تحت عيون الأمريكان
«أكاد أتخيَّل نفسي في جنةِ محمَّد.» صرَّح بذلك واشنطن إيرفنج، الشاعرُ وكاتب السِّيَر وأفضلُ قصصي أمريكي في زمنه، وهو يتنهَّد. كان هذا عام ١٨٢٩، وكان إيرفنج بالفعل هو أشهر كاتب أمريكي احتُفي به، وهو كذلك مؤلِّف «أسطورة سليبي هولو»، وصاحب شخصيات ريب فان وينكل وإيكابود كرين. لكنه كان محاميًا وضابطًا أثناء حرب عام ١٨١٢، وصديقًا لديفيد بورتر ودانيال وبستر، إلى جانب كونه دبلوماسيًّا عُيِّن حديثًا في السفارة الأمريكية في مدريد. ومن هناك تمكَّن إيرفنج من زيارة غرناطة، التي كانت في العصور الوسطى العاصمةَ المبهرة لملوك المسلمين، ومقرَّ قَصر الحمراء العظيم. وقد تركته تلك التجربة سعيدًا منتعشًا، ذاهلًا، وشاعرًا وكأنه تائهٌ في حُلم شرقي و«يحيا في ألف ليلة وليلة».
كان إيرفنج منبهرًا بالشرق الأوسط منذ زمنٍ بعيد. فصور القصور الصحراوية والحريم كانت جذابة بالنسبة إلى نزعته إلى الحزن والرومانسية في آنٍ واحد؛ وأمَّا صاحبنا الأعزب ذو الشعر المجعَّد والوجه الصبياني الصغير القادم من تاريتاون بنيويورك فكانت المنطقةُ بالنسبة إليه ملهمةً للأفكار. ففي عام ١٨٠٧، وبعد رؤية سجناء من أمريكا الشمالية أثناء حرب البربر، اخترع إيرفنج شخصيةَ مصطفى كيلي خان، وهو قبطان سفينة شراعية طرابلسية استُولي عليها، يعرض مصطفى من سجنه في نيويورك ملحوظاتٍ نقدية حادة حول المجتمع الأمريكي. فيقول لعاصم، قائد العبيد في مدينة باشاو حول النساء الأمريكيات: «لقد أكَّد لي الطبيب الشهير أن خُمسهن على الأقل لديهن قوة شخصية! وقد رأيت بنفسي امرأةً ذات مظهر جذاب وهي تشدُّ زوجها من أذنيه، وارتعش شاربي … غضبًا بسبب الحالة المتردية التي وصل إليها هؤلاء الكفرة الأشقياء»، نُشرت خطابات مصطفى في سلسلةٍ تحت عنوان «سالماجوندي»، ولم تهاجم فقط النساء الماجنات، بل أيضًا المحامين والضباط والساسة الفاسدين، وحتى الرئيس جيفرسون، الذي وصفه بأنه «رجل شديد الغرور، لا يمكن مقارنتُه سوى بكيس كبير من الهواء».
مثَّل الشرق الأوسط مرةً أخرى مخرجًا فكاهيًّا عام ١٨٢٤، عندما تعاون إيرفنج في كتابة مسرحية «أبو حسن»، وهي مسرحيةٌ مستوحاة من قصة خيالية في «ألف ليلة وليلة». يقول فيها بطل الرواية لرفيقه، هارون الرشيد: «ملكٌ عظيم مثلك يمكن أن تكون له مئاتُ العشيقات، ولكنني الآن راضٍ بنصف دستة منهن. يا أيتها الطبيعة، كم من السهل إرضاؤك!»
نُشرت قصة «قَصر الحمراء» عام ١٨٣٢، وكانت تهدُف إلى تفنيد الخيالات والخرافات التي استمر الأمريكيون في الإيمان بها حول الشرق الأوسط. ولكن رأى البعضُ أن مجرَّد القراءة عن هذه المنطقة غيرُ كافٍ، وأصرُّوا على زيارة هذه البلاد المملوءة بالخيال ورؤيتها بأنفسهم. وخطَّط إيرفنج واشنطن لجولة في الشرق الأوسط، مبحرًا من جنوب إسبانيا إلى المغرب، ولكنَّ بعض الواجبات الدبلوماسية اضطرَّته إلى الذهاب إلى أماكنَ أخرى. هذا على العكس من آخرين لم يكونوا ليتشتَّتوا عن هدفهم هذا. وعلى عكس مبدأ هنري ديفيد ثورو «أنا أذهب إلى الشرق مضطرًّا فقط، ولكني أذهب إلى الغرب بملء إرادتي»، استعدُّوا لاستكشاف «الشرق».
المرح أو القتال أو الدُّعابة
لم يكن ثمَّة شيء يقف في طريقهم. فقد تحرَّروا من قراصنة شمال أفريقيا، وأصبحوا تحت حماية أسطول بحري دائم في البحر المتوسط؛ لذلك لم يَعُد هذا البحر يمثِّل عائقًا أمام المسافرين الأمريكيِّين. بل على العكس، فقد أصبح هذا البحر الآن وسيلةً لفيضٍ متزايد من الأفراد المشتاقين إلى استكشاف الشرق الأوسط. وبحلول العشرينيات من القرن التاسع عشر كان تاجر سميرنا ديفيد أوفلي يشتكي من الطلبة الأمريكيِّين المفلسين الذين كانوا يَظهرون على أعتاب منزله أحيانًا، في حاجة شديدة إلى مأوًى وطعام. وحكى أمريكيون آخرون في المنطقة عن مقابلتهم بني وطنهم الذين كانوا يعيشون في المنطقة منذ فترة طويلة. فكان هناك مثلًا نيويوركي يعيش في إسطنبول، وقد تحوَّل إلى الإسلام وأصبح إمامًا، وكذلك صياد من نيو إنجلاند كان يجوب النيل، صائدًا التماسيح والقطط. وحكى قبطانٌ تابع لتاجر أمريكي في زيارة لمدينة مخا عام ١٨١٩ عن اجتماعه برجل من فيلادلفيا كان يخدم في جيش السلطان لما يقرُب من عشرين عامًا، كما كان يرافق الزُّوارَ الغربيِّين في العشرينيات من القرن التاسع عشر رجلٌ من مناطق أوهايو الفقيرة المتخلفة، عُرف باسم النبي داود.
تزامن تزايدُ الشغف الأمريكي بماضي مصر البعيد مع فضولٍ زائد حول الشرق الأوسط الحالي. فلم يرغب الرحَّالة والمطرودون فقط في المجيء إلى المنطقة فجأةً، بل ولا الحجاج ولا العلماء ولا المبشِّرون، ولكن رغب في المجيء إليه أيضًا مهنيون وأفرادٌ محترمون في المجتمع. فلم يَعُد الشرق الأوسط عند هؤلاء مجرَّد ساحةٍ للمعارك، أو موقع من المواقع التي ذكرها الإنجيل، أو سوق جديدة للتجارة، بل أصبح منطقةً حرة غير مقيدة، ويمكن لأي مغامر أمريكي مستعدٍّ استعدادًا جيدًا أن يستمتع بحرية الحركة فيها.
كان عدد الزوار الأمريكيِّين في الشرق الأوسط قد تصاعد باطراد في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. فحسب شروط الاتفاقية العثمانية الأمريكية، تمتَّع الزوار الأمريكيون بحماية القناصل الأمريكيِّين، وتمتَّعوا بحصانة ضد الاعتقال العشوائي أيضًا. وسُهِّل الانتقال إلى المنطقة، بسبب ظهور تكنولوجيا المركبات البخارية. فبدءًا من عام ١٨٣٨ كان بإمكان أيِّ شخص من بوسطن أن يستقل القطار إلى نيويورك، ثم يبحر بالسفينة البخارية المتجهة إلى إسطنبول أو الإسكندرية. وبكثير من الطمأنينة التي لم يكن ليديارد ليتصوَّرها، وبكثير من السرعة التي كان بليني فيسك ليحسدهم عليها، توافدَ الأمريكيون على الشرق الأوسط.
