كلمة عن ابن الرومى وحياته
وجدتُ أكثر من ترجم ابن الرومى من الكتاب المتقدمين لم يستقصوا أخباره ولا توخوا الإحاطةَ بها أو ترتيب ما أثروا منها. ومن أين لكاتب أن يوفى القول فيه وكل ما انتهى إلينا لا يبرد الغلة ولا يسد الحاجة؟ وكيف نقتفى معالم سيرته، ونتتبع نمو عقله، ونستقرى أطوار نفسه، ونحن لا نعلم أى أخباره أسبق أو أصح ولا نعرف عن كثير ممن اتصل بهم وصاحبهم وتقلب بينهم إلا أنهم عاشوا وماتوا كسائر الناس؟
ورأيت، كذلك، المؤرخين السابقين رحمهم الله، قد أتحفونا بطائفة غير صالحة! من نوادره وفضائله ورذائله، رواها بعضهم عن بعض بالتواتر، كما هو مألوف العرب وديدنهم، وهو مذهب أشبه بالعمليات الحسابية منه بالتحليل الأخلاقى، وليس فيه تصوير للنفس ولكنه قياس لطول الصورة وعرضها. وشتان بين أن تجمع شتيت الصفات ثم تسردها واحدة واحدة، وبين أن ترسم الخلق الحادثَ من تفاعلها واصطكاك بعضها ببعض! فإن مما لا شبهة فيه أن النفس الإنسانية ليست كخزانة الكتب تُرى فيها الفضائلُ والرذائل مرصوفةً مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هى ميدان لتلاقيها وتفاعلها، وعالم صغير تتصادم فيه الغرائز والملكات، تقتتل على الحياة والتغلب كما يحترب الناس فى هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء والغلبة فيما بينهم، وبحر تتسرَّب فيه الطبائع بعضها فى خلال بعض كما تتسرَّب الموجة فى خلال الموجة وتغيب فى أثنائها.
الحقيقة أن كتّاب العرب ومؤرخيهم قصّروا أشد التقصير وأسوأه فى ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم فى هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جاءوا بشىء يضارع ما عند أمم الغرب منه. تأمل «حيوات الشعراء» لـ«جونسون» مثلًا، أو تاريخ جونسون لـ«بوزويل»، وقس إليه تراجم ابن خلكان وأشباهه، وانظر ما بين هذا وذاك من البون. وإنك لتقرأ للمؤرِّخ من العرب السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشى والتعاليق، وتعانى فى تصفحه من البرح والعنت ما تعانى، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجتَ فى سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد، وأنفقت فى طلبها من الوقت والمال والعافية، ولا تجد إلا قصصا وأخبارا لا ترى عليها طابعَ العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسانٌ وهبه الله عقلا وفهما وفؤادا يتذكر وذهنا يتفكر وقلبا يتدبر، أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود! حتى ابن خلدون الذى عاب من سبقه من المؤرخين، وفطن إلى مواضع الضعف فيهم ليس خيرًا منهم حالًا.
ولسنا نقصد إلى تنقّص مؤرخى العرب، والتسميع بهم، والوقوع فيهم، وتحقير شأنهم، أو إلى تفضيل مؤرخى الفرنج عليهم والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا ما لا يسنح لنا فى فكر. وعلى أننا لو قصدنا إلى ذلك التفضيل لا تَّسع لنا فيه نطاق المعذرة ولبرأنا العقلاء من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخى العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوح والحروب وتعاقب الولاة واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنةَ الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء وليحكِّم عقله، وليتجرد من الهوى فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجعٌ بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب، بعدُ عذرًا من زمانهم وأحوال حياتهم ونحن نلوم!
•••
الإنسان وجهة الإنسان، وموضع عنايته، وليس أدلّ على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ وكلفه بهما على الرغم مما يُدلى به لرد ذلك ودفعه، وأى شىء أحلى فى القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يُساهم أحدنا شعورَ أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه، ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه، ويقف على ما يضطرب به جنانه، ويدور فى خاطره ويجرى فى ذهنه؟ بل أى شىء أدعى إلى طرب العقل، وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن، من أن ينظر أحدنا بعين أخيه ويرى العالم كما هو باد فى مرآة عينه؟
تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعمْ بها من متعة.. فأما من تغيرت قلوبهم على البشر واعتقدوا للنوع البغضَ والعداوة، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار — أو بدوا كأنما طووها على ذلك — فلعمرى إن هذا لمظهرٌ من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وإنما غلبت عليهم السوداءُ واحلو لكت الدنيا فى عيونهم، وتنكرت لهم الحياة فتنكروا لها لا للناس، وان خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضةً ببغضة، ومقتا بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق فى ثياب عدو!
قلنا إن من أظهر الأشياء فى الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وإنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية ولا أدل على جماع الإنسانية، من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوهَ الرأى له، وتصريفه أعنّة الفكر فيه، ونقول إن هذا الميل مركب فى السلائق ومركوز فى الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلًا محسوسًا على ذلك فانظر فيمن حولك وتدبر ما يجرى بينهم من الكلام فى متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصصًا وأنباءً؟ فمن ناقلِ إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مُسرٍّ إليك بذات نفسه وما لقيهَ من المحنة والبلاء، وكيف عدلت الأيام عنه ثم عطفت عليه:
ومن لعب مجّان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاج، ويروى لكً النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه. ثم تأمل الشعر، أليس شعورًا مترجمًا وقصة مروية، وخاطرًا مجلوّا؟ والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب، فهى أيضًا تاريخ للعقل الإنسانى؟ وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل منا فيه! دورَه الذى خُص به وقدِّر له، ثم يحدِّت الناس به؟
والمرء مدفوع إلى ذلك بعاملين: أحدهما علمى والثانى شعرى. فأما إنه لا يزال يحاول أن يطَّلع على نفس أخيه الإنسان ويستكشفها، مسوقًا إلى ذلك بدافع علمى، فلأن الطبيعة قد اختصت كلَّ أحدٍ بمسألة من مسائل الوجود هو مطالب أن يحلها على الوجه الذى يبدو له، ولو لم يكن من ذلك إلا كيف وَفَّق بين جسمه وروحه، وكيف عالج هذا فى سبيل ذاك، وأراد ذاك على طاعة هذا، لكان ذلك حسبه دافعًا وسائقًا مستحثّا! إلا أن العامل الشعرى أقوى دفعًا وأشد حملًا للنفس وإغراء لها وحضّا، فإن هذا التنازع بين الإرادة البشرية والحاجة المادية، هو الشعر ولا شعر إلا به. وما زال العنصر الشعرى فى النفس أقوى من العنصر العلمى وأظهر، وإن كانا فى الحقيقة مظهرين مختلفين لشىء هو فى جوهره واحد … وكذلك ينظر أحدُنا بعيون الناس فتكتحل عينه بعوالم متباينة، ويشاطرهم إحساسهم، ويسد النقص فى تجاربه، فيحيا حياتهم كما يحيا حياته، وكأنَّ كل واحد مرآه مجلوةٌ — علمية شعرية — طبيعية سحرية — نود لو أتيح لنا أن نرفع ما أرسل عليها من الحجب لنرى فيه! وجوهنا، ونبصر فى صقالها نفوسنا؟ ونستبين فى نورها أغمض أسرار الضمير وأخفى طوايا الصدر …
ولا يحسبن أحد أن الأمر ينتهى عند هذا القدر، ويقف عند هذا الحد، فإنه أكبر من ذلك وأعظم، والمسألة أدق وألطف. وما فى النفس ميل أعرق، ونزعة أثبت من هذه النزعة الإنسانية التاريخية، لأن الإنسان كما قدمنا قبلةُ الإنسان فى كل شىء، ومن أجل هذا تجد عنايته به شديدة، واهتمامه بآثاره كبيرًا، وإجلاله لقدرها عظيمًا. ومن أجل هذا أيضًا لا ينفك أحدنا، وهو ينظر فى قصيدة الشاعر أو رسالة الكاتب، يحاول أن يصور لنفسه روحه التى كانت تحفزه، وعقله الذى أوحى إليه، وقلبه الذى أملى عليه. ومن ذا الذى لم تُذهله عن نفسه قصيدة من الشعر حتى تجرد من نفسه وتعرّى من شخصيته وروحه وعقله؟ وأى معنى فى ظلك لهذا التجرد الوقتى؟ … بل أى متعة ألذ من هذه الغيبة وأشهى وأطيب على رغم أنوف النقاد الذين لا يفتئون يطلبون أن يتجرد المرء من إنسانيته ليتجرد من الهوى وليكون أصح حكمًا وأصدق نظرًا! كأن قيمة الشعر لا تقدر أيضًا على حسب اللذة المستفادة منه!
