطقة، ولم يكن نموذجًا للأمريكيِّين في ذلك الزمن. لكنه أظهر في ارتباطه بالشرق الأوسط نفسَ السِّمات التي جمعت بين شخصيات متباينة مثل جون ليديارد وليفي بارسونز وويليام إيتون. فكان يلهمه الإنجيل، وتفتنه أساطيرُ الشرق، وتسحره أبَّهة السلطان، وبذلك كان إنجليش يمثِّل اندماجًا لعناصر العلاقة بين بلاده والشرق الأوسط، وهو مزيجٌ يزداد انتشارًا.
في عام ١٨٢٠ كان إنجليش قد أتقن العربية والتركية، وكان مستعدًّا لوضع مواهبه في خدمة الدولة المصرية. وعن طريق وساطة القنصل البريطاني، تمكَّن من مقابلة إسماعيل باشا، نجل محمد علي. انبهر إسماعيل بالخبرات المتنوِّعة لإنجليش، وكان أكثر ما أثار اهتمامه مدة خدمته الوجيزة بالجيش. فقد كانت مصر وقتَها تعمل على تحديث جيشها، وكانت تتطلع من أجل ذلك إلى الاستعانة بمستشارين أوروبيِّين. ومع أن إنجليش خدم في البحرية الأمريكية، ولم يتخطَّ قط رتبةَ الملازم، فقد خرج من اجتماعه مع إسماعيل حاملًا لقب «طوبجي باشا»، أو رتبة لواء، ومسئولًا عن المدفعية المصرية.
وإذا كان هدف إسماعيل هو رفعَ كفاءة الهجوم المصري، فإن إنجليش — بنزعته الرومانسية — لم يكن أفضلَ مَن يقوم بتلك المهمة، فبدلًا من تحديث فرقته، حاول الأمريكي إحياءَ أحد أقدم الأسلحة المصرية، وهي مركبة حربية، عجلاتها مزوَّدة بنصال لتقطيع المشاة إربًا. فشلت التجربة بالطبع فشلًا ذريعًا، وقبل أن يقوم بتجربة ثانية، صدرت أوامرُ لإنجليش بقتال المتمردين في السودان. وفي حين كان إسماعيل يتقدَّم برًّا مع طليعة الجيش، كان على إنجليش ومعظم فرقته أن يتبعوهم على مياه النيل. وفي سبتمبر ١٨٢١ ركب إنجليش وقواته المؤلَّفة من ستة آلاف جندي — من العثمانيِّين والبدو وأهل شمال أفريقيا — قواربَهم من شلال وادي حلفا، متوجِّهين نحو مناطق غير مألوفة لمعظم المصريين، ومجهولة تمامًا للغربيِّين.
كانت الرحلة عبْر مائة ميل من الدوامات والشلالات شاقةً للغاية. ويذكر إنجليش أن «جانب القارب قد اقترب إلى نحو ياردة من الزَّبد الأبيض، ونزع ريِّس المركب (قائد الدفَّة) عمامته عن رأسه، ورفع يديه معقودتين إلى السماء صارخًا: «لقد ضِعنا!» أما بقية أفراد الطاقم فكانوا يتضرَّعون إلى ﷲ ليساعدهم. ونجا المستكشِف من هذه المحنة ليصاب بالتهاب شديد في عينيه أفقده بصرَه أيامًا. ومع ذلك فقد شُفي إنجليش واستطاع العبور بكل القوارب ما عدا واحدًا رسا عند النيل الأبيض.
ومثلما فعل ويليام إيتون قبْله بخمسة عشر عامًا، قاد إنجليش رحلةً استكشافية كبيرة عبْر جزء قاحل من الشرق الأوسط، ومثل جون ليديارد، ترك وصفًا حيًّا لكلِّ ما رآه، من القرى المهدَّمة إلى المناطق الجرداء القاحلة. فذكر سوءَ حالة العبيد، وعجرفة اللصوص، والقلق الذي أصاب رجلَ قبيلة في العشرين من عمره، أُجريت له عملية ختان. أما أكثرُ ما بهره فكان المعابد والآثار، التي «أصبحت الآن أطلالًا، يعلوها التراب»، وهي التي كانت تقف بين شاطئ النهر. كان كثيرًا ما يزورها متسللًا من فرقته في الليل، وشهد إنجليش بأن «رحلة في النيل يمكن أن تُعَد درسًا في التاريخ الأخلاقي للبشر. ففي كل مرحلة تقريبًا نقابل آثارًا تدُل على دكتاتورية الإنسان وإيمانه بالخرافات».