كان أحد هؤلاء المغامرين هو جون لويد ستيفنز من نيويورك، وكان من أتباع الطائفة البراهمية الهندية، تخرَّج في جامعة كولومبيا، وكان عضوًا في الإدارة السياسية للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. وبعد قراءة كتاب «ألف ليلة وليلة» قرَّر أن يرى بنفسه «الرفاهية والفخامة التي جعلت النبيَّ يومًا ما يبتسم»؛ لذلك استقلَّ في ديسمبر عام ١٨٣٥ سفينةً بخارية متجهة إلى مصر. وكان ستيفنز مثالًا للأمريكيِّين الستين الذين كانوا يسجِّلون أنفسهم سنويًّا بالقنصلية الأمريكية في الإسكندرية في العقود الثلاثة التالية لعام ١٨٣٠. كان معظمهم يعيش في المدن الشمالية، ولكن بعضهم كان أيضًا من الجنوب، مثل جيمس كولي، بائعِ الكتب من مدينة ميسيسيبي. وكانت النساء أيضًا يزرن الشرق الأوسط في تلك الفترة، واثنتان منهن كانتا سارة روجرز هايت من لونج أيلاند، وإليزابيث كابوت كيركلاند، ابنة عضو مجلس الشيوخ عن ماساتشوستس ذات الخمسة والأربعين عامًا، قد كتبتا مقالاتٍ شديدة الجاذبية عن تجاربهما. أما أكثرُ المسافرين تميزًا فكان ديفيد دور، وهو من العبيد الأمريكيِّين السُّمر من لويزيانا، وقد جال في الشرق الأوسط مع سيده عام ١٨٥٤. وهرب فيما بعدُ إلى أوهايو، ونشر كتابًا يحكي عن رحلته تلك، تحت عنوان «رجل ملوَّن حول العالم»، وأهداه إلى «أم العبد» وكذلك إلى «آثار السابقين الذين ينتمي إلى سلالتهم».
ومع تبايُن خلفياتهم، فإن هؤلاء المسافرين الأمريكيِّين كانوا يشتركون في انطباعات واحدة عن الشرق الأوسط. فجميعهم كانوا معتادين على المدن الأمريكية الشديدة التنظيم والتجانس والتناسق؛ لذلك كانوا يشعرون بالارتباك ولا يسهُل عليهم التعرُّف على وجهتهم بسبب التنظيم الملتوي لشوارع الشرق الأوسط الشبيهة بالمتاهة، وبسبب تنوُّع ثقافات السكان. كان وصف جيمس كولي للقاهرة في عام ١٨٤٢ هو: «شوارع ضيقة ومظلمة … متربة وتشبه السجون وغريبة للغاية.» وكان هذا الوصف لا يختلف بالمرة عن وصف ستيفنز. وفي حين انبهر ستيفنز «بالتركي الشجاع وسيفه البراق، وباليوناني الماكر، وبالأرمني الجاد وباليهودي المحتقر بثوبه الحريري الطويل وعمامته المميزة»، استغرب كولي «الأزياء القومية للعرب والأرمن والأقباط والمصريِّين واليونانيِّين واليهود والسوريِّين والأتراك … وكلهم يبدون سعداء … وسط القذارة وفي ثيابهم الرَّثة». ونفس هذه المشاعر العدائية والصدمة أصابت سارة هايت عند دخولها إسطنبول عام ١٨٣٩. فقالت: «كلُّ ما رأيته هو كتلة من الأبنية غير المتناسقة، بُنيَت على غير قاعدة أو أساس هندسي، وخلافًا لأي ذوق حسن.»
لقد افترض الأمريكيون — بوجهٍ عام — أن القسوة ترتبط بالإسلام ارتباطًا وثيقًا، وأنه من الأمراض المزمنة في كل ثقافات الشرق الأوسط. وللدِّلالة على هذه التهمة، ربط ستيفنز بين زيارته محكمةً قاهرية حيث كان الرئيس يتناول المسلِّيات والمكسرات، وبهدوء تام أمر بجلد أحد رعاياه. ويحكي ستيفنز: «عندما سمِعت السوط يخترق الهواء وأول صرخة عالية، لم أعُد أستطيع التحمُّل»، مضيفًا كان رئيس المحكمة مبتسمًا طوال الوقت. وكان الأمريكيون مستاءين بصفةٍ خاصة بسببِ ما اعتبروه إساءةَ معاملة نساء الشرق الأوسط. وكان كولي يدَّعي أن نساء العرب «يُحْتَفظ بهن كالطيور في أقفاصٍ ويُغذَّين كالوحوش في عرين»، وذكر أيضًا رؤية إحداهن وهي مقيدة وزوجها يضربها ومجموعة من الناس تشاهد ذلك مع موافقتهم على ذلك. ولكن لم يكن النساء وحدَهن ضحيةَ القسوة في الشرق الأوسط، كما اكتشف الأمريكيون. ففي جولة في المغرب عام ١٨٤٢ اندهشت إليزابيث كابوت كيركلاند من الاضطهاد الجماعي لليهود. فكتبت: «كان أحد التجار اليهود الأغنياء مضطرًّا إلى خلع نعله قبل المرور بعتبة باب عبد أسود، وكان المسلمون يطاردونهم في الشوارع كلما مرُّوا بهم، تمامًا كما يفعلون مع أي كلب.» وفيما بعدُ في القاهرة قابلت كيركلاند المنظرَ الآتي: «رجل ممدد أمامنا، ورأسه مفصول عن جسده وقد وُضع بين رجليه». وقد علمت أن الرجل الضحية كان متهمًا بالاشتغال بالسياسة.
كانت سياسة الشرق الأوسط موضوعًا آخرَ لانبهار الأمريكيِّين، وسببًا لاشمئزازهم. وبقناعتهم بأن الديمقراطية الأمريكية تمثِّل أعلى صور سيادة البشر، كان السائحون الأمريكيون ينظرون إلى الحكام الديكتاتوريِّين بمزيجٍ من الاحتقار والاشمئزاز. فقد أدان ستيفنز النظامَ الشرقي الذي «تتعلَّق فيه الحياة بحبل رقيق، بحيث إذا تركت رجلًا في السلطة فغالبًا لن تراه مرةً أخرى»، وكان دور يشفق على السلطان الذي «يعيش ملِكًا، ويموت مغفلًا». أما د. فالنتاين موت، أحدُ أشهر جراحي نيويورك فقد صُدم بسبب خشونة نبلاء الشرق الأوسط الذين قابلهم عام ١٨٤٣. فكتب عن أميرٍ مصري وأحدِ أحفاد محمد علي: «إن جلالته يتضمَّن شحمًا أكثرَ مما يحوي عقلًا.» أما المحرِّر والقس التابع للبحرية والتر كولتون، الذي كان ليبراليًّا مثل موت، وباحثًا عن إيجابيات الحياة في الشرق الأوسط، فقد ارتعش عند معرفته أن السلطان يستطيع بإشارةٍ من يده أن يأمر بقطع ألف رأس مرةً واحدة. فانتهى عام ١٨٣٦ إلى خلاصةٍ مُفادها أن «الإسلام هو مقبرة الحق والحرية».