كذب النقاد وصدق الأنسان! ولعمر النقاد لو ان قصيدة ابن الرومى التى يقول فيها:
نقول لو إن هذه القصيدة الصادقة لم تكتبها يد الشاعر أو يد سواه من الناس وإنما ارتسمت حروفها على صفحة الطرس من تلقاء نفسها، ونبتت شطورها فى ثرى القرطاس بفعل الهواء وتأثير الجو كما تخضر الأرض جادتها:
أكان يكون لها فى تقديرك ما لها من الواقع؟ أم كنت مبوئها أخص موضع بين غيرها من القصائد «البشرية» كما أنت اليوم صانع بها؟ كلا! وبلا نزاع!
وتدبر ذلك تدبر من شأنه التوقُ إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويتجافى بنفسه عن مرتبة المقلد الذى يجرى مع الظاهر، ولا يعدو الذى يكون فى أول الخاطر، وعن منزلة المكابر الذى يخطئ كل قول ويعيب كل رأى، فإنه باب كثير المحاسن جم الفوائد يُؤنس النفس ويثلج الصدر بما يُفضى بك إليه من المعرفة ويؤديه إليك من التبيين.. أوَ ما ترى الناس يأتون فى كل عام إلى الأهرام، وما أظنها أروع جلالًا، وأبرع تكوينًا، وأفتن جمالًا، ولا أدل على القدرة من جبال الهملايا؟!
ثم ألا ترى كيف تجاوز البحترىُّ جبالَ لبنان وهضبها إلى رِباع الفتح ابن خاقان فى قوله:
وكيف أنه وصف الجعفرىَّ والإيوان والكامل والمتوكلية والصبيح والمليح والبزكة وغير ذلك ولم يقل بيتا فى كهف أو جبل؟ وإنما كان هذا كذلك لأن النفس تجد لذة وعزاء فى استجلاء آثار النفس.
والناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبى وأسكن، وبهم آنس وأشغف، وليس معنى هذا أن الشىء لا يروقك ويقع من قلبك إلا إذا كان صانعه اَدميّا، فإن هذا ما لا نذهب إليه أو نقول به، وإنما نعنى أن الإنسان حبيب إلى الإنسان أى إلى نفسه، وأن أكثر ما يفتنه ويستولى على لبه وهواه ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فى كل حركة، وملحوظ فى كل لفظة. وما تأملتُ قط هذا الأمر إلا أثار لى التأمل واستخرج لى التفرس، غرائب لم أعرفها وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا يزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه فى كل شىء، كأنما هو يستوحش الشىء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنسانًا ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونقٌ وحلاوةٌ، ولعمرى هل تروقنا الأرض إلا لأنها مسكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا؟ وهل يملأ الروضُ عينَ مَن نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه، وغصونه توسوس إليه، وأنه متصل بحاضره وماضيه، وبذكرياته وأمانيه؟ ولعمرى كيف الحياةُ؟ وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنسانى والغريزة التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم؟!
وأى شىء يدفع الناس إلى إنفادتى الوقت فى طلب التاريخ، واستنزاف الأيام فى معاناته، والتوجه إلى طلب اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلًا وإيضاح مشكلها والكشف عن معانيها؟ وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان؟ ولماذا يستنفدون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الاَداب من لغة إلى لغة؟ أوَ ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما السر فى أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب للب، وأفتن للنفس، وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحثث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغى أن يعرف كيف كان الإنسانُ فى العصر الخالى ليعرف أى شىء هو؟
يرى سقراط، ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه: وأن ذلك أحقُّ بالتقديم وأسبق فى استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب فى مذاهب لا تؤدى إلى هذا العلم، وطرقٍ لا تفضى إلى هذه المعرفة، وما أضلَّه إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهرًا من مظاهر قوة بعينها، ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها منفردة عما عداها، فهو أبدًا يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنسانى بأن يتدبر ما يجرى فى ذهنه، ويتوسم ما يحصل فى نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شىء حدّا، وما فاز من ذلك بشىء، ولا عاد إلا بالخيبة، وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السِّرارُ بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذى دخل عليها، والرأى الفاسد الذى عن له بسوء الاتفاق حتى صار حجازًا بينه وبين العلم بها وسدّا دون الوصول إليها.
الإنسان ليس فردًا قائمًا بنفسه، كاملًا فى ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به والوقوف على أمره إلا بالقياس إلىِ أنداده وأشباهه من الناس. وقديمًا حسب الناسُ الأرض جسمًا منعزلَا لا نظير له ولا شبيه، فركبهم فى أمرها جهلٌ عظيم وخطأ فاحش، وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بان فسادُها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب. وكذلك يختلف اليوم رأينا فى الإنسان عن رأى آبائنا فيه. قد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها، ولا تعدها إلا فى الهمج والبربر. ومن ذلك زعم العرب أنهم أشرف الأمم. ونحن نرى فيها اليوم إخوانًا صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات، وقطعت بينهم العداوات … لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ فى صفحاته آيات الحكمة الإلهية. ويعبر فى سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجدًا من الروح والخفة، ومن الأنس والغبطة، فى مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية، ما لا يجده فى أخبار العصر الحاضر..
