التصدُّع
العبودية هي القضية التي أدَّت إلى تزايد انقسام الأمريكيِّين في الفترة ما بين الثورة والحرب الأهلية، ولم يكن لها ظاهريًّا أيُّ علاقة ملحوظة بالشرق الأوسط. لقد كانت مشكلةً أمريكية، وكان على الأمريكيِّين وحدَهم، وليس على المصريِّين أو المغاربة، مواجهتها وحلها. ومع ذلك، فقد احتل الشرق الأوسط — منذ الأيام الأولى للجمهورية — مكانةً بارزة ومحورية أحيانًا في الصراع بين معارضي العبودية ومؤيديها. ومن صور هذا الصراع ما ظهر في الجريدة الرسمية الفيدرالية، عدد مارس عام١٧٩٠ في مقالٍ بعنوان «عن تجارة العبيد». وقد اشتُهر أن هذا المقال سُطِّر بقلم سيدي محمد إبراهيم، وهو أميرٌ جزائري يمتلك عددًا كبيرًا من العبيد ويرغب في الدفاع عن حقه في الاحتفاظ بهم، ونوَّه المقال عرضًا إلى أن عبيد هذا الأمير كانوا من الأمريكيِّين البِيض ولم يكونوا من السود الأفارقة.
وتساءل سيدي محمد في مقاله: «إذا توقَّفت حملاتنا ضد المسيحيِّين … وعن جعل شعوبهم عبيدًا … فمَن الذي سيفلِح لنا أرضنا؟» كان تساؤلًا بليغًا؛ لأن الإجابة كانت واضحة: ففي غياب الأسرى «العبيد» الأمريكيِّين ينبغي على الجزائريِّين أنفسهم أن يعملوا في فلاحة الأرض. ولكنَّ الأمير عبَّر أيضًا عن اهتمامه بأحوال العبيد، وقلقه بشأنِ ما إذا كانت سنوات الأَسْر قد سلبتهم القدرةَ على الحياة بحرية اعتمادًا على أنفسهم. وأضاف أنهم بتحرُّرهم سيكون من المؤكد أن يتحولوا إلى عبء اجتماعي، وسيكونون معرَّضين لظروف عمل لا إنسانية. وبدلًا من «إخراجهم من النور إلى الظلمات»، تساءل سيدي محمد عما إذا كان العبيد الأمريكيون سيكونون أفضلَ حالًا تحت «شمس الإسلام» ومتمتِّعين برعاية وعناية الجزائر. وانتهى إلى قوله «… لا نريد أن نسمع المزيدَ عن هذا الاقتراح غير المستساغ؛ فقبول هذا الاقتراح … سيؤدي إلى حالةٍ عامة من الفوضى … وعدم الرضا».
مؤسَّسات غريبة متشابهة
لم يكن فرانكلين أولَ مَن عثر على خطوط متوازية بين مفهوم الرِّق في الولايات المتحدة وممارساته في الشرق الأوسط. فقبل ذلك بعدة سنوات، وتحديدًا في عام ١٧٧٦، انتقد القس صامويل هوبكنز عدمَ إيمان أعضاء كنيسته مالكي العبيد في مدينة نيوبورت في رود أيلاند. وقال موبِّخًا: «إذا كان عدة آلاف من أطفالنا عبيدًا في الجزائر أو في أي جزء من المناطق الخاضعة للسيطرة التركية … أكنا ندَّخر وُسعًا أو مالًا … من أجل تحريرهم؟» وكان هوبكنز — أحدُ المؤسِّسين المستقبليِّين للمجلس الأمريكي للبعثات الأجنبية — قد تساءل عن ماهية الأمريكيِّين الذين يضيق صدرُهم إزاء السجناء المسيحيِّين في شمال أفريقيا، وإذا ما كان نفس الأشخاص الذين لا يُظهِرون أيَّ اهتمام أو تعاطف تجاه المأساة التي يعيشها العبيد في الولايات المتحدة؟ وأجاب قائلًا: «السبب واضح. إنهم من السود.»
لقد كانت المقارنات بين نوعَي الرِّق، الأمريكي والشرق أوسطي، تزداد انتشارًا بعد حصول الولايات المتحدة على استقلالها، وبدء البربر في خطف الأمريكيِّين. ولهذا وبَّخ جون جاي أبناءَ وطنه لإظهارهم تعاطفًا مع البحَّارة المختطَفين في الجزائر، في حين أنهم لا يبالون بخدَمِهم في المنازل، تمامًا كما فعل القس هوبكنز من قبل. وفسَّر ذلك قائلًا: «العبيد الأمريكيون في الجزائر كانوا بيضَ البشرة، في حين كان العبيد الأفارقة في نيويورك سود البشرة.» ولاحظ مراسلٌ في جريدة «نيوجيرسي» الرسمية الذي يطلِق على نفسه اسم هيومانوس (الإنساني)، فقال في عدد سبتمبر ١٧٨٦: «لا شك أن أسياد العبيد السود يرتعدون لمجردِ فكرة أن يكونوا عبيدًا للجزائريين، وأن يُعامَلوا من قِبل الدكتاتوريِّين البرابرة بنفس الطريقة، ولكن هل هم أقلُّ دكتاتوريةً من أتباع محمد؟» وفي العام التالي أبلغت مارثا جيفرسون أباها مالكَ العبيد وسفير أمريكا في باريس عن سفينة من فرجينيا هربت بأعجوبة من الجزائريِّين لمجرَّد أن تعود إلى وطنٍ يسمح بالرِّق. وقالت حزينة: «يا إلهي ألم نتَّعظ بعدُ؟ إن قلبي ينفطر … أن يُعامَل أشقاؤنا في الإنسانية بهذه الوحشية … على يد العديد من أبناء وطننا.» وكانت مارثا إحدى المعارضات الأوائل للرِّق مثل جمعية إلغاء الرِّق في بنسلفانيا، وحثَّت الحضورَ في مؤتمر الدستور على النظر في مأساة الأمريكيِّين في الجزائر باعتبارها عِقابًا إلهيًّا «على الظلم والقسوة التي نعامِل بهما الأفارقة البؤساء». وسأل كاتبٌ مجهول قرَّاءه عام ١٧٨٩: «أيهما أسوأ: استعباد الأمريكيِّين للأفارقة، أم استعباد الأفارقة للأمريكيِّين؟» وكانت الإجابة بسيطة من وجهة نظره: «إنهما واحد.»
إن أوجه الشبه بين الرِّق الأمريكي والشرق أوسطي من الموضوعات التي تلقى رواجًا كبيرًا بين الكتَّاب الأمريكيِّين الأوائل. فقد هاجم رويال تايلر الخبيرُ القانوني من نيو إنجلاند في روايته الصادرة عام ١٧٩٧ باسم «الأسير الجزائري» سلبيةَ الأمريكيِّين نحو البربر، وهاجم أيضًا نفاقَ أمريكا تجاه مسألة الرِّق. فقَبل أسْرِه على يد القراصنة عمِل بطلُ روايته أبدايك أندرهيل جرَّاحًا على متن سفينة لنقل العبيد اسمها «سمباثي»، وهو بالطبع اسمٌ ساخر، وفي هذه الرواية يُعامَل الأفارقة «مثل قطعان الماشية أو الخنازير»، ويتعرَّضون للضرب والاغتصاب والجوع. فيقول: «فكَّرت في بلادي واحمرَّ وجهي خجلًا». وبعد أسرِ القراصنة واستعبادهم له لاحقًا، يقسِم أندرهيل أنه إذا حُرِّر فسيطير «إلى الولايات الجنوبية وسيجثو على ركبتيه يناشدهم أن يكفوا عن حرمان مخلوقاتٍ مثلهم من الحرية التي منحها الدستورُ حقًّا لا يمكن أخذُه أو التنازلُ عنه لأنه حقٌّ للإنسانية جمعاء». هذا، كما شهد عام ١٧٩٧ إصدارَ قصيدة مجهولة باسم «أمريكي في الجزائر» لأحد الوطنيِّين، في السادسة والسبعين من عمره، زعم أنه يكتب من داخل سجن جزائري. ويصف مآسي ورعب السَّحْل في الشوارع والإهانات والضرب، ثم الإلقاء بهم عند قدمَي الداي، ويشبِّه الشاعر محنتَه بمحنة الأمريكيِّين السود، قائلًا:
وكانت هناك مقارناتٌ أكثر انتقادًا لأمريكيِّين مرُّوا بتجربة العبودية في الشرق الأوسط. فقد شجَب جيمس ستيفنز وهو بحَّار حُرِّر من الأسرِ في الجزائر عام ١٧٩٦، «الممارسات المروِّعة للرِّق في الولايات المتحدة»، وتساءل: «بأي وجهٍ إذن يمكننا أن نوبِّخ البربر الذين يكرِّرون ويقلدِّون ممارساتنا مع … مواطنينا؟» أما ويليام إيتون فلم يتوقَّف عن انتقاد شمال أفريقيا بسبب استعبادهم للأمريكيِّين، وكذلك المؤسسات القائمة في وطنه. وأعلن من تونس عام ١٧٩٩ أن «البربرية هي الجحيم، وعلى هذا المنوال فإن هذا ينطبق على كل أمريكا إلى الجنوب من بنسلفانيا، ما دام هناك ظلمٌ ورِقٌّ وبؤس!»