اتفق هؤلاء الرحَّالة المسافرون على أن الشرق الأوسط يعاني عدةَ مشكلات، ويمكن علاجها كلها ببساطة عن طريق نبذِ الدين الإسلامي وتبنِّي الثقافة الغربية. وقال كولتون تعليقًا على ذلك: «نفس المجهود الذي يُبذل لرفع المسلمين فوق القيود الممزِّقة للديكتاتورية سيضعهم على أطلال دينهم. فعصا الصولجان والهلال، والمذبح وكرسي العرش كلُّها ستغرَق معًا.» كان كولي ينتظر بشغفٍ زمنًا يقوم فيه المسلمون بتبنِّي «عقيدةٍ أكثرَ تنويرًا وثباتًا» لكي يمكنهم الانضمام إلى أسرةِ «الأمم المتحضرة». أما هايت فقد تمادت شيئًا عندما دعت إلى «حملة صليبية دولية» لإذلال المسلمين وتفكيك الدولة العثمانية. وتنبأت هايت بأن بريطانيا قد تستولي على مصر يومًا ما، وكذلك على أجزاءٍ من آسيا الصغرى، وأن فرنسا ستحتل سوريا وشمال أفريقيا. ولكن يجب أولًا أن يختفيَ الإسلام من الساحة تمامًا.
من منظور القرن الحادي والعشرين كان الأمريكيون الذين انتقدوا الشرق الأوسط بسبب ادعاءاتٍ عن فساده وقسوته وتعصُّبه بالتأكيد منافقين. إذ قامت دولُهم نفسها باستعباد نحو سدس سكانها، وتحت راية «المصير الحتمي» طردت عددًا من قبائل السكان الأصليين. وكانت عمليات الشنق لا تزال وسيلةَ تسلية للعامة في أمريكا في القرن التاسع عشر، وازدهر الفساد السياسي، ممثلًا في الجناح السياسي للحزب الديمقراطي. ومع ذلك فقد كانت مذكِّرات الرحَّالة الأمريكيِّين تكشف القليل جدًّا من باب الرقابة أو الاستعداد لمقارنة أوجه النقص في بلادهم، مقابل تلك التي وصفوا بها الشرقَ الأوسط. بل كانت كتاباتهم تُظهِر حبًّا واحترامًا لأي شيء قريب أو بعيد عن كونه أمريكيًّا. اعترف إدوارد جوي موريس، عضو مجلس النواب المستقبلي وسفير الولايات المتحدة لدى الباب العالي، قائلًا: «هناك حسٌّ وطني بين الأمريكيِّين في الخارج لا أعتقد أنه يوجد بين أي شعب آخر.» وقد ثبَّت نجوم وخطوط العلم الأمريكي فوق الأهرامات المصرية عام ١٨٤١. وانتهى الأمر بالفنان ويليام بارتلت، الذي جاء إلى القاهرة عام ١٨٤٩ بحثًا عن «مدينة صلاح الدين وألف ليلة وليلة»، بالمقارنة بين «مصر المتدهورة تحت الظلم والقمع … ودِين مُضلِّل، وبين أمريكا التي تزداد قوةً كلَّ يوم، والتي هي بلد النور والحرية والازدهار والمسيحية!»
•••
نظر الأمريكيون إلى الشرق الأوسط من عيونٍ متشابهة، وقاموا بجولاتهم فيه حسب تخطيطٍ شبهِ موحَّد. فبعد الوصول إلى المنطقة، إما عن طريق الإسكندرية أو إسطنبول، كان لا بد لهم من المرور بالقاهرة للقيام بزيارةٍ ضرورية للأهرامات وبرحلة نيلية. وبسبب الخطر الشديد لتلك الرحلة، كان لا بد لهم من استئجار حراس مسلَّحين وترجمان — أي ستة عشر رجلًا في حالة سارة هايت. ولدواعي الأمن أيضًا، كان الأمريكيون يُنصَحون بارتداء الزي القومي لتلك البلاد، الذي كان يتكوَّن في حالة ستيفنز من «شبشبٍ أصفر وقفطان أزرق وسيف وبندقيتين تركيتين كبيرتين». وعندما كان المسافرون غير مشغولين بهشِّ الذباب أو الشحَّاذين، كانوا يركِّزون انتباههم على الآثار المصفوفة على جانبي النهر، التي كانت مصدرًا لحزنٍ مهيب، وأيضًا مصدرًا لتذكارات مجانية. وفي تبرير بأنها «احتياجات علمية» قَطع موت قطعةً من مسلةٍ قديمة. وكسرَ ستيفنز رسمَ صقرٍ من جدار معبد، مبرِّرًا فَعلته بأنه «يحافظ على تلك القطعة الأثرية الثمينة من مصير العدم الذي ينتظرها (في مصر)». وكان الأمريكيون يسعدون أيضًا بممارسة صيد الضِّباع والتماسيح والطيور. ولكن أكثر الأنشطة التي كانت تسعدهم — على الأقل فيما يتعلَّق بالرجال — كان النظر بشهوة واستمتاع إلى نساء الشرق الأوسط.
ومن مصر والنيل كان السيَّاح الأمريكيون يتَّجهون عادةً إلى الشرق، نحو لبنان وسوريا. وبسبب مخاطر القبائل المتمردة وقُطاع الطرق كانوا يحملون معهم هنا أيضًا مجموعةً متنوِّعة من الأسلحة، تشمل المسدسات والبنادق القصيرة وسيوف المبارزة. فكتب الشاعر بايارد تيلور — مترجم رائعة جوته «فاوست» — في رحلته إلى بيروت عام ١٨٥٣: «كانت أسلحتنا على استعدادٍ تام، ولم نترك أمتعتنا بعيدةً عن عيوننا البتة.» وتتذكَّر إليزابيث كابوت لودج أنه في حين كان زوجها يسير «مدجَّجًا بالسلاح، كنت أرتدي ملابسي الإفرنجية وعمامةً على رأسي وفوقها قطعةُ قماش قطنية بيضاء تغطي جزءًا كبيرًا من وجهي». ومع المخاطر، فإن القرى الريفية وجَمال العصور الوسطى في حلب ودمشق مكَّنا الأمريكيِّين من استعادة بعض الرومانسية التي كانوا قد فقدوها في القاهرة والإسكندرية. فتايلور صوَّر نفسه مثلًا على أنه صليبي يسير في معركةٍ ضد صلاح الدين. وأخذ يفكِّر متأملًا: «حتى الأشجار والحشائش تسمع أبواقَ العصور الوسطى، وقعقعةَ الدروع الأوروبية.»
كانت قمة أي جولة في سوريا هي الحجَّ إلى قلاع السيدة هيستر ستانهوب، وهي نفسها راهبة لبنان التي كانت قد استضافت هارييت ليفرمور عام ١٨٣٧. ويبدو أن تقليد زيارة ستانهوب كان قد ظهر قبل ذلك بخمسة عشر عامًا عن طريق نيويوركي اسمه جورج رابيلج، وهو رجلٌ «عادي في الخمسين من عمره، له عاداتٌ ثابتة»، وكان يقضي ساعاتٍ كثيرة في صحبة هذه السيدة. كانت تمدُّه بالغذاء الجيد والصحبة الممتعة؛ لذلك عندما غادر القلعة ومعه عينةٌ من الحرير الدمشقي كانت ستانهوب قد طلبت منه تسويقه في أمريكا. وللأسف مع وصول ستيفنز وهايت لم تَعُد ستانهوب تقابل زوارًا غيره. وتشرح هايت ذلك الوضع قائلة: «كان أصدقاؤها قد ابتعدوا عنها، وكانت ثروتها قد استُنفِدت … من قِبل عرب خبثاء … يستهزئون … بعقيدتها.» وكان المبشِّر الأمريكي ويليام تومسون أحدَ القلائل الذين كانت هايت توافق على استقبالهم. وأقام لها قدَّاس الفقراء عندما عثَر تومسون على جثَّتها الذابلة عام ١٨٣٩.