قاد إنجليش قواته من البحر الأبيض عبْر المناطق الريفية التي دهمها الخديوي إسماعيل بفرسانه حديثًا، وعبر القرى المحترقة والحقول المقفرة المملوءة بالجثث. وأحنقه سلوكُ الجنود المصريين، الذين كانوا يسرقون وينهبون ويخرِّبون، فكتب يسبُّهم سبًّا شديدًا. وشاهد فزِعًا أربعين منهم «وهم يدقُّون بالمطارق الثقيلة أوتادًا خشبية مدبَّبة طولها ٦ أو ٨ بوصات في مؤخِّرات المتمردين». ولكن كانت هناك مشاهدُ أكثر إيلامًا في انتظار إنجليش في سِنَّار، وهي نفس المدينة التي حاول ليديارد الوصولَ إليها دون جدوى قبل ذلك بأكثرَ من ثلاثين عامًا. وجد إنجليش — بدلًا من الأنزال المزخرفة المفعمة بالحياة التي كان يتخيَّلها — أربعمائة كوخ قذر مصنوعة من الألياف، يسكنها أناس «مقزِّزون»، يأكلون القطط والقوارض، أما نساؤهم فقال عنهن إنجليش إنهن «أقبح نساء الأرض اللائي وقعت عليهن عيناي».
لم يكن إنجليش أحسنَ منهم حالًا بكثير؛ فقد كان رثَّ الثياب وكان الجوع قد بلغ منه مبلغه. ومع ذلك فقد اعتبرت الحملة ناجحة، وبسطت مصر سلطانها على السودان. وحين كان إنجليش يتعافى في الإسكندرية، تعرَّف بالمبشِّر جوزيف وولف اليهودي البريطاني الذي تحوَّل إلى المسيحية وحاول إقناعه بالعودة إلى المسيحية. وقابل إنجليش أيضًا بليني فيسك، الذي كان حزينًا لفقدِ ليفي بارسونز الذي توفِّي قبل وقت قريب. وقام هذا المبشِّر أيضًا بمحاولات لإعادة الجنرال الضال إلى طريق الصواب، لكنها باءت بالفشل. وقال فيسك معنفًا إنجليش: «عداء عنيد للحق يسيطر على روحك، وأنا أعتبر حالتك من أسوأ الحالات التي عرفتها وأخطرها».
الرشوة والنُّحاس الأصفر
كانت العلاقات بين أقدم إمبراطورية في العالم في ذلك الوقت وأحدث جمهورية فيه يغلِّفها الغموض منذ أواخر القرن الثامن عشر. فكانت نظرة الرئيس آدامز إلى الباب العالي نابعةً من اعتباره أمرًا حيويًّا للتجارة الأمريكية و«مسرح السياسة في أوروبا»، وفي عام ١٧٩٨ اختار ويليام لوتون سميث — عضو الكونجرس عن ساوث كارولينا — ليكون أولَ مبعوث للولايات المتحدة في الدولة العثمانية. ولكن سميث رفض العرض، وظل المنصب شاغرًا. ورأى جيفرسون أيضًا أنه «من المناسب تبادُل التمثيل الدبلوماسي مع الباب العالي»، على الأقل مثل بروسيا، لكنه لم يتابع تنفيذَ تلك الخطة قط. كانت الولايات المتحدة تهزم البربر، وتضاعف تجارتها إلى أربعة أضعاف مع الشرق الأوسط، وتبعث إليه بمئات من المبشِّرين — كلُّ ذلك دون علاقات رسمية مع أكبر قوة في المنطقة.
وكان عدم وجود أي اتفاقية بين واشنطن والباب العالي يرجع — إلى حدٍّ بعيد — إلى المشاعر المعادية للإسلام في أمريكا، لكنه كان يعكس أيضًا سياساتٍ معادية للولايات المتحدة في أوروبا. وقد عمِلت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا على الحيلولة دون أي مفاوضات بين السلطان العثماني والرئيس الأمريكي، خوفًا من تعرُّض هيمنتهما الاقتصادية في الشرق الأوسط للخطر. وخلَص تقرير عثماني أُعد للسلطان محمود الثاني في ديسمبر ١٨٢٠ إلى أنه «لن ينتفع الباب العالي من عقدِ اتفاقية تجارية مع الجمهورية الأمريكية؛ لأن مثل هذه الاتفاقية ستثير حفيظةَ بريطانيا العظمى». وأضاف الكاتب أن الأمريكيِّين قد أظهروا سلوكًا عدوانيًّا في صراعهم الأخير مع الأقاليم التابعة للدولة العثمانية في الجزائر وتونس وطرابلس. لهذا تعرَّض التجار الأمريكيون العاملون في الشرق الأوسط لفرض رسوم باهظة، وصاروا معرَّضين للاعتقال دون مبرِّرات من الشرطة العثمانية. ويتذكر جورج باريل من بوسطن بعد زيارته إسطنبول عام ١٨١٨: «كان رجالنا تحت رحمة أهل البلد، بسبب عدم وجود سفير أمريكي لدى الباب العالي.» ولكن كان هناك أمريكي واحد يسعى إلى حماية مصالح أهل بلاده، وهو ديفيد أوفلي، من فيلادلفيا سابقًا.