وكما أن أحدنا، إذ تلقى المصادفة فى يده شيئًا من رسائله القديمة المهجورة، يقلّبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها، ثم لا يلبت أن يعتاده الذكر، ويلهيه ماضيه عن حاضره، فيترسل فى قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه وتلك مقاطر قلمه، ولايصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضى حجبُ الغموض، وتنتفى عنه معتلجات الشكوك، فتدب فى شبحه روح الشباب وتجرى فى عروق طيفه دماؤه، ويعلم أن هذه رسائله من غير شك — كذلك يستغرب أحدنا التاريخ القديم فى أول الأمر، وتخفى عليه نسبته إليه، وقرابته منه، وما هى إلا صفحة أو بعضها حتى تذهب عنه الوحشة، وتنجلى الشبهة، وتحل مكانهما بهجة الأنس وروعة اليقين، ويصبح وكأنه يقرأ تاريخ نفسه ويتصفح ترجمة حياته! ولعمرى ماذا يفيدنا التاريخ إذا هو لم يحرك فى نفوسنا هذا التعاطف، ولم يؤكد العقدة بين الحاضر والغابر؟ إن الحياة قصةٌ طويلة، يمثل كل فيها دورًا. وإذ كان هذا كذلك أفليس ينبغى أن نحيط علمًا بدور من خلا مكانه، وحللنا محله لنكون على بينة من أمرنا؟ وهل ثمةَ شىء من الغرابة فى أن يرجع أحدنا بصره فى الفصل المنصرم؟ أوَ ليس من الضرورى الذى لا معدل عنه فى كل رواية أن تكون الفكرة الأساسية واحدة فى كل الفصول؟
ولا ريب فى أن كثيرًا من فصول هذه الرواية الإنسانية قد استسر خبره، وامَّحى أثره وأصبح عند الله علمه، ولكن ذلك لم يغلل أيدى الناس عن التنقيب والبحث، ولم يحل دون ما يرومون من تفحص أخبار الإنسان والمبالغة فى استخبار اَثاره عنه، وإن كانوا، بعدُ، لم يتمكنوا من الحجة ولم يجدوا رائحة الكفاية، ولا ثلجوا ببرد اليقين.. ألا ترى الناس، على عجزهم الظاهر وقصورهم البادى عن الإفضاء إلى حقيقة الأمر، لا يزالون يجمعون ما تصل أيديهم إليه من آثار أبطال العالم وعظمائه، وإن كانت فى ذاتها تافهة لا قيمة لها ولا وزن، علهم يستشفون منها نفوسهم، ويستجلون أحلامهم وهواجسهم؟
إلا أنا اليوم على قلة الوسائل، ونزارة الذرائع، وضعف الأسباب، أفطن لمعانى العظمة والبطولة فى الإنسان، وأشدُّ إدراكًا لها، وأحسن فى الجملة تقديرًا لها من أسلافنا، فإنهم، وإن كانوا قد رفعوا أبطالهم إلى مراتب الاَلهة ومنازل الأرباب، غير أن الناقد المتأمل ليجد فى عبادتهم هذه شيئًا عن عنجهية حياتهم. ونحن اليوم لا نسكن عظماءنا جبال «أولمب» أو «فلهللا» ولا نعتقد أن الشمس من مظاهر «أورمزد» غير أنا على ذلك ألطف حسّا وأصفى نفسًا وأصح نظرًا وأوسع إدراكًا وأحسن تقديرًا. وليس معنى هذا أن آباءنا كانوا لا يفطنون للعظمة والبطولة — فلعلهم كانوا أحس بها وأسرع إلى الإقرار لها — ولكن معناه أن صلتهم بعظمائهم ونسبتهم إليهم كانتا غير متعددة الجوانب. ولو نحن أردنا أن نثبت ذلك من طريق البرهان القيم والدليل المقنع لأحوجنا إلى التطويل وإلى تكلف ما لا يجب وإضاعة ما يجب.
والإنسان مطبوع على الإيمان بالعظيم إيمانه بالحياة، وليس ثمةَ ما يُعين على احتمال الحياة ويجلى من وحشتها مثل هذا الإيمان، لأن العظيم فى كل عصر كوكبه اللامع، ونبراسه الساطع، وبدره الزاهر، وبحره الزاخر، وهل الناس لولا العظماء إلا جبال من النمال أو تلال من الذباب؟
وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك نفحتها ويتثور إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم فى قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته ويضفى عليك الإحساس بما أفاض الله عليه وأسنى له وآثره به.
ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس — وإن أنكروا وكابروا — أنهم واجدون عنده ما يحبون، وبالغون منه ما يطلبون.. فإن من الناس من يسدى إليك ما لا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه ولا ثمرة عنده ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدّها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما فى نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون، حتى ولو لم يدرك هو ولا الناس ذلك. وليس يخطئ العظيم موضعه، أو يخفى عنه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه ويكون له مسيلًا أينما تحدر ويعمقه مع التدفق.
وأنت إذا رجعت إلى نفسك ونظرت فى تاريخ العصور التى ظهر فيها العظماء، علمت علمًا يأبى أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب، أن العظيم لا يظهر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديدًا، وأنه لو لم تلد آمنة محمدًا لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندن لنبع من غيره مثل هذا الشعر الذى تقرأه له اليوم، ولأيقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه فى مذهبه وعكسه فى منزعه.
وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحًا للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجىء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤا حقيقا بها، وواليا مطيقا لها، وناهضا مستقلا بأعبائها، أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأماطت عن سرها الحجب ونفت عنه معتلج الريب، وكانت له رائدا فيما يطلب، وهاديا حيت يؤم ويذهب، فإنما تفصح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تكون فيه القدرة على فهمها، وتوسمها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لثامها، ومن تظن فيه الإيفاء فى الوفاء، وتستشعر من الأبرار فى الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها وخصائص معانيها ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط إليها كفّا، أو يرفع إليها طرفًا، ولكن لمن إذا نظر كان وما ينظر شيئًا أحدًا، والشىء لا يعرفه إلا شبيهه ولا يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته، أو تخفى عليه طينته وجرثومته، والطبيعة كتاب مطوى تعلق منه فى كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورُفعت الحجب بينهم وبينها.
«وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة، لم يزده إلحاحُ النار شيئًا، واستوى عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمستزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوى عندها كل من بلغها» مهما تباينوا وتفاوتوا.
يظهر فى العصر ثلاثة أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية، ويرتقوا إلى هذه النهاية. والناس، من حولهم، يرمونهم بعيونهم ويتبعونهم بإمالهم، وهم مجدون فى الإصعاد، مندفعون فى التوقل، لا يكترثون لمن نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون ما يعترضهم فى سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيهن ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثانى تعاقب الموانع وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، وتمضى الاَخران حتى تكتنفهما السحب ويغيبا عن عيون الناس وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد ويعظم الخطب وتثور الرياح وتهيج العواصف ويتوعر المرتقى وتتصدع الأرض فيهوى أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطيًا رقاب الموانع، مذللًا ظهور العوائق، بين بروق السحب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها، حتى ينتهى إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس وبوذا وموسى وعيسى ومحمدًا وهومر وشمكسبير وملتون والمعرى والمتنبى وجوته وشيللر وتوماس هاردى والفردوسى وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم.
وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهى أن يدعى أن صاحب هذا الرأى والمثل قد أسرف فى القول وجاوز الحد فيما زعم من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون فى المزية، لا فاضل بينهم ولا مفضول.
وهى شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولا وعرضا، وتحد كما تحد الدار شرقا وغربا، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملها، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلًا لا يخمل أخاه الفحل إذا أخمل العالم العالم، وأنه وإن كان كل روائى مدينًا لهومر، إلا أن هذا ليس بمانع أن يدرك شأوه أحد من غير أن يزرى به، كما أزرى جاليليو بدائنه متزو، وكما أزرى كيلر بجاليليو، وديكارت بالجميع.
