الجمال فى نظر المرأة
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ * وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
فكأنى ما كنت قرأت هذا ولا سمعته من قبل ونسيت تنغيص القارئ وثقله، وذهلت عن ضوضاء الجمهور، وانطلقت أفكر فى أمر يوسف وما لعله كان له من رواء ساحر وحسن باهر، وذكرت هذه الصورة الملونة التى تباع له فى الطرقات ويقتنيها العامة وأشباه العامة والتى جملها رساموها ما استطاعوا. وقلت لنفسى إنى أعلم كما يعلم غيرى أن هذه السورة أحب إلى النساء واثر عندهن من سواها من الكتاب الحكيم. ولكنى مع ذلك وعلى الرغم من المأثور عن جمال يوسف عليه السلام لو كنت مصورًا لخالفت أصحابنا الرسامين الذين أشرت إليهم ولم أجعله كما جعلوه شبيهًا فى حسنه بالمرأة. بل لكنت أتخيل له من معانى الجمال ما أظن أن المرأة بفطرتها أصبى إليه وأكلف به، لا ما ألفنا أن نعجب به نحن معاشر الرجال. وإذا كان هذا يحتاج إلى إيضاح فقد خطر لى أن أقول فيه كلمة أجعلها موضوع هذا الفصل.
يستغرب كثير من الناس رأى المرأة فى الجمال وما يبدو أحيانًا من شذوذها فى ذلك عما ألفه الرجال شذوذا لا مجال للشك فيه ويحيلون أكثر ما يلاحظونه من هذا على الزيغ فى الفطرة أو السقم فى الذوق أو نقص التهذيب أوغير هذا وذاك مما يرجع إلى نشأة المرأة والأوساط التى عاشت فى ظلها.. ولا ريب فى أن لهذا تأثيره إلى حد ما. ولكن هذا لا يحل المعضلة. وما أسهل أن ننفض الأكف من كل مسألة بأن نحيل على اختلاف الأذواق والفطر صحة وسقمًا. إذن لما بقى شىء يحتاج إلى نظر وتفكير!
ولو أن المرأة كان لها مثل حظ الرجل من القوة والعقل والقدرة على التفكير والتقصى والترتيب لعرفنا من رأيها فى الجمال مثل ما عرفنا من رأى الرجل ولأراحنا ذلك من إجهاد النفس للإلمام بوجهة نظرها التى لم تكشف لنا عنها. ولكن طبيعة الحياة شاءت غير ذلك إلى الآن. وأبت أن تجعل الرجل والمرأة سواء. وحسبنا من الفرق ما بينهما من الاختلاف فى تكوين الجسم وما لا بد أن ينتج عن هذا التكوين المختلف من الاستعدادات والكفاءات المتنوعة. ومهما قيل عن تساوى المرأة والرجل، وعلى كثرة ما يلهج به البعض من أنهما لا فرق بينهما وأن الواجب أن يكون للمرأة مثل حقوق الرجل — نقول إن بينهما على الرغم من ذلك وسواه تباينًا جوهريّا. فليس للرجل أثداء تدر اللبن ولا ما يحول الغذاء إلى لبن يرضعه الطفل ويتغذى به، وهو لا يحمل الأجنة فى جوفه ولا فى جوفه مكان معد لذلك.
وكفى بهذا اختلافا كبيرًا يحيلهما مخلوقين ويجعلهما جنسين ونحن لم نأت من وجوه الاختلاف فى التكوين إلا على بعضها وإلا على ما يحتمل المقام ذكره منها. وليس يعجز القارئ أن يتصور النوعين وأن يمضى فى المقابلة إلى نهايتها.
وقد شاءت الطبيعة أن يكون الرجل أكثر تمثيلًا فى حياته للفردية منه للنوعية، فكتبت عليه — أو على الأصح استوجبت قوته منه — أن يتولى هو مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه وأن يتكفل بالسعى. والسعى يعرض للأخطار فلا مندوحة له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك وبالمكر والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا خانته مُنته. ولمّا لم تكن الحياة لقمة سائغة فقد احتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها. وهو فى كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس. ومن أجل هذا صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبهًا وأكثر عملًا، لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثرَّ من اتصالها بغريزة حفظ النوع. وهو لذلك أحس بها وأسرع تأثرًا من ناحيتها. ومن هنا كانت الأنانية فى الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قل أن تجد رجلًا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته، والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فهم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات، أو يند عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى ويومًا بعد يوم وشهرًا تلو شهر وحولًا عقب حول.