ومع أنه لم تصل إلينا أيُّ صورة كافية عن أوفلي، فإنه يمكن للمرء أن يتخيَّله مرتديًا سترةً سوداء بسيطة يفضِّلها أتباع طائفة الكويكر، وتبدو عليه أمارات الحَزْم والإقدام. لم يكن انجذاب أوفلي إلى الشرق الأوسط بسبب معتقداته الدينية فحسب، بل بسبب حبِّه لجني الربح أيضًا. ولكن بعد تأسيس مكتب تجاري في مدينة سميرنا عام ١٨١١، سرعان ما وجد أوفلي أن الرسوم الجمركية الباهظة تعيق عملَه، ولما فاض به الكيل من دفعِ ما أسماه ﺑ «حماية وهمية ضد مخاطر وهمية»، تناول أوفلي عدةَ أكواب من القهوة ودخَّن عددًا لا يُحصى من النارجيلات مع موظفين عثمانيِّين، حتى تمكَّن في النهاية من الوصول إلى قصر قبودان باشا، قائد البحرية الإمبراطورية. وهناك دفع أوفلي ٢٠٠٠ دولار عام ١٨١٥ «بقشيشًا» لكي يحصُل للأمريكيِّين على نفس المزايا التي يتمتَّع بها الأوروبيون خارج حدود بلادهم، لكنه اضطُر إلى تكرار نفس السيناريو مرةً أخرى في العام التالي، بعد إعدام قائد البحرية بتهمة الخيانة، ولكن عندئذٍ كان أوفلي قد تعلَّم ما اعتبره قواعدَ دبلوماسية الشرق الأوسط، وهي مزيجٌ من «الرشوة والنُّحاس الأصفر».
بدا الأمل ضعيفًا في تحقيق أي تقدُّم حتى عام ١٨١٩، عندما اختمرت فكرةُ الوصول إلى اتفاق أمريكي عثماني في ذهن جون كوينسي آدامز المتَّقد الذكاء. آدامز الذي وصفه المؤرخ جون جاديس بأنه «أكثرُ الخبراء الاستراتيجيِّين الأمريكيِّين تأثيرًا في القرن التاسع عشر»، كان يشعُّ ذكاءً، بدءًا بجبهته العريضة وانتهاءً بفمه الحازم وحاجبيه المقوَّسين المتسائلين المندهشين. وكان آدامز في شبابه قد مثَّل بلاده في بعضٍ من أشهر القصور الملكية في أوروبا، ويستطيع الآن، وهو وزير الخارجية البالغ من العمر اثنين وخمسين عامًا، أن يدرك أهميةَ إقامة علاقات دبلوماسية بين أمريكا وإسطنبول. إن هذه الاتفاقية ستكفُل الحماية لتجارة الشرق الأوسط التي كان آدامز — باعتباره من نيو إنجلاند — يقدِّر قيمتها كثيرًا، وستوفِّر مزيدًا من الأمن للمبشِّرين الذين كان الوزير يدعمهم باعتباره مسيحيًّا مخلصًا.
اتَّبع آدامز أسلوبًا هادئًا، واختار محاميًا بارعًا موضعَ ثقة من نيويورك مبعوثًا له، اسمه لوثر براديش. وكان براديش ناجحًا مثل أوفلي على المستوى التجاري وشديدَ التمسك بمعتقداته، وأصبح فيما بعدُ رئيسًا لجمعية الكتاب المقدَّس الأمريكية. تنكَّر براديش في زي سائح بريء، واستقل السفينة «سبارك» الأمريكية، وخطَّط للإبحار إلى إسطنبول، لكن السفينة مُنعت عند مضيق الدردنيل من دخول بحر مرمرة. واضطُر براديش إلى مغادرة السفينة في سميرنا، والتوجُّه برًّا إلى العاصمة العثمانية.
•••
كان الغربيون في القرن التاسع عشر ينظرون إلى اليونان باعتبارها بلدًا أوروبيًّا يقع في الجنوب، على مدخل الشرق الأدنى. غير أنها كانت من الناحية السياسية جزءًا لا يتجزأ من الدولة العثمانية، وكان لها أثرٌ في الأحداث في الشرق الأوسط بأجمعه، كما أظهرت حربُ الاستقلال فيما بعدُ. نشِب الصراع العِرقي بين اليونانيِّين والأتراك في سميرنا أيضًا، وشارف ليفي بارسونز وبليني فيسك على الموت أثناءه. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد أصبحت الأزمة مصدرًا لمشكلاتٍ لا تنتهي، مما وضع علاقاتها مع المنطقة في مواقفَ حرِجة لم تشهدها منذ حروب البربر. وفي حين فرض الصراع ضد شمال أفريقيا على الأمريكيِّين أن يختاروا بين رشوة القراصنة أو محاربتهم، فإن الحرب اليونانية أبرزت تساؤلًا أكثرَ أهمية. هل يجب على الولايات المتحدة أن تعطي الأولوية لمصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط، أم يجب عليها أن تتجاهل الاعتبارات المالية وتتمسَّك بمبادئها الديمقراطية؟
كان ردُّ الفعل الأمريكي على التمرُّد اليوناني نابعًا إلى حدٍّ بعيد من شغف الأمريكيِّين بكلِّ ما هو يوناني، وهي حركة ثقافية وسياسية اهتمَّت بالحضارة الإغريقية القديمة. وكان المثقفون الأمريكيون يحبون الكلاسيكيات تمامًا مثل لورد بيرون وغيره من المثقفين الأوروبيِّين في ذلك الوقت، فأسموا أولادَهم بأسماء أبطال التاريخ والأساطير الإغريقية. وأطلقوا على مدنهم أسماءَ مدن إغريقية كأثينا وإسبرطة وطروادة. وكانت الرسومات والأنماط الإغريقية واضحةً في كل زاوية من زوايا الحياة الأمريكية، من الفن والعمارة إلى الأدب والحكم. وفي خطابٍ إلى صديقه المسن جون آدامز عبَّر توماس جيفرسون عن شوقه البالغ «لرؤية لغة هوميروس وديموستينيوس تسري بنقاء من شفاه شعب حر مبدع خلاق». وشاركه كثيرٌ من الأمريكيِّين في هذا الحُلم، عن طريق رؤيتهم لليونان — بجانب إسرائيل التي وردت في الإنجيل — باعتبارها مهدَ حضارتهم، وسعْي اليونان للتحرُّر باعتباره مماثلًا لصراع أمريكا نفسها حديثًا ضد الحكم الفاسد.