وإنما كان هذا كذلك لأن العلم لا يقف عند حد ولا يطمئن إلى حال، فهو أبدًا فى تقدم. ولعل خير الكتب العلمية أحدثها، فالجديد منها ينسخ القديم، والمتأخر من العلماء يبنى على ما أسس المتقدمون ويشيد على ما وضع الأولون، والأصل فى كل شىء أن يزيد ويقوى ويتقدم، ولكن جمال الشعر فى أنه ليس قابلًا لشىء من هذا «النوع» من الزيادة والتقدم لأنه ابن الإرادة والإحساس، ولأن العلم اكتسابى، والشعر وحى وإلهام، وهو صورة من الحياة، والحياة كحجارة النرد لها أكثر من جانب واحد، فإن امتريت فى هذا فأرجع البصر فى القرون الخالية، هل ترى شكسبير غض من دانتى؟ أو دانتى من هومر؟ أو ابن الرومى من المتنبى وإن كان هذا مدينا له بأكثر مما يدرى الناس؟ وليس معنى هذا أن الشعر جامد لا يطرأ عليه تغير ولا يلحقه تحول وإنما معناه أنه يتحول مع الحياة ويتسع أفقه مثلها ولكنه كالبحر لا يزيد ولا ينقص.
«إلى كريسباس الذى يعرف كل شىء»!!
«لقد عادت النفس فحدثتنى أن أنظم فى قصة «وليم تل» قصيدة، ولست أخشى علىّ من روايتك ولا بأس عليك منى، ولا بأس علىّ منك».
وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض، ولا يدفن بعضهم بعضا ويمشى أواخرهم على هام الأوالى.
وليس الأصل فى الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحولُ فى آخر العصور ولما ظهر أحد منهم فى أولها، ولكنك ترى الشعر فى جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر فى حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصدًا للغاية، وإن اختلفت وجهه النظر وتباينت أساليب التناول. لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان ولا يعروها فتور، كالبحر، وليس يزيد البحرَ صوبُ الغمام ولا يضيره احتباس الغيث، وكما أن البحر إما جاش يبثك ما فى صدره مرة واحدة، وتفضى لك بجميع سره موجه الملتطم، واَذيه المصطفق، ولجه المربد، وثبجه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها فى كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء.. «تسكن الإلياذة فتثور الرومانسيرو، ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن»، وتأتى بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومى، وبعد صبا البحترى صرصر المعرى.
ورب مستفسر يقول: إذا كان هذا كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه؟ وهذا خطأ، وهو أيضًا صواب، فإن الشعراء جميعًا أشكال، على أنهم، بعد، يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه.
كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهى بعد كلها رياح.. والأيام سبت وأحد واثنان، ولكل يوم حوادثه ومميزاته، وهى بعد كلها أيام، والشعراء هومر وشكسبير وفرجيل.. ولكل صفته التى يتميز بها، وهم بعدكلهم شعراء وكلهم هومر وكلهم شكسبير..
وبعد، فإنا — كما رأى القارئ مما أسلفنا عليه القول فى صدر كلامنا — لا نرى رأى كارليل الذى بسطه فى كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» حيث يقول: «هذه حقائق كان الأقدمون أسرع إلى إدراكه! منا نحن.. كانوا بدلًا من اللغو واللغط فى شأن الكائنات ينظرون إليها وجهًا لوجه، والروع والإجلال حشو قلوبهم. أولئك كانوا أفهم لآيات الله فى كونه وأدرك لسره فى عبيده. كانوا يعرفون كيف يعبدون الطبيعة، وأحسن من ذلك كيف يعبدون الإنسان!».
بيد أنا لم نذهب إلى أن الأقدمين كانوا أضعف منا إدراكًا للعظمة والبطولة، ولا أقل فطنة لمعانيهما ولا أبطأ حسّا. وإنما قلنا إنا أحسن تقديرًا لهذه المعانى منهم وأقل غلوّا وأدق استشفافًا واستبطانًا لكنهها، وهذا ما لا ينكره علينا كارليل فى كتابه الذى أشرنا إليه، فإن الناظر فى كتاب الأبطال يعرف من تبويبه وتنسيق فصوله كيف تطور معنى البطولة واتسعت دائرته كما تطور كل شىء فى العالم، وكيف أن الإنسان كان فى بادئ الأمر يعبد الأبطال ثم عرف أن الألوهية ليست للإنسان، فظهر الأنبياء وصرفوا الناس عن عبادة الناس، وصححوا خطأهم فى ذلك وكسروا من غلوائهم وأقاموهم على طريقة هى لا ريب أمثل وأفضل، ثم أدرك الناس بعد ذلك أن البطولة ليست مقصورة على الأنبياء وأنهم لم يختصوا بها وحدهم دون غيرهم، وأنه رب قسيس كلوثر هو فى المنزلة الأولى بين الأبطال، ثم فطنوا إلى أن الأنبياء والقساوسة ليسوا كل العظماء، وأن الشاعر عظيم، والفيلسوف عظيم، والملك عظيم، فهل يدعى بعد ذلك أحد أنا اليوم لسنا أوسع من الأقدمين مجال فكر وأبعد مطارح نظر؟ وأننا لسنا أفطن للعظمة فى جميع مظاهرها؟ ثم ألست ترى أن الأقدمين كانوا يتوجهون إلى العظماء بقلوبهم دون عقولهم، وأنا نتوجه إليهم بقلوبنا وعقولنا معًا؟!