لم يكن هناك شيء عند الأمريكيِّين في الشرق الأوسط يعادل زيارةَ فلسطين، ولا حتى الإبحار على صفحة النيل أو تسلُّق الأهرامات أو مشاهدة النوبيات الجميلات. كانت إثارة المسافرين وتشوُّقهم يزدادان كلما اقتربوا من الأرض المقدَّسة؛ وكان ذلك يقاس بعدد مرات مراجعتهم للإنجيل. أما كولي، فكانت رؤيةُ سَحرة الثعابين تثير ذكريات الإنجيل العبري (العهد القديم في التوراة)، وكانت مشاركة الفلاحين طعامَهم تذكِّره بمتَّى («الذي يغمس معي يدَه في الصفحة»). وتساءل ستيفنز: «هل يمكن أن يكون ذلك حُلمًا؟» وهو يقف على شاطئ البحر الأحمر «في نفس النقطة التي توقَّف عندها شعب ﷲ المختار … ليشهدوا انقسامَ البحر» أو فوق جبل سيناء «يسترجعون ذلك اللقاءَ العظيم بين الإنسان وخالقه». واختلطت الطبيعة والكتابات الدينية في نفس اللحظة التي كان الأمريكي يطأ فيها الأرض المقدَّسة؛ فهنا كانت المدن التي قرأ عنها وسمِع بها منذ طفولته، التي اشتقَّت منها كثيرُ من المدن الأمريكية أسماءها، وصاحت هايت: «كل ذكرياتي التاريخية … تعود بقوة إلى ذاكرتي. فقد رأيت في كل وجه بطريركًا، وفي كل … رئيس قبيلة أحد الحواريين.»
ومع ذلك فقد كانت الخيالات والأحلام حول فلسطين، مثل تلك الدائرة حول مصر ولبنان قبل ذلك، سرعان ما تتبخَّر. فبدخول الناصرة وطبرية ويافا وبيت لحم كان الأمريكيون يكتئبون بسبب عدم عثورهم على المواضع المثالية كما وردت في الإنجيل، وبدلًا من ذلك كانوا يجدون أماكنَ راكدة مملوءة بالأشواك والأطلال والتراب. وصاحت سارة قائلة: «ما أشدَّ التدهورَ الذي أصاب الأرض المقدَّسة الآن!» وقد صُدمت بصورة خاصة بسبب قلة السكان وفقرهم المدقع، حتى بمقاييس الشرق الأوسط. حتى إن «وجه الأرض قد تقلَّص إلى … برية موحشة.» وقرَّر دور أن مدينة أريحا «لا تستحق الذِّكر»؛ فهي مجرَّد أرض جرداء قاحلة مملة، «مغطَّاة بقطع من الحجر والطوب المكسور». وقال ستيفنز إن أكثرَ ما أصابه بالإحباط كان مدينتي بيت لحم والقدس التي تغلُب عليها المآذنُ المزينة «بالرخام الملوَّن … والزينات الرديئة». قضى دور قُرابة الأسبوعين في القدس وغادرها «متمنيًا ألا أعودَ هنا ثانية أبدًا».
وبرغم الصور الكئيبة المخيفة التي رسمها هؤلاء الرحَّالة، فقد نالت الكتب التي ألَّفها المغامرون الأمريكيون شعبيةً خاصة. فقد نشر جون لويد ستيفنز، الذي اشتُهر فيما بعدُ باستكشافه معابدَ قبائل المايان من الهنود الحمر في يوكاتان بأمريكا الجنوبية — كتابًا بعنوان «أحداث خلال رحلة إلى مصر وشبه الجزيرة العربية والأرض المقدَّسة» عام ١٨٣٧، وباع منه ٢١٠٠٠ نسخة في سنتين. وقدَّر النقاد أيضًا كتاب كولتون «زيارة إلى القسطنطينية وأثينا» واصفين إياه بأنه «متخَم بالمعلومات عن الحياة … في الشرق وأخلاقياته»؛ ووصفوا كتاب كولي «أمريكي في مصر: رحلات في الجزيرة العربية والأرض المقدَّسة» بأنهما «حديثان ومميَّزان في بنائهما ويحتويان على قدرٍ كبير من … الإمتاع». وكانت «المجلدات القيمة» لهايت «مملوءة بالحياة والحيوية»، حيث تخيَّل أحدُ النقاد نفسه مسافرًا «إلى تلك المناطق المثيرة للاهتمام مع السيدة الكاتبة الموهوبة». وبعد نجاح كتابه، قام بايارد تايلور بجولة مربحة، ارتدى فيها زيًّا عربيًّا، وألقى على الجمهور الأمريكي محاضراتٍ عن الإسلام. ونال ديفيد دور أيضًا شهرةً محدودة، وقالت جريدة «بلين ديلر في كليفلاند» عن كتابه إنه «تصويري ومثير للاهتمام للغاية».
وبدلًا من تشويه الأوهام الأمريكية عن الشرق الأوسط، كانت شهادات الرحَّالة والمسافرين تزيدها صقلًا. فكلما ازدادت صورة المنطقة كآبة، ازدادت جاذبيتها للأمريكيِّين. واستمر كتَّاب الولايات المتحدة في التفكير والتأمل في موضوعاتٍ تخص الشرق الأوسط. فإدجار آلان بو، الذي امتدح كتابَ ستيفنز بسبب «حريته … وصراحته … وغياب أي نفاق فيه» كان قد ألَّف قصيدةً باسم «الأعراف»، بإلهام من ألف ليلة وليلة. ثم ألَّف كتاب «حكايات عن كلِّ ما هو غريب وعربي». وعاد واشنطن إيرفنج مرةً أخرى إلى الموضوعات الإسلامية. في عام ١٨٥٠ نشر دراسةً في مجلدين باسم «محمد وخلفاؤه»، ومع أنها انتقدت الرسول، فإنها أوضحت «روحَه الحماسية ذات الرؤية البعيدة» و«السِّمة الواضحة السامية في طريقه المنير».
•••
ولكنَّ وصْفَ يوسف لم يكن لينطبق على أكثرِ المسافرين الأمريكيِّين كآبةً واضطرابًا ومناهضة للحرب، والذي كان أيضًا أكثرهم إبداعًا. وكان ابنًا لتاجرٍ نيويوركي مفلس، علَّم نفسه بنفسه، وعمِل خادمًا على السفن وصائد حيتان، وخدم في البحرية الأمريكية وعاش بين آكلي لحوم البشر في بحر الجنوب، قبل أن يستقر به المُقام في مزرعة غربي ماساتشوستس. إنه هيرمان ميلفيل الذي أبحر إلى الشرق الأوسط في ديسمبر عام ١٨٥٦، وهو لا يحمل معه غير فرشاة أسنان وغيار واحد من الملابس.
نادِني بإسماعيل
كان ميلفيل مريضًا ويائسًا لأن كتابه الأخير «موبي ديك» كان قد باع ثلاثة آلاف نسخة فقط، كان في السابعة والثلاثين من عمره، وهو يحاول جاهدًا إثارةَ حماسة قرائه. وكانت صور من الشرق الأوسط — معظمها مستقًى من ألف ليلة وليلة — قد شدَّت انتباهه فترات طويلة. وكان كلٌّ من ستيفن ديكاتور وديفيد بورتر قد ظهرا شخصياتٍ في قصصه الخيالية. وكان المسافر المُطارد الضخم الجثة الذي يدفع البطلَ في قصة ميلفيل «ريدبيرن» إلى الرحيل إلى «بلاد بعيدة بربرية» على الأغلب شخصيةً شكَّلها ميلفيل حسب الشخصية الحقيقية لجون لويد ستيفنز، وجاء ذكر جون ليديارد «رحَّالة نيو إنجلاند العظيم» في كتاب «موبي ديك». والآن ميلفيل، الذي كان يحثُّ قراءه على مناداته بإسماعيل (وهو حسب الإنجيل أبو العربِ كلِّهم) مصرًّا على رؤية «الجزيرة العربية الحجرية» بنفسه. كان هدفه هو العثور على إلهامٍ لنسخةٍ شرق أوسطية من تايبيي، وهو أكثر كتب المغامرات التي ألَّفها شعبية ورواجًا. لذلك كتب في مذكِّراته: «أنا الآن مملوء بهذه الرحلة الشرقية المجيدة. فكِّر في الأمر! القدس والأهرامات!»