لم تَلقَ الثورة اليونانية قبولًا من الجانب الرومانسي لأمريكا فحسب، بل من قناعاتهم الدينية أيضًا. وكان قطاعٌ كبير من الأمريكيِّين يرى في هذا الصراع مواجهةً حاسمة بين الإسلام والمسيحية، ويرى أن اليونانيِّين هم صليبيو هذا العصر. وحتى المطبوعات التي تبدو عِلمانية في الظاهر مثل مجلة «نورث أمريكان ريفيو» استطاعت أن تدَّعي أنه «أينما امتدت هيمنةُ السلطان، تُهدَم كنائس القرى وتُسوَّى بالأرض أو تُدنَّس بشرور الإسلام». وأكَّدت عدةُ سيدات من نيويورك هذه النقطة عن طريق إقامة صليب هائل، نُقشت عليه كلمات «من أجل قضية اليونانيِّين» على مرتفعات بروكلين، حيث تسهُل رؤيته من مانهاتن. وفي ردِّه على جيفرسون اعترف جون آدامز بأن «خياله القديم يتحوَّل إلى نوع من حماسة المبشِّرين من أجل قضية اليونانيِّين.»
كانت شدةُ هوس الأمريكيِّين بالثقافة الإغريقية ومعارضتهم للإسلام معروفةً بلا ريب للحكومة اليونانية المؤقتة عندما طالبت إخوانها المواطنين في بنسلفانيا وواشنطن وفرانكلين بالمساعدة في تخليص اليونان من البربر، الذين دنَّسوا أرضها مدة أربعمائة عام. وكانت الاستجابة حماسيةً للغاية. بل إن رئيس جامعة هارفارد إدوارد إيفيريت أعلن «أن هذا النداء … لا بد أن يوضِّح للأمريكيِّين … الدورَ التاريخي المجيد الذي يجب أن تلعبه بلادنا في الإحياء السياسي للعالم.» أما الجنرال ويليام هنري هاريسون — رئيس الولايات المتحدة فيما بعدُ — فنادى بتعبئة عامة من أجل اليونان، معلنًا «أن قيم الإنسانية والسياسة والدين كلَّها تدعو إلى ذلك. يجب أن يرفرف علم الولايات المتحدة على بحر إيجة.»
استجاب آلاف الأمريكيِّين بحماسة لهذا التحدي. وتكوَّنت جمعيات في جامعات ييل وكولومبيا هدفُها تحرير اليونان، وأقيمت أيضًا حفلات لجمع التبرعات أو «الحفلات اليونانية» في مدن ألباني وريتشموند وسافاناه. وأصدرت المجالس التشريعية قراراتٍ تعترف بحق اليونان في الحرية، وشُكلت لجان لإيجاد مأوًى لليتامى اليونانيِّين وجمع التبرعات لمساعدة المتمردين. وكتب القس توماس روبينز من ولاية كونيتيكت في مذكراته: «عُقد اجتماع هنا لمساندة اليونانيِّين. واحتشد الناس، وجُمع ٦٠ دولارًا.» وفي المحصلة تبرَّع الأمريكيون بمبلغ ١٠٠٠٠٠ دولار، أي ما يوازي مليوني دولار اليوم، وساعدوا على تمويل بناء السفينة «هدسون» التي تحمل ٦٤ مدفعًا وترفع العلم اليوناني.
كان الدعم الشعبي للثورة اليونانية يعني أن الكونجرس لا يمكنه تجاهُل الموضوع أكثرَ من ذلك. فقد أصرَّ عضو الكونجرس عن ولاية كنتاكي هنري كلاي أنه على الولايات المتحدة أن تفكر في الاعتراف بدولة يونانية مستقلة. وقال نائب ماساتشوستس دانيال وبستر، في خطاب له: «أنا أفكِّر في اليونان الحديثة وليس القديمة … في اليونانيِّين الأحياء وليس الأموات، في اليونان التي تحارب من أجل بقائها الإنساني عامة»، داعيًا ليس فقط إلى مساعداتٍ دبلوماسية لليونان، بل أيضًا إلى تقديم مساعدات عسكرية إلى اليونانيِّين الذين يحاربون بنبل وشجاعة. ومع ذلك فلم يدعم كل الأمريكيِّين هذه التوصيات. فقد تذكَّر كثيرٌ من سكان نيو إنجلاند، موطن وبستر، الصعوبات التي واجهتهم في حروب البربر، فعارضوا أيَّ سياسة قد تستفز الباب العالي إلى التدخُّل في تجارة البحر المتوسط أو في العمل التبشيري في الدولة العثمانية.
