المدينة الفاضلة
ودرو — ولسن رجل حالم، أو إن شئت فقل كمالى يتسخط نظام الأمم ويتبرم به ويرى فيه أصل الشر ورأس البلاء ويود أن يديل منه، وأن يبدله من فساده صلاحًا. فهو من طراز توماس مور صاحب «اليوتوبيا» وهو كتاب لذيذ ظريف يذكرنا به وبمؤلفه ما يبذله ولسن من المجهودات لإعادهّ تنظيم العالم على قواعد الحق والعدل والحرية — نقول «كتاب لذيذ ظريف» ولا نخشى لائمة العار فيه لأنا لا نتنقصه وإنما نعنى أن محاولة فرد إصلاح ما فى الدنيا من خلل لا يمكن أن يكون إلا فكاهة يضحك من جرأتها القدر — ولكنها على هذا فكاهة جليلة تبعث الرجاء وتنشئ الأمل فى تحقيق … المستحيل!!
ونظام حياة الأمم ليس من صنع صانع ولا وضع واضع، ولكنما يتكون على الأدهار والأحقاب — كجزائر المرجان — وهو يتحول ويتعدل لأن الحياة قائمة على التطور، مبنية على التغير، لا لأن إنسانًا هنا أو هناك أراد هذا أو أشار به.
وقد يظهر من حين إلى حين رجل يكون من دقة الإحساس ولطف الإدراك بحيت يشعر بتيار الزمن واتجاه التدفق فى مجرى الحياة فيعالج العبارة عن هذا الذى تولته مشاعره، وتعلقت به مداركه، ويحاول أن ينطق بلسان الحوادث. ويكون من قوة الخيال وفرط الاعتداد بالنفس بحيث يحسب أن نطقه هو الصحيح، وفهمه هو الصواب. ومن هذا النوع ولسن ومنه أيضًا توماس مور.
والناس يعلمون عن الأول ما فيه الكفاية، أما الثانى فلا يعرفه إلا أهل الاطلاع الواسع ولذلك نورد هنا ترجمته باختصار.
ولد مور فى عام ١٤٧٨ أى فى عصر النهضة العلمية، وذهب إلى أكسفورد ثم انتقل بعد عامين إلى لندن لدراسة الحقوق. وفى الحادية والعشرين من عمره انتخب للبرلمان فلم يلبث أن أحس به زملاؤه. وفى ١٥١٥ أرسل إلى البلاد الواطئة (هولاندة وبلجيكا) وظل شهورًا فى أنفرس وبروكسل يفاوض رسل الإمبراطور شارل الخامس. وهناك عرف «إرسم» والتقى زميل صباه بيتر جيلز وإليه أهدى كتابه، ثم صار رئيس مجلس العموم فى عام ١٥٢٣، ولما سقط الوزير ولزى صار مور أكبر رجال هنرى الثامن، فأراد الملك أن يطلق من زوجته فلم يشايعه مور على رأيه فذهب ضحية ذلك.
وقد توخى مور فى كتابه أن يصور الدنيا كما ينبغى أن تكون لا كما كانت فى أيامه، وأن يصف المدينة الفاضلة الكاملة كما هى فى ذهنه. وكان مخلصًا جادّا فى ذلك لا هازلًا ولا مدلسًا، ولكنه اتخذ كتابه على الرغم من هذا ذريعة للزراية على الحياة الاجتماعية. والكتاب غاص بالغمزات وبما لا بد فى فهمه من الإحاطة بأحوال زمانه، ولكن كثيرًا مما يعيب به عصره وينعاه على زمانه واضح بيّن لا يحتاج إلى إعنات روية أو مراجعة. ومن قوله: «ولما كانت كل الأمم الأخرى — يعنى غير يوتوبيا — لا تفتأ تبرم المحالفات أو تنقصها، فإنهم — أى أهل يوتوبيا — لا يحالفون أمة كائنة ما كانت لأن المحالفات فى رأيهم عديمة الجدوى. وإذا كانت روابط الإنشانية لا تؤلف بين الناس فليس للعهود والوعود عمل كبير أو نفع».
وإلى هذا الرأى يميل ولسن وإن خالفت حجته فى الزهد فى المحالفات حجة مور.
