الطبيعة عند القدماء والمحدثين
«وإذا نزلت بأحدنا نازلةٌ عفَّرت وجهه، خذلته المدنيةُ وعجزت عن الترفيه عنه، فيميل عنها ويستلقى «كالطفل» على صدر الطبيعة الحنَّان، علها تنسيه بثه أو تسلب الذكرى ألمها ولذعَها. ومن ذا الذى لم يشتق، وقد تأوبته الهموم، أن يجتلى وجه أمنا جميعًا، وأن يمتهد الجبال، أو يرقب قطع الغمام تسبح فى الفضاء، أو يصغى إلى تهزم الأمواج وتكسرها على الشطآن — عسى تمتزج حياته بحياتها — وأن يحس دقات قلبها الأبدى ونبض عروقها البطىء وأن ينسى أشجانَه فى أشجان الطبيعة، ويدع شخصيته تغيب فى حركتها الدائمة العظيمة التى لا يدركها حس ولا يتولاها شعور، وأن يفتى فيما منه كنا وإليه نعود».
وكنْ ممن تعجبهم أو لا تعجبهم «دقات قلب» الطبيعة و«نبض عروقها» ووصف صدرها «بالحنان» فإن كلام الرجل صادق على علاته وليس من شك فى أن المرء تمر به ساعاتٌ تحرك فيها الطبيعةُ نفسه وتُجيشها، وأن هذا قد لا يكون سببه أنها تُدخل السرور على نفسه أو تقنع عقله وذوقه، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. ولسنا نعنى بالطبيعة الجبالَ والأودية والسماء والبحار وحدها بل الأطفالَ أيضًا والريف وآثار العصور الأولى، أو بعبارة أعم وأشمل: البساطة التى لم يعْدُ عليها الفن، أو الوجود فى ذاته وبكل حريته.
كذلك تصطفق أمواجُ العواطف فى صدورنا حين نشهد الأطفال، وأحسب أن ليس هذا لأنا نصوب إليهم، ونلقى عليهم، نظرة من سماء قوتنا ونضوجنا! أو لأن العطف يدركنا عليهم، والمرئية تشيع فى نفوسنا لهم، بل لأنا نرفع، إلى استعدادهم وطهرهم، نظرنا من أعمق أعمادق ضعفنا المرتبط بما صرنا إليه من حالة التحديد، فإن الطفل كله استعداد، أما الرجل فمعنى تام، والأول قوة حرة نقية، وهذه مغلولة مشوبة مرنَّقة.
ولا نحتاج إلى أن نقول إن هذا الإحساس الذى يخالجنا حين نجتلى الطبيعة ونتأمل بساطتها لا دخل فيه للشعور الفنى ولا للأشياء نفسها، إذ ماذا فى زهرة أو حجر أو عصفور يغرد؟ إنها ليست هى ذاتها التى تثير فى نفوسنا عواطفها، بل ما هو وراءها: أى الحياة وعملها الباطن أو الوجود الحر فى ظل سنته. ومن هنا تمثل الطبيعة طفولتنا الذاهبة الحبيبة إلينا العزيزة علينا أبدًا.
وكالأطفال، الرجالُ الذين يظلون، على الرغم من نضوجهم واكتمالهم، أطفالى القلوب أغرارًا يفكرون أو يعملون على نحو بسيط ساذج فى هذه الحياة المكظوظة بالتكلف. وينسون أنهم فى عالم فاسد موبوء. ويذيعون حولهم كأنفاس الرياض، وينفثون الشجاعة والثقة والقوة، ويضرمون فى الأفئدة ما تخمده عواطف الحياة.
ولكن القدماء كانوا يتوجهون إلى الطبيعة بروح غير روحنا نحن أبناء المدنية. فقد كانوا يعيشون فى ظلها، وكانت لذلك أساليب تفكيرهم وتصورهم وإحساسهم، أقرب إلى بساطتها منا نحن الذين لم يبق لنا من بساطتها، إلا الطفولة. ولهذا كان شعرهم مرآة يجتلى فى صقالها هذا التقارب، أو إن شئت فقل التطابق. وكان شعراؤهم أدق منا وأعظم أمانة فى وصف الطبيعة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنهم لم يكونوا يمنحونها من عنايتهم أكثر مما يمنحون غيرها، أو إنهم لم يكونوا يفرقون بينها — أى بين الموجود بذاته — وبين ما هو مدين بوجوده لإرادة الإنسان وفنه من مثل سيف أو درع أو سهم. هذه وتلك كلها كانت سواء لا تستغرق نتيجة الفن من التفاتهم أقلَّ مما تستغرق الشجرة أو البحيرة أو الرعد. ولعل القارئ يعجب ويحسب هذا إما خلطًا منهم وعجزًا عن التمييز، وإما خلطًا منا وتخبطًا فى التقرير. ولكن الأمر ليس فيه ما يبعث على العجب أو يغرى بإساءة الظن بهم أو بنا. فقد كانت حياتهم وحياة الطبيعة شيئًا واحدًا أو ممتزجتين. والمرء إذا ألف شيئًا لم يكن حقيقًا أن يسترعى باله أو يجتذب التفاته الخاص. ومن اعتاد أن يسكن البيوت العالية التى يعرج إليها على سلاليم، كان خليقًا ألّا يستغرب أن تكون البيوت كلها كذلك ولم ير فى هذا ما يدعو إلى طول التحدث به والعجب له. وإنما يعجب ويصدم ويحسن ما يلفته حين تطأ قدمه عتبةَ بيتٍ لا يرفعه عن الأرض سلم وليس له إلا طبقة واحدة.