ولكن كيف كان يمكن المواءمة بين مصالح التجار والمبشِّرين في الشرق الأوسط وبين الشغف بالتراث الإغريقي الذي أظهره كثيرٌ من الأمريكيِّين؟ كانت هذه هي المعضلة التي واجهت جون كوينسي آدامز. ففي حين اعترف آدامز وزير الخارجية بالفائدة الجمة الروحية والمادية للحفاظ على العلاقات الودية مع الباب العالي، فقد كان مؤمنًا أن الإسلام دينُ «تعصُّب وضلال، قائم على مشاعر العداوة الطبيعية لدى المسلمين نحو غيرهم وإخضاع الآخرين بحدِّ السيف». وكان يطمح إلى أن يكون واضعَ أول اتفاقية عثمانية أمريكية، لكنه في نفس الوقت كان متفقًا مع الأمريكيِّين الذين كانوا ينظرون إلى الحرب اليونانية باعتبارها الحلقةَ الأخيرة في الصراع بين المسيحية و«عقيدة المسلمين القائمة على العنف والغرائز الحسية».
وقد دعَم القرارُ الأمريكي بوقف المساعدات لليونان صورتَها دعمًا كبيرًا في إسطنبول. وتزامن ذلك مع فتور العلاقات بين أوروبا والباب العالي. لذلك كان الوقت مناسبًا للغاية لآدامز لتجديد بحثه عن اتفاقية عثمانية أمريكية، معتمدًا مرةً أخرى على مواهب جورج بيثون إنجليش.
أمريكي مسلم في عاصمة الإسلام
أصدر آدامز توجيهاته لإنجليش، بعد أن عيَّنه مبعوثًا أمريكيًّا سِريًّا إلى العثمانيين، قائلًا: «ستبلغني بالتقدُّم والنجاح اللذين ستحرزهما عن طريق خطاب شخصي. وستبلغنا — كلما أتيحت لك فرصةٌ آمنة — بأي معلومات تجارية أو سياسية تتنامى إلى علمِك، وتكون ذات أهمية للولايات المتحدة.» كانت أول مهمة لإنجليش هي الوصول إلى القبودان الجديد، هوزريف محمد باشا، إن لم يكن إلى السلطان ذاته.
كتب إنجليش أنه سافر باعتباره أمريكيًّا مسلمًا آتيًا من بلدٍ بعيد لزيارة عاصمة الإسلام، ودخل إسطنبول في ٥ نوفمبر ١٨٢٣، مرتديًا الزيَّ المحلي، واستأجر غرفةً في أقدم أحياء المدينة. وبحذرٍ شديد بدأ في بناء وتكوين علاقات، أولًا مع أمين مكتبة السلطان، ثم مع موظفين أعلى منصبًا. وكانت كل علاقة منها تقرِّبه من هدفه أكثرَ فأكثر، ولكن على حساب أن يصبح هو نفسه مستهدفًا. وأسرَّ إلى آدامز كاتبًا: «موقفي مملوء بالمخاطر والترقُّب والقلق. فأنا كثيرًا ما أسمع اللعنات تنصبُّ على رأسي باعتباري جاسوسًا يونانيًّا متنكرًا، وحتى خادمي لا يرافقني في خروجي … حتى لا يصاب بطلقةٍ تستهدفني».
وفي ٤ يناير تمكَّن إنجليش أخيرًا من مقابلة هوزريف، وكان رجلًا مشغولًا بالموقف العسكري في اليونان و«مهتمًّا للغاية باتخاذ خطوات للحفاظ على مكانته وحياته». وكان هوزريف أيضًا مهتمًّا بالمطالب الأوروبية بأجزاء من دولته، وبمخططات حول أسواق الشرق الأوسط. لذلك أكَّد له إنجليش أن الولايات المتحدة ليست لديها أيُّ مطامع في أراضٍ عثمانية، لكنها تطالب فقط بإتاحة فرص تجارية مفتوحة ومفيدة للطرفين معًا. إلى جانبِ أن أمريكا دولة تحترم كلَّ الأديان، ومنها الإسلام، حيث «يتمتَّع المواطن المسلم … بنفس المزايا التي يتمتَّع بها المواطن المسيحي». ترك ذلك الحديث انطباعًا جيدًا لدى قبودان، فوافق على مناقشة صياغة اتفاقية، على أن يحدُث ذلك سرًّا على متن سفينة، لتجنُّب أي مؤامرات أوروبية. كما فهم إنجليش أن سِرية الاجتماع ستضمن أيضًا تسلُّم القبودان كافة الرشاوى، وإلا سيُضطر إلى مشاركة الغير فيها. وأكَّد المبعوث الأمريكي لآدامز أنهما «تفاهما جيدًا حتى الآن».
