الحقيقة والمجاز فى اللغة
(١) رأى لوك — نشأة المجاز — الترادف فى اللغة
«وقد يكون مما يهدينا إلى أصل كل آرائنا ومعارفنا أن نلاحظ مبلغ توقف ألفاظنا على الآراء المحسوسة العامة، وكيف أن الألفاظ التى تستخدم للعبارة عن أعمال وآراء بعيدة عن الحس، مرجعها إليه، ومنشؤها ذلك.
«ثم انتقلت بها الحال من العبارة عن المحسوسات، إلى ما هو أخفى دلالة وأعوص، حتى صارت رموز الآراء لا تتناولها المشاعر. مثال ذلك، يتخيل، ويدرك، ويتصور، ويتمسك بالشىء ويبث، والتقزز، والاضطراب، والسكينة، إلى اخر ذلك. فهذه كلها ألفاظ مأخوذة عما يتناوله الحس، ومنقولة إلى أساليب معينة من التفكير. والنَّفْس معناها فى الأصل النَّفَس، وما أشك فى أننا نستطيع — إذا اهتدينا إلى المصادر الأولى فى كل اللغات — أن نرد كل الألفاظ الدالة على غير المحسوسات إلى ما تدركه المشاعر، وبذلك يتيسر لنا أن نحزر إلى حد ما، الخوالج التى كانت تملأ عقول الأولين على عهد حداثة اللغات، وكيف نشأت هذه الخوالج، ونعلم كيف أن الطبيعة — حتى فى تسمية الأشياء — أوحت إلى الناس أصول المعارف ومبادئها، وكيف أنهم لما أرادوا العبارة عما يحسونه فى نفوسهم، وأن ينقلوا الإحساس به إلى سواهم، استعاروا الألفاظ المؤدية للواقع تحت الحس، وبذلك أعانوا غيرهم على إدراك ما يخالجهم، ويدور فى نفوسهم، مما ليس له مظهر خارجى محسوس. ثم لما صارت لهم ألفاظ معروفة مقررة يرمزون بها إلى ما يدور بأخلادهم، استطاعوا أن يعبروا عن كل المعانى الأخرى، إذ كانت هذه المعانى مكونة من المحسوسات أو آرائهم فيها، وهذا إنما كان هكذا، لأن اراءنا كلها، كما أثبتنا مرجعها إلى ما يقع تحت الحبس، أو ما ندركه فى نفوسنا».
«وسأورد لفظين أسألكم أن تردوهما إلى أصليهما الدالين على ما هو واقع تحت الحس. أولهما لفظ «أنا» — هذه اللفظة، فيما أعلم، ليست قابلة أن ترد إلى أصل أو أن تحلل إلى عناصر أولية. وليست دالة على فكرة محسوسة، ولا هى تمثل إلا المعنى الذى يفهمه العقل منها، فهى رمز صاف صادق، ليس فيه أدنى إشارة إلى فكرة محسوسة. كذلك لفظ «يكون» أولى ذهنى محض، ولا أعرف لغة يؤدى فيها لفظ «يكون» بكلمة تعبر عن معنى محسوس. ومن أجل هذا لا أرى من الصواب أن الرموز الدالة على ما يقع تحت الحس هى أصول اللغة».
«وهب هذا صحيحًا لا مجاز إلى الشك فيه، وهو ما ليس كذلك، فماذا يكون لنا أن نستخلص منه؟ أن الإنسان فى أول الأمر، بفعل كل مداركه، خرج من دائرة نفسه إلى العالم الخارجى. ومن المعقول أن تكون ظواهر العالم الخارجى أول ما يستلفته، ومن هنا كانت هذه الظواهر أول ما سماه الإنسان، وكانت الألفاظ الأولى من نصيبها.. فإلرموز الأولى مستعارة من الأشياء المحسوسة ومصطبغة إلى حد ما بألوانها. ومتى كر الإنسان إلى نفسه بعد ذلك وعنى بالظواهر العقلية — التى لم تزايله وإنما كانت مدركة بصورة غامضة — وأراد أن يعبر عن الظواهر الجديدة لعقله ونفسه، قادته المشابهة إلى وصل الرموز التى يبغيها بالرموز المقررة والمشابهة هى سبيل كل لغة ناشئة، ومن هنا كانت المجازات التى رد تحليلنا إليها أكثر الرموز والأسماء المتخذة للمعنويات».