ولاحظ غير ذلك: أى الاثنين أصلح للتمريض؟ المرأة بلا نزاع! ذلك لأن المرض يرد المرء إلى مثل عجز الطفولة وحاجتها، وما عسى صبر الرجل على الطفولة وما يضاهيها؟ والمرأة أقسى من الرجل وأغلظ كبدًا منه على رأى «فيننجر» — وإلا لما احتملت أوجاع المرضى على نحو ما ترى وفر الرجل منها. أو هى تستغرقها الغريزة النوعية بكل ما تنطوى عليه، وتلك حكمة من الله بالغة. ولولا ذلك لما استطاعت المرأة أن تقوم بوظيفتها الجنسية وما ينطوى تحتها من المشاق التى لا قبل للرجل بها. ولا شك فى أن بقاء النوع رهن بالمرأة على الاكثر وهى فى ذلك مثال التضحية التامة. وحسبك دليلًا ما تتعرض له من أخطار الحمل والوضع. وهى على علمها بهذا الخطر الحيوى وفزعها منه، واستهوالها له، لو خيرت لاختارت أن تستهدف له. وهى فيماعدا ذلك ليس عليها أن تجاهد جهاد الرجل ولا أن تعالج ما يعالجه من الكفاح والتدبير ودرء الأخطار وتذليل المصاعب. ولهذا كانت المرأة أسرع تأثرًا على العموم بكل ما له علاقة بالجنس والأمومة، لأن وظيفتها دائرة على محورهما، وهى لفرط إحساسها بالأمومة تحب كل رقيق لطيف — أى ما هو كالأطفال بالقياس إلى الكبار — وتعانقه وتقبله ولو كان جمادًا لا يجيب ولا يحس لا العناق ولا التقبيل ولا يجازى لثمًا بلثم. وإذ كانت الغريزة النوعية فيها أكثر عملًا وأقوى فعلا فهى أحس بالجمال من الرجل وإن كانت أضيق فهما له.
ولكن ما هو الجمال؟ هو — كما عرفه بعضهم وأصاب — الإحساس بما يهيج فى الذهن مركز التوليد من طريق مباشر أو غير مباشر أو بواسطة تسلسل الخواطر. ولما كان بين الرجل والمرأة كل هذا الاختلاف فى التكوين الجثمانى، وفى الوظيفة التى يؤديها كل منهم! فى الحياة، وفيما يترتب على اختلاف الوظائف من إرباء النضوج فى بعض الغرائز على النضوج فى البعض الآخر، فمن المعقول أن يؤدى ذلك إلى الاختلاف فى النظر إلى الجمال، وأن يكون الرجل الجميل فى نظر المرأة هو الذى تتوافر فيه الصفات التى تحس بفطرتها أنها أكفل من سواها بحفظ النوع وأعونُ على ذلك — شعرت بهذا أم لم تشعر — وليس من الضرورى حينئذ أن يكون الرجل وسيمًا قسيمًا فى نظر الرجال وأن يرزق من الملاحة وغضاضة البزة وحسن الرواء ما يطلبه الرجل فى المرأة ويسبيه منها.
هذا هو الأصل والذى درجت عليه الطبيعة. معانى الجمال عند الرجل غير معانيه عند المرأة. ولكن المرأة مع ذلك طرأ على رأيها شىء من التحوير، وأصاب إحساسها مقدار من التنقيح، واستطاعت على مر الأيام أن تكون قريبة من الرجل من حيث رأيه فى الجمال. وعسى من يسأل: وكيف كان هذا وما علته؟ وجوابنا: أن الرجل أقوى من المرأة ومن أجل ذلك وسعه أن يوحى إليها ويبث فى نفسها رأيه وإحساسه شأن الأقوياء مع الضعفاء، ولا يخفى أن للإيحاء أثرًا لا يستهان به فى كل آراثنا وعواطقنا وأعمالنا. وأكثر الناس مدين بعضهم لبعض بسبب هذا الإيحاء. والقوى يستطيع أن ينقل آراءه وإحساساته ونزعاته إلى الضعيف، وأن يتغلب على مقاومته، ويثنى عزمه، ويُلين من جانبه، وينسق له ما يختلط فى ذهنه وتضطرب به نفسه على النحو الذى يريده تبعًا لمقدار قوته ومبلغ إربائها على ضعف صاحبه.
ولعل معترضًا يقول: إذا كانت المرأة من الضعف بالقياس إلى الرجل بالمنزلة التى تصفها، وبحيت يتمكن الرجل من الإيحاء إليها ومن قسرها على مشايعته، فبأى شىء تعلل كون الرجل يعود ألعوبة فى يد المرأة التى يحبها، ويروح وهو أطوع لها من بنانها؟ فنقول: إنه لاشك فى أن الرجل هو الأقوى وإنه كذلك بطبيعة تكوينه، وتبعًا لما يزاوله من الكفاح ويألفه من المقاومة والتدبير مما هو ضرورى لحياته. ولا نعنى بالقوة الجسدى منها وإنما نريدها على الإطلاق، فقد يكون المرء ضعيفًا ويكون مع ذلك أقدر على التدبير والاحتيال وحسن التصرف وعلى تفادى الأخطار، ويبلغ بدهائه وعقله ما لا يبلغ سواه بمتانة الأسر وتوثق العضلات. وليس بصحح أن كل رجل تغلبه المرأة التى يحبها على أمره، ولكن هب هذا هكذا، فأى غرابة فيه؟ وما وجه العجب فى أن تتضاءل قوة الرجل أمام قوة إرادة الحياة التى تسخر المرأة لبقاء النوع وللاحتفاظ بمزايا الجنس؟ أليست المرأة المحبوبة تجمع فى شخصها كل ما يروق الرجل من المعانى الجنسية؟ أليست هى أقرب مثال مجسد لما يتصوره خياله من هذه المعانى؟ فهو — كما قال صديقنا العقاد ونحن نتكلم فى هذا — لا يواجه امرأة بل يقف أمام ممثلة لجنسها جامعة فى شخصها لكل ما فى هذا الجنس من قوة ولكل ما لغريزة حفظ النوع من سلطان على النفوس.
ولكن هذا الضرب من الاستسلام ضعف على كل حال، ودليل على نقص الرجولة. نفهمه ونعللهُ ولكنا لا نستطيع أن تحترمهُ، لأن فيه إلقاء لسلاح الدفاع عن النفس. وليس من الاحتفاظ بالذات وصون النفس فى شىء أن يسلم المرء نفسه إلى مخلوق اخريبيت رهن إشارته. وإذا كان هذا دليلًا على شىء، فهو دليل على أن الغريزة الجنسية قد طغت بغريزة حفظ الذات وغلبتها، وأن مقدار الأنوثة فى الرجل أربى على مقدار الرجولة فيه — فعاد أشبه بالمرأة وإن كان له شكل الرجال.
•••
ولو كنت مصورًا وبدا لى أن أثبت على اللوح صورة الرجل الجميل فى نظر المرأة، لآثرت أن أرجع إلى الأصل فى نشوء فكرة الجمال عند المرأة، وأن أثبت فى وجه الرجل ما يناسب إحساس المرأة بالغريزة النوعية، وما تبحث عنه بفطرتها الذكية من الصفات التى تتطلبها هذه الغريزة. وهذا لا يمنع أن أجعل له نصيبًا من الحسن كما هو ممثل فى خواطر الرجال. بل إن الواجب أن يكون له حظ من ذلك، لأن الذكور على العموم فى كل حيوان أجمل من الإنإت على عكس الشائع عند الناس — أو نحن معاشر الرجال نزعم ذلك ونستخلصه من المقارنات التى نجريها — ولكنى على كل حال ما كنت لأجعل له محيا امرأة كاللواتى نحس أنهن فتنة العين ومنى النفس!