جيئة وذهوب
الحركة مبنية على التغير، قائمة على التحول، تستطيع أن تلخص حركتها فى أنها جيئةٌ وذهوب. ولا تخش أن نركض بك بين وعوث الفلسفة ووعور ما وراء المادة، فأنا أشد حرصًا على أعناقنا أن تُدوق من أن نغامر فيها، وأعظم جهلًا بمسالكها ومخارمها ومداخلها ومخارجها من أن نفكر فى اعتسافها. وما خامرنا الطمع يومًا أن نقيس بمساطر عقولنا المحدودة هذه المجاهل اللانهائية التى يأبى اللحظ أن يُمَدَّ فيها ويستهول القلبُ أن يتعرّفها.
إذن ماذا نريد أن نقول؟ لا شىء سوى أننا نجىء إلى هذا الدنيا من حيت لا نعلم، ثم نحس أننا جئنا إليها وصرنا فيها، ثم نمضى عنها ولا ندرى أننا مضينا!! وليس فى هذا شىء من الفلسفة كما ترى! وإن لم يكن تدبر هذا بأقل إرعابًا منه!! ويقول مترلنك، فيما أذكر فى بعض رواياته، إننا ننحدر إلى دنيانا هذه وفى يمين كل واحد منا حقيبة يحمل فيها المقدور له والمقضى به عليه! ويظهر أن الموكل بتحميلنا هذه الحقائب أشدُّ يقظة من أن يدع واحدًا يهبط إلى الأرض فارغ اليد! أترى لم يحاول أحدُنا أن يفلت ليجىء خالى الوفاض بادى الأنفاض كما يقولون؟ وكيف يا ترى تكون حياته إذا جاء إلى الدنيا كالصفحة البيضاء التى لم يُخط فيها حرف؟ أيبقى كالدرهم المسيح لا تتناوله أيدى الصروف، ولا يتعاقب عليه من الحياة لا خير ولا شر؟ ومن الذى يسعه أن يرسم لنفسه صورة ما قبل الحياة؟
ومن الغريب أن الإنسان فكر فيما يكون بعد الموت وتصوره على وجوه شتى، وأعياه أن يرجع البصر إلى ما كان قبل هذه الوفادة إلى دار التحول! ويذكرنى هذا قول توماس هاردى من قصيدة اسمها «ساعة السنين»: «قال الروح: إنى أستطيع أن أرد ساعة السنين فتكر عقاربها راجعةً، ولكنى لا أستطيع أن أقفها حيث تشاء.»
قلت: اتفقنا على هذا. فامض بها راجعة. فإنه خير من أن أتصورها (يعنى حبيبته) ميتة!
فأجابنى: «سلام!».. ونشر صورتها كما كانت فى آخر عهدى بها. ثم صارت ترجع أصغر فأصغر حتى عادت إلى يوم عرفتها أول مرة، ناضجة الصبا، ريا الشباب، فصحت: «قف! وكفى — دعها تبقَ هكذا أبدًا!». ولكنه هز رأسه: واأسفاه! لا سبيل إلى الوقوف.. فمضت تعود صيبةً فطفلة، ويتضاءل وجهها شيئًا فشيئًا، حتى صارت لا شىء كأن لم تكن! فتوجعت وقلت: «لقد كان خيرًا من هذا أن تبقى عندى ميتة! إذن لبقيتْ حيةً بذكراها. أما الآن فلا سبيل إلى ذلك». فقال فى جفوة: «إنك أنت الذى اخترتَ أن تُغير المقدور وتفسده».
وأحسب أن أول جيئاتنا شرُّها! ومن ذا الذى لا يحس أن ابن الرومى إنما يعبر عما يخالجنا جميعًا حين يقول:
ثم هذا البيت الصادق الرائع:
«جئنا إلى هنا باكين. وإنك لتدرى أننا لا نكاد ننشق الهواء حتى نصيح: نصيح حين نولد لأننا جئنا إلى هذا المسرح الكبير للمجانين!».
ولعل هذه هى الجيئة الوحيدة التى نلقى فيها الحفاوة الحارة! نهبط إلى الدنيا عرايا عاجزين باكين صارخين فى غير أدب أو رفق، فيُحتفل بنا وتزف البشائر بمقدمنا، وتترى التهنئاتُ من أجلنا، وتبذل العنايةُ بر احتنا، وتتوخى مرضاتنا. ويسام الخير من لمحاتنا، وتؤنس آيةُ الرشد من حركاتنا، ويستشف فينا العرف كما يستشف ويقدر حقين الرحيق فى العناقيد:
كما يقول ابن الرومى:
ثم لا حفاوة ولا احتفال بعد ذلك! أو لا حرارة فى الحفاوة على الأصح.
وإنه لمن سوء الأدب، ولا شك! أن نستهل حياتنا بكل هذا الصخب، وأن نعلن مقدمنا بمثل هذه الضوضاء! ولكن عذرنا أن هذا أول عهدنا بالمسرح، وأننا أغرار تعوزنا الدربةُ وينقصنا التهذيب. وإذا كنا لا نحسن الوفادةَ ولا نتحرى آداب الدخول، فحسبنا أننا نكفر عن ذلك حين نخرج، ونعنى بأن يكون خروجنا لا شذوذ فيه، وأن يكون على أسلوب يقبله الذوق وتقرّه الاَداب. وقد يدَّعى بعضنا العجب ممن يُعدون لذهابهم عدته، ويجمعون له أهبته ويحرصون على ما يكلف من نفقة يدخرونها لذلك اليوم الذى يرحلون فيه، ويطلبون أن يكون تشييعهم على أسلوب معين يرسمونه. غير أن الأمر لا محل فيه للعجب، وما يدرينا؟ لعلنا نريد أن نتفادى أن يقال عنا إنه ليس أجدر بنا ولا أمثل من هذا الرحيل! وما أكثر ما نزعم أن الأمر لا يعنينا، وأننا لا نكترث له، وأننا سنذهب، حين يأتى ذلك، بقدم ثابتة. وقد نحب أن نمسح أعشار قلوبنا بالسلوان فنقول إن الموت مسألة تافهة، وإننا نلقى إليه الحياة كما يلقى أحدنا أعقاب السجائر! وإننا مللنا أن نظل ندفئ أيدينا أمام موقد الحياة، وإننا متأهبون للرحيل وسنلبس له أبهى الحلل ونلف فى أزهى الحرائر وأغلاها، وستوضع على أجداثنا الرياحين والأزاهير، ويذكرنا الناس على حين ننساهم ونذهل عنهم! وهذه صفة تميز بها الإنسانُ عن سائر الحيوان، ونعنى قدرته على أن يدعى أنه لا يكترث للموت!
وقد كان الرئيس ابن سينا رحمه الله يقول: «اللهم لا أسألك حياةً طويلة ولكن أسألك حياة عريضة». وأحسبها الكلمة الوحيدة التى لا يعيى المرءَ أن يفهمها، من كل ما سح به ذهنه، على وجه من الوجوه. وأفهم منها الجاه والاستغناء وتوافر الوسائل لسد الحاجات وإرضاء الشهوات، أو أفهم منها أن يتيسر للمرء أن يملأ الأجل القصير بالجلائل فكأنه عاش بأعماله وبما أحس وأدرك وتفطن إليه وحصله، أجيالا كثيرة لا سنوات قليلة. وعلى أيهما فالدعاء مما تتصاعد به أنفاس الناس جميعًا، ولست أعرف ما هو أحكم منه. ذلك أن الحياة منتهية على كل حال طالت أم قصرت. وليس أسفُ المعمِّر على فراقها بأقل من أسف الشاب، وإذ كان الأسف واحدًا، والأجل إلى انتهاء، وكل تعز أكذوبة وباطل ومحال، فخير فى الجملة أن تقصر مع الامتلاء من أن تطول مع الفراغ!
نعمِ من الاكاذيب ومغالطة النفس أن يدعى أحدٌ الزهد فى الحياة والشوق إلى الرحيل، وأن يتظاهر بالارتياح إلى ذكره بعد ذهابه. حتى التيقن من خلود الذكر ليس فيه سلوان. وتعجبنى قصيدة لتوماس هاردى أيضا يتهكم فيها ويسمخر، عنوانها «أتحفر فوق قبرى؟». وهذا بعضها (والسائل هنا سيدة دفينة).
– «أهذا أنت يا حبيبى تحفر فوق قبرى لتغرس غصنًا؟».
– «كلا! لقد ذهب أمس وتزوج فتاة صبيحة ربيبة غنى، وقال (عنك) إنها لا يمكن أن يسوءها الاَن ألّا أكون وفيّا!».
– «إذن من يحفر فوق قبرى؟ أهو أدنى أقربائى؟».
– «كلا! إنهم يجلسون وتقولون: أى جدوى من غرس الأزهار؟ إن العناية بقبرها لا تخلص روحها من شباك الموت».
– «ولكن من الذى يحفر فوق قبرى؟ أهو عدوة لى؟».
– «كلا! إنها لما سمعت أنك اجتزت الباب الذى يوصد على كل حى، عاجلًا أو اجلًا، لم تركِ بعد ذلك أهلًا للبغض ولم تعد تعبأ بك أو بمرقدك».
– «إذن من الذى يحفر فوق قبرى؟ — خبرنى فإنى لم أحسن التخمين!».
– «إنه أنا يا سيدتى العزيزة! كلبك الصغير الذى لا يزال يعيش قريبًا منك، وأرجو ألّا تكون حركاتى تزعجك».
– آه! نعم أنت تحفر فوق قبرى!.. كيف لم يخطر لى أنى خلفت قلبا وفيا ورائى؟ أى إحساس فى الإنسان يضارع وفاء الكلب؟!».
– «سيدتى لقد حفرت فوق قبرك لأدفن عظمةً تكون ذخرًا لى إذا جعت وأنا أطوف بقرب هذا المكان.. وإنى لآسف، ولكنى نسيت أن هذا مرقدك!!».