•••
وبعد، ففيم كل هذه المقدمة؟ ألنكتب ترجمةً لابن الرومى؟ وافرحةَ ابن الرومى لو علم أنه سيظهر فى القرن العشرين رجل يخرج به من الظلمات التى أرخاها عليه إهمال المؤرخين السابقين من العرب، وأسبلها على حياته حظه الأعمى وجده العاثر؟ وأن هذا المؤرخ المنصف الطيب القلب سينظمه فى سلك العظماء؟
كلا. فما نطمع أن نؤدى للقارئ ترجمة لهذا الشاعر محكمة الحدود، مدمجة التأليف، واضحة الطريقة، وأنا من ذلك لعلى يأس كبير، فما نعرف رجلًا أصابه ما أصاب ابن الرومى ولا شاعرًا تهاون به الناس حيّا وميتًا وتناسوا ما يجب له إلا هو! بل لست أعرف قومًا هم أشد استصغارًا لكبرائهم، وأقل إجلالا لرجالاتهم، وأعظم تعاونًا بحقوقهم، وأضأل تنبهًا لحقيقة أقدارهم من العرب! وليس يخفى عنا أن هذا القول سيقع من نفوس البعض موقعًا سيئًا ويصادف منهم كل السخط وأشد النفور لأن للقديم روعة وجلالًا وقدرًا فى النفوس، ومهابة فى الصدور، وللجديد المباغت صدمة يضطرب لها الذهن ويتبلد لها العقل، حتى إذا سكنت الطبيعة واطمأن الروع، وثابت النفس، تبين المرء مبلغه من الصواب وحظه من السداد.. ومن أجل ذلك قالوا ينبغى أن يكتب الكاتب على أن الناس كلهم أعداء وكلهم خصوم. بيد أن من راض نفسه على توخى الصدق والتجافى عن قول الزور، ومن شأنه التوق إلى أن تقر ا لأمور قرارها، وتوضع مواضعها، ومن يربأ نفسه عن مرتبة المقلد — سيتابعنا فى رأينا هذا، ويؤاتينا على ما نقوله.. وإن اَلمته الصدمة فإن الحق، وإن كان صادق المرارة، إلا أنه حق، ولنحن خلقاء ألّا تدفعنا العصبية الباطلة والتشرف الكاذب إلى وصف الزور ونسج الإفك وتمويه الحق وتلبيسه بالمين والبهتان. وماذا علينا إن فارت بعض النفوس من الغضب، وثارت بها الحمية المصطنعة والحفيظة الملفقة وشهوة المباهاة الكاذبة؟ — مباهاة المعدم اللاصق بالتراب بأن كان له آباء يزعمهم أغنياء؟ وما نبالى من سخط ممن رضى إذا نحن اخترنا كل ما فيه للتاريخ رضوان؟ وهل ترى غضبهم يغير الحق الصراح المعلوم فى بدائه العقول؟ أم هل ينفى تسخطهم أن مؤرخى العرب مقصرون، وأن تفريطهم قد ألبس ابن الرومى وغيره بردًا كثيف النسج غليظ السرج لا تنفذ العين فيه؟
وليس ينزلنا عن رأينا هذا ما عسى أن يحتج به خصومنا فى المذهب من أن البيت الواحد من الشعر كان يرفع قبيلة أو يحط منها، وأن القبيلة من العرب «كانت إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر وتباشر الرجال والولدان»، وأن أمراء العرب وخلفاءهم كانوا يقربون الشعراء ويملئون أكفهم بالعطيات وأيديهم بالجوائز والصلات، وينزلونهم منهم فى أمرع جناب وأصدق منزل، أو غير ذلك من الحجج والشواهد والنصوص التى لا تدفع قولنا ولا تديل منه، وإن كانت فى ذاتها مما لا يمارى فيه ولا تنكر صحته.
وذلك أن الهجاء والتشهير وخبث اللسان أوجع ما يتجرعه المرء وتتوجره النفس، وما زال الناس فى كل عصر يتفزعون من ذلك ويتوقونه بكل ما فى الوسع والطاقة، تارة بالعطاء الجزل والنائل الغمر، وأخرى بالمصانعة والمداراة أو الوعد أو الوعيد. ومن ذا الذى يرضى أن تشتهر له شهرة فاضحة وسمعة قبيحة؟ بل من ذا الذى لا يتقى الذم ولا يحفل بالغضاضة ولا يبالى ما قيل فيه؟ أوَ ما ترى كيف أن الكلمة الواحدة تخرج من فم الرجل قد تعطل تجارة أمة بأسرها وتفقدها ثقة غيرها بها؟ والعرب قوم أولو سذاجة، شأن كل البدو وسكان الخيام، فليس بمستغرب أن يتخذوا من أبسطهم لسانا وأقواهم عارضة وأوراهم زندا وأسمحهم قريحة درعًا يحمون بها أعراضهم، ويذبون بها عن أحسابهم، وسلاحًا يستظهرون به على خصومهم، ويستطيلون به على أعدائهم، كما كانوا يتقنعون فى الحديد لصيانة جسومهم وأموالهم وحريمهم، وكما كانوا يعدون الخيول للملاحم والزحوف. وليس بعجيب أن يبسط الخلفاء أكفهم للشعراء بالنوال والمبرات فإن ذلك أطلق لألسنتهم بالمديح وأكف لها عن القدح والطعن وأصون للملك وأحفظ له من الضياع.
هذه حقيقة الحال وواقع الأمر، وليس فى ذلك ما يدل على أكثر من أن الشعراء كانوا بمنزلة الخيول والسيوف والدروع، أو ما يتفكه به على الشراب من النقل، وما تزين به مجالس اللهو من الريحان والورد. أوَ لم يقل ابن رشيق فى كتاب العمدة: «إن العرب كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تُنتج»؟! بلى لقد قالها والله! وكفى بذلك هوانًا!
مهما قيل فى الاحتجاج للعرب والنضح عنهم والتنصل لهم مما تحدجهم به، فإنه لا ريب عندى فى أن الشعر كان عندهم فى منزلة دون التى هو فيها عند غيرهم من الأمم والشعوب، ولا شك فى أنهم لم يكونوا من سعة الروح بحيت يفطنون إلى جلالة الشعر، ويدركون ماهيته وحقيقته وعظم وظيفة الشاعر، وإلا لكانوا انصرفوا عن هذه السخافات التى أولعوا بها وأمعنا فيها، ولتناولوا من الأغراض الشعرية ما هو أشرف من المدح وأنبل من الهجاء.
وهذا باب من القول له اتساع وتفنن لا إلى غاية، ولم نكن نحب أن نفتحه لئلا تستفتح أبوابٌ من اللداد خير لنا أن تظل موصدة، لأن عهد الناس بأمثال هذه المباحث ما زال حديثا، وما زالت عقول السواد الأعظم غضة ناعمة تجرحها خشونة الحقيقة. وليس الداء بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان منه مع كل أحد مسعفًا، والسعى فيه منجحًا، فإنك لتلقى الجهد حتى تميل أحدهم عن رأى يكون له، ثم إذا قدته بالخزائم إلى النزول على رأيك والصدور عن فكرك، عرض له خاطر يدهشه فعاد إلى رأس أمره! ولكنا خلقاء ألّا ننكص عن أمر نحن أثرنا غباره وهجنا دفينه، وأحسب أن كثيرًا من الناس تهجس فى صدورهم هذه الآراء وإن كانوا يشفقون من إبرازها والمعالنة بها، والبلاء، والداء العياء، أنهم ربما ماروك ولاجوك بألسنتهم وهم بقلوبهم يطابقونك، جريًا منهم وراء الجمهور، وذهابًا إلى رأى الغوغاء والأسقاط.
أظهر عيوب الأدب العربى فى تقديرنا اثنان: فساد فى الذوق وشطط فى الذهن عن السبيل السواء. وليس بخاف أن هذين العيبين متداخلان، وأنك تستطيع أن ترد الثانى إلى الأول، أو الأول إلى الثانى، ولكنهما على تداخلهما واضحا الحدود.
