كلمة فى الخيال
كان بودنا لو استطعنا فى هذا الفصل أن نعتاض من كلمة «الخيال» لفظًا اخر لم يخرجه سوء الاستعمال عن معناه، ولم يحطه بحواشى أجنبية منه غريبة عنه. إذن لاسترحنا وأرحنا ولتيسر أن نقيم كل شىء على حدة، وأن ننقذ الأدب من الفوضى التى يعانيها. ولكن خلق لفظ ليس بالأمر الهين الذى يتأتى كلما أراد المرء ذلك أو تمناه. وعلى أن من فضل الله الذى يذكر ليشكر ومن رحمته بنا أن ليس فى مقدورنا أن نستحدث من الألفاظ ما نشاء لما نشاء من المعانى حين نشاء. فإنها قدرة كانت حقيقة أن تفضى إلى فوضى أعم وأشمل تتبلبل بها الألسنة ويمتنع معها التفاهمُ الذى لا معدى عنه فى حياتنا، إذ يصبح لكل واحد لسان يتكلم به، ومعجم يتناول منه لمعانيه ومقاصده.
وماذا يفهم الناس من لفظ «الخيال»؟ تسمع من كثيرين قولهم: هذا خيال شاعر! ونعرف بالتجربة الطويلة أنهم يفهمون من الخيال مجافاةَ الحقاتق وتنكبَ التجارب واقتناص شوارد الأوهام والمحالات، وكأنا بهم يحسبون أن المرء على قدر بعده عن مألوف الناس وتجاربهم، يكون نصيبه من الخيال وقدرته عليه، وأن هذا التناسى للحياة وسننها ولحقائقها ولأحوالها يكلف ما لا يكلف تحريها والقناعةُ بميسورها. وهذا كله خطأ فى خطأ وجهل فوق جهل.
ومن العسير أن تعالج هذه الأوهام التى قررها الجهل والعادةُ فى الأذهان وعرَّق أصولها. وقد تستطيع أن تقنع الشاب المتطلع إلى مراتب الأدباء ومنازل الشعراء بأن كتابة حوالة مالية بمائة جنيه لا تكلف الإنسان فوق ما تكلفه كتابةُ حوالة أخرى بجنيه واحد، وأن حامل الحوالة ذات الجنيه الواحد قد يجد الجنيه فى المصرف ويرجع به عنه، على حين يذهب حامل الحوالة الكبيرة فيلفيها مزيفة أو لا يجد لصاحبها وديعة أو رصيدًا أو حسابًا يأخذ منه ويذر.. نقول فى وسعك أن تقنع الشاب بهذا ثم تحاول أن تخطو به خطوة أخرى وأن تبين له، قياسًا على هذا المثل الذى تسوقه، أنه ليس بصحيح أن الشطط الذى تحسبه خيالًا يكون أدل على القدرة، وأن من يجيئك، مثلًا، بوصف بستان يغاير كل ما ألفه الناس وعهدوه فى البساتين وارتبطت به آراؤهم وخوالجهم، ليس من اللازمِ أن يكون أشعرَ وأقدر على التخيل ممن لا يعدو أن يسوق إليك وصفَا ساذجًا لا ينكره الحس ولا ينزعج من جرائه العقل — تعالج أن تبين له هذا وتشرحه فيعود إلى رأس أوهامه التى حشا بها رأسه معلموه، ومطالعاته للكلام الزائغ الذى كلف به من نسميهم نحن أهل المذهب القديم.
كيف إذن نميط هذه الأوهام وننفى أذاها عن العقول ليتنزه الأدب عنها؟ من سوء الحظ أننا مضطرون فى مصر إلى أن نقيم الدليل حتى على البدائه، وأننا لو خلونا من هذا التكليف وارتفعت عنا مؤونته لاستطعنا أن نضرب بسهم فى ميدان الأدب وأن يكون لنا فيه عملٌ أجل وأضخم، ولكن البلاء فى مصر أنك تجد فيها أناسًا قليلين رفعتهم تربيتهم إلى مراتب الغربيين ونقلهم تهذيبهم إلى مستواهم، على حين ترتع بقية الأمة وتمرج فى بحبوحة الأمية. وعلى هؤلاء القليلين يقع عبءُ التهذيب العام ونشره! ومتى كانت الحاجة هى إلى المكاتب الأولية فمن الخرق أن تبدأ نشرَ التعليم بإقامة الجامعات! وليس هذا سوى مثل..