ودخل ميلفيل منطقةَ الشرق الأوسط عبر إسطنبول مثل سارة قبل عشرين عامًا، وانبهر بها فورًا. فقال يصِفها: «تخيلوا كومةً ضخمة من قصاصات القماش البالية للعديد من الأمم، أُلقي عليها كثيرٌ من الألوان، وجُمعت كلُّها في صُرَّة كبيرة، تتصارع معًا وتتحدَّث بكل اللغات واللَّهجات.» ومثل ستيفنز وكولي، كان ميلفيل يرتعد لمجرد ذكر «الشوارع التي لا تحمل أسماء، شوارع يملؤها هواءٌ ملوَّث ومنازل مهدَّمة». وكان يتخيَّل «أنه وراء كل عارضة خشبية فيها يوجد شخص منتحِر». وقد اندهش هو أيضًا من التنوُّع الطائفي والكثافة الجنسية للمدينة، فتخيَّل أن «وراء كل شُباك يوجد وجهٌ يهودي أو يوناني أو أرمني، وأن من الأكواخ القديمة تبرز فتياتٌ جميلات كالزهور والورود التي تنمو في إناء مكسور». وكما حدَث مع كثير من السواح الأمريكيِّين من قبل، صُدم ميلفيل من الكيفية التي بها «اجتمع الملايين من أهل الشرق الأوسط على رفض لبِّ الحضارة الغربية، بينما لبُّ هذه الحضارة هو الكثير من أخلاقنا وكل عقيدتنا وديننا».
«البخار تحت القمم. الطائرات الورقية تدور في الفضاء، محلِّقة فوق القمم. وعند الزوايا مثل الحافات المكسورة … يقف الأدلَّاء العرب في ثيابهم البيضاء الواسعة. يقودوننا نحو السماء وكأنهم ملائكة … يغمرني شعور بالرهبة والرعب. أخاف العرب … وفكرة أن الإله وُلد هنا … شيءٌ هائل لا نهاية له غير مفهوم وبغيض. هذه هي الدرجات التي رقد عندها يعقوب … ويمكن أن تكون قد بدأت منذ الخليقة.»
واعترف ميلفيل بعد وصوله إلى يافا بقليل أنه «لا بلد تتبخَّر فيه التوقُّعات الرومانسية سريعًا مثل فلسطين». وانضم إلى قافلةٍ مكوَّنة من ثلاثين عربيًّا من راكبي الجياد، الذين كانوا يسعدون بإفراغ بنادقهم في كل بركة مياه أو زرعة صبار، معذبًا بسبب الحشرات وأشعة الشمس الحارقة، ثم ارتقى تلالَ يهوذا. تساءل قائلًا: «هل قحط تلك البلاد نتاجُ حضن الرب؟» ثم أجاب: «البؤساء هم المفضَّلون في الجنة.» وبدلًا من رفعه إلى أعالي السماء، هبطت المناظر المحيطة به إلى أسفل السافلين، فأصبح في حالة من الوجوم والهلاوس والانقباض. وقال: «العفن الأبيض يجتاح مساحاتٍ من البلد؛ البَرص ونتاج اللعنات والجبن القديم والعظام والأحجار، كلُّها مهدَّمة ومكسَّرة … فأنت ترى التشريح؛ تقارن بين تلك المنطقة والمناطق العادية الطبيعية، وكأنك تقارن هيكلًا عظميًّا برجل صحيح البدن متورِّد الوجه.»
وكلما ازداد توغُّله في البلاد، ازداد كآبةً وانقباضًا، وأثَّرت كآبته تلك على نظرته المبدئية إلى مدينة القدس، التي كتب عنها: «تنظر المدينة إليك مثل عين رمادية باردة لرجل عجوز بارد.» ولم يكن شيء يبهجه؛ لا مسجد عمر ولا المقبرة المقدَّسة، التي ظن أن رائحتها تشبه «الخرائب». وكان يسخر من المرشدين السياحيِّين الذين يحاولون إبراز الأماكن التي تحدَّث عندها المسيح، وفي نفس اللحظة، يشيرون إلى المطعم الذي يقدِّم أفضل أنواع القهوة. لقد كان سليل التطهريِّين الذين اعتبروا الأمريكيِّين «شعبًا متميزًا مختارًا؛ إنهم بنو إسرائيل هذا الزمان». لذلك لم يشعر ميلفيل بأي تقارُب مع اليهود الذين قابلهم. ووصفهم بأنهم «يهيمون في فراغ الآثار الخالية من الحياة في القدس، كالذباب الذي اتَّخذ من جمجمةٍ مقرًّا له».
كانت فكرةُ إعادة اليهود مقزِّزة لميلفيل، فأسماها: «الجنون اليهودي غير المعقول». وقد رفض تصديقَ أن فلسطين — البلد الصحراوي — يمكنه احتمالُ قيام دولة فيه، أو أن اليهود يمكن تحويلهم إلى مزارعين. ولم تكن لديه ثقةٌ في قدرة المبشِّرين على تحويل العرب الأرثوذكس الشرقيِّين — فضلًا عن تحويل المسلمين — إلى بروتستانت على الطراز الأمريكي. فقال ضاحكًا: «يمكنهم تحويل الطوب إلى كعك عرس، إذا أمكنهم تحويلُ الشرقيِّين إلى مسيحيِّين بروتستانت.»
لم يَرُق موقف ميلفيل من اليهود والمبشِّرين لأول أمريكي قابله في فلسطين، وهو واردر كريسون. إذ كان القنصل السابق الذي تحوَّل إلى صاحب مزرعة قد بدأ بدوره رحلةً بدنية وروحية. وكان يؤمن أنه بتكوين دولة إسرائيل في فلسطين يمكن للولايات المتحدة إنقاذُ نفسها من الاختلاف حول قضية العبيد، فكتب: «اختار الربُّ صهيون … لتكون مركزَ هذا العالم … ولا يمكن أن يكون هناك اتحاد أو انسجام … من دون هذا التجمُّع.» وفي نفس الوقت كانت «أبحاث» كريسون حول العهد الجديد واتصالاته المكثَّفة مع اليهود قد قادته إلى التساؤل حول معتقداته هو، وإلى اعتبار نفسه واحدًا من هؤلاء الذين جاء هو لتعميدهم. فترك ما أسماه «نشارة خشب المسيحية» ليتَّجه إلى «الأصل»، فأصبح يهوديًّا وخُتِن، واتَّخذ لنفسه اسمًا عبريًّا هو مايكل بواز إسرائيل.