وشرح ذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعتهم شديدى الإحساس، لطاف الشعور، دقاق الإدراك ككل البدو، إلا أن فيهم جفوة الصحراء وعنجهية البادية فهم يجمعون بين فضائل البوادى ورذائلهم وحسناتهم وسيئاتهم ودماثتهم وتوعرهم، وهم لما ألفوا من الحرية، لا يستطيعون أن يكسروا من غلواء نفوسهم أو يحبسوا من أعنة عواطفهم، ففى كل حركاتهم وانفعالاتهم حدة جامحة بغير لجام وشِرَّة ماضيةٌ بغير عنان. يبكون ويضحكون، ويثورون ويسكنون، وتحبون وتبغضون، فى غير رفق ولا أناة، حتى لتكاد تلمح فى كل أقوالهم وأفعالهم مظاهر الغلو واَيات الحدة ولوائح الطغيان. فكأنهم استعاروا من الشمس وقدتها، ومن الأرض حزونتها وجدبها وشدتها. وكأن شعرهم العود النابت فى الخلاء، لا الزهرة الزهراء فى الروضة العذراء، وكأنما ألفاظهم فهرس للمعانى التى فى نفوسهم تشير إليها إشارة البنان، وكأن قائلهم لجلاج تحتشد فى خاطره المعانى فيجيل بها لسانه فى شدقه ثم يخرجها مزدحمة بعضها فى أثر بعض، وقد تخرج متصادمة، وبينها وقفات يشقى بها صبره. ولشعراء العرب شياطين! وهل تخرج هذه الفيافى غير ذلك؟ وهى لا تألف إلا الرسوم المحيلة، والأطلال البوالى، ولا تغشى إلا الأربع الأدراس. وهل وجدتُ خيرًا منها وصدفت عنها؟ فإذا أراد الشاعر أن يستمد منها الوحى ركب إليها ظهور الإبل ومتن النياق، حتى إذا انثنى عنها، شغله وصف ما رأى فى طريقه إليها من النجوم، وكيف كان اهتداؤه بها، وما هب عليه من الرياح، وأومض من البروق، خلبها وصادقها، وأظله من السحاب، جهامها وماطرها، وكيف أذكره القمر وجه حبيبته المتألق، وجفلةْ السرب فى الظلام نفرتها ليلة السفح، ثم لا يزال يذكره الأمرُ الأمر ويفضى بك من حديث إلى حديث حتى ينسى ما أوحى إليه شيطانه من بنات الشعر فيجتزئ بما قال!!
وهذا صحيح لا يدفعه أنا نرمى به إلى الدعابة والمزح، فرب هزل ترجم عن جد.. والناظر فى شعر العرب يجد أن الشعراء جميعًا قد ساروا فى طريق واحد كما كانوا يسلكون فى صحراواتهم طرقا واحدة، وكان المتأخر منهم يقلد المتقدم ويجرى على منهاجه. وأكثر الفرِق إنما هو فى اللفظ والأسلوب لا فى الأغراض، وحسبك ذلك دليلَا على ضيق الروح والحظيرة والعجز عن التصرف.
لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم، وإنما نريد أن نقول إن العرب ليسوا أشعر الأمم! ولو أن الله فسح فى البقاء للدولة العربية وزادها نفسا فى أجلها وسعة — ولكنه لم يشأ! وإن أحدنا ليقرأ آثار الغرب فيملك قلبه ما يتبين فيها من سمات الصدق والإخلاص ومخايل النبل والشرف، وما يستشفه من دلائل الحياة والإحساس بالجمال وحبهما وعبادتهما فى جميع مظاهرهما، وما يتؤسمه من ذكاء المشاعر ويقظة الفؤاد وصدق النظر وصفاء السريرة وعلو النفس وتناسيها وتجاوبها مع ما يكتنفها من مظاهر الطبيعة.
هذه حقيقة لا موضع فيها للشبهة، وما ينكر أن الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلالة النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة أو رجل أعمته العصبية الباطلة عن إدراك ذلك — ونقول العصبية الباطلة لأن الحق غاية الوجود، وكلنا سواء فى التماسه، فأيما رجل فاز منه بنصيب فهذا السعيد الموفق، وإلا فهو معذور ومشكور، وليس يغض من أحد أنه انصرف عن هذه الدنيا غير مُنجح.
وأنت إذا تأملت شعراء العرب وكتابهم وكبار رجالهم لتعرف منازلهم من العظمة، ومواقعهم من العبقرية، وجدت أولاهم بذلك، وأولهم هنالك، وأسبقهم فى استيجاب التعظيم، واستحقاق التقديم، قوما ينتهى نسبهم إلى غير العرب من مثل بشار بن برد، ومروان بن أبى حفصة، وأبى نواس وابن الرومى ومهيار وابن المقفع وابن العميد والخوارزمى وبديع الزمان وأبى إسحاق الصابئ وأبى الفرج الأصبهانى وأبى حنيفة النعمان وغيرهم ممن لا ضرورة إلى حصرهم.. وقد تعلم أن للوراثة أثرًا لا يستهان به فى تركيب الجسم واستعداد العقل، فليس بمستغرب أن يرث مثل ابن الرومى وهو اَرى الأصل — فارسى يونانى — كثيرًا من شمائل قومه وصفاتهم، وأن يكون فى شعره أشبه بهم منه بالعرب. وحسب القارئ أن يقارن بين قصيدة لابن الرومى وأخرى لغيره من صميم شعراء العرب فى أى باب من أبواب المعانى ليعلم الفرق بين المنزعين، وكيف أن ابن الرومى أقرب إلى شعراء الغرب وبهم أشكل، وإن بقى عربيّا فى لغته وموضوعاته.
وما ترجمة هذا الرجل؟ قالوا إن اسمه على بن العباس بن جريج، وقيل جورجيوس! حتى جده لم يعن أحد بتحقيق اسمه! وقالوا إن ولادته كانت بمدينة بغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين فى الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية فى دار بإزاء قصر مولاه عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب.
هذا جل ما ذكره المؤرخون من ترجمته «المبسوطة»! فيما وصلت إليه أيدينا من الكتب، وليتنا جهلنا ذلك وأحطنا بغيره مما طووه عنا ودفنوه فى زوايا الغيب! وليت شعرى أى نفع لنا من علمنا أنه وُلد بعد طلوع الفجر أو قبله؟ ولليلتين خلتا من رجب أو بقيتا منه أو من سواه؟ وبالعقيقة أو بغيرها من المواضع التى طمست أشراطها وعفت رسومها؟ وأنه كان مولى عيسى ابن جعفر أو جعفر بن عيسى؟ ما دمنا لا ندرى كيف كان منه أو من غيره من الناس، وكيف كانت مؤالفتهم له ومعاشرته لهم، كأن ابن الرومى لم يكن شاعرًا كالبحترى أو أبى نواس اللذين امتلأت من أخبارهما الأسفار، أو كأنه لا يستحق من عناية المؤرخين مثل ما استحق عمر بن أبى ربيعة وأضرابه المخنثون، من مثل كثير وجميل، أو المجنون الذى ينكره بعضهم وينفى وجوده، أو مثل ما استحق مركوب أبى القاسم!!
مولى عيسى بن جعفر! مثل ابن الرومى لا يذكره المؤرخون إلا مقرونًا بأنه كان مولى لهذا المخلوق! وليت المولى مع ذلك تعهده وعنى به وكفله واستحق أن ينسب ابن الرومى إليه!! هذا العيسى بن جعفر هو الذى يقول له ابن الرومى:
ولد فى خلافة المعتصم وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدى والمعتمد والمعتضد، فلم يؤاسوه بأموالهم ولا أسهموا له فى هباتهم، ولا استحيوا أن يكون فى عصورهم شاعر مثله فى الحضيض الأوهد من الفقر والخصاصة ورقة الحال، ولسنا نظن أنه كان من الخمول وغموض الحال بحيت لم ينتشر به الصوت إليهم، فقد كان مولى رجل من العباسيين وكان متصلا بالوزير أبى الحسين القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد. وقد روى المسعودى فى مروج الذهب عن محمد بن يحمى الصولى الشطرنجى قال: «كنا يومًا نأكل بين يدى المكتفى فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه فى نهاية النضارة ورقة الخبز وإحكام العمل، فقال: هل وصفت الشعراء هذا؟ فقال له يحيى بن علىْ نعم. قال أحمد بن يحيى فيها:
قال: وأنشدت لابن الرومى:
فقال: هذا يقتضى ابتداء، فأنشدنى الشعر من أوله، فأنشدته لابن الرومى:
فاستحسن المكتفى الأبيات وأومأ إلىّ أن أكتبها له فكتبتها».
وفى موضع آخر من الكتاب قال محمد بن يحيى الصولى: «وأكلنا يومًا بين يديه بعد هذا بشهر فجاءت لوزينجة، فقال هل صف ابن الرومى اللوزينج؟ فقلت: نعم. فقال: أنشدنيه. فأنشدته:
فحفظها المكتفى فكان ينشدها».
وفى مكان اخر من الكتاب عن أبى عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوى المعروف بنفطويه قال: «أخبرنا بن حمدون قال تذاكرنا يومًا بحضرة المكتفى، فقال: فيكم من يحفظ فى نبيذ الدوشاب؟ فأنشدته قول ابن الرومى:
فقال المكتفى: قبحه الله ما أشرهه! لقد شوقنى فى هذا اليوم إلى شربه!».
وإنما استكثرنا من إيراد هذه الأخبار لتعلم أن اسمه كان مذكورا فى مجالس الخلفاء، وذكره فاشيًا على ألسنة ندمائهم — ولكنه على تصرفه فى كل فنون الشعر المعروفة، وإجادته فى جميع أبوابه، وكثرة ما سار عنه من ذلك، كان من الفاقة وحقارة الشأن وسقوط الجاه بحيث كان يستجدى من إخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصة، وله فى ذلك شعر كثير. فمن ذلك قوله لأبى جعفر النوبختى:
وقوله له أيضًا:
فهذا وما سبق من مثله خليق أن يريك مبلغ فاقته ورقة حاله وخصاصته، وإذا ذكرت أنه ربما لزم كسر بيته أيامًا لا يخرج فيها ولا يتصرف، وحوله صبية غرثى قد أخذتهم لوعةُ الجوع، يشربون على ريقة النفس وما ثملوا شرابهم بشىء، وهو يخشى أن يبرح بيته مخافة أن يفجأه ما لا يطيق احتماله، والناس لا يرحمون ضعفه ولا يرفقون به، ولا يكفون عن التضاحك منه والعبث به.. فمن هازل يتداعب به وتعيبه بمشيته، ومن لئيم يزعم أنه عنين ويرميه بأنه مخنث، ومن حاسد يعيب شعره ليهيجه وهو ينفسه عليه، وأنه ربما رق له جيرانه وحنوا عليه فبعثوا له بشبعة من طعام وشربة من ماء، وأنه كان يمدح أهل الثراء فلا يفيد سوى الرد، ويستصرخ ذوى الغنى واليسار فلا يغنون عنه قلامة ظفر — إذا ذكرت ذلك لم تستغرب قولنا فى مفتتح هذا الكلام إننا لا نعرف رجلًا أصابه ما أصاب ابن الرومى، ولا عظيمًا تهاون به الناس حيّا وميتًا إلا هو، على أنه لو لم يكن عظيمًا وكان من أجلاف عصره وهمجهم، لعجبنا كيف يجوع ويظمأ، ولاستغربنا كيف يخلو عصره من أهل المروءة والأريحية، فكيف وهو أشعر أهل زمانه والموفى على أقرانه؟
روى أبو إسحق الحصرى فى زهر الآداب قال: «قال على بن إبراهيم كاتب مسروق البلخى، كنت جالسًا بدارى فإذا حجارة سقطت بالقرب منى، فبادرت هاربًا وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة، فقال امرأة من دار ابن الرومى الشاعر قد تشوفت وقالت اتقوا الله فينا واسقونا جرة من ماء وإلا هلكنا فقد مات من عندنا عطشًا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة، أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرة وأتبعتها شيئًا من المأكول ثم عادت إلىّ فقالت: ذكرت المرأة (التى فى دار ابن الرومى) أن البيت مقفل عليها من ثلاثٍ بسبب طيرة ابن الرومى فتعجبت من حديثها».
على أن شعره حافل بالشكوى مما لقيه فى حياته من أذى الناس وصرف الأيام وعنت الليالى وإنكار حقه وفضله على الشعر، ولو نحن أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا إلى أن ننقل أكثر ديوانه.
يُقبل على الأدب فتعرض عنه الدنيا ويدبر عنه المال والنشب، إلا فى حيثما يفهم الناس وظيفة الأدب فهمها، ويكون نظام المجتمع بحيت يوفر لكل ذى كفاية أسباب الظهور والانتفاع بآلته. ولكن الأمر لسوء طالع ابن الرومى قد جاوز الإملاق والفاقة إلى ما هو شر من ذلك وأصعب.
قالوا: كان ابن الرومى مفرط الطيرة شديد الغلو فيها. وكان من عادته أن يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ. ثم يصير إلى الباب، والمفتاحُ معه،فيضع عينه على ثقب فى خشب الباب، فتقع عينه على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان (أى جاره) أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه وقال: لايفتح أحد الباب.
وفى هذا الأحدب يقول:
وقال على بن عبد الله بن المسيب: كان ابن الرومى يحتج للطيرة ويقول إن النبى ﷺ كان يحب الفأل وتكره الطيرة. أفتراه كان يتفاءل بالشىء ولا يتطير من ضده؟ ويقول إن النبى مرِّ برجل وهو يرحل ناقة ويقول: يا ملعونة! فقال: لا يصحبنا ملعون! وإن عليّا رضى الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر فى العقرب. ويزعم أن الطيرة موجودة فى الطباع قائمة فيها، وأن بعض الناس هى فى طباعهم أظهر منها فى بعض، وأن الأكثر فى الناس إذا لقى ما يكرهه قال: على وجه من أصبحت اليوم؟! «فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين (ومائتين) وقد أُهدى إلىّ عدة من جوارى القيان، وكانت فيهن صبية حولاء وعجوزٌ فى إحدى عينيها نكتة. فتطير من ذلك ولم يُظهر لى أمره. وأقام باقى يومه. فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لى من بعض السطوح فماتت، وجفاه القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) فجعل سبب ذلك المغنيتين».
وكان أبو الحسن على بن سليمان الأخفش، غلام أبى العباس المبرد، فى عصر ابن الرومى شابّا مترفًا، ومليحًا مستظرفًا، وكان يعبث به فيأتيه بسحر فيقرع الباب، فيقال له: من؟ فيقول: قولوا لأبى الحسن «يعنى ابن الرومى» «مرة بن حنظلة»! فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره.. وذلك كان سبب هجائه إياه.
ولابن الرومى فى الأخفش أفحاشٌ كثيرة مثبتة فى ديوانه. وكان أصحابه، غير الأخفش، يعبثون به أيضًا فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلًا ويمتنع من التصرف سائر يومه — وأرسل إليه بعض أصحابه يومًا بغلام حسن الصورة، اسمه حسن، فطرق الباب عليه فقال: من؟ قال حسن! فتفاءل به وخرج، وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها ورقتين كهيئة اللام ألف، ورأى تحتها نوى تمر، فتطير وقالى: هذا بشير بألّا تمر.. ورجع ولم يذهب معه.