وقد كان الإنسان محورَ الوجود فى تلك الأزمان الغابرة، وكان أهلها يقيسون كل حياة على حياته، ولا يتصورونها إلا على مثالها. فألهوا الطبيعة وعزوا إليها مثل إرادة الإنسان وأعماله، وجردوها من صبغة الضرورة الساكنة التى تروعنا اليوم وتجذبنا. ولم يكن خيالهما يجوب أرجاء الطبيعة إلا ليتخطاها ويجاوزها إلى رواية الحياة الإنسانية ووقائعها وما يجرى فيها من الصروف والغير على تنوعها. وكانوا، عفا الله عنهم، لا يتحرجون من إطلاق العنان لخيالهم، أو لا يسعهم إلا ذلك، فلا يأخذون عليه مذهبه أو يحولون دون متوجهه خوفًا من الزلل وإشفاقًا من العثار، وكانوا من البساطة بحيت يصدق الواحد منهم ما يخترعه خياله، ومن السذاجة بحيث يقيسون — كما أسلفنا — حياة الوجود على حياة الحيوان ويتوهمونها قائمة مثل حياتهم على التناسل ويعزون إليها من المظاهر شبه ما يجتلون فى معيشتهم، ولا ينزهونها عما يقع لهم من الحالات.
ولسنا اليوٍم كذلك. وإنَّا لأسمى من الأقدمين مداركَ، وأوسعُ آفاقا وأعمق إجلالا للطبيعة وأسمى نظرًا إليها وأشد تعلقًا بها وأقدر على إحساسها والتفطن إليها وإدراك حقيقتها والتأثر بظواهرها. لأنا لم نعد نجتلبها فى الإنسان أو نواجه بساطتها إلا خارج الدائرة البشرية، إذ كنا قد صرنا أقل من الأقدمين تطابقًا مع الطبيعة، وأشد بعدًا عنها، ومعارضة لها فى أساليب حياتنا وعلاقاتنا وآدابنا. فهل عجيب بعد هذا، إذا استيقظت فى نفس أحدنا غريزةُ الصدق والبساطة، أن يصبو إلى الطفولة ويحن إلى سذاجتها وهى كل ما بقى لنا من بساطة الطبيعة؟
وكان قوام الحياة فى العصور الأولى الإحساس، لا الفكر ولا الفن، حتى أديانهم وعقائدهم كانت مما أنتجته الروح الساذجة والخيال المرح، ولم تكن عيونهم تخطئ الطبيعة فى الإنسان، فلم يدهشوا لها ولم ترعهم. وكانوا أعمق منا إحساسًا وأقوى شعورًا بإنسانيتهم فتعلقوا بها وأدنوا منها كل ما عداها. وأين نحن من هذا الإحساس؟ أترانا نعانى إحساسًا ألحَّ من السخط على ما جربناه من الحياة، والرغبة فى الفرار من جثومها على الصدر وأخذها بالمخنق؟ ألم نعد كالمريض الذى يشتاق الصحة؟ أما هم فكانوا أصحاء معافين فى أبدانهم وأرواحهم فلم يعانوا لحاجة الحنين إلى الصحة والنزاع إلى العافية.
«هنا سالت صورُ الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير، هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير، هنا تنهدت العطورُ تنهداتها الغرامية وتحولت الورود إلى أشعة سحرية، هنا اغتسل قوس قزح فترك فى الماء من ألوانه ألحانًا فضية، ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية، هنا بعث الأفق بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية، هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه فامتزج النور بالظلام وتلاشت اليقظة بالمنام، هنا ناحت حمائم الشعر وغنت أطيار الأنغام، هنا لثمات النسيم شوق وهيام، ومداعبة الموجة للموجة تبادل نظرة وابتسام، وجمود الشاطئ حقلأ على فتور الليالى ومعاكسات الأيام، هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام، وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحى والإلهام، هنا ليلة أنوار وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام، حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته فى هذه المرآة البلورية — يرى رمز الشبيبة مع مايتبعها من الامال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتى الغروب ساكبا فى أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات».
ولو رجل من عصر هومر، أو قبله، عرض له ذكر هذا النهر، لما ساورته كلُّ هذه الخيالات، ولا أحس الدافع إلىِ الاستقصاء، كالخائف أن يفوته شىء، ولا أخذته هذه الرقة! ولما ألقى إليك إلا الكلمة أو الجملة بسيطةً مشتعلة بحرارة الإلهام، وفى رزانة وتؤدة، ولكان الأرجح فى الاحتمال ألّا يزيد على أن يقول: «نهر الصفا الذى يجرى عند سفح الجبل الفلانى».
وسنزيد هذا توضيحًا ونمثل له من الشعر القديم والحديث.