لقد كانت أكثر تلك الشهادات تأثيرًا هي شهادة جيمس رايلي وهو قبطانٌ بحري في الثامنة والثلاثين من عمره، من كونيتيكت، أصولي متعصِّب، ومتطوع عسكري في حرب عام ١٨١٢. فعندما كان رُبانًا لسفينة تجارية عام ١٨١٥ تحطَّمت السفينة قُرب السواحل الإسبانية، وأسرَه العرب، واقتيد عبر الصحراء. وفي نهاية المطاف، وصل إلى مدينة أغادير المغربية، حيث دفع القنصل البريطاني كفالةً للإفراج عنه، ولكنه «لم يُفرَج عنه» قبل أن يُضرَب بعنف ويُحرَم من الماء ويُخَفَّض ثمنه إلى تسعين جنيهًا فقط في سوق العبيد. وعندما عاد إلى واشنطن قابل رايلي الرئيس مونرو الذي شجَّعه على نشر قصته، وأصبح كتاب رايلي «آلام في أفريقيا» يمثِّل قمة الإثارة على المستوى القومي، وبيعت منه نحو مليون نسخة على مدى الأربعين عامًا التالية. وكان القراء يجدون الفصلَ الأخير — خاصةً — جذابًا ومثيرًا، حيث يحكي المؤلِّف عن الرعب الذي عاشه عندما تذكَّر العبيد السود في سوق النِّخاسة بمدينة نيو أورلينز، ومن ثَم دعا الأمريكيِّين إلى نبذِ «شجرة الرِّق الملعونة، وإلى كسرِ عصا الظلم والطغيان». وكان من أكثر المعجبين بالكتاب قارئ شاب كان يفضِّل القراءة على العمل في مزرعة والده بإنديانا، إنه إبراهام لنكولن. وعند توليه منصبَ الرئاسة — بعد ذلك — كان يَعُد كتاب «آلام في أفريقيا» والإنجيل وكتاب «تقدُّم الحاج» من الكتب التي كان لها أكبر الأثر في تشكيل حياته وفكره.
لقد كانت قسوة الرِّق في الشرق الأوسط مقزِّزة ومنفِّرة بصورة خاصة للمبشِّرين الأمريكيِّين الذين يخدمون في المنطقة، وكان معظمهم من المعارضين للرِّق. وكانت السفينة المحمَّلة بالعبيد السود المبحِرة نحو القاهرة عام ١٨٢٣ — على سبيل المثال — تُعَدُّ عند ليفي بارسونز وبليني فيسك «مشهدًا ينجح دائمًا في استثارة أكثرِ المشاعر إيلامًا في صدورنا». وبعد ذلك بعشرين عامًا ومن قمَّة جبل صهيون، تنبأت هارييت ليفرمور «بكوارثَ كبيرة على المستوى القومي» تنتظر الولايات المتحدة عقابًا لها على سماحها بممارسة الرِّق.