ومنه قولهم «ارتاح فلان لأمته بالرحمة» وهو أن يهتش للمعروف ويهتز له، ويتحرك كما يُراح الشجر والنبات إذا تفطر بالورق واهتز، وقول النابغة:
أى يهتز. ومثله الشملة الثوب جاء منها: شملهم الخير أو النعمة، وفلان مشتمل على داهية، أو مشتمل على أخلاق جميلة، ومنها كذلك اشتمل فلانٌ على فلان، وقاه بنفسه. قإل عبيد الله بن زياد للمنذر بن الزبير: «إن شئت اشتملت عليك ثم كانت نفسى فى ون نفسك».
وأدرك التى ضربها لوك مثلًا أصل معناه! لحق، ومن هنا جاء قولهم: أدرك حاجته، وتدارك الخطأ بالصواب، وفرس دَرَكُ الطريدة. وصار معنى الدرك أيضًا ما يلحق المرءَ من التبعة، ومن ذلك قول بعضهم «ما أدرَكَه مِن دَرَك فعَلىَّ خلاصه»، وتداركت الأخبار تلاحقت، إلى آخر ذلك مما يطول بنا الكلام إذا نحن أردنا أن نتقصى فيه.
وهناك نوعان من المجاز: لفظى وشعرى. فأما اللفظى فذلك الذى ينقل فيه اللفظ إلى أشباه ما وضع له، كالإشراق مثلا يستعمل للشمس والنار والوجه والمعانى. وأما الشعرى فنعنى به أن يعمد القائل مثلًا إلى الشمس فيجعل لها أيديًا يرمز بها للأشعة، أو للسحب فيسميها جبالًا أو يشبهها إذا أمطرت بالإناث، فيقول مثلًا استحلبت الريح السحاب، أو يشبه البرق بالسهم المضىء، أو يجعل الليالى تلد الحوادث، أو تتمخَّض عنها، وذلك كثير فى شعر الأقدمين. وقد لا يروقنا أو يعجبنا، بل قد يتعذر علينا فهمه فى بعض الأحايين، ولكنه لا شك فى أن كل لغة مرَّ بها طور كانت فيه العبارة عما يتجاوز الحياة اليومية الضيقة، لا تتأتى للناس إلا من طريق هذا النوع الساذج من المجاز الشعرى.. ولعل هذه المجازات التى صارت عبارات تقليدية فى عصرنا، يُفهَم المراد منها، ولا تُحَس حقيقتها — نقول لعل الأقدمين كانوا يفهمونها على أن فيها بعض الحقيقة، فقد كان الأقدمون يتصورون كل شىء من ظواهر الطبيعة ويقيسونه على حياتهم.
ومن هنا جاء إطلاق اللفظ الواحد على عدة أشياء مختلفة، كاستعمال الإشراق للشمس وللوجه ولديباجة الكلام. ومن هنا جىء كذلك الترادف فى الألفاظ، أى استعمال عدة ألفاظ لشىء واحد، وليس أكثر من هذا فى لغتنا، وحسبك ما فيها من أسماء النياق والسيف والخمر وغيرها، وليست معانى هذه المترادفات واحدة فى الحقيقة وإنما هى أوصاف شتى للشىء. مثال ذلك الشمول، من أسماء الخمر، وهى الباردة، وقد يريدون أن يصفوها بفعلها وسورتها فيقولون الحميا أو برائحتها أو طريقة عملها فيسمونها الخمرة. وكذلك القولُ فى سائر المترادفات، فهى أوصاف مختلفة نعت بها الموصوف فى ظروف شتى ثم صارت بكثرة الاستعمال والعادة فى حكم الأسماء. وأذكر أن رجلًا من علماء اللغة نسيت اسمه سئل: كم اسما للسيف؟ قال: واحد. فعجبوا فبيَّن لهم أن السيف هو اسمه وأن ما عدا ذلك صفات.
ومن سوء حظ الباحث فى اللغة العربية أن تاريخها القديم مجهول، وأطوارها الأولى التى لا بد أن تكون مرت بها غير معروفة، وأنه! وصلت إلينا بعد أن استوفت نضوجها وصارت على الحقيقة لغة عصرية وافية تامة التكوين. وليس ينفى ذلك أنه ينقصها بعض زيادات، أو ألفاظ على الأصح تدل على حديث المخترعات وما إليها، فإن هذا نقص غير جوهرى وليس مرجعه إلى مقومات اللغة وتركيبها. وإنما هو نقص من شاء سد فراغه بأيسر طريقة وأقرب حيلة، نعنى بالنقل الحرفى للألفاظ الجديدة.
ولو أننا كنا نعلم تاريخ الأدوار الأولى التى مرت بها لغتنا العربية كغيرها من اللغات، أو لو أن من بيننا من عنى بدرس اللغة العبرية وأمثالها مما ينتمى معها إلى أصل واحد، لا ستطاع الباحثون أن يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون. ولكن جهلنا باللغة العبرية وبالتاريخ الأول للغة العربية يحول بيننا وبين الرجوع إلى أقدم من نشوء المجاز. ولا شك فى أن بنا حاجة إلى أن نعرف ماذا كانت حالة هذه اللغة فى أوليات نشأتها قبل العهد الذى ظهر فيه الترادف.
(٢) هل اللغة ألفاظ مصطلح عليها؟
كتبنا فصلًا وجيزًا فى المجاز ونشأته فى اللغات على العموم، وإن كنا قد تحرينا أن نورد الأمثلة من لغتنا العربية على الخصوص. وقد قال لنا بعض الفضلاء إن فى مقالنا غموضًا حال دون استجلاء الغرض منه، وذهب آخرون إلى أننا خالفنا ما اشتملت عليه كتب اللغة. ومن أجل هذا لم نجد مندوحة عن العود إلى الموضوع بشىء من البيان نوضح به ما أشكل.
ونحب أن ننبه فى فاتحة هذه الكلمة إلى أن موضوعنا فى وادٍ، وما احتوته كتبُ البلاغة فى واد اخر — هذه تتناول اللغة بعد أن استوفت نضوجها وصارت كما ورثناها، ونحن نعالج فى بحثنا هذا أن نرسم خط التطور قبل أن تستكمل اللغة أوضاعها. ولما كانت هذه سبيلنا وتلك وجهة نظرنا، فلا محل فى كلامنا لهذه الكتب، إلا إذا كنا سنشايع أصحابها الذين يقولون — ولا يزال مع الأسف الشديد الأساتذة فى عصرنا يدرسون قولهم هذا — إن اللغة هى ذلك الكلام المصطلح عليه بين الناس. وهو تعريف للغة عفّى عليه الزمن ولم يعد مما نستطيع أن تقبله العقول وتسيغة الأفهام؟ لأن القول بأن الناس اصطلحوا على ألفاظٍ معينة وتواضعوا بالاتفاق فيما بينهم على أن يؤدوا بهذه الألفاظ ما يختلج فى نفوسهم من المعانى والخواطر — هذا القول ينقض نفسه. وحسبك أن تسألى: كيف استطاعوا أن يتفقوا على هذه الألفاظ والتراكيب؟ وبأى لغة تفاهموا قبل أن تكون لهم لغة؟ أليس من الواضح أن اتفاقهم هذا يستوجب أن تكون لهم لغة يتفاهمون بها؟ وإذا كان هذا كذلك، فعلى أى شىء يتفقون؟ ولماذا يصطلحون ويتواضعون، ولديهم لغة تكفيهم وتغنى فى نقل المعنى أو الخاطر أو الإحساس أو غير ذلك من رأس إلى رأس؟
ونحن — فى هذا العصر الذى نملك فيه لغةً وافية ناضجة — ماذا يصنع أحدُنا إذا جال بنفسه معنى جديد أعياه أن يلتمس له لفظًا أو ألفاظا يعبر بها عنه؟ أتراه يحشد الخلقَ مؤتمرًا ويشاورهم فى طريقة العبارة عن هذا المعنى الجديد الذى حاش به صدرُه، ودار بنفسه، وتعاظمه أداؤه؟ أيقول لهم قد خطر لى أيها الناس معنى لا أدرى كيف أصوره لكم وأنقله بالألفاظ إلى رؤوسكم، فاختاروا له اللفظ الذى يؤديه والكلمة التى تخرجه من مطاويه؟ أم يقول: قام بنفسى معنى هو كيت وكيت، ويشرحه باللفظ ثم يسألهم لفظًا له؟ إن كانت الأولى فكيف يعبرون له عن معنى مدفون فى صدره لا علم لهم به؟ أو الثانية فما حاجته إلى لفظ له بعد أن اهتدى إلى العبارة عنه؟
لا. لم تنشأ اللغة دفعة واحدة. ولا تواضع الناس على ألفاظها واصطلحوا على كيفية تعليق الكلام بعضه ببعض، وإنما حدت ذلك شيئًا فشيئًا، ومرت باللغة — بكل لغة — أطوار شتى وانتقلت بها الأحوال من مرحلة إلى مرحلة حتى صارت كما نراها اليوم. وإن أحدنا ليكد ذهنه إذا خطر له معنى جديد — أو معنى يحسبه جديدًا — حتى يعبر عنه التعبير الذى يسعه طوقه، فإما وفق فى ذلك فجاء كلامه مفهوما، وإما أخفق فخرج المعنى ملفوفًا فى مثل الضباب، وقد يبتكر أحدنا لفظًا أو ينحته، فإذا وافق مكان الحاجة إليه استقر فى موضعه وسار على الألسنة وإلا سقط ولم يلتقطه قائل أو كاتب غيره.
وقد تعمدنا أن نقول إذا خطر لأحدنا معنى «يحسبه جديدًا»، ولسنا نعنى بذلك أن القدماء سبقونا إلى كل معنى يمكن أن يخطر على البال وأنه لا جديدَ تحت الشمس، فإن هذا يكون أدخل فى باب الهراء منه فى باب الكلام المعقول، وما يسع رجلًا يحترم نفسه وما وهبه الله من المدارك والمشاعر أن يقول هذا. وإنما الذى نعنيه أن كل معنى جديد «مولّد» من معنى اخر أو معان أخرى قديمة أو حديثة اتصل بعضُها ببعض فى الذهن وتزاوجت وأنتجت هذا المعنى «الجديد»، فهو كالابن — مخلوق جديد إلا أنه خلاصة أبوين، لا بل سلسلة اباء وأجداد لا يأخذهم إحصاء — إذ ليس من المعقول بتةً، ولا من الممكن، أن ينشأ فى الذهن معنى لا صلة له على الإطلاق بأى شىء فى هذا الذهن.. وقد يعيينا أن نعرف هذه الصلة ويُعجزنا الإعجاز التام أن نتبين أو هى علاقة بين هذا المعنى الطارئ وبين ما فى الذهن غيره أو ما وجد فيه قبله. ولكن هذا يدل على أى شىء؟ إنه أولًا لا ينفى أن هناك صلةً وإن كانت قد خفيت علينا ثم هو لا يدل بعد ذلك على أكثر من أن هناك معانى أو خواطر، أو ما شئت فسمها، تختفى فيما وراء الواعية. وهذا هو الثابت علميّا.
•••
ونعود إلى ما استطردنا عنه، فنقول إن اللغة لا يمكن أن تنشأ إلا بعد أن يقطع الإنسان مرحلة الاستيحاش المطلق، أى بعد أن يأنس الناس بعضهم إلى بعض ويألفوا أن يجتمعوا. إذ كان الاستفراد لا يُحوج الكائن إلى لغة. ومن يخاطب بها وليس إلى جانبه أحد ولا هو يطيق أن يرى إلى جانبه أحدًا؟ وهو حال يعيينا أن نتصوره ولا نكاد نعقله، ولكن المحقق، مهما يكن من الأمر، أن نشوءَ لغة ما، معناه وجود جماعة من الخلق احتاجوا إلى أن يتفاهموا.
ويقول «مونكالم» الفرنسى: «ليس أعظم وقعًا فى واعية الإنسان ولا أكفل بسرعة إحداث التفاهم المتبادل، من الأعمال التى يزاولها عدد من الناس معًا لغاية واحدة وبدافع واحد». وهى كلمة حكيمة تصدق على القدماء صدقها على المحدثين.. وأخلق بالناس — قديمًا — وهم ينقبون الغيران، أو يقيمون الأكواخ، أو يذرون الحبوب، أن تتبع عيونهم التطور التدريجى الذى تُفضى إليه جهودُهم المشتركة، وأن تتنقح تبعًا لهذا التطور الأصواتُ أو أنصاف الكلمات التى تندّ عن شفاههم، وأن تحور هذه الأصوات أو أنصاف الكلمات شيئًا فشيئًا حتى تصير ألفاظا عليها طابع الجماعة الخاص. وهذا دور لا وجود للفردية المتميزة فيه.
ونقرب هذا لذهن القارئ فنسأله: ألم تشهد قط جماعةً من العمال البنائين أو النوتية أو غيرهم وهم يغنون فى أثناء تأدية عملهم الموكل إليهم؟ إنه منظر قل من لم يشهده، وأكثر ما يراه المرء فى القرى النائية عن الحواضر.. هناك يرى المرء طائفة من الناس يغنُّون. وواحد منهم يقودهم: يبدأ بشطر يرددونه بعده ويعود هو فيرتجل شطرًا آخر وثالثًا ورابعًا وهكذا وهم يكررون، بعد كل شطر أو بيت، الترديدة ا لأولى.. ثم يكل هذا القائد أو الزعيم فينضم إلى المكررين ويحل محله آخرُ يمضى فى الارتجال الذى يُعين عليه الوزنُ وامتلاءُ النفس به وبنغمته، إلى آخر حدود طا قته، وهكذا يتعاقب المرتجلون ثم ينفض القوم وتذهب القصيدة مع الريح.. وهبها لا تذهب، فإنها على كل حال ليست من نظم فرد بل مما أخرجته الجماعة بعملها المشترك ومجهودها المجتمع. لا يعرف أحدٌ ههنا حقوقًا للتأليف، لأن الفردية لا وجود لها أو ليس وجودها على الأصح بارزًا مؤكدًا. وإذا كان هذا يحدث فى القرن العشرين، فما ظنك به قبل مئات من القرون؟
لم يكن فى ذلك الوقت للفردية محلّ على الإطلاق بل كان ما ْيراه الواحدُ يراه الآخرون على منواله، وما ينطق به الواحد ينطق به الجميع. ولا مشاحةَ فى أن شعور الناس يومئذ بأعمالهم هو الأصل فى مدركاتهم الأولى التى لم تزل تلج بهم حتى رمزوا لها بالإشارات ثم بالألفاظ. ويذهب ماكس موللر فى كتابه «أصل الفكر» إلى أن أصول اشتقاق اللغة تعبر عن الإدراك أو الشعور بالأعمال المكررة التى يكون الإنسان فى حداثته أكثر إلفا لها واعتيادًا. يعنى بذلك أن الرموز التى عبروا بها تدل على عمل مكرر.. مثال ذلك «يحفر» ليس معناها أن يضرب المرء الأرض بالفأس مرة واحدة بل أن يفعل ذلك مرات كثيرة متعاقبة. كذلك «شحذ» لا تفيد حكَّ الحجر بالحجر مرة فقط بل الحكَّ المستمر. وهكذا. وهذا الشعور بفعل عمل مكرر، كأنه عمل واحد، هو أول جراثيم التفكير.
والآن فلنتصور أن الإنسان وُفق إلى أصول اللغة كلها واستطاع أن يعبر عما تتناوله مداركه الساذجة ويقع تحت حسه، وأن أفق حياته أخذ يتسع بعد ذلك، ورقعة مساعيه ترحب، وأنه أراد أن يؤدى معنى ما يخالجه مما لا يدخل فى باب المحسوسات، فماذا تظنه يصنع؟ أليس المعقول أن يعمد إلى لفظ يقرب معناه مما يريد ليعبر به عن هذا الجديد؟ وهو بعدُ كما أسلفنا ليس جديدًا بالمعنى الصحيح بل مولدًا مما فى رأسه ومن مجموعة خواطره وإحساساته ومدركاته.. فالخطوة قصيرة، أو قل إنها ليست من الطول بحيث تبعد المسافة بين الموجود والمطلوب.
نعم إنه لا شك فى أن الإنسان ظل زمنًا طويلًا لا يعرف إلا نوعًا واحدًا من الحياة هو حياته، وليس له إلا لغة واحدة هى التى تعبر عن أعماله وحالاته هو، ولكنه اضطر بعد ذلك إلى أن يلتفت إلى ظواهر الحياة العامة وإلى ما فى الوجود غيره من القوى، وأن يعطى هذه أسماءَها من صفاتها وآثارها، وأن يعزو إليها ما فى حياته هو مقابل له فيقول «طلع النهار» و«زحف الليل» وبذلك ينسب إليهما ما نعلم نحن أنهما عاجزان عنه غير مطيقين له، ولكنه لم يكن يستطيع أن يتكلم عن الليل والنهار والسماء والفجر والصيف والشتاء إلى آخر ذلك إلا بأن يجعل لها صفات الفرد، وأن يجعل منها إناثًا وذكورًا، ثم اندفع فى هذا التمثيل الذى بعثت عليه المشابهةُ إلى اخر مداه، وأضفى ثوبه على عالم تجاربه كلها. ولما كان ناسُ ذلك الزمن الأول لا يستعملون إلا ألفاظا قليلة العدد فقد اضطروا، كلما أرادوا أن يجاوزوا أفق حياتهم اليومية الضيقة، أن ينقلوا اللفظ مما نشأ له فى الأصل إلى غيره مما استجد، وهذا هو أصل المجاز الذى لولاه لما تعدت اللغات العناصرَ الأولى القليلة.
وقد قلنا إن هناك نوعين من المجاز، أولهما وأسبقهما فى الوجود هو اللفظى، ونعنى به نقل اللفظ من معناه الذى يقع تحت الحسّ إلى المدركات المعنوية. مثال ذلك العضد والساعد كلاهما فى الأصل معناه الذراع التى تعمل بها، فإذا أردت أن تقول إن فلانًا يؤازرك وينصرك، قلت هو عضدى وساعدى، وليس هو كذلك فى الحقيقة، ولكنك أردت أن تقول إنه يقوم لك مقام الذراع وُيغنى غناءَها.
كذلك الضحك، مثلًا، معروف. وقد نقله الإنسان فوصف به الطبيعة وقال إن الربيع جاء يضحك، وإنه ليعلم أنه لا يفعل ذلك غير أنه ألفى شبها بين إحساسات السرور والانشراح وبين انتعاش الطبيعة فى هذا الفصل فنقل الكلمة للدلالة على هذا.
ومن العبث أن نحاول الاستقصاء فى التمثيل لذلك فإنه لا آخر له، وما من كلمة فى اللغة إلا استعملت على المجاز وخرجت عن معناها الأول إلى معان شتى متصلةٍ بها. ويكفى القارئ أن يتناول ما شاء من الألفاظ وأن يردها إلى أصلها وأن يتأمل بعد ذلك فى أى معنى تستعمل الاَن ليتحقق صحة هذا الكلام.
ولكن الإنسان لم يدع شيئًا عن الطبيعة إلا نفت فيه من عواطفه، وكساه ثوب خواطره، فتراه مثلًا يجعل الشمس آدميةً ويقول إنها مدت أذرعها يعنى بذلك أشعتها التى تصل إليه. وليس هذا من طراز المجاز الذى أسلفنا عليه القول. لأن اليد هنا لم تستعمل فى غير موضعها، ولم تنقل إلى معنى خلاف معناها الأول، كما هو الحال مثلا حين تقول فلان «يدى التى أضرب بها» بل هو استعمل الذراع فى مكانها بعد أن تصوَّر الشمس مخلوقا مثله. وهذا الضرب من المجاز هو الذى نسميه المجاز الشعرى كقول ابن الرومى:
وإنما نشأ هذا الضرب من المجاز لأن آباءنا الأولين كانوا يقيسون حياة الطبيعة على حياتهم ويتصورونها قائمة على ما تقوم عليه حياتهم من التناسل وغيره، ومن ههنا أنثوا الشمس فى لغتنا والريح وغيرهما، وذكروا القمر والنجوم. ولنا أن نسأل: أترى كانوا يؤمنون بذلك ويعتقدون أن المسألة كما عبروا عنها؟ هل الشمس كانت فى نظرهم أنثى والقمرُ ذكرًا — أو على العكس كما فى بعض اللغات الأخرى — وهل جاءت الشمس والقمر بالنجوم ولادةً كما يتناسل الناس وغيرهم من الحيوان؟ إن هذا السؤال يستدعى أن نخوض عبابَ الأساطير التى نشأت فى اللغات وأن نعلل نشوءها. وهو باب واسع من الكلام يضيق عنه هذا المقام. وعندنا أن الأقدمين لم يكونوا أصفى ذهنا وأهدى عقلًا وأحكم من أن يعتقدوا ذلك ويؤمنوا به. وإنّ من الناس من يؤمن فى عصرنا هذا بما هو أبعد عن العقل من ذلك، فماذا يمنع أن يكون أباؤنا البسطاءُ السذج قد آمنوا بأن الأمر كما وصفوا والحال على ما تخيلوا؟ ونخشى أن نلج هذا الباب من البحث فنخرج عما قصدنا إليه ويمتد بنا نفس الكلام إلى غير غاية. وعلى أنه موضوع يستطيع كل امرئ أن يسمت فيه لنفسه سمتًا وجيهًا.