كان روجرز — الذي خاض حربَ البربر ونال نياشين عنها — ضابطًا يسير حرفيًّا حسب الأوامر، وجرى تعيينه لتخليص البحرية من آفاتِ السُّكْر والمبارزة، وليس للقيام بمباحثاتٍ حساسة مع قادة عثمانيِّين. وأدَّى عدم لياقته الدبلوماسية — الذي ضاعف منه انشغال هوزريف بقضية اليونان — إلى تأجيل أيِّ مناقشات حول الاتفاقية. وأخيرًا في ٥ يوليو ١٨٢٦، أي بعد سنتين ونصف السنة من وصول إنجليش إلى إسطنبول، التقى القائد الأمريكي والقبودان العثماني بين جزر تينيدوس وليسبوس. واستقل بحَّارة من السفينة «نورث كارولينا» والسفينة «كونستيتيوشن» سفينةً ترفع العلَم العثماني مرتدين زيَّ البربر، وقاموا بتسلية طاقمها بنشيد فلتحيا كولومبيا. وتُبودلت الهدايا؛ حرير ونارجيلة لروجرز، وخواتم وبنادق وعُلبة نشوق مرصَّعة بالجواهر لهوزريف. في حين كان إنجليش يقوم بالترجمة، اتفق الرجلان على أن يغادر روجرز إلى سميرنا وأن ينتظر ورودَ خبر بالموافقة على الاتفاقية. ثم غادر القبودان، ملقيًا التحيةَ ببنادقه ورافعًا العلم الشخصي للسلطان، وهو شرفٌ لم يحظَ به أيُّ غربي من قبل.
رحل روجرز بالفعل إلى سميرنا، حيث حضر حفلاتٍ وقابل صغار الموظفين، باعتباره ضيفَ أوفلي. وانتظر مدةً تزيد على العام، لكنه لم يتلقَّ أيَّ جواب من الباب العالي. وفي تلك الأثناء كان آدامز قد أصبح رئيسًا، وفي وضعٍ أفضل للضغط من أجل عقدِ اتفاقية. ولكنه إذا كان قد أُطلِق عليه «الفصيح البليغ» عندما كان وزيرًا مميزًا، فإن أداءه بوصفه رئيسًا للدولة لم يكن من الطراز الأول. فبدلًا من استمالة الأتراك، أصدرت إدارته عدة تصريحات تساند استقلالَ اليونان، مما ولَّد شائعات بأن الولايات المتحدة كانت تمدُّ المتمردين بالسلاح سرًّا. واشتكى السلطان قائلًا: «انظروا كيف لا يحفظ هؤلاء الفرنجة عهودهم ومواثيقهم أبدًا. من الحكمة أن نحترم وضْعَ بريطانيا العظمى وأن نماطل الأمريكيِّين بالسياسة.» وزاد آدامز من التباعد بينه وبين الأتراك، عندما صرَّح بتعاطفه مع «اليونانيِّين المعذَّبين في هذا الصراع غير المتكافئ بالمرة»، ومتمنيًا لهم «انتصارًا للإنسانية والحرية».
عام المعجزات: ١٨٣٠
صادف موت إنجليش تدهورًا حادًّا في الوضع السياسي في الشرق الأوسط، وتضاءلت فرص التوصُّل إلى اتفاقيةٍ أمريكية تركية. واستغلالًا للوضع العثماني المعقَّد في اليونان، قام الحكام المحليون في شتَّى أنحاء الدولة بمحاولات للاستقلال. وأثناء ذلك كانت القوى العظمى تخشى أن يؤدي انفصال اليونان عن الحكم العثماني إلى بداية تفكُّك الدولة العثمانية، وإلى إشعال حربٍ أوروبية حول أجزائها المفكَّكة. لذلك سعَوا إلى الحفاظ على الوضع القائم في اليونان، ولكن الباب العالي أرسل أسطولًا مصريًّا عثمانيًّا مشتركًا إلى جنوب اليونان. ردًّا على ما اعتبره تدخلًا أجنبيًّا في شئونه الداخلية، وواجهت الزوارق الحربية الفرنسية والبريطانية والروسية الأسطولَ التركي المصري المشترك، وأغرقت ثلاثة أرباع سفن السلطان قُرب خليج نافارينو (الذي يسمَّى بيسلوس اليوم) في ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧.
شجَّعت الهزيمةُ التركية في نافارينو اليونانيِّين على المطالبة بالاستقلال، وأدَّت إلى طمع وتزاحم الدول الأوروبية على الأقاليم العثمانية، أي إلى نفس الوضع الذي كانت القوى العظمى تحاول تجنُّبه. وعلى ذلك، غزت روسيا عام ١٨٢٩ جزءًا شاسعًا من بلغاريا، وبعدها بعام أنزلت فرنسا ٢٤٠٠٠ جندي في الجزائر، لتبدأ فترةُ احتلال امتدَّت إلى ١٣٠ عامًا. وكانت هذه هي بداية ما أُطلِق عليه «المسألة الشرقية»، وإلى سؤال: «ماذا نفعل بشأن الإمبراطورية العثمانية المتفككة؟» التي كان مقدرًا على أوروبا أن تأرق بشأنها في فتراتٍ طويلة من القرن التالي، متسبِّبة في إشعال فتيل حرب في القرم، ومساهمة في اندلاع الحرب العالمية الأولى.
لم يمثِّل استقطاع القوى الأوروبية وحلفائها المحليِّين للأقاليم العثمانية دافعًا قويًّا للتوصل إلى اتفاقٍ بين القادة العثمانيِّين وقادة دولة غربية أخرى، هي الولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن الأمريكيِّين كانوا قد هلَّلوا لانتصارات أوروبا في نافارينو، بل سُميت مدينة في ولاية ويسكونسن باسم المعركة، ولكنَّ العثمانيِّين كانوا على استعداد لتجاهل هذه الهفوات أو الزلات، بسبب حاجتهم إلى إيجاد توازن دبلوماسي أمام الأوروبيين، بالإضافة إلى حاجتهم إلى مصدر إمداد لسفنهم الحربية. ويقال إن وزير الخارجية العثماني قال لأحد التجار البريطانيِّين: «مهما يكن سلوككم تجاهنا، فإن الأمريكيِّين سيظلون أصدقاءنا الأوفياء. وإن سفينة أمريكية تساوي اثنتين من سفنكم من نفس الحجم.» وفي حين كان القناصل الأوروبيون يهربون من إسطنبول خشيةَ الانتقام، كان الترحيب بالأمريكيِّين يجري في العاصمة، ويُبلغون باهتمام السلطان المتجدِّد بعقد اتفاقية معهم. ولكن المشاعر العدائية تجاه الأتراك استمرت في الولايات المتحدة، وهو ما أدَّى إلى عدم التوصل إلى أي استجابة إيجابية لهذا العرض حتى عام ١٨٣٠، وحينها كان رئيس جديد قد تولَّى السلطة في البيت الأبيض هو أندرو جاكسون.
كان أندرو جاكسون طفلًا فقيرًا ويتيمًا، وقد عمِل جنديًّا، وتحوَّل إلى محامٍ متميز وعضو في مجلس الشيوخ وبطل من أبطال حرب عام ١٨١٢. وبذلك كان مختلفًا تمامَ الاختلاف عن الرئيس السابق صاحب الامتيازات العديدة. ولم يكن يمتلك التزام آدامز بالقواعد الدبلوماسية؛ لذلك كان يدير شئونه الخارجية بأسلوب «عصا التأديب» أكثرَ منه بأسلوب «البلاغة والفصاحة». وكان جاكسون يرغب في التجارة مع الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن مستعدًّا لأن توقفه أيُّ عقبة عن القيام بذلك، حتى لو كان ذلك هو التعاطف الشعبي مع اليونان. ومن بين قرارات السياسة الخارجية الأولى التي أصدرها، أعلن جاكسون تصميمَه على «عدم ترك أيِّ وسيلة يمكن استخدامها لتحصُل أمريكا على المزايا نفسها التي تتمتَّع بها القوى العظمى الأوروبية في الدولة العثمانية»، وأنه سيسعى حثيثًا نحو عقد اتفاقية رسمية مع الباب العالي.
يجب إذن أن نتذكَّر عام ١٨٣٠ باعتباره نقطةَ تحوُّل في علاقات أمريكا ما قبل الحرب في الشرق الأوسط. فهو العام الذي حصلت فيه الولايات المتحدة على وضعٍ قانوني وتجاري في البلاد العثمانية يوازي الوضعَ الأوروبي، وهو العام الذي أسَّس فيه الرئيس الأمريكي سابقةَ بيع أسلحة أمريكية للمنطقة أيضًا. وأُقيم حوض سفن في إسطنبول، وُصف بأنه «خاضع تمامًا للسيطرة الأمريكية وللوائح التنظيمية الأمريكية»، وأُنشئ في هذا الحوض ١١ سفينة، و١٢ بارجة حربية، بالإضافة إلى أكبر سفينة حربية وصل وزنها إلى ٩٣٤ طنًّا، هي السفينة «محمود». وسُمِح للضباط الأمريكيِّين بالعمل مستشارين على هذه السفن في حين تلقَّى الضباط الأتراك تحت التمرين تدريباتٍ على متن سفن أمريكية سعيًا إلى «تحسين قدراتهم في مجال البحرية». وبالإضافة إلى تجديد البحرية العثمانية وإعادة تأهيلها، سلَّحت الولايات المتحدة أيضًا القوات البرية التركية بمسدسات من نوع هاربرز فيري وبنادق كولت ومدافع من الطراز الأمريكي.
•••
من الواضح أن هذا التمثيل الهزيل الفقير كان غيرَ مناسب لبلدٍ يزداد اهتمامًا بالشرق الأوسط يوميًّا. وقد اتخذت إدارة الرئيس جاكسون خطواتٍ تنفيذية سريعة لحل تلك المشكلة. ففي عام ١٨٣١ قامت بتعيين أول قائم بالأعمال لأمريكا في إسطنبول، واختارت لتلك المهمة رجلًا مميزًا وعنيدًا للغاية، هو ديفيد بورتر.
الشيطان وديفيد بورتر
كان ديفيد بورتر معروفًا بين أصدقائه باسم سندباد، وقد وصل إلى مقر عمله الجديد بعد رحلة عمل أسطورية، وإن كانت في كثيرٍ من الأحيان سيئة السُّمعة. كان ابنًا لقبطان بحري ثوري، وقد قاد بورتر الابن سفينةً استولت على السفينة «طرابلس» عام ١٨٠١، وجُرح في هجمة جريئة على الساحل، ثم أُسِر مع طاقم السفينة «فيلادلفيا». وفيما بعدُ، في حرب عام ١٨١٢، أصبح أولَ قبطان أمريكي يستولي على سفينة حربية بريطانية، وأول مَن يبحر حول كيب هورن. ولكن كان لبورتر أيضًا جانبٌ متهور تلقائي. فقد قتل رجلًا في حانة، وكان شاهدًا على المبارزة التي قُتل فيها ستيفن ديكاتور، وهاجم قلعةً في بورتوريكو لم تردَّ التحيةَ على سفينته. ولأنه كان لا يعرف الحياء، فقد ترك زوجته في تشيستر، بنسلفانيا، ليعيش مع أخته غير المتزوجة في إسطنبول، وكان يرسل رسائل يومية إلى وزارة الخارجية مع مبعوثين مختلين. كان بورتر قصيرَ القامة، داكن البشرة، خشنًا، له عينان تخترقان الواقفَ أمامه، ولم يكن مضيافًا لزائريه، ولا متقبلًا للشرق الأوسط. فكتب مرةً يقول بعد مقابلة مع السلطان محمود الثاني: «إلقاء السلام عند الشرق أوسطيِّين أمرٌ يضايق بحق. لماذا لا يكتفون فقط بالتحية العادية؟»
ولكن أكبر الصعاب التي واجهت بورتر لم تكن تدور حول يهود الشرق الأوسط، ولكن حول مسيحيي بلاده. فقد أدَّت محاولاتُ المبشِّرين الأمريكيِّين لتحويل العرب المسيحيِّين إلى البروتستانتية في سوريا وجبل لبنان، إلى إثارة حفيظة رجال الدِّين المحليِّين، وخاصة البطريرك الماروني. وفي عام ١٨٤١ كتب البطريرك رجاءً إلى الباب العالي بطرد الإنجيليِّين البروتستانت من الدولة العثمانية، ولإصدار أمرِ الطرد توجَّه الباب العالي إلى السفير الأمريكي.
ومع أنه لم يكن متدينًا، فإن بورتر أظهر إعجابه بالمبشِّرين ومجهوداتهم الرائدة في التعليم. حيث يقول: «أنا أومن أن أمةً تجيد القراءة وتمارسها بانتظام لا يمكن أن يطول بها الأمد لفهم مصالحها الحقيقية … وعندها لن تتأخر عن القيام بأي خطوات تنفيذية.» ومع أن مسئولية بورتر الأولى هي دعم الاتفاقية الأمريكية العثمانية، وليس الترويج للأفكار الأمريكية، فإن مجهوداته في هذا المجال أصيبت بإحباط كبير بسبب المبشِّرين واحتقارهم للسلطة العثمانية. فقال لهم يوبِّخهم: «تجنَّبوا القيام بكلِّ ما من شأنه أن يجرح … مشاعر … المسلمين»، مؤكدًا أن الاتفاقية لا تحمي الأمريكيِّين الذين «يستفزون … السكانَ المحليِّين لتغيير ديانتهم أو طقوسهم الدينية»، وحذَّرهم إن استمروا في محاولات تحويل المواطنين العثمانيِّين عن ديانتهم «أن يقوموا بذلك على مسئوليتهم الخاصة وأن يتحملوا وحدَهم عواقب ومخاطر ذلك».
ترك هذا التوبيخ أثرًا سيئًا ومرارة في نفس بورتر، ولكن ليس لفترة طويلة؛ فقد توفي في العام نفسه عن عمرٍ يناهز ٦٣ عامًا. ولكن ميراثه استمر عن طريق العديد من أفراد أسرته — من آل بورتر وهيب وفاراجت وبراون — الذين أدَّوا أدوارًا رئيسية في الشرق الأوسط، وأيضًا في النماذج والمبادرات التي أسَّسها للعلاقات الأمريكية مع المنطقة. فبالإضافة إلى بيع الأسلحة وتعريف حكام الشرق الأوسط بالتكنولوجيا الأمريكية، دعم بورتر صورةَ أمريكا بوصفها قوةً في المنطقة تقف على قدمِ المساواة مع أوروبا، لكنها على عكس الأوروبيِّين لم يكن لها أيُّ مطامع فيها. وبفضل ديفيد بورتر حقَّقت الدبلوماسية الأمريكية خطًى واسعة في الشرق الأوسط مقارنةً بالأيام التي كان يُضطر فيها المبعوثون السرِّيون من أمثال جورج إنجليش إلى التسلل متخفين في شوارع إسطنبول، وإلى أن يديروا مفاوضاتهم في السر. ومع ذلك، ورغم نجاحه في تأسيس صداقة مع العثمانيين، فقد فشل بورتر في النهاية في الحفاظ على صداقة أبناء وطنه، الذين كانوا أنشطَ ما يكونون في المنطقة. فقد كان للمبشِّرين تأثيرٌ على العلاقات بين الشرق الأوسط وأمريكا ما قبل الحرب فاق تأثيرَ رجال السياسة والخدمات والتجار الأمريكيِّين.