ومن الغريب أن هؤلاء الذين كانوا أقلَّ ميلًا إلى الربط بين نوعي الرِّق هم الأمريكيون الذين سافروا إلى المنطقة. فبدءًا بجون ليديارد عام ١٧٨٨، كان الأمريكيون المتجهون إلى الشرق الأوسط يصرُّون على زيارة سوق العبيد المحلي. وعبَّروا في كتاباتهم عن مدى الرعب في المشاهد التي شهدوها، ولكنهم لم يربطوا قط بينها وبين المشاهد المماثلة في بلادهم. وفي القاهرة كان د. فالنتاين موت مصدومًا لرؤيته عمليةَ بيع امرأة بيضاء، وصفَها بأنها «رمزُ الجَمال لعِرقٍ يُعَدُّ الأكثر مثاليةً بين البشر»، معلنًا أنه «مشهد يقطع نياط القلب»، لكنه لم يذكر ولو مرة واحدة المزادات التي كانت تقام لبيع النساء السود في موطنه. أما ناثانييل باركر ويليس فأبدى تعاطفه مع عبيد شرق أوروبا — الذين مرَّ بهم في إسطنبول — «المقيَّدة أرجلهم … وهم في حالة نفسية سيئة ويتجمَّدون من البرد». ولكنه لم يأتِ أيضًا على ذكر السلاسل البشرية من السود المارين وسط الجنوب الأمريكي. وفي مقابلته قافلةَ عبيد في جدة (بالسعودية اليوم) انبهر جون لويد ستيفينس «بمدى قُرب أسلوب الإنسان للدرجات الدنيا من الحيوانات»، لكنه مع ذلك لم يشجُب التعامل اللاإنساني للملايين من مواطنيه.
الشمال والجنوب والشرق الأوسط
بعد كثيرٍ من المعارك المغرِقة في الدموية بدءًا من ١٢ أبريل ١٨٦١ جرى الرَّد على تساؤل دور عندما فجَّر الانفصاليون ميناء فورت سمتر. ومنذ ذلك اليوم وحتى استسلام الجنوب بعدها بأربع سنوات كان الأمريكيون منشغلين بكوارثهم الداخلية، ولم يكن لديهم أيُّ حماسة للاهتمام بشئون الشرق الأوسط. وبصرف النظر عن الملابس التي اقتبسوها من جنود المشاة الجزائريِّين في الجيش الفرنسي؛ الطربوش والسروال والقفطان التي كان يرتديها العديد من الوحدات الشمالية، لم يكن لدى الأمريكيِّين أيُّ شيء يذكِّرهم بضلوعهم في شئون الشرق الأوسط في فترةِ ما قبل الحرب الأهلية. وكان الاهتمام الرئيسي لكلٍّ من قادة الاتحاديِّين والانفصاليِّين يدور حول ضمان مساندة حكام المنطقة لقضيتهم، أو — إذا لم يتحقَّق ذلك — ضمان حيادهم في الصراع الداخلي الأمريكي.
وعبَّر وزير الخارجية ويليام هنري سيوارد عن قلقه من قيام حكومات الشرق الأوسط «المعتادة تقديمَ فروض الاحترام لمظاهر القوة واحتقار مظاهر الضَّعف» باستغلال ضَعف وانقسام الولايات المتحدة. وبالفعل كان السفير الأمريكي لدى الباب العالي جيمس ويليامز القادم من ألاباما قد حاول إقناعَ الباب العالي بنبذِ الاتحاديِّين والاعتراف بالانفصاليين.
كانت علاقات أمريكا بالشرق الأوسط عامةً مستقرة، وتتَّسم بالاحترام المتبادل، في أثناء الحرب بين الولايات، وكانت هذه العلاقات على العكس تمامًا من الوحشية التي أظهرها الأمريكيون بعضهم نحو بعض. ومع ذلك فقد كانت مخاطر اعتبارهم ضعفاء قد ظهرت بجلاء في حادثتين غامضتين.
جرَت الحادثة الأولى في فبراير ١٨٦٢، في رحلة هنري مايرز وتوماس تونستال إلى المغرب. هناك، كان مايرز من جورجيا صراف الرواتب على سفينة الانفصاليِّين «سمتر» التي تمكَّنت من الاستيلاء على ١٨ سفينة اتحادية قبل دخولها ميناءَ جبل طارق. وبحثًا عن مؤن، استقل مايرز وتونستال القادم من ألاباما الذي عمِل فيما مضى دبلوماسيًّا أمريكيًّا في إسبانيا، سفينةً فرنسية متجهةً إلى كاديز، لكنها توقَّفت في طريقها للقيام بجولة سياحية لزيارة معالم طنجة. وثبَت أن جاذبية الشرق الأوسط باهظةُ الثمن عليهما، حينما عرف القنصل الأمريكي جيمس دي لونج بوجودهما بالمدينة.
