القدماء والمحدَثون
البساطة من مظاهر الصحة والاستقامة فى الإحساس والنظر. خذ لذلك مثلًا: طفل يسمع من أبيه أن جاره، فلانًا، أشفى على الموت جوعًا، فلا يكاد يعلم ذلك حتى يعمد إلى مال أبيه فيقبض منه قبضة ويذهب بها إلى الجار المتضوّر. فهذه بساطة فى الإحساس، تنم عن صحة فى الطبيعة، وسلامة فى الفطرة، واستقامة فى النظر، لأن الطفل هنا لم يتمثل لخاطره سوى أمرين: بؤس الجار، وأسرع طريقة لإنقاذه من ميتة الجوع الشنيعة، ولم يخطر له أن فى هذه الدنيا شيئًا اسمه حق الملك، وأن هذا الحق ليس قاتما على الطبيعة وحدها، وأنه يسمح بأن يموت من شاء جوعًا، على حين ينعم جاره بالتخمة …!
وقد يكون فيما أتاه هذا الصبى ما يُسخط أباه، ويثير ثاثرته. ولكن الأب على الرغم من غضبه وحزنه على ماله، لا يملك إلا الإعجاب بابنه، وإكبار مروءف، وصدق عاطفته وغرارتها، وإلا الشعور بعجزه عن إقناعه بأن فى عمله هذا عيبًا أو خطأ أو منكرًا.
كذلك عظماء الدنيا يمتازون بالبساطة، ولا يعرفون هذه الأصول المستحدثة التى هى كالإسناد للضعف. وهم كالأطفال فى اعتدال تواضعهم فى غير ذلة، وفى بعدهم عن أدب الرياء، وبراءتهم من المكر والدهاء، وفى إخلاصهم لطبيعتهم وميولهم، وفى جهلهم سرَّ نفوسهم، وفى اجترائهم على الحياة أو انتفاء القلق عنهم، إذ لا علم لهم بمخاوف الطريق الذى تدفعهم الطبيعة فيه.
والبساطة فى أسلوب التفكير، تؤدى لا محالة — كما لا يخفى — إلى البساطة فى العبارة. ولست بواجد فى عظماء الأدب وفحولتهم تلك العناية التى يتحراه! العلماء، لاجتناب الأخطاء ولتصفية الألفاظ والمعانى، بسبكها فى نار المنطق والنحو، وملاحظة القارئ التفكير فيه حتى لايصدمه أو يتعبه شىء. كلا! لا شىء من هذا، وإنما يلقى إليك المطبوع ما يخطر له فى عبارة حرة قوية، فلا تكاد ترى الرمز الذى وضعه لمعناه، وإنما تبصر أو تحس المعنى عاريًا سافرًا، لا يطويه شىء، ولا يحجب حسنه أو قوته عن عقلك وقلبك حجابٌ من المّكلف والأناقة.
والاَن فلنسق لك الأمثال لتوضيح ما نعنى. وسنورد أولها من هومر، إذ كان أقدم من نعرف ممن انحدر إلينا كلامهم أو شىء منه. وهنا يبغى أن ننبه القارئ إلى أننا لسنا فى مقام المفاضلة بين قديم ومحدث، أو غربى وشرقى، فما إلى شىء من هذا نقصد، وإنما غايتنا أن نبين بعض ما يختلف فيه قديم عن حديث، من حيت الروح ووجهة النظر، وأسلوب التناول ليس إلا.
ولم أكن أطيق صبرًا على هومر فى أول عهدى بالأدب، وكان ينفرنى منه، كلما تناولته، جفاؤه، وأنه يقف من موضوعه موقف القصاص أو الراوية الذى لا يعنيه مما يحكى شىء، وأنه يتريث، أو يمسك، حيت أحس الحاجة إلى الانطلاق، أو يمضى على سننه، حين يطيب لى أن أقف أفكر وأعجب، وأنه لا يظهر فى شعره، بل يتوارى وراءه، ولا يحدثنا عن نفسه أو يجلوها علينا، فكأن شعره نبت فى ثرى الأدب بفعل الجو ولم يجر به لسانُ إنسان!