في تلك الأثناء كانت «المزرعة الأمريكية النموذجية» التي أنشأها كريسون تبوء بفشلٍ تلو الآخر، وفي محاولة للحصول على بعض التبرُّعات، عاد كريسون إلى موطنه فيلادلفيا. ولم تستقبله زوجته بالأحضان، بل بدعوى قضائية مدنية تهدف إلى الحصول على باقي الأصول التي يمتلكها في أمريكا، مستغلةً تحوُّله الديني دليلًا على عدم أهليته الذهنية لإدارة شئونه. كانت جلسة المحاكمة حدثًا عامًّا، حضره أكثرُ من مائة شاهد، من بينهم موردخاي نوح، الذي دُعي للشهادة. وفاز المدَّعى عليه، وقالت جريدة «بابليك ليدجر» الصادرة في فيلادلفيا إن «ذلك يحدِّد إلى الأبد مبدأ يقرِّر أن الرأي الديني لأي شخص لا يمكن أن يُعَدُّ اختبارًا لقدرته الذهنية والعقلية». وعلى ذلك رحل كريسون — إسرائيل — عائدًا إلى فلسطين، وتزوَّج بسيدة يهودية، وانتقل إلى مدينة القدس. وهناك في يناير ١٨٥٧ تقابل مع هيرمان ميلفيل.
ومع ذلك فلم ينتهِ تفاعُل ميلفيل مع الأمريكيِّين المؤمنين بعودة اليهود بلقائه مع كريسون. فقد زار فيما بعدُ مقرَّ المزرعة الأمريكية النموذجية، وهي المستعمرة التي كان يديرها والتر ديكسون، والأخوان جروسشتاينبيك وعدد من الأُسر الأمريكية، من بين هؤلاء كان آل سوندرز — تشارلز ومارثا — من رود أيلاند، أول مَن استضاف ميلفيل. وكان الزوجان في منتصف الأربعينيات قد فشِلا في البحث عن الذهب في كاليفورنيا، قبل أن يعيدا اكتشافَ عقيدتهما ويبحرا إلى فلسطين. وصف ميلفيل السيد سوندرز قائلًا: «ميكانيكي عجوز … أرهق حرَّ الشرق الأوسط أعصابه. ضعيف بطبيعته وأضعف بمرضه، لكنه رجل محترم.» وظنَّ ميلفيل أن ابنته أيضًا تبدو مريضة، ولديها حنينٌ لموطنها الأصلي. على العكس منهما كانت السيدة سوندرز، فقد كانت تدرس اللغةَ العربية على يد شيخ مجاور، وتتصرَّف وكأنها «طبيبة» تداوي المرضى الفقراء، كانت امرأةً شجاعة مقدامة، تحب قراءة «كتاب نساء بطلات»، الذي اعتبره ميلفيل «المثال والنموذج الذي تسير وراءه طموحاتها». وقد عبَّر الزوجان عن استيائهما من اليهود الذين «يأتون مدَّعين أن بهم مسًّا، ثم يحصلون على ملابسَ ويختفون». كان تشارلز سوندرز قد يئس من تعليم أي يهودي أصولَ الزراعة، ولم يَعُد يأمُل في تحويل أيٍّ منهم إلى البروتستانتينية، ولكن مارثا ظلت على تفاؤلها. ونقل عنها ميلفيل قولَها: «عمل الرب يجب أن يتمَّ.» أما هو فكان يظن أنها «تنتظر الوقت الذي يحدِّده الرب».
من بيت آل سوندرز انتقل ميلفيل إلى ضيافة والتر ديكسون، الذي وصفه ميلفيل بأنه «أمريكي شمالي حقيقي، في حوالي الستين من عمره، ذو لحية شرقية طويلة، ويرتدي قميصَ الأمريكيِّين الشماليِّين الأزرق اللون، ومعطفًا طويلًا على طريقة الكويكرز». وكان من بين الحضور أيضًا زوجته الجافة سارة. وقد أورد ميلفيل جزءًا من حديثه معهما في مذكِّراته:
كانت زيارة مزرعة ديكسون ختامًا لزيارة الكاتب التي استمرَّت ١٩ يومًا لفلسطين، وهي تجربة متميزة لكنها شاقة مجهدة. وكان الشرق الأوسط، تلك المنطقة الجذابة التي كان ميلفيل يأمُل أن تعيد إحياء إلهامه وعمله المتدهور. قد أثبتت أنها مصدرُ إحباط فظيع، واشتكى ميلفيل قائلًا: «الأمر كلُّه نصف محزن، ونصفه الآخر ساخر، مثل بقية العالم.»
ومرَّت عشرون سنة قبل أن يتَّضح تأثير رحلة ميلفيل إلى الشرق الأوسط في كلاريل؛ ملحمته الشعرية الطويلة. وعلى مدى ١٨٠٠٠ بيت شعري وفي قالب شعري لم يستسغه النقادُ والقراء على السواء، يحكي هذا العمل قصةَ طالب علوم دينية أمريكي، هو كلاريل، في رحلة حجِّه إلى فلسطين. في الأرض المقدَّسة حيث يقوم التجار والمبشِّرون «باسم المسيح والتجارة بإهدار آخر مساحات في الغابات في العالم»، يقابل الشاب مجموعةً من الشخصيات المشحونة بالتزامها بذلك التحدي العاطفي. وأكثر تلك الشخصيات تميزًا كانت شخصية ناثان، وهو شخص غريب منحرف، من التطهريِّين، وقد غيَّر عقيدتَه إلى اليهودية مثل واردر كريسون. ففي حين كان كلاريل يصبو إلى إعادة استقطاب ناثان للمسيحية، إذا به يقع في حبِّ روث، ابنة المرتد. هذا التناقض بين ناثان وكلاريل، والتعامل المتناقض للعديد من اليهود في القصيدة — اليهود الأفارقة والهنود، واليهود الغربيون واليهود الرحَّالة — كان يمثِّل الصراع الروحي الذي يمر به ميلفيل نفسه. وظلَّ هذا الصراع بلا حل، بسبب مقتل ناثان على يد عصابة من العرب، تبِعه موت روث ميتةً تتقطع لها نياط القلوب.
لم تَعُد مستعمرة ديكسون إلى سابقِ عهدها بعد هذا الهجوم. فقد فرَّ الناجون إلى الولايات المتحدة، وبينهم يوهان جروسشتاينبيك، الذي قصَّر اسمَه وأمركَه. أما حفيده، جون، فأصبح مؤلِّف روايات، من بينها «شرق عدن» و«عنب الغضب»، وكلُّها ذات أبعاد إنجيلية مأساوية.
سفن البحر والصحراء
قد تمرُّ حادثةُ هذا الهجوم والانتهاك الصارخ لأسرة أمريكية مسالِمة تقيم في الشرق الأوسط مرورَ الكرام فيما قبل، ولكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر لم يَعُد بالإمكان سرقةُ ونهب الأمريكيِّين المقيمين في المنطقة وهم محميون محصَّنون. كان وضعُ الأمريكيِّين في المنطقة قد تغيَّر تغيرًا جذريًّا منذ أيام جورج بيثون إنجليش، عندما غيَّر اسمَه وديانته ليثبتَ وطنيته في أرض النيل. وقد ندَّدت وزارة الخارجية بشدة بالهجوم على مزرعة ديكسون، مطالبةً بعقابِ مرتكبي الحادثة. ولكن السلطات العثمانية ماطلت في الموضوع. وأرسلت واشنطن أوامرها الغاضبة إلى قنصلها بالإسكندرية، إدوين دي ليون بالتقدُّم إلى يافا فورًا وإرسال اعتراض إلى الحاكم.