وروى بعضهم قال: بعثت بخادم لى يعرفه وأمرته يجلس بإزائه، وكانت العين تميل إليه، وتقدمت إلى بعض أعوانى أن يدعو الجار الأحدب، فما حضر عندى أرسلت وراء غلامى لينهض إلى ابن الرومى ويستدعيه للحضور، فإنى لجالس ومعى الأحدب، إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسى ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد، ودخل ابن الرومى، فلما تخطى باب الصحن عثر فانقطع شسعُ نعله، فدخل مذعورًا — وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرًا يدل على تغير حال — فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه، فقلت له: يا أبا الحسن! أيكون شىء فى خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: قد لحقنى ما رأيت من العثرة لأنى فكرت أن به عاهة، وهى قطع أنثييه. قال برذعة: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط! قال: ومن هو؟ قلت: علىّ بن العباس. قال: الشاعر؟! قلت: نعم. فأقبل عليه وأنشده أبياتًا منها:
ثم قال أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومى لا يتطير من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره!
(وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومى على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومى كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئًا، ولما وجدوا من أحواله داعيًا إلى العجب، ولا باعثًا على التضاحك واللعب.. وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا نهتدى إلى بعض السر إذا لم نُوفق إليه كله.. نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورَها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلالَ الإبهام فكرُ مفكر.. تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حدّا نقف عنده، وغاية ننتهى إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب فى الظن إذا قال، وبالأرجح فى الرأى إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود، وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحدًا أنه سعى فخاب، وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعى الخطأ أكثر من دواعى الإصابة، إذ كانت الوسائل قليلة محدودة، والغايات لا آخر لها ولا نهاية.
على أنه مهما يكن من الأمر، فإن من الحقائق التى صححها القياس وأيدتها كل الدلائل فى هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعًا مظهران لشرٍّ واحد هو اختلال التوازن فى الجهاز العصبى. وقديمًا أدرك الناس ذلك، فقال العرب: ذكاء المرء محسوب عليه. وفطن أرسطاطاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من ايات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرَّق أفلاطون بين نوعين من الجنون — الجنون العقيم المعتاد، والجنون الذى ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء، وهذا ليس فى رأيه داءً أو شرّا بل هبة من الاَلهة — وأدرك «سنيكا» و«دريدن» ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ «ذلك المرض العقلى الذى نسميه العبقرية». وقال بسكال: «الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط» لأن حالات العقل متشابهة فى العبقرى والمجنون، وذلك أن ذهن العبقرى يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادى عنه، والمجنون فى كل ذلك قرينه وضريعه، كلاهما يرجع السبب فى أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك فى بعض نواحى الذهن، وليس الفرق فى درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب فى الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع فى الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس. وكثيرًا ما تصير العبقرية جنونًا أو ينقلب الجنون عبقرية. وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه، وإنما نقول إن الذى غلط الناس فيما مضى من الزمن، وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، هو حسبانهم أن العقل البشرى شىء غير محسوس وأنه جوهر روحانى متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء فى هذا المعنى إذا أراد التحقيق.
فأول ما يلفت النظر إليه من ذلك رثاؤه لأبنائه الذين رُزئهم واحدًا بعد واحد، وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التى يقول فيها:
وهذه القصيدة صريحة فى أن أبناءه كانوا ثلاثة، وأن محمدًا ابنه هذا، كان أوسطهم وأسبقهم إلى القبر فى حداثة السن وطراءة العمر، ولسنا ندرى أى داء أصابه فمضى سابقًا أجله، إذ ليس فى القصيدة ما يشير إلى شىء من ذلك وإن كان فيها وصف ذبوله ولكنه وصف شعرى لا يصح التعويل عليه.
وفى رثاء أحد الباقيين يقول:
وفى ثالت بنيه، هبة الله، يقول:
وليس يخفى أن فقدان أولاده جميعًا فى حدثانهم لا يدع مساغًا للشك فى اعتلاله واضطرابه وأنه لم يكن صحيحًا معافى فى بدنه.
ومما هو جدير بالنظر والتأمل فى شعر ابن الرومى لدلالته، فحشُ أهاجيه وإكثاره فيها من ذكر أعضاء التناسل ذكرًا لا نظنه ضربًا من التكلف لمجرد الذم والقدح ولا نحسبه شيئًا لا يستند إلى أصل. لأنه إذا كان هذا كذلك فكيف نؤول اتهام الناس له بالعنة تارة وبالتخنث تارة أخرى؟ وكيف نفسر موت أولاده على هذه الصورة؟ أليس البرهان من ذلك كله لائحا معرضا لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنًا لمن التمسه؟ وانظر أىّ باطلِ نتكلف إذا نحن زهدنا فى هذه الدلائل على وضوحها وجلائها؟ وأىَ جهل يركبنا إذا اثرنا الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها. وتعجبنى كلمة للعقاد فى شعور ابن الرومى بالعلاقة بين تبرج الأزهار وتبرج النساء، وإحساسه بالصلة بين محاسن الطبيعة ومحاسن المرأة، قال: «وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطرابا فى جهاز التناسل أهاج جميع أجزائه فهز خيوطها ونبه وشائجها القديمة المختلفة، ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو فى قلب الطبيعة». وهذا صحيح لأنه لا بد لذلك من سبب يحور إليه. ولو وقف الأمر عند بيت لقلنا معنى عنَّ له، ولكنه لا يزال يكرره فى حيثما سنحت له الفرصة فكأنه يريد أن يلفتنا إليه.
تأمل قوله:
وقولًه فى موضع اخر يصف الرياض:
وقوله من قصيدة فى وصف العنب:
وقوله:
وقوله:
هذا، وليس أقطع فى الدلالة على ضيق خلق ابن الرومى ونزق طبعه وقصر أناته، من أهاجيه هذه. والظاهر منها أنه كان يندفع فى الشتم والذم وبسط اللسان فى الناس لأهون سبب، ومن أجل أشياء لا تهيج الرجل السليم الرشيد، كأن يعيبه واحد بمشيته أو ينعى عليه صلعه، فيفور فائره ويمتلئ غيظًا على عائبه ويتناوله بكل قبيح ويلصق به كل سوءة شنعاء ومعرة دهماء. وفى ضيق الخلق وتوعره برهان على الاضطراب واختلال توازن الأعصاب.
ولا ريب فى أن الناس كانوا يتحككون به ويهيجونه لما يعلمون من ضيق حظيرته وسرعة غضبه، لأن الناس فى العادة لا يستثيرون بالدعابة إلا الطيّاش، لعلمهم أن الحليم الراسخ الوطأة لا تقلقه المجانةُ والمفاكهة. أو لست ترى الأطفال والصبيان فى الطرقات، هل يستفزون إلا المرهّق ومن يعلمون عنه الخفة والحدة وسرعة البادرة؟ ولقد كان أهلُ زمانه يعيبون شعره على إقرارهم بمزيته وحسنه، وإنشادهم له فى المجالس، وإملائه على طلاب الأدب فى حلقات الدروس، فهل تحسب أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا ليستثيروه ويضحكوا منه؟ ولقد روينا لك فيما أوردناه من أخبار ابن الرومى أن بعضهم قال: «كان ابن الرومى إذا فاجأه الناظر رأى منظرًا يدل على تغير الحال».. فهل بعد هذا شك فى مرض ابن الرومى واختلال أعصابه؟