وأكثر الكتاب عبارة عن رواية حديث جرى بين مور وصديقه جيلز من ناحية وبين ثالث يدعى رفائيل صادفاه فى أنفرس، وهو رحالة عاد من يوتوبيا بعد أن لبث بها خمس سنين، وعلى لسانه وضع المؤلف وصف هذه البلاد السعيدة! وحكومة يوتوبيا مؤلفة من نفر يختارون لسنة واحدة ويمثل الواحد منهم ثلاثين أسرة ولكن ولايتهم الحكم لا تميزهم عن غيرهم من أهل البلاد. وواجباتهم المفروضة عليهم كبيرة، غير أنهم مع هذا لا يختلفون عن سواهم فى أساليب حياتهم.
والحياة الاجتماعية فى يوتوبيا أساسها الأسرة، وهى تتكون من عدد لا يقل عن عشرة أشخاص ولا يزيد على ستة عشر، فإذا جاوز عددهم الحد الأقصى نقل بعضهم إلى أسرة أخرى.
وأهل يوتوبيا لا يستعملون النقود فيما بينهم، وليس عندهم بيع ولا شراء لأن الخير وفير وكل امرئ واجد ما يشتهى، وإنما يستخدمون المال فى الاتجار مع الأمم الأخرى — وفيها معادن ثمينة ولكنّ أحقر الأشياء وأتفهها تصنع من الذهب والفضة، وكذلك الأغلال التى يقيد بها الأرقاء حتى لا يزهى الناس بهذين المعدنين أو يقبلوا على احتجانهما!
والاستقرار فى يوتوبيا مباح كما هو فى جمهورية أفلاطون، والأرقاء يُتخذون من المجرمين ومن الأغراب الذين أغرتهم مزايا الحياة فى يوتوبيا بانتجاعها، وهم يقومون بالأعمال الدنيئة القذرة ويكون منهم القصابون، لأن أهل يوتوبيا لا يرتضون أن يذبحوا الماشية لأن ذبح الحيوان من شأنه أن يبلد الإحساس بالرحمة التى هى من خير ما ولد مع الإنسان، ولا يسمحون لمتزوج أن ترتبط حياته بشريك سقيم عليل يساهمه العيش حتى يغيب أحدهما اللحدُ، وقوانينهم قليلة وليس عندهم محامون!!
ولم يغفل مور أمر الحرب، فقد جعل أهل يوتوبيا يذهبون إلى ضرورة التأهب إذا استوجبت الحال ذلك، غير أنهم لا يرون فى الحرب مجدًا يجتبى، أو ثمرة تجتنى ويعتقدون أن مما يفرضه عليهم الواجب أن يقاتلوا إذا اعتدت أمة على جارتها أو حاولت إكساد تجارتها، ويخجلهم أن يحرزوا نصرًا داميًا على أعدائهم فلا يزالون فى الحرب أهل رفق وإبقاء على خصومهم، وإذا لم يكن من القتال بد فعليهم أن يذيعوا فى بلاد العدو الوعد «بإجزال العطاء لمن يقتل الأمير وغيره ممن أوقدوا نار الحرب». وهم عدا ذلك يعتمدون الإحسان إلى الأسرى ليتألفوا قلوبهم «ولأن أكثرهم لم يقاتل عن رغبة فى إهراق الدماء وإنما ساقته إلى الحرب طغوى الأمير».
أما من حيت العقيدة فهم يؤمنون بالله، ولا يرون من حقهم أن يتصدوا لأحدٍ بإعناتٍ من أجل رأى أو معتقد. وختام الكتاب زراية واستطالة على نظام الاجتماع الذى يترك الناس طبقتين: أغنياء متبطلين، وفقراء متوجدين.
وهذه خلاصة وجيزة لصورة الحياة الكاملة فى رأى مور. وقد يلاحظ أن مثل هذه الاراء والصور إنما تظهر فى العصور التى تؤذن بتطور كبير.
ولعل القارئ بعد هذا يتساءل، وما معنى «يوتوبيا» وأين هى؟ فنقول: معناها «لا وجود له» وكذلك الكمال فى الدنيا لا سبيل إليه!