كذلك نحن. علينا أن نُسفَّ دائمًا إلى البدائه وأن نقص أجنحتنا حتى لا نحلق فى سماء الأدب حيث لا يرانا أحد ولا يحسنا ديَّار! ولا مفر لنا حين نكتب فى الخيال من أن ننحدر عن القمم السامقة إلى السهول المنبسطة التى تأخذها العين بنظرة، وأن نقرر أن الإنسان عاجز عن أن يتخيل ما لم ير ولم يعرف، وأن القدرة الفنية ليست فى الإغراب وتكلف المحال والإتيان بما لا يكون، بل فى حسن اختيار التفاصيل المميزة كما يقول «تين» فى فلسفة الفن، وإنه من أفحش الغلط أن يتوهم المرء أن إلفه الشىء يجعل تناوله إسفافًا ونبذه سموّا. فإن الأشياء موجودة نراها ونحسها كل يوم من أيام حياتنا، والحقائق معروضة على أذهاننا وقلوبنا، غير أن كونها كذلك ليس بمستلزم أن نكون قد انتفعنا بشهودنا إياها ووعيناها وأحطنا بها، وأكثرنا لا يفكر فيها ولا يلتفت إليها أو يعنى بها. وقل من بيننا من يُحضر إلى ذهنه صورة شىء مما يحيا بينه من المشاهد والمناظر. ولما كان الذهن بطبيعته يعييه إلى حد كبير أن يجسِّد لنفسه صورة منظر بجملته وتفاصيله كما هو كائن فى الطبيعة أو الواقع، فإن الأمر يحتاج إلى غريزة دقيقة التمييز يستهدى بها الذهن فى انتقاء التفاصيل وضم بعضها إلى بعض وترتيبها. وما على القارئ إلا أن يجرب! هذه هى الدنيا أمامه، وفيها ما هو أقرب إليه وأمس به وما هو أعرف به وأدرى، فليتناول ما يظن أنه أسهل عليه وأقل مؤونة وليصوره لنفسه وليعرض عليها كل جوانبه وليحاول الإحاطة والاستقصاءَ ليعرف أى عسر يكابد، وليدرك أن تناول المألوف ليس فيه إسفاف، وأن المألوفات، وإن كانت فى طريق كل أحد، لا يفطن إليها كل ذهن ولا تلتقطها كل عين، وليصدق قول «جورج إيليوت» أن بعض الناس حين يرون الشاعر يسبح بين الضباب يحسبون أن مجرد ذهابه فى الجو يُكسبه جلالًا، ويتوهمون أنه صار أقرب إلى السماء لأنه نأى عن الأرض!
وهى ملاحظة فى الصميم من حبة الصواب، فما دنا هذا الطائر من السماء ولكن بعُد عن الأرض، وما اكتحلت عينه بقليل ولا كثير بين أجواز السموات بل غابت عن عينه الأرض واستسر كل ما فيها عنه، فلا هو وصل إلى شىء وفاته كل شىء! غير أن الناس يرون الكاتب أو الشاعر يبتّ كل ما يربطه بحقائق الحياة ويلقى إليهم كلامًا شاردًا مما أملته الأوهام المعربدة فيحسبونه سما إلى منزلة من القدرة الفلسفية لا تدرك!
أتقول حقائق الحياة؟ إذن فما هذه الشياطين وعرائس البحر والغاب وما إليها مما ابتدعه خيال الغربيين ووصفوه فى شعرهم؟ من أين جاءوا بهاتيك المحالات؟ وكيف عرفوها ووصفوها ولا خير لأحد من أبناء الدنيا بها ولا عهد؟ ولمن يقوم بنفسه هذا الاعتراض بعض العذر، فلعله لا يدرى أن هذه الشخصيات ليست مخلوقة خلقًا وإنما هى، على بعدها وغرابتها، مما استحدثه الخيال النشيط من مألوف بنات الدنيا ولصوصها: فهى أسماء مستعارةٌ لشخصياتٍ مكوَّنة من متفرق ما يلحظ فى ناس هذه الدنيا: وهو خيالى، ولكنه محلق فى سماء الشعر بجناحين من الحقيقة. وليست قدرة الشاعر هنا فى أنه أوجد شيئًا من العدم، فذاك محال، ولكنما قدرته فى أنه استطاع أن يكون صورةً من أشتات صورٍ وأن يُحضر الصورةَ المؤلفة إلى ذهنه إحضارًا واضحًا وأن يمثلها لنا كما ينبغى أن تكون.
وليس من فضل فى أن تأتى إلىّ بمعان أو صور كالزئبق لا تتمكن اليد منه، ولكن المزية كل المزية أن تجىء بما يحتمل النقد الصامت للتجربة العامة، وأن تسوق ما لا يضيره بل يزيده إشراقًا وصحة أن تواجهه بالحقائق. ونورد لك مثلًا لما نريد: قول شاعر قديم لا يحضرنى اسمه:
فأين فيمن عرفنا وعرف أسلافنا وسيعرف من يأتى بعدنا، إنسان يبكى بعين ولا يبكى بالأخرى؟ ودرجات الحزن لا تُقاس بهذا، حتى إذا أمكن، فيكون المرء حزينا إذا بكت له عين واحدة، وحزينًا جدّا إذا فاضت كلتا عينيه بالدموع! ومبلغ الفجيعة لا يدل عليه هذا التكلف للمحال، وما كانت الدموع مظهر الشجى الوحيد والدليل الفذ عليه، حتى يشط القائل هذا الشطط كله ويخرج عن حدود الطبيعة. ومن شأن الحزن العميق أن يصرف النفس عن التصنع فضلًا عن هذا الإفحاش. فماذا صنج شاعرنا؟ هذا إلى أنه لم يأت بشىء معقول فى ذاته ولا مع التمحل والتكلف له. وأقنعنا أنه كاذب فيما زعم من الحزن والأسى وما أراد أن ينحل نفسه من صفات الرجولة. إذ كان لا ينافى الرجولة أن يبكى المرء، ولا يثبتها أن تجمد العين، لأن جمود العين قد يكون مرجعه إلى البلادة فى الإحساس لا إلى القدرة على ضبط النفس وحكمها. فمن حيت نظرت إلى هذا البيت لم تجد فيه إلا ما يستحق من أجله ألّا يحسب فى الشعر وإن كان موزونًا مقفى مع ما سبقه وتلاه.
ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا من أنصار «الريالزم» فى الشعر، أى ما يمكن أن نسميه المذهب الحسى، أو تناول الشىء كما هو واقع تحت الحس، ولكى نوضح هذا نقول كلمة صغيرة فى موضوعه.
الأصل فى الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلاف أنواعها وتباين مراميها وغاياتها، النظر بمعناه الشامل المحيط.. وعلى قدر اختلاف النظر يكون اختلاف المعانى والأغراض. والشاعر لا يسعه إلا أن يصور ما «يرى» بالمعنى الأوسع، ما يراه الواحد قد لا يراه الآخر، وربما أخذت عين الشاعر منظرًا فأبدع الخيال تنويقه، وأحسن ما شاء تفويقه وتزويقه. واعلم أن رؤية الشىء فى أجل مظاهره وأسمى مجاليه وأروع حالاته هى ما يعبر عنه «بالأيديالزم»، وعلى العكس من ذلك «الريالزم».
ومن الضرب الأول قول البحترى يصف الربيع:
والأبيات مشهورة، ومنه أيضًا قصيدته البديعة فى إيوان كسرى وفيها يقول:
أما الضرب الثانى — أى الريالزم — فإن من الصعب العسير التمثيل له، لأن الخيال لا محالةَ عامل فى كل ما يزعم الزاعمون أنهم أمناء فى تصويره على حاله، شعروا بذلك أم لم يشعروا. والحقيقة التى لا مساغ للريب فيها عندى هى أن هذا المذهب من الأكاذيب، فإنهم يقولون إن الغاية منه هى تصوير الشىء على حقيقته، وتلك لعمرى غاية كل شاعر وكاتب ومصور كائنًا من كان هذا الشاعر أو المصور، وما يستطيع أحد أن يعدل عن هذه الغاية، لأن العدول عنها يخالف كل قوانين العقل الإنسانى، فإن الأصل فى الفنون قاطبة، النظر كما أسلفنا، فإذا ابتكر الإنسان شيئًا فإنما يؤلف من أشتات الصور العالقة بذاكرته، وهذه الصور إنما حصلت بالنظر، فإذا رأيت شاعرًا أقرب إلى الحقائق من شاعر فلا تحسب أن هذا إنما كان هكذا لأن الأول مذهبه حسى والثانى تخيلى، فإن شيئًا من هذا لم يكن، وإنما السبب أن هذا أقدر من ذاك وأقوى ملاحظة. وهذا الذى نراه من الاختلاف فى المناهج بين شاعر وشاعر راجع إلى الاختلاف بين شخصيتيهما: هذا يستمد البواعث على الابتكار من ظواهر الطبيعة، وذاك يستمدها من نفسه.