لم يكن دي ليون قنصلًا عاديًّا؛ فقد كان في السابق ناقدًا ومراسلًا أدبيًّا، من كارولينا الجنوبية. وكان قد أظهر أُلفة وحزمًا كبيرًا في علاقاته بالموظفين المصريين، وبذلك كسب ثقتهم. وكان دي ليون يهوديًّا أيضًا، وهو سليلُ أسرة يهودية محترمة من أصول إسبانية؛ وكان قد عُين في تلك الوظيفة بوزارة الخارجية بسبب الفكرة السائدة بأن اليهود يكوِّنون رابطةً طبيعية بين أمريكا المسيحية والشرق الأوسط المسلم. وأوصلته السفينة «سانت لويس» إلى الإسكندرية عام ١٨٥٣، وبسرعة كسب دي ليون ثقةَ خلفاء محمد علي؛ عباس حلمي، وسعيد. وقد أثبتَت هذه الصلات قيمتَها وأهميتَها ونفعها عندما تمكَّن دي ليون من ضمان مأوًى للمسيحيِّين الهاربين في مصر، بعد سلسلة من المذابح ضد تجمُّعات الروس الأرثوذكس في القرم.
أصرَّ دي ليون على الحصول على حكمٍ عادل لضحايا مزرعة ديكسون، وعلى أن يقوم العثمانيون ﺑ «تصرُّف فوري وحازم وفعَّال لن تكون الحياة والممتلكات الأمريكية … آمنةً دونه أبدًا في سوريا، ولن ينال اسمُ أمريكا ما يستحقه من احترام». فوصل إلى يافا في ٥ مارس ١٨٥٨، وطالب على الفور بمقابلة الحاكم، وقد قابله بالفعل، ولكن دي ليون رفض أيَّ نوع من أنواع كرم الضيافة التي عُرضت عليه.
تساءل مضيِّفه المستاء: «هل بلادنا في حالة حرب بحيث تُعاملنا بهذه الطريقة؟»
فأجابه دي ليون بغلظة: «نحن نَعُد الحاكم الذي يقبَل قتلَ الرجال وانتهاك النساء، بل ويعتِّم على ذلك، يعلن الحربَ علينا. وها أنتم أولاء قد بدأتم، ولم نبدأ نحن. وإذا كان الحاكم يرفض اعتقالَ مرتكبي الجريمة، فإن الولايات المتحدة سترسل سفينةً حربية لإلقاء قنابل على مساحاتٍ شاسعة من البلاد، ولن تترك حجرًا على حجر في يافا.»
اتخذ المحافظ الحاكم — على الفور — موقفًا أكثرَ ليونةً وتعاونًا، واعتقل عددًا من أعضاء قبيلة بدوية ذات شأن، وجدت معها بعض مقتنيات آل ديكسون. وكانت مطالب دي ليون قد أُجيبت، ولكن فجأةً تزايدت مشكلاته. فقد أحاط المئات من أقارب وعشيرة المساجين المسلَّحين بأسوار المدينة، مطالبين بالثأر. وواجهت القنصل معضلة: إما أن يفرِج عن المتهمين، أو يخضع للحصار. لكنه لم يختَر أيًّا منهما.
كان يفهم الشخصية العربية جيدًا، كان يفهمها بما يكفي بما يعني أن ظهور أي تردُّد من جانبه قد يقف حجرَ عثرة أمام نجاح مهمته؛ لذلك جمع دي ليون الحاكم والترجمان وبعض الإنكشارية، ومجموعهم ثمانية رجال، واستصدر لهم أوامرَ بالحصول على خيل وبنادق. ثم قاد تلك القوةَ إلى خارج المدينة، مخترقًا صفوفَ البدو المتربِّصين بهم. وتفاخر فيما بعدُ قائلًا: «أرهبتهم جرأةُ تلك الحركة»، مضيفًا أن البدوَ منذ ذلك اليوم أطلقوا عليه اسم «المجنون، وهو لقبٌ يجعل للمرء نوعًا من الحصانة في الشرق». ولكنَّ الحاكم كان أقلَّ رضًا، كما لاحظ دي ليون؛ فقد أجبر أحدَ اليهود موظفًا مسلمًا على «عقاب مسلمين آخرين من أجل … إرضاء مسيحيِّين».
وهكذا حدَث أن اثنين من اليهود الأمريكيِّين، هما دي ليون وليفي، أصبحا من أشد المدافعين عن المسيحيِّين الأمريكيِّين في الشرق الأوسط، وهو موقفٌ متناقض بلا شك؛ ولكنه كان يعكس الثقةَ التي يمكن للولايات المتحدة استعراضها في المنطقة. والأهم أن هذه الحادثة كانت مؤشرًا على مدى قوة الأدوات الدبلوماسية والحربية التي يمكن وضعها في خدمة الدِّين المسيحي الأمريكي (البروتستانتي) في الشرق الأوسط، وهو مزيجٌ متميز للغاية.
•••
ولكن كان لا يزال ينقص ذلك المزيجَ العنصرُ الأسطوري، إلا أن هذا أيضًا كان سيُضاف عما قريب من قِبل أمريكي آخر متميز. إنه جورج بيركنز مارش الذي وُلد في فيرمونت وتعلَّم في دارتموث؛ وعمِل في تربية الماشية، وكذلك في مجال المطاحن وفي بناء الجسور وفي المحاجر قبل أن يرِث ثروةً ويهَبَ نفسه للفن. وفضلًا عن ذلك وجد وقتًا في عام ١٨٤٠ لدخول مجلس النواب الأمريكي (الكونجرس)؛ حيث عقَد صداقةً قوية مع زميله عضو الكونجرس العجوز جون كوينسي آدامز. وبعدها بعشر سنوات غادر مارش واشنطن ليترأس السفارةَ الأمريكية في إسطنبول. وكان انطباعه عن الأتراك أنهم «أناسٌ أجلاف» وأن الشرق الأوسط «مكانٌ بائس مملوء بكل أنواع الشرور … الاغتصاب والقتل والسرقة والثأر الديني». ومع ذلك فقد أصبح سفيرًا ناجحًا وفعالًا، فروَّج لبيع السفن الحربية الأمريكية الصُّنع للباب العالي، ونظَّم أول بعثة عثمانية بحرية إلى الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى ممارسة سلطاته باشر مارش أيضًا — وهو ابنُ قسٍّ منهجي — ميولَه الدينية، وفي أول فرصة أُتيحت له زار فلسطين.
أثبتَت الرحلة أنها رحلةُ تحوُّل لمارش، ليس فقط بسبب المرض الذي قارب أن يموت بسببه قُرب الناصرة. ففي فترة النقاهة والشفاء، فكَّر وتأمَّل في الحال السيئة التي وصلت إليها الأرض المقدَّسة، التي كانت غاباتها قد أُزيلت وتربتها قد جفَّت بسبب قرون طويلة من الزراعة العشوائية والرعي غير المنظَّم والإهمال. وفكَّر مارش أن أمريكا يمكن أن يصيبها الجفاف بدورها إذا استغلَّ مواطنوها بيئتَهم باستهتار، وإذا ظلَّ قادتهم غير عابئين بذلك. وهناك في فلسطين وضع مارش الأفكارَ التي ضمَّنها فيما بعدُ في عمله الرائع «الإنسان والطبيعة» الذي دعا فيه الحكومةَ إلى حماية الحياة البرية والموارد القيِّمة. وقاده هذا الدافع نفسه إلى حماية الولايات المتحدة من كوارثَ بيئية كتلك الحادثة في الشرق الأوسط، فبادر بحركة حماية البيئة الأمريكية وتكوين معهد بحثي قومي عن الطبيعة، وهو معهد سميسونيان.
قدَّم مارش رؤيته لسلاح الجِمال في معهد سميسونيان في يناير ١٨٥٥، وعلى الفور وافقه وزير الحربية جيفرسون ديفيز. وقال مبررًا ذلك: «عندما كان نابليون في مصر استخدم … تلك الحيوانات نفسها في إخضاع العرب الذين كانت عاداتهم وبلادهم أقربَ ما تكون لعادات الهنود الحمر في الغرب الأمريكي.» وكانت النتيجة تأسيسَ مجلس النواب (الكونجرس) للشركة الأمريكية للجِمال، وخُصِّصت لها ميزانية قدرها ٣٠٠٠٠ دولار. وقُدِّم هذا المبلغ إلى ثلاثة من أقرباء السفير الراحل ديفيد بورتر، وهم إدوارد بيل، وجوين هاريس هيب، وديفيد ديكسون بورتر، الذين استعانوا بجهود دي ليون في مصر. واشتُري ٧٩ جملًا من عدة موانئ في الشرق الأوسط، وحُمِّلت على السفينة «سَبلاي»، وهي السفينة نفسها التي كانت قد أوصلت ويليام لينش إلى فلسطين. وقد تفاخر الضابط المسئول عن هذه الصفقة، الرائد هنري واين، قائلًا: «سيتمكَّن الأمريكيون من إدارة الجِمال ليس فقط بنفس المهارة، بل أفضل من العرب، وسيقومون بذلك بطريقةٍ أكثرَ إنسانية وبذكاء أكبر بكثير.» ومع استعراض القوة والشجاعة من قِبل واين، استقل خمسة من قادة الجِمال العرب السفينةَ معهم، من بينهم الحاج علي، أو كما كان الأمريكيون يطلقون عليه «هاي جولي».
وبعد أسابيع من الأمواج والبحار المضطربة، وصلت الجِمال في ١٤ مايو ١٨٥٦ إلى محطتها في إنديانولا، تكساس. وكان استقبالهم مدويًا؛ حيث اندفعت البِغال والخيول والماشية المحلية جريًا عند رؤية هذه الحيوانات الغريبة الشكل. وعرف الأمريكيون أن الجِمال يمكنها أن تحتفظ بالماء، لكنها أيضًا سهلة الاستفزاز والانتفاخ ورائحة أنفاسها كريهة، وهي قادرةٌ على إحداث أعراضٍ لراكبيها تشبه دُوار البحر. ولكن أهالي مدينة جالفستون تجنَّبوا تلك الحيوانات تمامًا وقاطعوها، كانت تُوقَّع على مَن يخرق تلك المقاطعة غرامة قدرها ٥٠ دولارًا. ومع ذلك فقد تابعت القافلة مسيرتها، ما بين عواصف رملية وأمطار غزيرة، من مدينة سان أنطونيو إلى مدينة فورت ديفاينس (قلعة التمرد) بأريزونا. وتساءل ماي ستايسي، الجندي الذي كان يصاحب القافلة: «ماذا تمثِّل هذه الجِمال؟» وأجاب بنفسه: «الاندفاع الأمريكي للأمام، الذي يُخضِع حتى الطبيعة ذاتها بسبب طاقته الكبيرة ومثابرته وإصراره.»
•••
في عام ١٨٦٠ كانت التوتُّرات العِرقية الكامنة تحت السطح منذ فترة طويلة في سوريا، التي أذكى جذوتَها الأوروبيون، قد وصلت إلى قمَّتها واندلعت نيرانها على مستوى البلد كلِّه، فذبح بعض الجنود الدروز ١٢٠٠٠ ماروني ويوناني أرثوذكسي ويوناني كاثوليكي. وكتب المبشِّر الأمريكي هنري جيسوب عن إحدى المذابح: «كانت أنهار الدم تصل للكاحلين، وتتدفَّق نحو البالوعات وتخرج من مواسير الصرف ثم تتدفَّق في الطرقات مرةً أخرى، ولم تُدْفن جثة واحدة.» وكان الحجم الهائل لتلك المذابح وأعمال العنف قد أذهل البروتستانت الذين وجبَ عليهم فجأةً إطعام نحو ١٥٠٠٠ لاجئ «يتملَّكهم الجوع والرعب ويعوِزهم المأوى». وبذلك وجد الأمريكيون أنفسهم مرةً أخرى وسط نيران الشرق الأوسط دون فهمٍ أو إنذار. وأخيرًا، وبسبب خوفهم على حياتهم تراجع المبشِّرون إلى بيروت، حيث أصبحوا بدورهم مستحقين للعون والمساعدة والصدقة.
كان حجم الحروب الأهلية الهائل في الشرق الأوسط، مهما يكن مرعبًا، يتضاءل بجانب الانشقاق الكبير الذي أصاب أمريكا. ففترةُ ما قبل الحرب الأهلية في التاريخ الأمريكي كانت تندفع نحو نهاية كارثية. وكانت حِقبة أخرى مهمة امتدَّت أربعين عامًا في علاقات البلد بالشرق الأوسط تقترب من نهايتها، وهي فترةٌ تميزت بتغييرات جذرية وبعيدة المدى.
وبناءً على تراثِ ما بعد الفترة الاستعمارية في المنطقة — حروب البربر والبحث الأولي عن المغامرة، وبداية ظهور مجهودات التبشير — تدخَّل الأمريكيون في الشرق الأوسط بمزيجٍ من الثقة والفضول والحماسة. ولأنهم لم يعودوا في موقف ضَعف، اقترب الدبلوماسيون الأمريكيون من حكام الشرق الأوسط من منطلقات القوة والصداقة بصورة متزايدة. وفي الوقت نفسه جاب المستكشفون والسائحون المنطقةَ بكثير من اللَّهفة، وعن طريق كتاباتهم قدَّموا للآلاف من أبناء وطنهم طيفًا واسعًا من ثقافات الشرق الأوسط المتباينة. وبلغ الشغف الشعبي بالمنطقة مداه، يحفِّزه الفنانون الأمريكيون الذين رسموا بحرية تامة، مستخدمين أنماطًا ونماذجَ شرق أوسطية، في بحثهم عن مصادرَ للإلهام تتعدَّى «ألف ليلة وليلة». وفي تلك الأثناء كان البروتستانت الأمريكيون قد تعافَوا من نكساتهم المأساوية، ليضعوا أسسَ شبكة تعليمية ساعدت على بثِّ الأفكار الجمهورية والوطنية في الشعوب المحلية.
وبدلًا من مجرَّد مهاجمة الشرق الأوسط أو إظهار ردِّ فعلٍ من أي نوع تجاهه، كان الأمريكيون يتفاعلون معه لأول مرة على عدة مستويات؛ استراتيجية وتجارية وثقافية وعلمية. ومع أن العلاقات لم تكن دائمًا متبادَلة من حيث الاحترام، أو خالية من التوترات، فإن شعوب الولايات المتحدة والشرق الأوسط كانت تشارك في تفاعلاتٍ متنوِّعة ومثمرة للغاية. فقد بدءوا — مهما كانت البدايات متردِّدة وغير سلسة — في التعرُّف على بعضهم.
وكانت الأمة المتحدة دستوريًّا — ونتيجةً جزئية لتجربة أمريكا في الشرق الأوسط — تتفتَّت بسرعة. كما أن الحرب الأهلية القادمة ستُغيِّر بطريقة جذرية الجمهوريةَ من عدة وجوه، ومع ذلك كان سينتج عنها أيضًا تأثيرٌ مستمر على شعوب المنطقة، بدءًا بالمغرب ومرورًا بسوريا ووصولًا إلى الأناضول. وكانت أولى جامعات المنطقة على الطراز الغربي ستُقام، وتدخل أحدثُ التكنولوجيا للمساعدة في تحديث تلك المجتمعات التقليدية. لقد لعبَ الصراع في الولايات المتحدة دورًا مهمًّا في حفر قناة السويس أيضًا، وهو ما أثَّر بدوره على سياسة المنطقة لِما يزيد على قرن كامل من الزمان. وفي حين تصارع الأزرق والرمادي حول مستقبل البلاد، كان الجنود ورجال الكنيسة والرحَّالة الأمريكيون يغيِّرون معًا الشرقَ الأوسط ويحدِثون تحولاتٍ فيه.