كان دي لونج قاضيًا سابقًا من أوهايو، في الخمسين من العمر، وطنيًّا عنيدًا ولديه ميولٌ كبيرة للقيام بأعمال متهورة، وقد وصل إلى مبنى القنصلية المهمَل في نوفمبر ١٨٦١، وطالب من فوره وزارةَ الخارجية بإرسال عَلم أمريكي كبير عليه ٣٤ نجمة، بالإضافة إلى عدة صور في إطار لواشنطن ولينكولن وكل الوزراء الحكوميِّين. ومتسلحًا بهذه الصور طالبَ دي لونج بعدها الحكومةَ المغربية أن تمتنع عن الاعتراف «بما يسمَّى الانفصاليِّين الجنوبيين»، مع منعِ سفنهم من الرسوِّ في الموانئ المغربية. وبعد خمسة أيام من وعد الحكومة المغربية له بأنها ستقوم بذلك، أي في ٢٠ فبراير علِم دي لونج أن المتمردين المنشقين قد رسَوا في طنجة.
وتوعَّدهم القنصل قائلًا: «يمكن للمواطنين الأمريكيِّين أن يتحدثوا ويخططوا للخيانة والتمرُّد في الوطن، لكنهم لن يقوموا بذلك حيث أُوجَد أنا، إذا كنتُ أملك السلطةَ لمنع ذلك.» وبالتعاون مع سلطات البربر، استصدر دي لونج أمرًا باعتقال مايرز وتونستال وقيَّدهما بالأغلال في أعلى غرفة بالقنصلية. وحاول الاثنان الهربَ مرةً بعد مرة، مقدِّمَين رشوةً للحراس المغاربة على هيئة ساعات يد خاصة بهم، وحاولوا كسرَ قيودهم بسكين مخبَّأة في سروال مايرز ولكن بلا جدوى. وفي تلك الأثناء كان مايرز قد طلب مساعدةَ البحرية الأمريكية لنقل أسراه من طنجة. فكتب قائلًا: «أريد حضورَ شخص عسكري إلى هذا الخليج»، لكنه كان يشعر أن تصرُّفاته قد تكون محلَّ جدل.
لقد كان دي لونج واعيًا لحادثة وقعت منذ أربعة أشهر عندما استولت السفينةُ الحربية التابعة للاتحاد المسمَّاة «سان جاكينتو» على السفينة «ترنت»، وهي سفينة تجارية بريطانية، وأسرَت اثنين من الدبلوماسيِّين الانفصاليِّين الموجودين على متنها. وأثار اعتقالهما أزمةً سياسية عندما اتهمت لندن الولايات المتحدة بانتهاك الحياد البريطاني. وخوفًا من أن تقوم حكومة جلالتها بالانتقام عن طريق الاعتراف بالانفصاليِّين، تراجعت حكومة لنكولن، وأُفرِج عن المعتقلَين وحلَّ شخص آخر محلَّ قبطان السفينة المسمَّاة «سان جاكينتو». وكان دي لونج يخشى مصيرًا مشابهًا لأنه سجنَ موظفين انفصاليِّين على أرضٍ من المفترَض أنها حيادية أيضًا.
وبالفعل شجبت فرنسا فورًا ما اعتبرته خرقًا لحيادها، وقالت إن مايرز وتونستال قد أبحرا إلى طنجة تحت حماية العَلم الفرنسي. أما قبطان السفينة «سمتر»، رافائيل سمز، فقد اتَّهم «القنصل العديم الضمير» باستغلال «الجهل السياسي» للمغرب، مما دعا الإمبراطور محمد الرابع إلى إغلاق ميناء طنجة. وفي تسجيلٍ لاعتراضه ذكَّر دي لونج الحاكمَ بالماضي البربري للمغرب، وسأله عما إذا كان يمكن إنهاء «سبعين سنة من الصداقة المستمرة» بين الأمريكيِّين والمغاربة «من أجل القراصنة الانفصاليين».