«فأنا مضيفك الأمين فى أرجوس، وكذلك أنت مضيفى فى ليسيا، حين أزور تلك البلاد. ولنتحاش أن تلتقى رماحُنا فى ساحة الحرب. أوَ ليس ثم من أبناء طروادة من أقتلهم غيرك حين يرسلهم إلىّ إلهٌ وتبلغنيهم خطاى؟ وأنت يا جلوكوس، أليس يكفيك من تلقى من الآشيين لتضحى بهم حين تشاء؟ فلنتبادل سلاحنا ليرى الناس كذلك أننا نباهى بأن كنا ضيوفًا ومضيفين على عهد آبائنا». كذلك تكلما ثم نزلا عن مركبيهما، وتصافحا وأقسما على الولاء والإخاء.
يقرأ أحدنا هذا فيود لو تمهل هنا هنيهة ليطوى الكتاب ويتدبر ويقلب خواطره ويَثنيها إلى نفسه وعصره، ولكن هومر جليد يسوق قصصه ولا يعلق عليها، ولا يكاد يفرغ من هذه الحادثة حتى يخبرك فى بساطة، «أن ابن ساترن» (زحل) أعمى جلوكوس الذى تبادل السلاح مع ديوميد وأعطاه أسلحة ذهبية تساوى ماتة ثور وأخذ منه سلاحًا لا يساوى إلا تسعة ثيران»؟!
اقرأ بعد هذا قصة الفارسين المتزاحمين على قلب «أنجليكا» كما رواها «أريوستو» فى الفصل الأول من «أورلندو فيور بوزو»، وهى حكاية ليست دون حكاية هومر دلالة على النخوة ونبل النفس وشرف الفروسية. وخلاصتها أن الفارسين فيرجوس، وهو مغربى مسلم، ورينالدو المسيحى، كانا متنافسين على فتاة، اسمها أنجليكا، وكانت قد فرت، فبعد أن اقتتلا ما شاءا ومزق كل منهما جلد مزاحمه ما استطاع، تصافحا وامتطيا جوادًا واحدًا وذهبا يعدوان به فى إثر أنجليكا.
«ما أنبل الفروسية القديمة وأكرم عاداتها! إن هذين المتزاحمين كان الدين يفصلهما وكان كيانُهما يكابد مرارةَ الألم الناشئ عن عراك قاسِ، فتأملهما الآن يركبان معًا فى طريق مظلم معوج دون أن تخاَلج أحدَهما ريبة! ويعدو الجوادُ تستحثه أرجلهما الأربع حتى يبلغ بهما مفترق الطرق!».
وكهومر، شكسبير إلى حد كبير، وإن فصلتهما هوة عميقة من الزمن. هذا أيضًا يتناول موضوعه كما يتناول الجراجُ المبضعَ ولا يتحرّج، بدافع من الرقة وطراوة النفس وسقم الذوق، أن يمزج، حتى فى أشجى المواقف كما فى هملت، ويمزجها بهراء مجنون كما فى رواية الملك لير. ومن من الناس يقرأ هملت ولا يستوقفه، فى فاتحة الفصل الخامس، مزاحُ حفارى القبور وهم يُعدون القبر ليتلمَّأ على أوفيليا، ويغنون ويذكرون الحب وحلاوته، والصبا ورونقه وهم يُعملون الفأس وترمون الجماجم! ويسأل هملت أحدهم:
ثم يسأل هملت: كم لك فى هذه الصناعة؟
منظر قاس! ولكن الشاعر أعظم وفاءً وأصدق من أن تأخذه رقة أو تنطوى نفسه فيموه الطبيعة الإنسانية. وهذه أبيات لابن الرومى يبكى فيها أوسط أولاده الصغار.
والأبيات الثلاثة الأخيرة هى المقصودة. وأخلق بغير المطبوع أن يشعر بما يكبحه عن الإعراب عن هذا الجانب من عاطفة الحزن، أو يخشى أن يوصم بالقسوة والتوحش. وابن الرومى لا يجتزئ بهذا بل يقول أيضًا إن بقاء ولديه لا يعزيه عن فقد ثالثهما ولا يسد الخلة التى أحدثها، ويعلل ذلك بقوله: