ديوان ابن الرومى
(١) كلمة عامة تمهيدية
هذا الكتاب أصغر من عنوانه. اسمه «ديوان ابن الرومى»، وحقيقته أنه مختارات من شعره انتخبها شاب فاضل من أنصار المذهب الجديد فى الأدب، هو كامل أفندى كيلانى، وأهداها إلى روح والدته التى «فقد بفقدها أكبر مصدر من مصادر الحنان والعطف»، وجعلها ثلاثة أجزاء فى مجلد واحد، جملة صفحاته خمسمائة، فيها قريب من سبعة آلاف بيت. وصدَّرها بمقدمة رائعة وضعها صديقنا الأستاذ العقاد فى «عبقرية ابن الرومى» لم يدع فيها شاردةً ولا واردة، ولا ترك شيئًا لسواه يقوله، حتى صار قصارى غيره إذا كتب أن يترسمه ويفصل ما أجمل.
وهذه المختارات، فى ذاتها، خير ما كان ينتظر. وإن كانت على هذا مجموعة حيثما اتفق، ومسرودة على غير نسق مفهوم ونظام معلوم، ولم تكن وراءها فكرة ظاهرة أوغرض يطالعك، سوى حشد طائفة من الشعر! ولقد والله آلمنا، ونحن نتصفح الكتاب ونعبر ما فيه من المختارات، أن نرى ابن الرومى مقطَّع الأوصال مبعثر الأشلاء على هذه الصورة! ولعلنا مخطئون أو مبالغون فى إساءة الظن بالمختارات على العموم، وفى عدم الركون إليها والاعتماد عليها. ولكن ابن الرومى ليس كغيره من شعراء العرب، وما فى الوسع أن تقتطع له أبياتًا من هنا، وأخرى من ههنا، ثم تقول هذا هو ابن الرومى. كما لا يسعك أن تختار نخبًا من رواية لشكسبير مثلًا، وأن تزعمها بعد ذلك هملت أو الملك لير أو مكبثَ أو غير ذلك.. إنما كان هذا هكذا لأن ابن الرومى أقربُ إلى شعراء الغرب وبهم أشبه، ولأن البيت فى قصائده يندر أن يكون وحدةً قائمة بنفسها، مستقلة عما قبلها وبعدها إلا من حيت معانى النحو، كما هو فى قصائد العرب. وكثيرًا ما يشذ ويخالف أوضاع العرب فى اعتبار البيت كلامًا تامّا فى ذاته غير متعلق بما يليه على مقتضى أحكام اللغة.
ولسنا نطمع أن نضيف شيئًا إلى ما قاله صديقنا الأستاذ العقاد فى مقدمته الجامعة، فأنا من ذلك على يأس كبير، وإنه ليكون حسبنا أن نستطيع أن نصف هذا الشاعر، لا أن نحلله، لمن لا يعرفون عنه إلا اسمه، وإلا بضعة أبيات سارت على الرغم من خمول قائلها، وأن نحبب إليهم، ونغريهم بقراءته والإقبال على مطالعته. وابن الرومى، بعد، أحب شعراء العرب إلينا وأعزُّهم علينا، فليس أعذب ولا أشهى لدينا من أن نقضى ساعة معه ولو كل أسبوع.
وكأنّا بابن الرومى قد بدأ النحس يزايله! ففى بضعة أعوام طبع جزء من ديوانه وجمعت له مختارات يستحق جامعها وناشرها أطيب الثناء. وما بالقليل أن يفوز بذلك من خمل فى حياته خمولًا منقطع النظير فى تاريخ الآداب، مع وضوح حقه والإقرار له بالتفرد حتى فى زمانه، ومن خفى شأنه أكثر من عشرة قرون طويلات المدد! وناهيك برجل كان يسح بالشعر سحّا، ويملأ الدنيا بالرائع منه المتداول الذى ينشد فى مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، ويروى فى حلقات العلماء والأدباء، وهو مع ذلك يجوع ويظمأ ويعرى، ولا يجد من يسد خلته، ويستر فاقته، ثم يموت فيطوى معه ذكره وشعره، ويظل مغمورًا كل هذه القرون لا يعرف عنه حتى الخاصة أكثر مما ورد فى تراجم العرب، غفر الله لهم، من أن اسمه على بن العباس بن جريج أو جورجيوس — فإن فى اسم جده شكا واختلافًا!! — وأن ولادته كانت ببغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين فى موضع يعرف، أو كان يعرف، بالعقيقة ودرب الختلية فى دار بإزاء قصر لمولاء عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب! ثم كأنه لم يكن!!
أما كيف كان يعيش أو ماذا كان يصنع غير الشعر الذى يقولون «إنه كان أقل أدواته» فلا يدرى أحد! فليس أمامنا ما نعول عليه سوى شعره. ويؤخذ منه أنه كانت له ضيعة! نعم ضيعة مغلة أشار إليها فى قوله يعتذر لبعضهم من التخلف والانقطاع عنه:
غير أن الله لم يبارك له فيها ولا فى غلتها! كما هو ظاهر من الأبيات التى أوردناها. وكان إذا أخطأه الحريق الذى يتحيف ماله، لا يخطئه الجراد يأتى على زرعه كما يقول:
وكانت له دار غير التى مات فيها فغصبتها منه امرأة!! فكاد يجن! واستصرخ الوزير عبد الله بن سليمان بقصيدة يقول فيها:
يعنى بحكم قضائى نافذ أو بحيلة لطيفة. فيا له من مسكين!
ولم يكن مولاه هذا العيسى بن جعفر يوليه شيئًا من جاهه أو ماله فكثر عتاب ابن الرومى له، ومما قاله:
فلم يجده العتاب والتألف، وقضى أكثر عمره فى ضيق ليس أبلغ فى الدلالة على أثره فى نفسه وفى جسمه من قوله:
وكان يبلغ من فاقته ورقة حاله وهوان أمره، أن كان يدفع عن الأبواب بفظاظة، وإلى هذا يشير بقوله:
بل كان من الفقر بحيث كان يستجدى من إخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصة، وله فى ذلك شعر كثير ومنه قوله:
وربما فاز، ولكن بما لا يعد ثوبًا إلا على المجاز! كما يقول فى ثوب عتيق جاء مرة:
وكان يمدح أهل الثراء فلا يصيب إلا الرد ويستصرخ القادرين فلا يغنون عنه، بل لا يقرءون كلامه أحيانًا كما يدل على ذلك قوله لصاعد ابن مخلد:
ولم يكن أهله على ما يظهر أرفق به ولا أحسن رعاية له كما هو واضح من قوله:
وقوله من قصيدة أخرى وهو أوضح وأعم:
ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان بعض الشىء ولكن شيخنا كان أيضًا يتطير. وكان طياشًا وبه حماقة. أو إن شئت فقل إنه كان لطيف الشعور دقيق الحس عارفا قدر نفسه وأقدار غيره من معاصريه، فأورده ذلك موارد مرة، وكان ربما لزم بيته أيامًا لا يخرج ولا يتصرف، وحوله صبية ونساء جياع ظماء، مخافة أن يبرح الدار فيباغته ما لا قبل له باحتماله مما يتطير منه، وقد كان يتطير من كل شىء! والناس لا يدركهم عليه عطف، ولا تأخذهم بضعفه رحمة، ولا يصدهم إنصاف أو تقدير عن معابثته بما يكره وما يثقل وقعه عليه. فواحد يعيبه بمشيته ويزعمها مثل مشية المخنثين، كما فعل أخو «نضير» وكان ابن الرومى يريد أن يتزوج ابنته. وآخر يقدح فى شعره وهو يستجيده ليهيجه ويدفعه إلى الهجاء، وكان ذلك دأب الأخفش ووكده، وثالت يعيره ببغضه للقلانس والبرانس وإيثاره العمامة على خلاف أهل عصره. ورابع يستفزه بالإيماء إلى صلعته والتضاحك منها. وهو أحس بذلك كله من أن يستطيع الاحتمال والسكوت، حتى لقد كان فى شغل مضن من الرد على عائبيه ممن لا يخفى عليهم مكانه، ولا يقصدون إلا على استثارته ليركبوه بالمزاح.
وهكذا عاش ابن الرومى. فقر وغمط وحرب طاحنة الأرجاء بينه وبين مناجزيه به من الجادين والهازلين، ولم يكن ينقصه إلا أن يدس عليه الوزير أبو القاسم من يطعمه فطيرًا مسمومًا لتتم رواية الشؤم التى لا تزال لها ذيول على ما يظهر! فقد كتبت عنه منذ عشر سنين بضع مقالات فلم أكد أفرغ من الأولى أو الثانية حتى كسر رجلى ما لا يكسر! وشرح الشيخ شريف الجزء الأول من ديوانه فأحيل إلى المعاش! وطبع صاحب المكتبة التجارية هذه المختارات من شعره فهيضت ساقه! فعسانا حين نعود للكلام عليه لا تكون قد دقت عنقنا!
(٢) أصله
لم يكن ابن الرومى عربيّا ولا شبيهّا بالعرب وإن كانت العربية لغته التى لم يكن يعرف — أو التى لا نعلم أنه كان يعرف — سواها، ولقد ولد وشب وترعرع بين العباسيين ولابسهم وصار منهم «بقضاء من ختمت رسل الإله به» كما يقول، ولكنه لم يصر بذلك كالعرب، لا فى طبيعته ولا فى فنه ولا فى أساليب تفكيره، بل حتى ولا فى عاداته وأخلاقه. وقد ذهب بعض كتاب العرب إلى أنه سمى ابن الرومى لأنه كان جميلًا فى صباه، وأوردوا ذلك على أنه احتمال معقول وتعليل مقبول. وليس الأمر كذلك ولا هو يمكن أن يكون كما زعموا، وأحسب من يقول بذلك إنما يدل على أنه لم يقرأ شعر ابن الرومى بغير عينيه.. فإن الرجل لم يدع مجالًا للشك فى أنه رومى على الحقيقة لا على المجاز. ومن غريب ما يلاحظ المطلع على ديوان هذا الشعر، أنه ينمى نفسه إلى الروم، ويذكر فى أكثر من موضع واحد أنهم أصله، وإن كان جده لأمه فارسيا كما أن جده لأبيه رومى، وشاهدنا على ذلك قوله فى نونيته الشهيرة التى مطلعها:
ولكنه يدع الفرس قوم أمه ولا ينتسب إلا للروم أهل أبيه، حتى حين يفخر بمواليه من بنى العباس ويعتدهم أهله، مع أنه لم يكن يخفى عليه مقدار تغلغل الفرس فى الدولة العباسية وتغلب المدنية الفارسية عليها:
ويكرر ذلك حين يمدح الأخفش المعاصر له ويفضله على الأخفش القديم، ويذكر أنه غريب بين الاثنين وأنه لذلك بعيد عن المحاباة، وفى هذا يقول:
ويعاتب محمد بن عبد الله فيقول فى آخر القصيدة:
لا كأبى نواس الذى كان يخلط فى دعوته وينتسب مرة إلى النزارية، وينتمى مرة أخرى إلى اليمانية، وكان قبل ذلك يتعاجم فى شعره، وإنه ليعلم أن الفرس قد مضوا بأصله وأنهم أحق به إذا أراد أن يدعى لأحد. ويظهر أنه كان شديد الإحساس بروميته والشعور بغربته. والاثنان متلازمان. فتراه يزهو تارة ويباهى بأن اليوم أصله، كما هو ظاهر مما مر بك من كلامه. ويألم تارة أخرى أنه غريب بين العرب، وفى ظلهم، وأنه فقد بذلك وطنه. كما تتبين ذلك من قوله لبعضهم وكان قد بلغه أنه يحسده ويعيب شعره، ولعله الوحيد الذى فرق بين الجنسية الدينية والجنسية القومية وأحس الألم لفقدانه «الوطن»:
ولسنا نظن أحدًا سيقول إنه ما جاء بالأوطان إلا من أجل القافية! فليس ابن الرومى من تعييه القافية أو تضطره إلى غير ما يريد أن يقول.
وإنك لتقرأ شعره فيخيل إليك أنه يتناول الألفاظ ويقسرها قسرًا على أداء المعانى التى يقصد إلى تبيينها والعبارة عنها.
ومن أجل ذلك لم يكن يفخر بقومه كما فعل مهيار الديلمى — وهو فارسى الأصل — حين قال يعنى الفرس:
بل كان يقول حتى حين يمدح نفسه ويشيد بكرم أخلاقه:
والبيت الأخير هو الشاهد. وهو لفرط إحساسه بغربته دائم الالتفات إلى هذا المعنى. يمدح يحيى بن على المنجم فيقول فيه:
فكأنه يعنى نفسه بهذا البيت ويحتاط فى التعبير من أجلها ويصف حاله هو لا ممدوحه.
ويهجو إسماعيل بن بلبل فلا يرى إلا أن يشتهر بانتسابه إلى شيبان زورًا ويقول:
ويقول فى قصيدة أخرى مشنعًا:
•••
وبعد، فلأى غاية نأتى بهذه الشواهد ونستكثر منها؟ أكل ذلك لنقول إنه كان روميّا ولم يكن عربيّا؟ أو لم يكن يكفى أن نذكر اسمه، وأن نقول إنه كان مثله أجنبيا من الأمة التى شب وشاب بينها، ونطق بلسانها وحذق علومها، وتوفر على آدابها، واستظل بمدنيتها؟ وما قيمة ذلك؟ ألم يكن كغيره من الغرباء من مثل بشار بن برد ومروان بن أبى حفصة وأبى نواس ومهيار وابن المقفع وابن العميد والخوارزمى وبديع الزمان وأبى إسحاق الصابئ وأبى الفرج الأصبهانى وغيرهم ممن لا يكاد يأخذهم حصر؟ نقول نعم، كان كهؤلاء من غير الأمة التى نبت فيها، ولكنه يختلف عنهم — أو عن كثير منهم — ويباينهم بأنه احتفظ بطبيعة الجنس الذى انحدر منه، حتى صارت روميته هذه التى يتشبث بها ويعلنها، ولا يكتمها ولا يقشبها بالفارسية — مفتاح شعره ونفسه، وحتى لا سبيل إلى فهمه وتقديره بغير الالتفات إليها والتنبه لها. وإنه ليصلح أن يتخذه المرء شاهدًا على قوة الوراثة وفعلها، على الرغم من كل تأثير مناهض لها مضعف لفعلها. «فالرومية» كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد بحق: «هى أصل هذا الفن الذى اختلف به ابن الرومى عن عامة الشعراء فى هذه اللغة، وهى السمة التى أفردته بينهم إفراد الطائر الصادح فى غير سربه وربما بذَّهم فى أشياء، وقصر عنهم فى أشياء غيرها، ولكنه لا يشبهم ولا يشبهونه فى تفوقه وتقصيره على السواء، فلهذا انقطع ما بينه وبينهم من نسب الأدب وجرثومة الفن، لا لأنه أفضل منهم جميعًا ولا لأنهم جميعًا أفضل منه».
وسنحاول فى المقال الآتى أن ندير هذا «المفتاح» فى القفل، وإنها لفرصة نغتنمها لنستأنف ما حاولناه منذ عشر سنين من تعريف الناس بهذا الشاعر الفذ، فلعلنا نوفق فإن المهمة شاقة، وحبل الكلام طويل، وشعبه كثيرة.
(٣) شخصيته
(أ)
عاش ابن الرومى، ما عاش، ساخطًا على الحياة ناقمًا على العصر وأبنائه، مضطغنًا على الزمن وصروفه، طافح النفس بالمرارة والألم إلى حد لم يعرفه أحد من الشعراء المعاصرين. وشعره الذى قيد فيه كل حالة من حالات نفسه، وأودعه ما استطاع من التفاتات ذهنه، حافل بالشواهد على ذلك. وعذره من هذا التمرد عذْر كل حساس مصقول النفس مثقف العقل، تصطدم عنده الآراءُ والعقائد بمظاهر الحياة وواقع الحال. وليس أقسى من أثر ذلك فى النفس ولا أوجع. ولسنا نحتاج أن نرجع إلى عصره بصفة خاصة. فإن الحياة كانت قديمًا وما زالت إلى الساعة، وستظل إلى آخر الزمن، إن كان له اخر، صراعًا دائمًا وجهادًا متواصلًا. وما نظن الحياة الإنسانية خلت قط من بواعث السخط ودواعى التذمر. وما كان المرء ليهتدى إلى الشعور بنفسه ولينطق بقوله «أنا» لولا ذلك، ولولا إحساسه إلى جانب هذا — أو قبله — بحدود قدرته، وباحتكاكه بما يجاوز هذه الدائرة، ويحدد هذا المجال، وقد يعين الجهل أو البلادة أو كلاهما على الرضا وإشعار النفس الراحة الحيوانية، فلا يرى المرء فيما يحيط به ويضيق عليه، إلا عدلًا مقنعًا وضرورة لا مهرب منها، ولا خير فى التبرم بها. وليس كذلك المثقف الذكى المشاعر الذى كأنما يحس الحياة بأعصابه العارية. مثل هذا لا يسع طوقه أن يغمض عينيه وينيم أعصابه حتى لا يرى ولا يحس ما فى الدنيا من الظلم والغبن والخلط والفساد والتناقض. ومهما كانت وجوهُ الاختلاف ومواضع التباين بين عصرنا هذا، مثلًا، وعصر ابن الرومى، فإن مساوئ الحياة ومتاعبها واحدة. وما كان سخط ابن الرومى على مظهر عارض أو عيب طارئ، فنحتاج إلى أن نصف هنا ما كان عليه زمانه، ولكنه كان على ما يخلو منه عصر ولا يبرأ من مثله زمن.
ومن الذى يقرأ قوله مثلًا:
نقول من الذى يقرأ هذه الأبيات — وإن كان ما حذفناه أضعاف ما أثبتناه — ولا يحس ما فيها من الصدق، ولا يذكر بها كثيرين ممن يرفلون فى حلل السعادة، وهم لم يمدوا إليها يدًا، ولا سدت بهم فى سبيل اكتسابها قدم ولا استحقوها إلا بأن الحظ أورثهم إياها، وإن لم يكونوا خير الناس ولا أكفأهم ولا أفضلهم؟
وعسى من يعترض فيقول إن هذا أشبه بأن يكون حسدًا لا سخطًا على جور الحظ، ودليل ذلك قوله بعد أبيات:
نقول كلا! ليس هذا فى شىء من الحسد. وإنما الذى يغلّط المعترض أن ابن الورمى يعرف قدر نفسه ولا يخفى عليه مكانه من الفضل وا لاستحقاق، وأن إحساسه بثقل القيود المحيطة به، وشعوره بعرفها وحزها، وإدراكه لمبلغ تعويقها، كل هذا قد أبرز «أنا» فى شعره وفى حياته إلى المكان الأول من الواعية. ونظن أننا فى غنى عن الإطالة فى تبيين أن الذاتية إنما يُبرزها إدراكُ حدودها والتصادمُ بما هو خارج عنها، إذا صح هذا التعبير. ومن الجلى أن الرجل الذى تتدفق حياته فى مجرى لين لا يعوقه شىء، يختلف إحساسه بذاتيته عمن تعترضه العقبات فى كل خطوة.
وقد كان ابن الرومى يريد أن يحيا حياة فنية: أى حياة تكون أقرب إلى مُثُله العليا التى كان ينشدها، وأخلق بما يفهمه من وظيفة الشاعر وأليق بمنزلته، كما هى فى نظره، فبغى ذلك وعجز عنه ولم يظفر به، وعزَّه أن يكيف نفسه على مقتضى الظروف والأحوال التى تحيط به، ومن هنا حفل شعره بذكر نفسه، واكتظ بالمقابلة بين الرغبة والإمكان، وبين الأمل والواقع.
ونرجع إلى القصيدة التى سقنا منها هذه الأبيات، فنقول إن ابن الرومى بعد أن أفاض فى صفة هؤلاء الناس وما ينعمون به استطرد إلى ذكر رجل راة أحق بهذه النعم الجزيلة منهم وأسِف لما هو فيه ولعدم انتفاعه بفضله وعلمه، فقال:
وليس ابن عمار هذا الذى عدا عليه الدهر وسلبه كل ما كسا الناس إلا اللحم والجلد — نقول ليس هو بالذى كتبت إليه القصيدة بل ذاك غيره. فليس بابن الرومى حسد، وإنما هو سخط على ظلم الحظوظ ويؤكد ذلك، وإنه لا يقصد إلّا إظهار ما فى الدنيا من التخليط والغبن، إنحاؤه بعد ذلك فى القصيدة عينها على الشرط وهم الأعوان الذين يوكل إليهم حفظ الأمن:
ولا ينبغى أن يفوت القارئ وهو يقرأ هذه القصيدة وغيرها من مثيلاتها التى قد تتخذ دليلًا على ما انطوت عليه نفس ابن الرومى من الحسد أو الحقد، نقول لا ينبغى أن يفوته أن الرجل كان دقيق الحس لطيف الشعور، وأنه كان من قوة الخيال بحيت يستطيع أن يحضر لذهنه ويتمثل أمامه ما يتخيله، ويجسده لنفسه كأنه واقع يحس ويلمس. ومن هنا تراه إذا وصف أفاض واسترسل، وتوخى الاستقصاء والتصفية ولم يدع شيئًا. ودفعه إلى الاسترسال وأغراه به، لا الحسد ولكن لطفُ الحس الذى يتناول أدق الأشياء وأخفاها، ومراحُ الخيال القوى الذى يجسد الصورة وُيشعر صاحبه اللذة والمتعة المستفادتين من استقصاء الجوانب وإتمام النواحى.
وقوة الخيال تغرى أبدًا بمثل هذا وتبعث عليه. وقد يبدأ المرء غير معتزم إطالةً، حتى إذا استولت عليه قوةُ ما يتخيل، سحره ذلك وتملكته روح الفن، فالدفع على غير قصد ومضى ولم يكن فى حسبانه أن يمضى …
فليس ما به حسدًا ولكنه قوة الخيال ودقة الشعور وبروز الإحساس بالنفس، ومع ذلك هبه كان حسدًا وحقدًا، أو ما شئت فسمه، فماذا إذن؟ أليست هذه طبيعة الناس؟ ألسنا قد خلقنا الله كذلك؟ فأى بأس فى أن نكون كما برئنا؟
«وأين عن طينتنا نعدى؟»، كما يقول ابن الرومى. ونرد المسألة إلى أصلها الأول، فنقول إنه لم يستطع أن يتكيف على مقتضى الأحوال التى يعيش فى ظلها كما استطاع ويستطيع أكثر الناس. وأكثرهم بلا مراء أوساط عاديون، ومرد هذا العجز إلى حالة الأعصاب، ولا يخفى أن الدافع إلى التكيف هو الرغبة فى سد حاجة عضوية أو اتقاء متعبة. ومعنى هذا بعبارة أخرى، أن المرء يسعى إلى التكيف ليحس الارتياج ولينفى أو ينقص المتاعب. فإذا لم يستطع ذلك ولم يقو عليه ولم ينل ما يناله مَنْ وَسِعه ذلك من الارتياح، ولم يتق ما اتقاه غيره من الإحساسات المنغصة. ولا مفرَّ له بعد ذلك من أن تثقل وطأة الحياة والناس عليه، ومن هنا يأتى سخطه على الحياة، ونقمته على المجتمع، وتبرمه بأنظمته وأحواله، وقلة صبره على ما يسوءه مما يحتمله الأكثرون أو لا يلتفتون إليه، وسرعة تهيجه وغضبه على معاشريه والمحتكين به والذين يلتقى بهم فى طريقه. ومن هنا أيضًا تنشأ الأوهام وتصير عنده حقائق ثابتة لا سبيل إلى طردها أو التفطن إلى أنها ليست إلا مما يحدث فى جوفه ويجرى فى نفسه لا مما تحدثه إرادة خارجية. ومن هنا كذلك تتولد فكرة الاضطهاد المتوهم والإشفاق من العالم الخارجى ومن ساكنيه وتوقع الأذى من ناحيتهما. وهذا كله ظاهر ينطق به شعر ابن الرومى.
(ب)
كان ابن الرومى فى صباه فتى غرانقًا، كما يقولون، وسيم الطلعة، مقدود القوام قدّ السيف، كما يقول:
خفيفَ الروح أنيس المحضر، مزهوّا بملاحته مغرورًا بشبابه، مدفوعًا بحرارته وبقوة إحساسه إلى اغتنام فرصة الحياة، فلبس هذا البرد «لبسَ ابتذال» كما يقول، وأخلقه ولم يصنه ولا ادّخر منه شيئًا للكبر، وفعل بصباه فوق ما يفعل الناس فى العادة. ولعل الذى أعجزه عن القصد وعدل به عن الاعتدال، وقدةُ إحساسه مع الشباب من جهة، ووسامته من جهة أخرى، ولم يكن ابن الرومى يخفى عليه أنه جميل، وأن جماله يصبى النساء كما يصبيه حسنهن، ولا كان يتحرج أن يذكر ذلك فى شعره ويباهى به، حتى بعد أن شِينت ديباجته، وتقوست قناته، فتراه مثلًا يقول وهو يستسقى عهد الشبيبة ويتلهف عليها:
وقد أورده ذلك ما يورد، فاغتال اللعبُ بأول الدهر شِرَّته «بأخرى حقود، والجرائم تحقد» وتضعضع كبانه ودب الكلال فى عظامه وتوكأ على العصا:
وفقد شبابه بسرعة ولم يفقد لباناته وأوطاره فصار كما يقول:
وناهيك بهذا من عذاب! وقد يحب أن يتعزى فيقول:
ولكنه لم يستطع عزاءً، ورزح شيئًا فشيئًا على مرّ الليالى، وانتابته الأسقام واصطلحت عليه العلل والأمراض، وصار كما يقول:
ولم تسلم حتى عيناه، فقد كانتا كثيرًا ما ترمدان، وفى ذلك يقول لعبيد الله بن عبد الله:
يعنى بالملحود القبر، وقد لازمته علته هذه شهرًا وتكررت ثم انتهى الأمر به إلى ضعف البصر كما يقول فى دالية له يندب فيها شبابه:
وله فى قصيدة أخرى:
وأخلق به أن يضعفه ويصيره إلى هذا المصير استهتارُه فى صدر أيامه، وإدمانه القراءة والاطلاع، فقد أحاط ابن الرومى بكل ما يحاط به من العلوم والمعارف والآداب فى عصره، كما يدل على ذلك ما فى شعره من الإشارات التى يحتاج المرء فى فهمها إلى العلم بتاريخ العرب والفرس جميعًا والوقوف على كل ما كان لهم فى كل باب. وقد ذكرنا لك أن أحد مؤرخى العرب قال عنه إن الشعر كان أقل أدواته، ويقول ابن الرومى نفسه للقاسم بن عبيد الله:
وليس بغريب بعد ذلك ألّا تسلم أعصابه، وأن تضطرب ويختل توازنها. ومهما يكن من الأمر فإن من المحقق أنه لم يكن سليم الأعصاب، وأن جهازه العصبى كله كان غير منتظم. يدل على ذلك موتُ أبنائه الثلاثة واحدًا بعد واحد، وفى غير السن التى يكون فيها الإهمال من أسباب الوفاة، ومراثيه لهم، وبخاصة داليته فى رثاء أوسطهم، لا يفوقها شىء فى لغة العرب أو غيرها من اللغات التى اطلعنا على آدابها. وقد كان إلى جانب ذلك أحمق طياشًا سريع الغضب، وكان إحساسه الجنسى حادّا ليس فيه شىء من الاعتدال البته، وهنا لا يسعنا بكرهنا إلا أن نذكر أن معاصريه كانوا يستفزونه بقولهم عنه إنه عنين، وكانت ثائرته تثور لذلك فيهجوهم أفحش الهجاء وأقذعه، وينكر التهمة، ويعنى بدفعها، ولكنه مع ذلك قال وهو يتحرق على شبيبته:
والبيت الأخير هو الشاهد. والاعتراف فيه صريح لا يحتاج إلى تعليق، فكأن ما قيل عنه حق، أو هو إلى الحق أقرب وبه أشبه. ثم لا تنس أنه فى هجائه قلما يفوته أن يبسط لسانه تسطًا شنيعًا فى أعراض من يهجوهم من الرجال والنساء أحيائهم والأموات.
على أنه ليس أقطع فى الدلالة على اضطراب أعصابه من طيرته. وكان مفرطًا فيها، وبلغ من غلوه أنه كان كلما أراد الخروج من البيت «يتعوَّذ» بعد أن يلبس ثيابه ثمِ يمضى إلى الباب وفى يده المفتاح، ولكنه لا يديره فيه، بل ينظر أولَا من ثقب هناك فى خشب الباب لأن له جارًا أحدب يتطير من رؤيته ويخشبى أن يلقاه، فإذا رآه من الثقب عاد أدراجه، وخلع ثيابه، وأقام فى بيته لا يبرحه، ولعل حاجته إلى الخروج شديدة، وكثيرًا ما كان يصبر على الجوع والظمأ هو ومن معه من الأولاد والنساء ويغلق الأبواب عليهم، ويؤثر ذلك على الخروج والتصرف بعد أن رأى أو سمع ما يتطير منه. وقد وصف جاره الأحدب أبدع وصف، أو رسمه على الحقيقة، فقال:
وكان إخوانه يعرفون ذلك منه ويعابثونه، فيبعثون إليه من يقرع بابه فإذا قيل له من؟ قال: «مرة بن حنظلة» فيتشاءم ويستعيذ بالله ويقيم فى بيته لا يبرحه. وكان على بن سليمان الأخفش أجرأ الناس عليه بذلك. وبلغ من تطيره أنه كان يقلب الأسماء فيقول مثلًا «حسن مقلوبة على نحس. ويتشاءم إذا رأى نوى تمر فى الطريق، ويقول إن النوى الفراق، وإن هذا يشير بأن لا تمر. وإذا أصابه هو أو سواه شىء، عزاه إلى أمر من هذا القبيل. وحدث مرة أن صاحبًا له بعث إليه بغلام جميل يعرفه ابن الرومى ويطمئن إليه فجاء به فلما تخطى باب الصحن فى دار صديقه عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعورًا وعلل هذه العثرة بأن الغلام به عاهة وهى قطع أنثييه. وأقام اخر مهرجانا وكان من بين الجوارى فى ذلك اليوم صبية حولاء وأخرى فى عينها نكتة، فتطير ابن الرومى. ثم إنه حدث بعد مدة أن سقطت ابنة الرجل من بعض السطوح فماتت، وأنْ جفا القاسمُ بن عبيد الله ابنَ الرومى فرد هاتين المصيبتين إلى الجاريتين، وكتب بذلك إلى والد الفتاة يقول:
وأخذ فى هذه القصيدة يثبت أن الطيرة معقولة، ويدفع قول من قال إن النبى نهى عنها:
وهجا مرة كاتبا اسمه أبو طالب فحذر الناس من شؤمه:
وكان ينفى عن نفسه أنه نحس ويهجو من يزعمه كذلك كما قال فى ابن موسى:
ويقول عن نفسه إنه ميمون مبارك، كما فعل فى همزية طويلة وجّه بها إلى القاسم بن عبيد الله الوزير:
إلى أن يقول مخاطبًا القاسم:
ولقد طلب إليه فى هذه القصيدة أن يتخذه «عوذة» لمجلسه فقال:
ويقول فى بائية له إنه يخاف:
ولو وقف الأمر عند حد التطير لهان بعض الشىء، ولكنه كان يكابد ما هو أدهى. ذلك أنه كان مصابًا بتوهم الاضطهاد واقعا عليه من الناس ومن الطبيعة نفسها. فأما من الناس فلا نحتاج إلى أن نورد من شعره شيئًا، فقد عرف القراء أنه حافل بما ينم على ذلك. وأما من الطبيعة فقد يكون مما له دلالة، قوله فى يائيته التى مدح بها أحمد بن ثوابة:
ولعل ذلك راجع على اقتداره على التشخيص وإلباس المعانى صورَ الأحياء، ولكنا نعود فنسأل: لماذا يعد نفسه مقصودًا بالذات؟
(جـ)
الطفل، إلى حد كبير، صورة مصغرة من الجنس الإنسانى يمر به، باختصار، ما مرّ بجنسه من الأطوار، وينتقل شيئاً فشيئًا من الذاتية غير المدركة، إلى الذاتية المدركة، ثم إلى التفطن لما هو خارج عنها. أول ما يحسه هو ما يجرى فى جوفه، كما تنم على ذلك حركاته التى يسعه أن يقوم بها، وصيحاته — وهى أيضًا حركات عضلية — وكما يدل على ذلك ما يبديه من الشعور بالحالات العامة من مثل الجوع والظمأ وما إليهما. هذا هو الطور الأول، وهو طور ليس فيه وعى. فلا المخ يهيمن على المراكز الدنيا، ولا ما يتولاء الحس يمكن ترتيبه وتوليد فكرة منه، ولا للإرادة دخل فى الحركات.
ثم يأتى طور آخر تقوى فيه المراكز العليا على الأيام، فيعنى الطفل بما يأخذه حسه ويكوّن من ذلك فكرة إلى حد ما، وتصدر عنه حركات يبغى بها غاية. وهذا الدور هو مولد الإرادة، وبه يرتبط الشعور بالذاتية والتنبه إلى أنه فرد. غير أنه حتى فى هذا الدور تظل واعيتُه غاصةً على الأكثر بحالات نفسه، ويبقى هو أكثر اشتغالًا بما يجرى فى جوفه منه بالعلم الخارجى. فهو مثال بارزٌ للأنانية إذ كان لا يكترث إلا لما له اتصال مباشر بنفسه وحوائجه وميوله.
ثم يترقى فينضج رأيه فى علاقته بغيره وبالطبيعة، ويتزن إحساسه بذلك، وتتضاءل عنايته بما يجرى فى كيانه العضوى، إلا إذا ألحت عليه ضرورة، ويعظم التفاته إلى ما يتناوله حسه، فتتراجع ذاتيته إلى ما وراء ما عداها، وتملأ صورة العالم الخارجى أكثر جوانب الواعية. ويصبح الطفل رجلًا من الأوساط العاديين الذين هم السواد الأعظم من الناس الذين تتمثل فيهم أسمى درجات الذاتية باشتمالها على ما عداها، أى بإدراك العالم، ويقهر الأنانية، أى بالانتقال إلى ما يسمونه «الألترويزم» وهو الاهتمام بالغير بدافع من العطف أو سواه مما يجرى مجراه، لا رضاء لحاجة جسمية ملحًة، ولا إشباعًا لعضو من جوع وقتى، كما هو الشأن فى الجوع وفى الغريزة التناسلية ومن الواضح أنه لا سبيل إلى الحياة المدنية العادية بغير ذلك أى بغير الألترويزم. وكيف تكون الحياة الإنسانية إذا كان الناس لا يستطيعون أن يحضروا لأنفسهم إحساسات سواهم وأن يمثلوها لخواطرهم أيشعر بالعطف من لا يسعه أن يتصور آلام الناس؟ أيكترث للناس مخلوقٌ لا يقوى على تخيل الأثر الذى يحدثه ما يعمل أو ما يُغفل أن يعمل؟ — هذا ولا بد للمرء أن يدفع عن نفسه سوءَ فعل قوات الطبيعة، وأن يستخدمها لخيره ولفائدته، وذلك ما لا سبيل اليه ما لم يعرف هذه القواتِ معرفتها، وما لم يستطع أن يتصور فعلها. وهذا كله يستوجب من المرء أن يكون أكثر التفاتا إلى ما عداه. وذلك مظهر الرجل العادى فى الأغلب والأعم. عنايته بما يقع فى نفسه من الخارج، أشدُّ وأعظم استغراقًا له من عنايته بما يأتى من ناحية نفسه، وواعيته أغص بصور العالم الخارجى منها بنشاط كيانه وأعضائه، وليس له من الذاتية أكثر من القدر اللازم للاحتفاظ بفرديته. وليس كذلك الرجل الشاذ الذى يخلق على غير طراز الأوساط، والذى يظل طولَ عمره أشبه بالطفل من حيت علاقة الذاتية بما عداها. ومن هنا تكون المبالغة فى تقدير العمل الشخصى والغلوُّ فى أهميته. وما من شك مثلًا فى أن الأدب من لوازم الحياة الإنسانية، ولكن تاريخ العالم لا يدور على محوره وحده، وهب الأمر كذلك فهو على التحقيق ليس رهنًا بشعر شاعر واحد معين. ولا ريب فى أن كل امرئ يعتز بعمله ويكبره، ولكن الفرق بين الرجل العادى وبين الشاذ، هو أن الأول لا يغالى بعمله ولا يعدو به قدره، وأن الثانى يجاوز الحد المعقول، ولا يستطيع أن يتصور أن واحدًا من الناس قد يخالفه فى ذلك ولا يرى رأيه فيه، فإن فعل، فهو خصم وعدو.
وقد كان ابن الرومى لسوء حظه — أو لحسنه ولحسن حظنا على الأصح — واحدًا من هؤلاء الشواذ. فنه الشعر. فالشعر عنده أحق ما فى الحياة بالعناية والإكبار، وقائله أولى الناس بأن توفر له أسباب الحياة التى يتطلبها فنه. وهو (ابن الرومى) بصفة خاصة أحق مخلوق أو شاعر بذلك، فمن حقه على الناس أن يرزقوه إذا لم يستخدموه:
وهى صرخة مؤلمة! — ثم يجب بعد ذلك، أى بعد أن يوفر له رزقه ولو من غير طريق الاكتساب، أن يمكن من السماع لأن أذنه حساسة واعية تحن إلى السماع الجميل، ومن إرضاء حواسه الأخرى أيضًا لأنها قوية مُلحة فى طلب الإرضاء:
ولماذا:
وليس هذا، على صحته بالسبب الموجب على القاسم أن يجعله أدنى جلسائه! لأن القاسم قد يكون كهؤلاء الجفاة الذين لا يميزون بين الضوضاء والغناء الجيد، وقد لا يحب أن يؤلم نفسه بحضور من هو أفطن منه وأدق حسّا.
وقد يحتاج إلى أن يتزوج فيخطب لنفسه فتإة ويعين يوم الزفاف فيطالب صديقًا له بأن يعينه على زفافها:
وما ذنب صاحبه إبراهيم هذا؟ قال لأنى:
نقول نعم جائز! وقد كانت له أرض كما قلنا وكان عليه أن يؤدى عنها الخراج، فكتب إلى وهب بن سليمان يستعفيه من ذلك:
ولكن غيره قد يستعفون مثله، فماذا يكون العمل؟
وهكذا. فما ثم داع للإطالة فإنه هو القائل:
كذلك لم يكن بينه وبين الناس ما ينبغى من التعاطف بل حتى ما يجعل الحياة ممكنة. وقد لا يكون هذا ذنبه إلا من ناحية أعصابه المضطربة، وذلك ما لا حيلة له فيه. أما الناس فواضح من شعره أنهم لم يكونوا يقدرون حاجات نفسه، أو يدركون مبلغ إلحاحها عليه، وعذره فيها واضطراره إليها، فلم يستقم الأمر بينه وبينهم. ومهما يكن من الأمر فهذا هو الواقع على كل حال. وما أكثر ما ترى فى شعره مثل قوله أو قريبًا منه:
أو قوله:
فما ظنك بغير الثقاة؟ وهذا يدعونا إلى الكلام على هجاء ابن الرومى.
(٤) السخر
(أ)
كلمة فى السخر أولًا: ما هو السخر، إذا ذهبنا نعتبره من فنون الأدب؟ إن هذه الوجهة هى — بالبداهة — كل ما يعنينا. وهو بهذا الاعتبار، العبارة — بما يناسب ذلك من الكلام — عما يثيره المضحك أو غير اللائق، من الشعور بالتسلى أو التقزز، على أن تكون الفكاهة عنصرَّا بارزًا والكلام مفرغًا فى قالب أدبى.
ولسنا نظن أننا أحطنا فى هذا التعريف بكل ما ينبغى أن يُحاط به، أو أقمنا كل المعالم والحدود. ولكنه على هذا كاف فى رأينا للدلالة على المراد، فهو حسبنا إلى مدى بعيد. فالشاعر حين يسخر، يتناول بُعد ما بين الأشياء والطبيعة، ويركض فى حلبة يتقابل عند طرفيها الواقع من ناحية ومُثُلُ الكمال من ناحية أخرى. وقد يفعل ذلك جادّا أو متفكها مداعبًا، أى أنه قد يستوحى إرادته ومشاعره أو يستملى عقله. فإن كانت الأولى فهو هاج منتقم، وإن كانت الثانية فهو ساخر يركب ما بدا له بالدعابة. وإلى هنا لا يكون هذا أو ذاك أدبًا أو من الأدب فى شىء.
وعسى من يخونه الصبر فيسأل: وكيف يكون هذا كذلك؟ أتريد أن تُخرج من الأدب كلَّ ما قاله العرب مثلًا فى باب الهجاء والتهكم؟ ألا يُعَدّ من الشعر ما نظمه فى هذه المعانى جريرٌ والفرزدق أو دعبل وبشار وابن الرومى والمتنبى مثلًا؟ إذًا فماذا أبقيت؟ نقول: كلا يا سيدى القارئ! هوِّن على نفسك! فما نقصد إلى شىء مما قام فى وهمك. وما أردنا سوى أن نقول إن الشعر ليس أداةَ انتقام ولا هو عبثُ يتلهى به الفارغون من قالته وقرائه. ومن الصعب على المرء ألّا يفسدَ الصورةَ الشعرية حين يهجو جادّا مستطيلًا، وألّا يفجع الشعرَ فى حرية الحركة، وهى من أغلى ما فيه ومن ألزم لوازمه. وهو حين يتفكه كثيرًا ما يخطئه روح الشعرَ وتذاد ألحاظه عن اللانهاية.. فالأمر معضل كما ترى فكيف نشير؟ نشير يا سيدى القارئ بهذا: بأن تخلع فى الحالة الأولى على كلامك خلعة من الجلال، وبأن تُضفى عليه فى الحالة الثانية حلة من الجمال.
وأحسبك ستقول:
فنقول أى نعم والله ياصاحبى! ولكن المسألة أبسط مما نظن فلا ترع! وما عليك إلا أن تنفى عن ذاكرتك — إذا استطعت — ما فيها من «ضوضاء» الهجاء القارص والطعن المقذع، وما كوّنته على أثر هذه الجلبة من الرأى الذى لعله عنَّ لك بسوء الاتفاق. ثم هلمَّ نتفاهم: وما أيسر ذلك إذا أخليت رأسك من هذه الضوضاء، وتفضلت فتناولت رأيك ووضعته إلى جانبك لحظة. وفى وسعك أن ترده إلى مكانه من دماغك إذا لم يعجبك كلامنا!
نحن متفقان — فيما أظن — على أن السخر على العموم مبعثه مقابلة الواقع باعتبار ما فيه من النقص، بصورة الكمال باعتبارها أسمى الحالات التى ينبغى أن يكون عليها الواقع. كثيرًا ما تكون صورةُ هذا الكمال غامضةً ملتاثة، بل لعلها لا تعدو هذا الغموض أبدًا، ولا تخلص من ظلامه قط إلى نور الوضوج والبيان. وعلى أنه يكفى الإحساسُ العام بها؟ ولما كان المرء قلما يتهيأ له — أو لا يتهيأ له قط — أن يتمثل صورَ الكمال واضحة مشرقة، فأكثر ما يسعه هو أن يلفتنا إليها ويوقظ فى نفوسنا مثل إحساسه العام بها. وهذا هو ما ينبغى أن يجعله وكده: أى أن ينبه فينا هذا الإحساس الذى لا يستطيع أن يصوره لنا على وجه الدقة. والى هنا نرى أن كلامنا أوضح من أن نحتاج معه إلى إفاضة فلنخط خطوة أخرى لها أيضًا ما بعدها.
ينفر المرء من شىء واقع أو يتقزز أويشمئز منه أو ما شئت غير ذلك من هذه المترادفات التى لا أحسن أن أرصها رصّا. فتثور عليه نفسه. ولكن لماذا؟ الآن الشىء فى ذاته، ومن حيت هو، من شأنه أن يبعث فى النفس الإحساس بالتقزز ويثيرها عليه؟! لا نحسب أحدًا سيذهب إلى ذلك. وشبيه بهذا أن يقول قائل إن كلمةً معينة من الكلمات رديئة، وإن حروفها التى تتألف منها ثقيلة بغيضة، وإنها كيفما كانت، وفى أى كلام وردت، لا تكون إلا قبيحة كريهة الورود على الأذن — وهو ما لا نظن عاقلا يقول بمثله. فالشىء فى ذاته لا يبعث على سخط أو رضا، ولا يكون غرضًا لذم أو حمد، وإنما يكون هذا أو ذاك حين تقيسه إلى المثل العليا، وتجريه على صورها، وتقرنه بها.
وهنا محل التنبيه إلى خطأ كثيرًا ما يؤدى إلى الخلط. ذلك أن المرء قد تلجّ به حاجة من حاجات جسمه أو نفسه. ويلقى شيئًا مما هو كائنٌ، عقبةً فى سبيل إرضائها فيسخط، ولكن لا على العراقبل التى تأخذ على رغبته مذهبها، بل على الجماعة، وربما تجاوزها إلى الجنس الإنسانى كله، وإلى الحياة على الإطلاق، لما يتعلق به وهمه من أن مصادر هذا الإحساس عامة، ولما يعزوه إليه من البواعث الأدبية السامية. وهذا هو دأب الضعاف والمتخلفين. على أن غيرهم قد لا يسلمون من هذا الخلط، لأن القدرة على تحريك النفوس تخدعهم وتغرّهم. ومهما يكن من الأمر فإن هناك فرقًا بين أن يؤثر الشاعر بإهاجة العواطف وبترك القلب تستغرقه الإحساسات المؤلمة، وبين أن يثير فى النفس الإحساس بالاستقلال الأدبى إحساسًا يبقى العقلُ حرّا فى اللجاجة فيه على الرغم من الاهتياج. ولا عبرة بسمو الموضوع أو ضعته، بضخامته أو ضؤولته، وإنما العبرة بالقاعدة التى يضع الشاعر عليها الأمرَ الواقع، وبقدرته على تهيئة النفوس لقبول ما يُلقى إليها وينفث فيها، وبالمنزلة التى يشرف منها على غرضه. وما دامت هذه ساميةً رفيعة فلا اعتداد بعد ذلك بالموضع. وبعبارة أخرى يكفى أن يكون لنظرة الشاعر حظّ كبير من الجلال والسمو. ومن العسير التمثيل لذلك من الشعر العربى، ولكنا مع ذلك نحيل القارئ على جيمية ابن الرومى التى قالها لما قُتل يحيى بن عمر بن حسين بن يزيد بن على، ومطلعها:
وفيها يصف طغيان العباسيين وضلالهم فى الفتك بالعلويين واستهتاكهم وضعفهم إلى حدٍّ استباح لنفسه معه أن يقول «لرجالهم»:
فإنه فى هذه القصيدة يُشرف على ضعةٍ من مرقب عال يرفع إليه القارئ بقوة روحه وسمو نظرته، وهو يشعرك بمطلع القصيدة أن قتل أبى الحسين هذا قد أثار مسألة تقتضى الفصل، ويرسم لك طريقى الضلال والواجب، ويهيج إحساسك الأدبى بالتمرد على الانتكاس الخلقى الذى أنطقه بهذه القصيدة. ولولا أن المقام يضيق عن ذلك لأوردنا القصيدة كلها على طولها ولتناولناها بيتًا بيتًا.
وغير منكور أن الموضوع الجدى يسمو بنفسه ويساعد الشاعر الذى يتناوله. وليس الحال كذلك حين يعالج الشاعر الفكاهةَ. وأنت حين نجدُّ قد لايشق عليك أن تحلِّق، ولكنك حين تجنح إلى الفكاهة لا يعود من السهل أن تحافظ على الاستواء الواجب، وأن تتقى الهبوط، وتجنب الإهاجة، وتكبح عواطفك، وترخى العنان لعقلك وأن تشيع الجمال فى موضوعك لتسد نقصه وتملأ فراغه وتعوض تفهه، ومن هنا قالوا إن غاية الفكاهة هى أقصى ما هو مقدور للإنسان. يعنون بذلك التحررَ من تأثير العواطف العنيفة، والقدرةَ على التأمل فى سكون واطمئنان، والنظر إلى ما يقع، لا إلى القدر أو الحظ أو الاتفاق، ومنحَ الحما قات والسخافات والمتناقضات ابتسامةً رضية لا عبرة متحدرة، وكبحَ جماح الغضب عند شهود لؤم الإنسان ومعاناته. ولعل خير من يذكر على سبيل التمثيل فى هذا الباب هو «هينه» الألمانى. أتقول الألمانى؟ كلا والله! فما تستأثر بهينه أمة ولا زمان ولا مكان! ولقد طلق ألمانيا ولم يصر فرنسيّا، ونبذ اليهودية ولكنه لم يصبح مسيحيّا، وزعمه «تيك» فى قصة رمزية شيطانًا قزما متقلبًا مسيئًا! ولكن أغانيه أحلى وأعذب، واستيلاءه على ينابيع الضحك والبكاء أعظم مم! شاء «تيك» أن يعترف.
ولا ينبغى للقارئ أن يتوهم مما أسلفنا الكلام عليه أن العبث جائز فى الشعر لأن الشاعر يتناول المضحكإت أحيانًا ويمزح ويسخر وتركب الأشياء والناس بالهزل، فإن هزله أبدا مبطنٌ بالجد، وهو لا يقصد إلى الهزل فى ذاته حين يريك الهزل ويصوره لك. ولقد كان «لوسيان» و«أرستوفانيز» يتعاقبان سقراط بالنكات القاسية ولم يكن غرضهما أن يمزحا فحسب، بل كانا يريدان أن ينتقما للحقيقة من السفسطة فى رأيهما، وأن يبرزا إلى المكان الأول ما يلقى به الناس وراء ظهورهم من المثل العليا. ثم ما أجمل وأبهر الصور الهزلية التى رسمها قلم «سرفانتس» فى قصة دون كيشوت!
وفولتير؟ ذلك الذى لم يشهد العالم ساخرًا مثله؟ ذلك الذى كان سخره عاملًا كبيرًا فى إحداث انقلاب ضخم لا يزال أثره محسوسًا إلى هذه الساعة! من الذى يفوق هذا الأستاذ ويبذه؟ من الذى يشبهه فى أسلوبه؟ إن الحكم على فولتير حكمًا فنيّا بحتًا يستدعى قبل كل شىء تجريدَه — إذا أمكن ذلك — من صفته القومية الحادة، إذ بغير ذلك لا يستقيم الحكم عليه ولا يتأتى إنصافه وإنصاف الأدب معه. وما من شك فى أن صدق سريرته وبساطة طبيعته تلمحان هنا وههنا فى خارجيَّاته، وتحركان فى نفس القارئ العواطفَ الشعرية حين يتوخى البساطة فى تمثيل الطبيعة وتصويرها، كما فعل فى «الأنجينى» أو حين يبغيها ليقتص لها كما فعل فى «الكانديد» وغيرها. وهو فيما عدا ذلك يسلينا ويسرنا بملحه الطريفة، ولكن — نعم ولكنً لا يصل إلى قلوبنا. وهذا قول قد يسخط كثيرين من المعجبين به مثلنا، والمغالين بقدره غيرنا. غير أنه قد يسمح لنا أن نتهجم قليلًا! ومن الذى لا يتهجم؟! من الذى يلزم حده أبدًا فلا يتقدم عنه ولا يتأخر؟ أين فى الناس من لا يتطاول به الغرور؟ وإن لنا لحظّا من الغرور قسمه الله لنا فلنقتحم إذًا!! ولنقل إنا لا نلمح المقدارَ الكافى من الجد وراء تهكمه فى كثير من المواطن. ولن يفوتك أبدًا أن تلتقى بذكائه وبراعته وحذقه، ولكنه يعييك أن تهتدى إلى إحساسه، وأن تطَّلع على شعوره وعواطفه، وأن تلمس قلبه. وهو دائم الحركة، لا يفتر ولا يكل، غير أنه ليس هناك شىء ثابت وراء هذه الحركة المتواصلة، أو نجم قطبى يصمد إليه ويتجه نحوه، وقد أسبغ على كتابائه مئات من الكسى، وصبها فى أشكال لا يأخذها حصر، ولى يوفق إلى شكل واحد يضع عليه طابع قلبه ويسمه بميسم نفسه. فهو غنى الذكاء فقير القلب، خصب المادة سخى المظهر، ولكنه كان يمشىِ فى هذه الدنيا، ويخرج فيها من درب إلى درب، ويعرج يمينا وشمالَا، وينثر براعاته فى كل مكان، ويسح بملحه وطرائفه سحّا، وفى جوفه صحراء لا تونس وحشتها واحة واحدة!
(ب)
من الصعب على الناقد الذى تأخر به الزمن مثلنا أن يُجرى أحكامَ ما يأخذ به من الآراء فى الأدب عامة والشعر خاصة، على قوم طوتهم الأيامُ بخيرهم وشرهم، وتغيرت الدنيا بعدهم، فلو أُنشر والأنكروها وما عرفوها. لأن الناقد لا يأمن، إذا هو فعل ذلك، ألّا يظلم أولئك الأقوام حتى حين يريد إنصافهم وتبيين أقدارهم. ومن أجل ذلك يخيل لنا بعد الذى قلناه عن السخر أننا نوشك أن نظلم ابن الرومى، وأن نحمله جريرة أحوال لم تكن مما جنى، وظروف لا يد له فيها ولا حكم عليها. أو على الأقل هذا ما نرجح أن سيعتقده عامةُ القراء من عارفى هذا الشاعر أو السامعين به. ولكنا مع ذلك سننصفه من حيث يبدو أننا خفناعليه وغمطناه.
لم يكن الشعر على عهد ابن الرومى فنّا يزاول لذاته، أى للترفيه عن النفس وإدخال السرور عليها من طريق الجمال. ومعلوم أن الباعث الأول على الشعر هو حدةُ إحساس المرء ودقة شعوره، وذلك لأن كل مؤثر قوى يثير فى المرء حركات تتعلق بها المداركُ فى صورة عاطفة أو انفعال نفسى لا يزال يبغى مخرجًا ويلتمس متنفسا حتى يصيبه فى حركة عضلية أو نحو ذلك، فإذا كان المرء من أوساط الناس العاديين كان ذلك حسبه للترجمة عن عواطفه وانفعالاته. وصار قصاراه أن يبكى إذا حزن، وأن يضحك إذا فرح، وأن يثور ويتوعد إذا غضب، حتى تفنى العاطفةُ نفسها ثم يثوب إلى نفسه. ولكن دقيق الشعور لا يكفيه هذا المتنفس لأنه أحسُّ من غيره بما تطلع عليه نفسه من الظواهر، وأعمق مع دقة الحس شعورًا. وليس يخفى أن دقة الإحساس وعمق الشعور يطيلان أجلَ العاطفة، ويمدان فى عمرها، ويفسحان فى مدتها وبقائها. فإذا استولت عليه عاطفة لم تزل تجيش وتضطرم حتى تقر وتنتظم، ثم تتحول فكرة قاهرة تظل تجاذبه وتدافعه حتى ينفس عنها عمل يناسبها — هذا هو الفن لذاته فحسب. ولو أنك أردت أن تجد لهذا ضريبًا فى عصرنا يقرب إليك المسألة ويصورها — على قدر الإمكان — لكان بك أن تبغيه بين جدران المدارس. ولقد قدمنا لك فى مقال سابق أن خصائص الآباء تظهر فى الطفل، وأنه يعيد فى شخصه تاريخ التطور النوعى كله. فاذهب إلى المدرسة إذن فماذا تجد؟ تجد هناك فى ذلك الركن من «الفصل» — كما يسمون مكان الاجتماع لتلقى الدروس — تلميذا مكبّا على غلاف الكتاب، وفي يده قلم يرسم به خطوطًا قليلة ساذجة يطالعك منها شىء كالوجه. وأظهر ما فيها شاربان ضخمان طويلان مفتولان لا نسبة بينهما وبين بقية الصورة، إذا جاز أن تسمى هذا التخطيط صورة. فماذا تظنه يعنى؟ ما الغرض الذى صار أمثل فى خاطره وأحضر فى ذهنه حتى فعل ذلك؟ لا ندرى! ولعله هو أيضًا لا يدرى على وجه الدقة. غير أن الأرجح فى الرأى والأقرب إلى الاحتمال أن يكون قد قصد أن يرمز إلى الرجولة التى يتطلع إليها ويحلم بها، فزاد فى الشاربين وبالغ فيهما على نسبة عكسية لتجرده منهما، إذ هو لا يزال أمردَ لم يطرّ له شارب ولا نبت فى عذاريه شعر. والشوارب أدل على الفتوة، وأدنى إلى معانى القوة من اللحية. وتلميذنا إنما يريد أن يرمز إلى سن القوة والفحولة التى تأنس إلى الشوارب ولا تُطيق اللحى التى لا يطمئن إليها المرءُ إلا مع فتور الحيوية.
وثم فى مكان آخر من «الفصل» تلميذ ثان يحفر على غطاءِ «درجه» يدًا ممسكة عصا ضخمة، فماذا ترى جرى بباله حين حفر خطوط هذه وتلك بعبراته؟ لعل معلمه أذاقه طعمَ العصا فخامره الإحساسُ بها، ولم تزل تدور فى نفسه رهبةُ هذا السلطان الذى يدل عليه وقعُ العصا، فأجرى مبراته على الخشب بهذه الخطوط التى تمثل له المظهر المؤلم البارز لهذا السلطان. وهناك فى مكان ثالت صبىّ آخر يدنو منه المعلم فتتحرك يده فى خفة وسرعة لتخفى فى جيبه ورقةً، ويلمحه المعلم فينزعها منه فإذا فيها صورة أنف كبير كخرطوم الفيل! فماذا يا ترى فى هذا أيضًا؟ مإذا يريد فتانا بهذا الأنف الذى كأنما عناه ابن الرومى بقوله:
لعل هذا الأنف رمزٌ لمعلم يتضاحك به التلاميذ، ولا يقوى هو على حكمهم لضعف فيه أو قلة حزم أو لأن شكل أنفه على وجهه أغرى للتلاميذ، بالضحك من أن تجدى معهم شدة أو حيلة! وثم، فى مكان آخر من «الفصل» أيضا، تلميذ ناهز الثالثة أو الرابعة عشرة يتناول المدرس كشكوله — كراسة الأعمال اليومية — فإذا هو قد ملأه بما يشبه أن يكون صورَ أجسام عارية: فى صفحة صورة فتاة أظهر ما فيها شعرها المنسدل على كتفين يبرز من تحتهما ثديان ناهدان، وفى صفحة أخرى رسمٌ أبرز ما فيه ضخامة الردفين وانسجام الساقين تحتهما، وفى صفحة ثالثة من كشكول تلميذنا رسم قدمين صغيرتين فى حذاءين جميلين. وهكذا.. فإلى أى شىء يرمز هذا الصبى الجرىء؟ ماذا يعنى بهذه الرسوم وبالاشتغال بها عن الدروس؟ لعله هو نفسه لا يفهم السر ولا يستطيع أن يشرح لك الدافع. ولكن المدرس، إذا كان لبيبًا فطنًا، يدرك أن هذا التليمذ أكبر من زملائه قليلًا، وأنه لا يبعد أن يكون قد بدأ يبلغ مبالغ الرجال، وأنه يعبر بما يخطط عن إحساسه الجنسى الغامض الذى أخذ يدب فى جسمه ويتمشى فى نفسه ويلفته كرهًا إلى المرأة ومواضع الملاحة فيها وبواعث الافتتان بها ودواعى الرغبة فيها..
فلماذا يفعل التلاميذ ذلك؟ نظن أنه لا خلاف فى أنهم إنما يرمزون بما يخطون — إذ كان لا يسعنا أن نقول بما «يصورون» — لكل ما له فى نفوسهم وقع وأثر. ولا يفعلون ذلك طلبًا للثناء، أو التماسًا لحسن الأحدوثه وخلود الذكر، لأن دأبهم أن يخفوا هذا الذى يصنعونه، ولا يدعوا عينًا أجنبية تطلع عليه. وكل ما فى الأمر أنهم دلوا بما خططوا على ما له تأثير فى نفوسهم أو ما يشغل خواطرهم. فكانوا بذلك مثالًا مصغرًا لمزاولة الفن لذاته.
وهناك طور آخر يتلو هذا ويكون الشاعر فيه قوامَ النظام الاجتماعى، ونصير الدين أو الملك أو الرئيس أو الوطن أو لسان العصبية. وهو طور خلا به فى الواقع عصرُ القبائل عند العرب، أيام كان الشاعر عضدَ القبيلة ونصيرها وفارسها وحاجبها وجلادها والداعى إلى خوفها وخشية بأسها، والمشيد بذكرها والمدونَ لمفاخرها وأيامها، أو بعبارة أخرى أيام كان العرب «لا يهنئون إلا بمولود يولد وفرس تنتج وشاعر ينبغ»: بالمولود ليشب منه فارسٌ يذود عن القبيلة، ويحمى حقيقتها، وتدفع عن بيضتها، وبنتاج الفرس ليركب فى الحرب، وبالشاعر ليذيع محامد القبيلة، ويهجو عداتها «ويدون تاريخها ويسجل أيامها. ولم يكن الأمر كذلك على عهد ابن الرومى. نعم، كان الشاعر لا يجد سوقًا تنفق فيها بضاعته إلا بين الملوك الحكام والأمراء والأشراف والموسرين، إذ كان هؤلاء وحدهم القادرين على تنويله وصلته، والإحسان إليه جزاء إحسانه إليهم وإلى فنه. وما كان هؤلاء ليلقوا بأموالهم من النوافذ، فإذا وصلوه وأجدوا عليه فإنما يفعلون ذلك ليخلدهم فى شعره، ولينتقم لهم من خصومهم ومنافسيهم وحسادهم. ولكن حالات الاجتماع كانت قد تغيرت قليلًا، وتبدلت مراتبُ الناس وعلاقاتهم ومساعيهم غير ما كانت. والشعر كغيره ظاهرة اجتماعية، فكيف ينجو من هذا التطور الذى طرأ على ظروف الاجتماع؟ كان قضاةُ الكلام وفياصله، الشيوخ والرؤساء أو الملوك والوزراء والأمراء، فظل هؤلاء، ولكن ظهر إلى جانبهم العلماء والأدباء والرواة والنقاد، وبدأ الجمهور يبرز بعد الخفاء، ولم يكن ينقص الشعرَ إلا أن تظهر المطابعُ ووسائل النشر التى جدت بعد ذلك، وفى غير ذلك الزمن، وفى أمم أخرى، ليستقل هذا الفنُّ عن الملوك والأمراء والرؤساء، وتدول دولة تحكمهم فى الشعر وأغراضه ومناحيه، وليتحرر الشعراء ويخلو لهم الجو، ولتصبح الصلةُ بينهم وبين الجمهور مباشرةً لا يعترضها شىء كما هى الآن مثلًا. وهو ما لم يشأه الله للشعر القديم.
إذن فقد كان ابن الرومى فى طور انتقال؟ نعم. وبذلك يشهد شعره. وليس فى عزمنا أن ننقل هنا كل ما يدل على ذلك وسنجتزئ بأمثلة قليلة. منها قصيدته الرائعةُ لما اقتحم الزنجُ البصرةَ وأعملوا فى أهلها السيفَ، وفى مساكنها ومساجدها النارَ، فقال ميميته الفريدة فى لغة العرب، واستنفر فيها «الناس» — الناس أى الجمهور لا الخليفة ولا زراءه ولا الأمراء. وجعل يستفز نخوتهم فيها بوصف البصرة وعزها وفرضتها (مينائها) ثم بالأهوال التى حلت بها من غارة الزنوج، والفظائع التى اجترحوها، والحرمات التى استباحوها، ثم بتصوير الخراب الذى حل بها، والهوان الذى أصابها؟ ثم بتصوير الموقف فى الآخرة حين يلتقى الضحايا والقأعدون عن نجدتهم «عند حإكم الحكام» وتأنيبه سبحانه لهم على خذلانهم إخوانهم؛ ثم بإهابته «بالناس» أيضًا أن يمثلوا لأنفسهم النبى ﷺ ولومه أمته؟ ثم استنفارهم بعد كل هذه المثيرات والحوافز إلى إدراك الثأر وإنقاذ السبى. وهى قصيدة فى الطبقة الأولى من الشعر، لو غيرت ما فيها من الأسماء والمحليات لخيّل إليك أنها مما قال بيرون فى سبيل استقلال اليونان أو توماس هاردى فى إبان الحرب العظمى. وإنه ليؤسفنا أنها أطول من أن تنقل، وأنها لا تحتمل الاختيار ولا تقبل الاختصار. فليرجع إليها القراء فى الديوان ليروا كيف عدل بالخطاب عن سياقه المألوف فى ذلك العصر، ولم يعبأ لا بالملوك ولا الأمراء، ولم يفرض أنهم هم وحدهم المطالبون بالدفاع والنجدة، بل اتجه إلى جمهور الناس بصفته فردًا يقدر ما عليه وما على الأفراد مثله من واجب قومىّ دينىّ لا يخليه هو أو سواه منه شىء. وإنه لعجيب أن تخلو القصيدة من كل ذكر أو إشارة، صريحةٍ أو خفية، للحكام. وليس يسع القارئ إلا أن يذكر بها ما كان يستفز به الكتابُ والشعراء والجماهير فى أممهم فى إيان الحرب العظمى الأخيرة.
ومن الأمثلة أيضا أسلوبه الروائى الذى يطالعك من أكثر قصائده، وعدم اقتصاره فى الوصف على الظواهر المحسوسة، ومحاولته الإفضاء إلى البواطن وتصويرها، وتتبعه لحالات نفسه ولما يتقلب عليه ويمر به، حتى غلب ذلك على شعره على الرغم من الأغراض الأخرى التى كان ينظم فيها الشعرَ من مثل المدح والهجاء والعتاب والاستعطاف وغير ذلك.
وليس يخفى علينا أن هذه من خصائصه هو، ومميزاته التى انفرد بها، ولكن من الذى يستطيع أن ينكر أن ما تبتكره الشخصياتُ الممتازة يكون من عوامل التطور التى لا يمكن إغفالها؟
وبعد، فإذا كان فى أهاجى ابن الرومى كلام لا يعد من الشعر الصحيح بمعناه الأسمى، فذلك على الاكثر ذنب عصره الذى كان يقبل ذلك ويتسع له وُيغرى به فى الواقع، كما هو الشأن فى أفحاشه وعرره التى لا تطاق فى عصرنا الحاضر مثلا. ونقول على الأكثر، لأن ابن الرومى كان حادَّ المزاج سريع الغضب متمرد الطبع. فعصره، من ناحية، كان يُبيح له أن يُفحش وأن يأتى بالشناعات، ويخرج بالشعر عن سبيله، ويعدل به عن غايته، ويتخذه فى بعض الأحايين أداة انتقام شخصى فظيع. ولكنه لا يعيبك، حتى فى أفحاشه، أن تلمح باعثًا خلقيّا ساميًا يُخرجه عن طوره. فقد كان الرجل على كثرة أضاحيكه جادّا فى حياته وفى النظر إليها. ولم يكن لهوه وعبثه إلا لفرط إحساسه بمرارة الجد فى هذه الحياة، ويشعرك بذلك قوله، وهو حسبنا شاهدًا مغنيًا عن كثير أمثاله:
وهو على كثرة ما فى شعره من الفحش، صحيح الإدراك من حيت الآداب والأخلاق. ومن شاء أن يقدر مبلغ ما رُزق ابن الرومى من صحة الإدراك الأخلاقى فما عليه إلا أن يدع ما يراه فى كلامه من التنزى إلى المقابح وأن يبحت عن البواعت التى دفعته، والأسباب التى أغرته، فإنه لا يلبث أن يتوسم من معاريض كلامه، ويستشف من وراء لفظه، صحة مبادئه وعظم نصيبه من سمو النفس وجلالة الروح.
أما أهاجيه الفكاهية فمن أبدع ما له. وهو فى أكثرها مصور كعادته «لا تنقصه إلا الريشة واللوحة. بل لا تنقصه هاتان لأنه استعاض من الريشة بالقلم، ومن اللوحة بالقرطاس، فاكتفى بهما وأثبت فى النظم البديع ما لا تثبته الألوان والأشكال»، كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد. فمن ذلك قوله فى بعضهم:
ولو غيره من الضعاف لعدل عن «المصلوب» إلى ما هو دون ذلك.
ومنه وصفه للأحدب، وقد تقدم، وقوله فى أبى حفص الوراق وكان قصيرًا:
وقوله فى بخيل:
إلى كثير من وصفه للأقفاء واللحى والعثانين والمواقف المضحكة كقوله:
وشبيه بهذا الموقف المضحك قوله فى متفلسف دعىٍّ يتسقرط وتزعم نفسه فارسًا كميّا:
وقوله فى بخيل أو من يزعمه ابن الرومى بخيلَا:
وليلاحظ القارئ أنه لا يخلط بين مجال المصور ومجال الشاعر، ولا يحاول أن يجعل قلمه ريشةً، فإن ذلك لا خير فيه ولا ثمرة له، ولكن يجىء لك بما هو حرى أن يعينك على تصور ما يريد. وآية ذلك أنه حين أراد أن يصف قِصَر أبى حفص وضعه على يفاع أو مرتفع ليساعدك على تقدير النسبة، وذكر لك أن «صرح» رأسه مجلوّ، وأنه من الصلع بحيت لا يوارى بيض قملة، لأنه لا شعر هناك، وأن صفع الدهر له قمع طوله! وتأمل كذلك تصويره معنى البخل بقوله إن اليد مخلوقة خلقة القفل! ولعمرى ماذا يسع المصور بريشته فى مثل هذا؟ إن البخل ليس مما ينطق به الوجه، ورسمُ اليد مُطبقه لا يدل عليه ولا يفيد الناظر شيئًا. فهو كما ترى مصور، ولكن فى حدود فنه وفى الدائرة التى تعينها قدرةُ الألفاظ.
(٥) فلسفته
(أ)
هل لابن الرومى فلسفة تستخلص من شعره الذى كان يهضب به ويسح؟ أو إن شئت، وكنت مثلنا لا تقوى أضراسك على مضغ الجلاميد التى يطلقون عليها اسمَ الفلسفة أحيانًا، فقل هل له مذهب فى هذه الحياة؟ وكيف كان إدراكه لسنتها، وإحساسه بصروفها، ومجاوبته لوقعها، وملابسته لحالاتها؟ وهل أركض عقله فى ميدانها وأطلق خياله فى سمائها؟ وفى الجواب على ذاك، الحكمُ على ابن الرومى. فإذا كان الجواب نعم، وكان الرجل عندك صاحبَ نظرة خاصة إلى الحياة، فقد سلكته مع الفحول. وإن كان لا، وأرجح ألّا يكون كذلك، فقد هبطت به إلى منزلة الظرقاء الذين يلتمسهم المرءُ أحيانًا وينضو عند عتبتهم الجد والتفكير، وتحاضرهم محاضرة المترفِّه المتلهى، كما يداعب الشيخ الوقور فتاه الحدث، ويمسح له جبينه، ويلمس كفه صباحة محياه الجديد ونضارة متوسمه القشيب، ويجرى معه لسانه بالكلام الخفيف، ويضاغيه ويلاثغه ويمتع سمعه وعينه بسذاجته وبجهله الحلو وغفلته اللذيذة!
ونعتذر إلى ابن الرومى من هذا السؤال — لو أنه يعى اعتذارنا أو يحفل ما نقول فيه! — وأكبر الظن أنه لو كان حيّا، ورانا نسأل أَلهُ مذهب أو رأى فى الحياة، لأخبّت إلينا وأوضعت أهاجيه النارية:
فالحمد لله الذى أماته قبل أن يُحيينا! فما نظنه كان يشفع لنا عنده أنا نُشيد بذكره وننشر مطويه وننصف عبقريته.
كلّا! لا مراء فى أن ابن الرومى من كبار الفحول، وأنه كان يحس الحياة بكل جارحة فيه، بل يقبل على الحياة وينشد الإحساس بها ويعرِّى أعصابه لها، ليتملى من الشعور بها يلابسها بروحه، ويدير عينه ويقلبها تارة فى نفسه وتارة أخرى فيما حوله، ولا يمل التأمل، ولا يفتر عن التدبر، ولا يكف عن المقايسة والمقابلة، وعن إرسال النظر رائدًا وإجالة الفكر حاصدًا. وبماذا خرج؟ قد لا يرضيك ما انتهى إليه واستقر عليه. ولكن ما قيمة ذلك؟ إن الشاعر ليس مطالبًا بأن يقدم لك مذهبًا فلسفيّا جامعًا مفصل الحدود واضح المعالم، ولا بأن يحسر لك ظلالَ الإبهام عن مشكلات الحياة، ويزيح حجبَ الظلام عن أسرار الوجود. بل حسبنا منه أن تكون له فكرة عن الحياة بخيرها وشرها، وسعودها ونحوسها، وقوانينها ومظاهرها، وأن يفضى إليك بوقعها الذى لا مهرب منه ولا متحول عنه، والحياة، بعد، لها أكثر من وجه واحد ومظهرَّ واحد وليست صفحتها الغامضةُ السوداء التى يفتحها لك الشاعر بأقل فتنة أو أضأل نصيبًا من الصواب، من صفحتها الواضحة البيضاء التى ينشرها لك الفلاسفة والعلماء. فإذا كان لا يروقك ما خطه ابن الرومى فى صفحته، وأطلعك منه على جانب من تاريخ الإنسانية، فإن فى الحياة كثيرًا مما لا يروق ولا يعجب، وهو مع ذلك من لوازمها. ولقد سبق من ابن الرومى الاعتذار من ذلك بأن سأل: «أما ترى كيف رُكب الشجر؟».
وكان ابن الرومى يرى أن الأدب فن يُزاول ويتعهد ويكون المرءُ له «أعتى الخدم» وتنقطع له ويتوفر عليه وينحرف بسببه عن كل كسب، ويبيت «يمرى فكره تحت الظلم» وأن للأديب من أجل ذلك حقّا على الناس وحرمة واجبة الرعاية، وقدمًا تستحق أن تثاب، وأن من تناسى حقه فقد ظلم. فليس الشعر عنده عبثًا ولا لهوًا، بل هو غاية الجد، وليس مطلبه بالسهل الهين بل هو مغاص فى درك اللجة «من دون درها الخطر».
وهو فن حى ينشأ ويشب ويهرم ككل حى آخر:
ولا نكران أنه قال فى آخر حياته:
ولكن ذلك لم يكن لزراية على الأدب، أو اغتماض لقدره بل هى لهفة على سوء حظه المادى. وكيف تعقل منه الزراية على فنه وهو فى القصيدة عينها يقول:
ومن أين جاءته «الدولة» وصار له «زمن» بغير شعره؟ وحسبك شعوره هذا بأن له دولة وزمنًا، دليلًا على إكباره فنه. وليس هذا بالخاطر العارض، فإنه المتسائل فى معرض هجاء لأبى إسحادتى البيهقى:
ولم يكن يقول كالعرب إن أمتهم أشعر الأمم، وحكمتها أعظم الحكم، بل كان يقول:
وصهيب هذا، ابن سنان، صحابى أصله رومى وأسلم، وفى نظرته هذه اتساع وإنصاف وخلو من عصبية كانت تكون منه متكلَّفة غير سائغة: وهو كما أسلفنا رجل متشائم. وعنده أن الطفل إنما يبكى «لما تُؤذن الدنيا به من صروفها»، وإنه لذلك:
ويعلل ذلك بأن للنفس أحوالًا «تشاهد فيها كلَّ غيب سيشهد» وكأنه يريد أن يقنعك بأن هذا الرأى هو ثمرة التجربة، وأنه لا يرمى به جزافًا، ولا يلقيه على عواهنه، ومن أجل هذا يمهد له بأنه إنما يذهب إلى ذلك بعد أن شابت رأسه، وقوست قناته، ودب الكلال فى عظامه، وتوكأ على العصا. ولا غرابة بعد ذلك أن الدنيا عنده:
والمرء منذ يولد إلى أن يوارى فى التراب «رهن النوائب» وحسبه من هذه النوائب فقدُ شبابه:
وما دام المرء يموت فليس فى العيش مغتبط، وكل لهو مشغلة عن ذكر ما يلاقيه المرء من الأحداث. وكيف يطيب العيش للإنسان وهو موقن بأن طيبه سيذهب كالحلم؟!
وكر الأيام انتقاصٌ من القُوى. حتى الأبناء تخوُّن وتنقص من المرء يُزاد فى «الأبد»، ويضاف إليه وهم عبارة عن قوى تستجدها الحياة بَأن تنقصها من الآباء، والمرء يسر بمولوده وهو لا يدرى أن الزمان يهده بشد أبنائه منه.
ولكن هذا ليس بعجيب، إذ لولاه لما طلب الناس الذرية.
والمرء إذا أمل أن يعيش مثل ما عاش «فيا ويحه إن خاب أو أدرك الأمل» لأنه إذا طالط عمره اكتهلت همته ولم يعد يجد ابتهاجًا بما كان يبتهج به، أو قدرةً عليه أو بشاشة له:
وإذا فاتت المرءَ متعةٌ فهو غير مغبون فى الواقع، لأن من يدرك شيئًا لا يزال قلقًا خائفا يترقب افتقاده. أما من فاتته متعة فهو مطمتن وقد أمن أن يُرزأها:
ومتى كان الأمر كذلك:
وسليم الزمان كمنكوبه، وموفوره كمحروبه، والممنوح مثل الممنوع، والمكسوُّ مثل المسلوب:
فإذا غصبك الزمان حظك فاستر نفسك فإن هذا الستر لا يغصب. ولا مفر على كل حال من القدر، فطامن حشاك فإن ما تحب وما تكره واقعان بك لا محالة:
والسعادة والشقاوة حظوظ. والحظ يأتى صاحبه وادعًا، ويُعيى سواه ساعيًا:
والذى يسعى ليدرك حظه «كسار بليل كى يسامت كوكبا».
ولا يحسبن أحد أن ابن الرومى راض عن ذلك. وكيف يرضى عنه وهو لا يرى مطلب الدنيا يهون إلا للجهلاء والحمقى؟
وهل يعد راضيًا من يقول:
«وطلابُها مثل الكلاب النواهس»!
وأنه لا محل لتفاضل الناس «بتفاضل الأحوال والأخطار»، فإن هذا جور.
وإذا كانت الدنيا كذلك، وكان الشر فيها غالبًا، فالحذر واجب والحزم فرض، ليقل التجنى على المقدور. وعلى المرء إذا ظن شرّا أن يخافه! فرب شرٍّ يقينُه مظنونه.
ولا تبيتن آمنا من أحد، فآمن ما يكون المرء إذا لبس الحذَر من الخطوب.
ومن أمْن النفس أن تخاف، وأن تستشير الحزم، والعدو مستفادٌ من الصديق.
ومن الحكمة أن لا يقذع المرء الحاكم فى أيامه، خوفًا لسطوته بل حتى إذا أصابه الزمن بصرفه، حذرًا من رجعته.
واعلم أن الناس من طينة خسيسة «يصدق فى الثلب لها الثالب».
وأديم الإنسان من أديم الأرض، فهو مثلها خسيس، والنفس تلؤم رجوعًا إلى طينتها، واللؤم مركوز فى الطبع البشرى، مركب فى الجبلات:
حتى النفس الكريمة لا مفر لها من رجعة إلى هذا الحمأ المسنون «ثم تكرم». والشر بين الناس عام مشترك، وهو الأصل، أما الخير فيهم فغير مشترك. والضعيف فى الدنيا موطّأ مهين، والقوى محترم مرهوبة شِرته. والخيِّر المسالم أو المقلم الأظفار لا يعبأ به أحد أو يحسب له حسابًا.
ولهذا كان الحلم ضعفًا، وكانت رقابُ أهله مقصودة بالهوان، فلابد من ادِّراع الجهل فوق الحلم، وإلا اعتُمد المرء بالإساءة واستخف به الناس واستطالوا عليه.
وأكثر الناس يتسخَّون طلبًا للحمد ونفاقًا، ويتكلفون الندى ولكن الكريم ليس الذى يعطى عطيته عن ثناء أو التماسًا للذكر.
ومن كان هذا شأنه فهو لا يبذل العرف ليصيد به محمدةً ولا يمنُّ على من يقلده منته.
والإحسان الذى من هذا الضرب آنسُ للقلوب، والنفس إذا تذكرت أياديَها الخالصة لوجه الله «أفاقت من معالجة الكروب». والنعمى قيد، ولكنها إذا قوبلت بالشكر زال القيد، وتكافأ المنعم والشاكر، لأنه إذا كان المنعم قد جاد بماله أو جاهه، فقد جاد الشاكر من فؤاده.
ولا ينبغى أن تكون الفضائل باعثها الرغبة أو الرهبة.
والحلف الكاذب جائز عنده مع الاضطرار وضيق الحال:
والحشمة محبوبة بين الصديقين لتحجز بينهما وبين العقوق، أما التبسط الذى يؤدى إلى بخس واجبات الحقوق فلا حبذا هذا وأقبح به!
(ب)
قد بلغنا، ولا حمدَ، أعوصَ مسائل ابن الرومى. ونعنى بها نظراته فى فلسفة الجمال. وليس وجهُ الاعتياص أن فى شعره غموضًا أو التباسا أو اضطرابًا يدفعك إلى الشك فى تأويل نظرته، أو التردد فى حملها على ما يغريك به بعضُ كلامه. كلا! فإن ابن الرومى شاعر مشرق الديباجة، ناصع الأسلوب، واضعٍ المحجة، وهو غوّاص لا يستخفه ما يعن له فى أول الخاطر، ومصف يأبى أن يدع ذرة تتفلت، ودقيق دوَّار العين يطلب الإحاطة بجوانب ما يتناول، وملحاح لا يجتزئ بأن يدفع إليك الفكرة ناضجة تامة ويدعك وشأنك معها، بل يبرزها لك كلما عرضت مناسبةٌ ليقسرك على الالتفات إليها والعناية بها، حتى كأنه لا يطمئن الى ذكائك وقدرتك على الالتقاط والتفطن.
وإنما وجه العسر والمشقة هو كيف نتناول الموضوع؟ ومن أى ناحية نطرقه؟ وماذا نأخذ وماذا نذر؟ ومما يضاعف المشقة أننا لا نحب أن نظل نكتب عن ابن الرومى إلى اخر العمر! وأحر بألّا نفرغ منه إذا أردنا الاستقصاء. إذ كان معنى الاستقصاء أن نضع نحن كتابًا ضخمًا له أولٌ وليس له آخر فى فلسفة الجمال، وأن نعتسف من أجل ابن الرومى وإكرامًا لخاطره ولسواد عينيه — إن صح أنهما كانتا سوداوين! — تلك الوعورَ التى زحم بها الطريقَ أفلاطون وأرسططاليس وبلوتيناس من القدماء، وكانت وشلنج وهيجل وشوبنهور وهربارت ولسنج وجيته وشيللر ومئات غيرهم من الألمان، وبيربوفييروتين وليفيك وسواهم من الفرنسيين، وهتشنسون وشفتسبرى وريدورسكن وهوم وبيرك وإليزون وبين وسبنسر من الإنجليز؟ وأن نحاول أن نقامس فى ذلك اليم الطامى كلَّ هاتيك الحيتان الفظيعة! لا ياسيدى القارئ عفوك! فإنى كابن الرومى لو ألقيت فى هذا البحر «صخرةً، لوافيت منه القعرَ أول راسب!».