ولكنَّ وضْعَ دي لونج استمر في التدهور؛ ففي ٢٧ من فبراير أصبح يائسًا عندما أحاط بالقنصلية ثلاثمائة أجنبي، معظمهم من الفرنسيين، المطالبين بالإفراج عن المعتقلين. ولكنَّ هذا الرجل المملوء بالحيوية والقادم من أوهايو رفضَ الانصياع لهم. وقال: «لقد سمعت بعصابات بربرية في بلاد بربرية، ولكن هذه أول مرة أسمع فيها بشعب مسيحي كامل في بلادٍ شبه بربرية يتجمهر من أجل التدخل في قرارات قنصل مسيحي.» لقد كان احتمال اندلاع العنف قائمًا، إلا أن ظهور السفينة الأمريكية «إينو» منع ذلك. فقد كانت الحِراب مثبَّتة عليها، ونزل ثلاثون بحَّارًا حربيًّا منها إلى الشاطئ، وكانت هذه أولَ سفينة ترسو على شواطئ شمال أفريقيا منذ حروب البربر، وتمكَّن هؤلاء البحَّارة من المرور من خلال المتجمهرين. وأصدر دي لونج بعد ذلك إنذارًا: فإما أن يعيد محمد الرابع فتْحَ الميناء ويسمح للأسرى بالرحيل، وإما أن تقوم الولايات المتحدة بإغلاق قنصليتها. وبين خيارٍ باسترضاء الفرنسيِّين أو التخلي عن الأمريكيِّين، أخذ الإمبراطور جانب واشنطن. وبعد ذلك بأقلَّ من ساعة، وتحت حراسة جنود مغاربة، وتحت عيون «ثلاثة آلاف مشاهد على الأقل» قاد دي لونج وضباطُ مشاة البحرية الأمريكية مايرز وتونستال إلى السُّلم المتحرِّك للسفينة «إينو».
أخبر دي لونج زملاءه القناصل وهو سعيد بأنه «إذا كانت هناك حربٌ أهلية مؤقتة دائرة في بلادي الحبيبة، فلا يزال لدينا اتحادٌ ودستور، وسنحفظهما باسم الرب … عبر الأجيال المتعاقبة، ولدينا أيضًا عَلم … لن يُهان على يد الأوروبيِّين الهمج على سواحل أفريقيا.» ولكنَّ فرحته كانت مبكِّرة. وخوفًا من انقسام علاقات الاتحاد بفرنسا تراجعَ لنكولن مرةً أخرى وأفرج عن تونستال ومايرز من سجنهما في بوسطن. ومثل قبطان السفينة «سان جاكنتو» من قبل، استُبدل دي لونج. وتساءل القنصل السابق عما إذا كان تساهُل لنكولن سيكون له أثره، فيتسبب في تشكُّك قادة الشرق الأوسط في قوة أمريكا.
وشكَّلت الحرب الأهلية ضغوطًا على علاقات الولايات المتحدة بإحدى دول الشرق الأوسط، هي مصر. وكان محور الخلاف بعيدًا عن المنطقة وحتى عن ميادين القتال في بنسلفانيا وفرجينيا. والحقيقة أن مصر وأمريكا وصلتا إلى طريقٍ مسدود — ويا للعجب — في المكسيك.
فمنذ إصدار وثيقة مونرو عام ١٨٢٣، كانت الولايات المتحدة تسعى إلى منعِ مزيد من التدخُّل الأوروبي في نصف الكرة الأرضية الغربي. ولكن بعد ذلك بأربعين عامًا، عندما كانت جيوش أمريكا مشتبكة في معاركَ دموية، لم تكن قادرة على فرض سياستها. واستغلالًا لهذا الوضع المصاب بالعجز، تآمر إمبراطور فرنسا نابليون الثالث على تكوين إمبراطورية في العالم الجديد، بدءًا بالمكسيك. وفي يناير ١٨٦٣، أرسل ٣٠٠٠٠ جندي إلى فيرا كروز بأوامرَ مشدَّدة لاحتلال مكسيكو سيتي. وسار معهم فيلقٌ مكوَّن من ٥٠٠ مصري، كان الخديوي سعيد باشا حاكم مصر قد تطوَّع بإرسالهم، باعتباره من أكبر حلفاء فرنسا. وكان معظم هؤلاء الجنود من السودانيِّين الذين اعتقدت فرنسا أنهم معتادون الأجواءَ الحارة للمكسيك، وأنهم محصَّنون ضد الإصابة بالحمَّى الصفراء.
استمرَّ الفرنسيون في غزو المزيد من الأراضي المكسيكية، ونصَّبوا الدوق النمساوي ماكسميليان ملكًا عليها. وكان أداءُ الفريق المصري في كل تلك المدة رائعًا، من حيث الرِّقابة على الموانئ وحماية قاطرات السكك الحديدية. ومات منهم نحو ١٠٠ فرد، من بينهم قائدهم العقيد جبار ﷲ محمد، بسبب الحمَّى.
وظلَّت الولايات المتحدة لا تملك سلطةً للتدخل، على الأقل حتى موقعة أبوماتوكس عام ١٨٦٥ وانتصار جيش الاتحاد فيها. وعندها فقط أصبح بإمكان وزارة الخارجية الأمريكية إرسالُ قنصلها في الإسكندرية تشارلز هيل برسالةٍ صريحة إلى سعيد باشا. وحذَّره هيل من تكرار ما قام به في المكسيك بناءً على طلب قوة ودية، مذكِّرًا إياه بأن الولايات المتحدة تملك الآن ١٠٠٠٠٠ جندي أسود، هم كمثل السودانيِّين في المكسيك، من حيث ملاءمتهم للخدمة في الشرق الأوسط. وأنه يمكن إنزالهم بسهولةٍ في مصر، «عن طريق استخدام مبدأ التدخل الذي يساند الإمبراطوريةَ في المكسيك، والذي يعتمد عليه الباشا في إرسال جنوده، ويمكننا أيضًا استخدامه للانتقام في أي وقت».
•••
كانت الحرب الأهلية قد انتهت، وكان بإمكان الولايات المتحدة مرةً أخرى أن تتعامل مع الشرق الأوسط بصفته دولةً واحدةً غير مجزأة ولا منقسمة. وكانت الحرب قد ذكَّرت الأمريكيِّين بمخاطر نظر حكام المنطقة إليهم باعتبارهم دولةً ضعيفة، وذكَّرتهم أيضًا بحاجتهم إلى إظهارِ ما يشبه القوةَ على الأقل. أما الآن واقتصادها يتحوَّل سريعًا إلى الصناعة، ومليون فرد من أفرادها يحملون السلاح، فقد كان بإمكان الولايات المتحدة أن تُظهِر قوَّتها الاقتصادية والعسكرية بصورةٍ واضحة. ولم يخفَ هذا التحول على حكومات الشرق الأوسط التي كان العديد منها يشتري بقايا ومخلَّفات الحرب الأهلية من عتاد وسلاح، وينظر إلى الولايات المتحدة على أنها عاملُ توازن للإمبريالية الأوروبية.
وبرسوخ وضعهم قوةً عظمى، تمكَّن الأمريكيون من استئناف رحلات الحج إلى الأرض المقدَّسة، واستئناف استكشاف حقيقة أساطير الشرق الأوسط، تمامًا مثلما كانوا يفعلون قبل الحرب الأهلية. وكان لنكولن يتوق إلى الانضمام إليهم. فاستقل مع زوجته مركبةً في مساء يوم ١٤ أبريل ١٨٦٥؛ وكان ابنهما قد ذهب لمشاهدة مسرحية أخرى تحمل اسم «علاء الدين»؛ وتحدَّث الرئيس عن حُلم راوده بزيارة القدس في يوم من الأيام. وفيما بعدُ، عندما وصلا إلى محطتهما بمسرح فورد، واتَّخذا مكانيهما، مال لنكولن مرةً أخرى نحو زوجته وهمس: «كم أتوق لزيارة القدس.»
وقد يكون الأمر غريبًا على قارئ من القرن الحادي والعشرين، ولكن القول إن الفصل الأخير من ملحمة الحرب الأهلية كُتب في الشرق الأوسط مناسبٌ تمامًا. فالكارثة التي أدَّت في البداية إلى تصدُّع الولايات المتحدة ثم رأب هذا الصدع كانت أيضًا هي المحرِّك وراء العديد من التقلُّبات الاقتصادية في عددٍ من أجزاء المنطقة، والعديد من ثورات التقدُّم في مجالات التعليم والصحة والاطلاع غير المسبوق على الغرب. ومع ذلك فقد كان أثرُ الحرب أكبرَ ما يكون على مصر، وهي دولة لم تكن معروفة للأمريكيِّين في فترةِ ما قبل الحرب الأهلية، لكنها أصبحت في عصر إعادة التعمير، محورَ اهتمام الولايات المتحدة.