وكما كان أيسرُ إشفاقه من الماء أن يمر «به فى الكوز مرَّ المجانب» كذلك أيسر إشفاقى من مباحث أصحابنا هؤلاء ألّا أقرب الرفَّ الذى فيه كتبهم! وإذا كتب الله لى أن أفتحها أغمضتُ عيني! ولقد كنت فى بعض ما سلف من عمرى جريئًا، وكنت لا أتهيب كل التهيّب أن أفتح واحدًا من هذه الكتب، ولكنى كنت لا أكاد أعبر بضعَ صفحات حتى أحسّ كأنى مُطلّ من زحلوقة على هاوية سحيقة، فتنفرج شفتاى عن صوت كهذا «بورررر!» فأرفع رأسى فزعًا، وأمسك بجوانب ا لكرسى حتى تطمئن نفسى ويذهب عنى الروعُ وأحمد الله على السلامة!
إذن فما العمل؟ وكيف تتم — على أى وجه — ما بدأناه من الكلام عن ابن الرومى؟ الحق أقول لك، أيها القارئ، إنى لا أدرى! وقد بدأت أشعر لابن الرومى بغيظ واضطغان لدفعه إياى إلى هذه المآزق المرعبة. ولقد حدثتنى نفسى أن أبتر الكلام مكتفيا بما سبق، وأن أجعل الختام هجاءً له! — لكنى ذكرت قوله:
فعضضت شفتى وعدلت! وبدا لى أن أضرب صفحًا عن الشواهد على قدر الإمكان، لأنها آلاف مبعثرة لا يتسع لنقلها المقام، وأن أورد ما يدل عليه شعره، أى أن أقدم للقارئ صورة عامة مجملة عن اراء ابن الرومى وأن أدع له رسمَ الخطوط التفصيلية إذا شاء. ولماذا لا يتعب القارئ قليلًا؟ ما الذى يوجب على الكاتب أن يتكلف كل ضروب العناء حتى لا يحوجه حتى ولا إلى «هضم» الفكرة؟ ماذا يصنع القارئ برأسه هذا الذى فوق كتفيه؟ أليس أجدى عليه أن يحتاج إلى التفكير بنفسه ولنفسه حتى لا يعتاد الكسل، وحتى لا يعود رأسُه حملًا على كتفيه؟ هذا أصلح ولا شك! فإن كان لا يعجبه هذا، ولا ترضيه طريقتنا الجديدة، فما عليه إلا أن يقف عند هذا الحد ولا يمضى فى قراءة المقال! والاَن فلنبدأ: من أول ما يستلفت النظر فى شعر ابن الرومى نوعُ إحساسه بالطبيعة. فهو لا يحسها ولا يتأملها إلا إحساسًا شعريّا؟ ونعنى بذلك أن خياله ينشط، وأنه حين يتدبر قواتها ومباهجها وحالاتها المتنوعةَ، يفيض من حياته عليها، وتعيرها من إحساسه وخوالجه حتى تعود فى نظره حية نابضة مثله، لها حسٌّ وروح وذاكرة، بل إرادة. نعم إرادة! وحسبك أن تقرأ له هذا البيت من جيميته التى يرئى بها أبا الحسين العلوى.
فإنك على أى محمل حملته، وكيفما أولت صدر البيت، لا تستطيع أن تهرب من الشعور بأن هذه الأرض — التى «تسمى الأرض أحيانًا» — ليست مادةً خالية من الحياة ولا صورة ميتة. على أن الطبيعة عنده مسخر للحياة، فهى دونها وبعضها، ووسيلة إلى تحقيق غاياتها، وليست نوعًا من الحياة قائمًا بذاته مستقلّا عن حياة الإنسان. وهذه نظرة واضحة العلة، لأنه بعد أن يريق عليها من فيض حياته هو، لا يسعه إلا أن يشتمل عليها أويجعل الحياةَ نفسها مشتملةٌ على الطبيعة معه.
وقد تراه، أحيانًا، حين يصف منظرًا، لا يكتفى بأن يعزو إليه الحياة والحس، بل يكاد بخياله يتسرَّب فى خلال هذا المنظر ويغيب فى أثنائه، لا من الوجهة المادية بل من حيث الإحساس. ونظن أن هذا الكلام يحتاج إلى مثل يُضرب ويستعين به القارئ على فهم المراد فنقول: هبك تتدبر هيكلًا من الهياكل المصرية القديمة مثلًا فإنك إذا كنت قوى الخيال أو نشيطه، وأرقت على هذا الهيكل بعض حياتك أمكنك أن تتصور أن هذه العمد ليست حجارة مرفوعة يستوى فوقها سطحٌ ويتزن، بل هى مثلًا حركة صاعدة مستمرة، أو قوى حية تعالج أن تقاوم الضغطَ الواقع عليها الذى يريد أن يهبط بها. وليست تستطيع أن تتصور ذلك دون أن يخالجك إلى حد كبير نفس الإحساسات التى تفيضها على هذه العمد وما فوقها — وابن الرومى حين يصف الطبيعة يعيرها روحه، ويضع نفسه موضعها، ويفضى إليك بإحساسه معزوّا إلى الموصوف. ولكنه مع هذا لا يفقد شعوره بنفسه وبالعالم، ولا يكون كالمسحور، بل يظل متفطنا إلى حقائق الدنيا اليومية، فكأن شعوره مزدوج: بقبل تصوير خياله للحقيقة، ويتعلق به، ويكبحه عن الغلو والاستغراق المفرط الإقرارُ الباطن للحقيقة الملموسة وراء ذلك. وليس يخفى أن الأمر فى هذين يتوقف على عنصر النشاط الخيالى الذى يختلف باختلاف الناس، وعلى مقدار الاختلاف فى التجارب السابقة، وعلى طبيعة المزاج وغير ذلك مما يدفع إنسانًا إلى إيثار المرئيات، وآخرَ إلى التعلق بالأصوات، وهكذا.. مما يجعل مجال الخيال وعمله فيما يتناوله الحس، مختلفًا باختلاف الناس.
وواضح من شعر ابن الرومى أن إحساسه بالجمال فى الطبيعة وفى الإنسان لم يكن من طريق النظر والسمع وحدهما، بل كان لحواسه الأخرى، ولا سيما اللمس والشم، حظّ وافر من القدرة على إفادة الاستمتاع بالجمال. فكان إذا نظر مثلًا إلى زهرة يكاد «يلمسك» غلائلها من وصفه لها، ويشمك أريجها ويشعرك كأنه يمسحها بكفه فى رفق، ويدنيها من أنفه فى سكر، وكان حظُّ الشم عنده عظيمًا أيضًا. غير أن أوفر الحظوظ للسمع والعين ومن حقهما ذلك ولا سيما عند ابن الرومى الذى «يكاد» يدور كل إحساس له بالجمال فى الطبيعة وفى الإنسان على «الغريزة النوعية» وذلك لأن النظر والسمع، لكونهما يستطيعان أن يتناولا المرئى والمسموع عن بُعد، يسمحان بأن يشترك فى المنظور أو المسموع، خلق كثير — وذلك أيضًا ما تستطيعه حاسة الشم إلى حد كبير. ومن هنا كانت حاستا النظر والسمع، ثم حاسة الشم، حواسّا اجتماعية، أى أن بها — ولا سيما با لأوليين — يتمكن أكثر من فرد واحد من الاشتراك فى التأثر بالجمال، ولذلك كانتا هما الحاستين الفنيتين، لأنهما وسيلة مشتركة للإحساس بالجمال، ولمضاعفة هذا الإحساس وتقويته بتأثير التعاطف. وإذا شئت دليلًا محسوسًا على ذلك من عصرنا الحاضر فالتمسه فى نجاح المسارج التمثيلية ودور الغناء والرقص والصور المتحركة وما إليها. أضف إلى ذلك أن الإحساس من طريقهما أصفى وأسمى، إذ كانا أبعد أخواتهما عن وظائف الحياة الضرورية وحاجاتها الملحَّة ومطالبها المقلقة. وهما يحضران إليك الأشياء المادية فى أقل حالاتها إزعاجًا. لأن الأشكال والألوان الأصوات، إذا قيست بما يلمس ويتصل من طريق اللمس بأجسامنا، أشبه بصورٍ للأشياء المادية أو رموزٍ بعيدة لها، ومن أجل ذلك كانت هاتان الحاستان أصلحَ من غيرهما لأن يكونا أداةً إلى الاستمتاع الفنى بالجمال.
وقد كان ابن الرومى كما أسلفنا يرى الطبيعة مسخرةً للحياة ومعوانًا على حياة الفرد وحياة النوع أيضًا. فهو القائل:
والقائل فى وصف روضة:
وتأمل إلى جانب هذا البيت قوله فى نسوة.
فالروضة كأنها الفتاة تميس فى برد مفوّف، والفتاة كأنها الروضة فى وشيها المطرف؟ وكما أن المرأة تتجمل وتتزين وتتعطر وتتدهن لتملك قلبَ الرجل وتستولى على هواه حين تبرز له، كذلك الطبيعة فى الربيع:
والمرأة إنما تتجمل وتتحلى للرجل، لا حبّا فى الزينة ولا طلبًا للتجمل من حيث هو وباعتباره غرضًا فى ذاته. وإنما تفعل هذه لأنه بعض سلاحها الذى تقنص به الرجلَ لتؤدى وظيفتها التى خلقت لها، وهى المحافظة على النوع. وكذلك الحياء، عنده، سلاح جنسى، لا تتكلفه المرأة ولا تتصنعه، ولكنه من الصفات التى تضيف إلى جمالها وتجعله أفتن للب وأسحر للقلب. والمرأة حين تفوز بإرضاء عاطفتها الجنسية لا تعبأ بالتجمُّل ولا تحرص على زينتها أو حيائها أو دلالها، أو غير ذلك من أدوات قنصها، إذ لم يبق لها من محل أو عمل. وله فى ذلك أبيات ليس أعمق منها ولا أصدق، وإن كان فيها فحش كثير، ومنها:
وليس الجمال عنده شكلًا فحسب، بل هو أيضًا «تعبير» وهو فوق هذا يأبى أن يكون له حدود ينحصر فيها ويقتصر عليها ويسهل تعديدها، ثم هو، إلى هذا، صفة يتعذر التفريق الدقيق بينها وبين ما هو إليها من الصفات. وما عليك إلا أن تقرأ له داليته فى وحيد المغنية، وكان مشغوفًا بها. وفيها يقول:
وفى صوتها يقول:
ثم يقول مستغربًا مجيبًا:
وبهذا البيت الأخير يفطن إلى ما فطن إليه شيللر الشاعر الألمانى، وتابعه عليه سبنسر الإنجليزى، من العلاقة بين الإحساس الفنى بالجمال وبين اللهو الذى هو نتيجة الفائض من النشاط العضوى.
وقلَّ من بين شعراء العرب أو غيرهم من يقارب ابن الرومى فى دقة إحساسه بالجمال فى جميع مظاهره وأشكاله، ولقد فقد شبابه وبكاه فى عدة قصائد، فكان أكثر ما بكى منه أن فقد به القدرةَ على التمتع بالجمال.
اقرأ له قصيدته التى مطلعها:
وتأمل قوله فيها:
فماذا تراه فى ظنك يبكى بهذا البيت؟ الموت فى الحياة؟ وماذا يكون هذا إلا ما ذكرنا؟ ثم قوله بعده:
إلى أن يقول فى انصراف نبل الغانيات عنه:
ثم صرخته: